في نقد خطاب اليأس الرّاهن
فئة : مقالات
في نقد خطاب اليأس الرّاهن[1]
ينتمي اليأس إلى ساحة الحلول الكسولة، شأنه في ذلك شأن اللامبالاة، كما أنه ينضوي على ضعف أو استعصاء في فهم التاريخ ووعي جدليته؛ فاليأس هو موقف كسول، مريح، وغير مبشر، وهو حكم قطعي ونهائي مع الواقع، في حين أن الواقع نفسه عبارة عن احتمالات لا متناهية. الواقع معطى يتمحور حول خاصية مركزية متمثلة بـديمومة التغيّر. أما التاريخ، فهو نتاج جدل هذا الواقع وممكناته لا متناهية الاحتمالات، يقبع في صميمها ما هو ممكن، وما هو واجب، ما هو إرادي، وما هو منفلت من الإرادة، هذا الأخير يأخذ أشكال العبث أو الهامش، والتاريخ هنا لا يتأثر به ويكاد لا يذكره. فالتاريخ لا يعترف -تأثرًا وتأثيرًا- إلا بنتاج إنساني يرتكز على العمل، هو فعل بشري جمعي، ودينامياته تخضع لمبدأين أساسيين: الإرادة، والعمل. في حين يُعزى اليأس إلى مبدأ العطالة، الملازم للاستكانة.
إذن، فاليأس هو نفي للتقدم، من خلال مصادرته لقيمة العمل ونتائجها وتفاعلاتها، مغيبًا بذلك روحية الإرادة عن الحياة، وإبقائها أسيرة اصطفائها الطبيعي، اليأس، هو تعبير آخر لمفردة الموت، إن لم نقل بترادفها للشلل أو للعقم. فالتاريخ الإنساني مليء بالنكبات والهزائم، وليس بالانتصارات والازدهارات فقط، ولو قمنا بمراجعة شاملة للتجارب التاريخية لمعظم الدول أو الشعوب التي تعرّضت لتلك النكبات والهزائم، أو لأي شكل من أشكال المآسي، لرأينا أن تجاوزها لليأس هو المقدمة الأساسية لها في دخولها معترك التاريخ من جديد، وإثباتها لجدارة بقائها وتقدمها. ولا ندّعي هنا تفرّد الأمل بالنصر أو التقدم، إنما نعرّفه بوصفه شرطا لازما غير كافٍ، لتبقى معادلات ما بعد الأمل أسيرة وجوده بالضرورة، في حين لا نرى بوجود معادلات مع اليأس أو بعده، بل خيارات تتراوح بين اجترار الهزائم والقبول بها، وبين التلاشي والاندثار.
خطاب اليأس العربي الرّاهن؛ محض خطاب، منفعل وغير منتج، منفعل؛ كونه تشكل كردة فعل على ما آل إليه واقع ثورات الربيع العربي المخيب للآمال، وما ظهر وبرز وتعرّى خلالها. وغير منتج؛ كون ما يخرج عن أصحابه لا يتعدى العزوف أو الكف، الشتم أو التذمر والتشكي؛ أي إن محصلته العقم، وقيمته صفرية. ولا يمكننا نكران ما وصل إليه هذا الخطاب من سوداوية ومن تعميم لها، ومحاولة لفرضها أيضًا بوصفها حتمية تاريخية، وأكبر مثال على ذلك، ما رافق "الموجة الثانية من الربيع العربي" المتمثلة بالحراك الشعبي في كل من السودان والجزائر؛ فمنذ بداية هذه الموجة، قوبلت بوابل من الاستخفاف، أو التوعد بما سيصيبها لاحقًا، قياسًا بما أصاب دول "الموجة الأولى"، هذا الصدى اليائس كان يرتد من شرائح مختلفة من مجتمعاتنا، فلم يكن أسير الشعبوية وحدها أو النخبوية وحدها، بل عموم الشرائح والطبقات، والتي بوصفها يائسة، فإن خطابها مقترن بالنصف الفارغ من الكأس.
أدى الذهول من حجم "الكارثية" القائمة والمتموضعة في كل مفصل من مفاصل واقعنا الحالي- من كارثية نخب ومثقفين، إلى كارثية نشطاء وكارثية شارع، إلى كارثية السياسيين وكارثية الفكر والوعي والثقافة والأخلاق السائدين- إلى تعميق الإحساس بالعجز وتسيُّد اليأس وترسخِه، عدا عن وجود إعلام موجه وممنهج يغذيه، مما أضعف الخيار العقلاني الواجب توافره في هكذا ظروف، الخيار العقلاني هذا؛ دؤوب، يعمّق الإرادة، إرادة العمل في سبيل تجاوز تلك الانكسارات وتداعياتها، وفي تحسين شروط المصائر، وهذا يتطلب بادئ الأمر، الأمل، أو لنقل قراءة عقلانية لطبيعة الواقع والتاريخ، اللذين يقومان على الحركة، العمل، النضال أو الصراع، والذين يشكلون محركًا للتاريخ ويضبطون إيقاعات الواقع، ليمثّل العمل، التعبير العياني الجلي عن الأمل/الإرادة. فيما يعبّر اليأس عن حالة السكون أو الستاتيك.
لعل قراءة التجارب التاريخية للشعوب خير مؤنس ومرشد لنقد خطاب اليأس السائد والمسيطر على الساحة العربية عمومًا والسورية على وجه الخصوص. فالاستئناس بقراءة تجارب مماثلة أو شبيهة لما نحن عليه اليوم، سيبين لنا أن "ما يحدث ليس نهاية التاريخ" كما يقول "ونوس" فظاهرة اليأس هذه، ليست خاصة بنا، أو حكرًا علينا، بل هي ظاهرة رافقت -مرحليًا- كل الشعوب التي تعرضت للهزائم أو النكسات، ولتثبت لنا - مع مرور الوقت- مرحليتها، بعد أن استهلكت مداها الزمني، وعبّرت - فيما بعد- عمّا تم مراكمته خلالها من وعي، هذا الوعي الذي نجم عن مراجعة "الكارثية" مراجعة نقدية، والانتقال إلى مرحلة توظيفه إراديًا في واقع يُراد تجاوزه، عبر ترجمة تلك الإرادة من خلال العمل إلى واقع ملموس.
المقصود بقراءة تجارب تاريخية مماثلة؛ هو قراءة ماضيها وملاحظة مسارات صعودها، لاستنتاج سياقات انتقالها من "الحضيض" إلى منزلة إنسانية وحضارية أكثر رقيًا. فالشعوب ودولها، والتي تشكