في مقاربة الحرب ضد الارهاب
فئة : مقالات
في مقاربة الحرب ضد الارهاب([1]
عقد مجمع الفقه الإسلامي عام 2004 في حيدر آباد ندوته الرابعة عشرة حول "الإسلام والسلام العالمي"، وقدم خلال الندوة تعريفا للإرهاب كان كالآتي: "كل عمل من أعمال العنف يعرض فردا أو مجموعة من الأفراد لحالة خوف بدون مبرر شرعي، أو يعرض نفسه وماله وعقيدته ودينه ووطنه وكرامته للخطر، هو عمل إرهابي، سواء قام به شخص أو جماعة أو حكومة"[2]، غير أن هذا التعريف يبقى مقترحا ضمن مئات المقترحات التي تزخر بها الكتب والبيانات، فليس هناك إجماع في تحديد مفهوم الإرهاب، وفي الغالب ما تدخل اعتبارات سياسية وأيديولوجية في تحديد كل جهة لمفهومها للإرهاب، ويبقى الإشكال قائما ويفرز ذلك مواقف متناقضة، ولبيان ذلك نرجع إلى التعريف السابق، ونطرح التساؤلات التالية: ما المقصود بالمبرر الشرعي؟ ثم من له الحق في تحديد الشرعي وغير الشرعي؟ وهل هناك مبررات شرعية لزرع الخوف في صفوف الناس؟
إننا وبلا شك، إزاء "قضية معقدة وشائكة تطرح أسئلتها المربكة على الجميع، عربا وغربيين مسلمين وغير مسلمين، ولذا تختلف المقاربات بشأنها وتتضارب الآراء، بين النفي والإيجاب، بين تزييف الحقائق وفهم الوقائع، بين التبسيط الفادح والتحليل الكاشف".[3]
ومهما اختلفت التصورات والمرجعيات الأيديولوجية في تحديد مفهوم الإرهاب، فإن الواقع يبقى قائما لا يتغير، وحالة الخوف سائدة والتهديدات تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية والتفجيرات تضرب هنا وهناك، لا تراعي للإنسان قدسيته وحقه في العيش وحريته في التنقل والتجول، أو في التعبير والرأي، والسؤال الأكثر إلحاحا اليوم، هو كيف السبيل للخروج من هذا الوضع المأزوم؟
قبل عشر سنوات من الآن، كتب المحلل الاقتصادي والسياسي دفيد كين David keen قائلا: "إن محاولة تطبيق النموذج العسكري القديم على مشكلة الإرهاب هي أشبه بـدق الماء بمطرقة، أو قتل فيروس برصاصة ... إن أية مقاربة عسكرية لمشكلة الإرهاب، لابد أن تبدد الموارد وتشتت الانتباه عن المقاربات الأخرى والواعدة والأكثر نجاعة للتصدي للإرهاب، إضافة إلى نتائجها العكسية".[4]
ما كتبه الأستاذ كين يؤكده الواقع اليوم بما لاشك فيه؛ فبعد أزيد من عقد من الزمن على الإعلان الرسمي للحرب ضد الإرهاب الذي أعلنته الإدارة الأمريكية وحلفاؤها، غداة التفجيرات الإرهابية التي ضربت العمق الأمريكي يوم الحادي عشر من سبتمبر(أيلول)، لا يزال الإرهاب قائما وبشكل أكثر حدة وأكثر خطورة؛ فبعد تنظيم القاعدة جاءت داعش والنصرة، واتسعت دائرة الاستقطاب في صفوف الشباب من جميع الجنسيات، بل قد وصل الاستقطاب إلى عمق الدول الأوروبية، إلى شباب أوروبيين مولدا وتربية.
بالرجوع إلى الدراسات التي تناولت أسباب التطرف والإرهاب، تجدها تجمع على أننا أمام ظاهرة مركبة، يتداخل فيها ما هو سياسي وأمني مع ما هو فكري ومعرفي، لكن المفارقة التي تدعو إلى الاستغراب، بل والاستنكار، هي تركيز استراتيجيات معظم الدول على الجانب الأمني، ويصل الأمر إلى مستوى من الخطورة، حيث تشرعن القوى العظمى لنفسها حق التدخل العسكري ضد شعوب ودول أخرى، تحت مسمى "الحرب الاستباقية"، والنموذج العراقي والسوري بارزان أمام الأعين، فما هي النتيجة إذن؟ إنها ببساطة مزيد من التطرف، وتزكية للنفس الطائفي، واغتيال الحراك المدني الديمقراطي، ثم نقل للمعركة إلى البقعة الأوروبية كما حدث في فرنسا مؤخرا.
ولأن "الإرهاب يؤججه الغضب والشبكات الإرهابية لامركزية، لن تنجح محاولة استئصال الإرهاب والقضاء على الإرهابيين بالقوة، وينبغي أن يكون هذا الدرس قد اتضح من الحروب الأهلية؛ فاليوم نحن بحاجة، أكثر من أي وقت مضى، إلى فهم السبب الذي يدفع أشخاصا لا ينتمون إلى دولة معينة إلى المشاركة في العنف، وكيف تؤدي العمليات الجائرة والتعسفية لمكافحة الإرهاب أو محاربة التمرد إلى صب الزيت على نار العنف".[5]
ومع ذلك، مازال مبدأ الضربة الاستباقية يتلقى الاستحسان والتهليل، رغم نتائجه المدمرة، فهو ينظر إليه بوصفه "شرعيا وقانونيا، لكنه كقاعدة مؤسسة للعلاقات الدولية أو القانون الدولي، يعتبر خطيرا ومفككا يفتقد التساوق إلى حد مؤسف. إحدى الصعوبات تتمثل في إعلان حكومة ما من الحكومات أن الحرب وقائية استباقية، بينما يكون لها دوافع وبواعث أخرى".[6]
أما الوجه الآخر لهشاشة المقاربة الأمنية، فهي في اختزالها للإرهاب في أشخاص محدودين من ذوي التوجه المتطرف، وكأن الحل يكمن في وضع لائحة بأسمائهم وصفاتهم والبحث عنهم والانتقام منهم، والحقيقة أننا أمام هكذا استراتيجيات كمن يحاول علاج مرض عضال كالسرطان بالأسبرين، فـ "بدلا من تخيل الإرهابيين على هيئة مجموعة متميزة ومنفصلة من الأشرار، نحن بحاجة لمعاينة عمليات تشكلها وأنساق صيرورتها. كيف يصبح الناس إرهابيين؟ هذا يعني النظر إلى البنى المحلية القمعية والتأثير الضار للنزاعات الدولية: ليس أقلها الضرر الذي حصل نتيجة "الحرب على الإرهاب" ذاتها، هناك ميل متأصل في مكافحة الإرهاب للتركيز على مجموعة مستهدفة دون اعتبار للعمليات والأنساق التي وصل عبرها الناس إلى مثل هذه الحالة المتطرفة".[7]
ليس الغرض مما ذكرناه، تبخيس المقاربة الأمنية مطلقا، ولا نحن نروم استصغار المجهودات والطاقات التي تصرفها الدول للحفاظ على أمن وحياة مواطنيها، كما أن المبدأ الأخلاقي والقانوني يحتم علينا محاسبة الجناة بجرمهم، غير أننا نود أن نؤكد ضرورة التعاطي مع الإرهاب كظاهرة مركبة وعالمية تتجاوز حدود الجغرافية السياسية، ويتداخل في تشكلها عناصر ومحددات سياسية واجتماعية وثقافية، ولابد إذن أن يحضر هذا المعطى في أية مقاربة تروم النجاعة في العلاج والتصوب في الحل، فمن العبث اليوم أن نفصل الخلايا الإرهابية عن محيطها الآسن الذي تتغذى منه، فكيف يسوغ لنا أن نفصل الإرهاب وخلاياه عن الاستبداد والفقر والهشاشة التربوية؟
يقتضي الأمر إذن، الاسترشاد بالرؤية الشاملة ذات الأفق البعيد المدى، ويعني ذلك الاشتغال على مستويات متعددة بالتوازي مع الجانب الأمني، منها:
- البعد الثقافي التربوي: من خلال تزكية روح التعايش والتعدد الثقافي والديني وقيم الحرية، بدلا من المركزية الاستعلائية التي تنزه الذات وتشيطن الآخر وتعتبره العدو الذي لا يقوم لنا كيان إلا بنفيه، ولا يتأتى ذلك إلا بالتربية عل النقد والإيمان بنسبية الحقيقة العلمية وتثوير النص الديني بانفتاحه على العلوم الإنسانية، وهي مهمة يتحمل مسؤوليتها المثقف ورجل الدين للوقوف سدا مانعا أمام القراءة العضين لنصوص الوحي التي ينتهجها المتطرفون ممن يدبجون رسائلهم وبياناتهم بنصوص من الوحي مفصولة عن سياقها أو بنصوص من التراث دون وعي باشتراطاتها التاريخية.
- البعد السياسي: باحترام إرادة الشعوب وترسيخ قيم الديمقراطية والتعددية السياسية، وهنا لابد من الإشارة إلى أن من أهم أسباب الإرهاب ذلك الحقد والغضب الذي أفرزته السياسية البراغماتية لبعض الدول الغربية في تعاملها ونصرتها للاستبداد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالخصوص؛ فمنطق الازدواجية الذي تتعامل به الدول العظمى، والوصاية على الشعوب، يزرع اليأس في صفوف الشباب العربي، ما يجعل هذا الأخير فريسة سهلة أمام أي خطاب متطرف يتغذى على مائدة الانتقام والرغبة في رد الاعتبار، فما الذي ننتظره من شباب مهدور لا يسمع صوته، يعيش تحت رحمة الزعيم السياسي المستبد وبعد مشاهد الإذلال والاغتصاب والقتل والتهجير والتعذيب التي يراها كل يوم؟
- البعد الاجتماعي والاقتصادي: بتبني سياسة اقتصادية حرة تفتح الباب أمام المبادرة الاقتصادية، وتبني سياسة اقتصادية نزيهة بدل المحاباة والريع الذي ينخر مجتمعاتنا، وإعادة الاعتبار للمؤسسات والرأس المال البشري، وانتهاج سياسة اجتماعية تعيد الاعتبار للمواطن العربي، وتفتح له آفاق المشاركة في التنمية الاقتصادية، خصوصا وأن المنطقة العربية تزخر بموارد مالية وطبيعية مهمة، لا ينقصها سوى الحكامة في التدبير والتوزيع.
يحق لنا إذن، بعد هذا الذي أشرنا إليه أن نسائل السياسات التي انتهجتها الدول الأوروبية في مواجهة الإرهاب، لماذا فشلت في عزله والقضاء عليه؟ ما الداعي إلى الاستمرار في مقاربة أمنية لا تفرز سوى نتائج عكسية؟
هذه تساؤلات لا نروم الإجابة عنها بشكل شامل ومفصل، بيد أن السؤال نفسه في هذا المقام أهم من الإجابة.
[1] نشر بمجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، في العدد (25)
[2]- مجمع الفقه الإسلامي (الهند)؛ الإسلام والسلام العالمي؛ دار الكتب العلمية، بيروت 2007، ص 9
[3]- علي حرب؛ الإرهاب وصناعه: المرشد/الطاغية/ المثقف، الدار العربية للعلوم ناشرون، الطبعة الاولى، بيروت 2015، ص 8
[4]- دفيد كين، "حرب بلا نهاية؛ وظائف خفية للحرب على الإرهاب" ترجمة معين الإمام، دار العبيكان للنشر، الطبعة الأولى 2008، ص 12
[5]- نفسه، ص 12
[6]- نفسه، ص 44
[7]- نفسه ص47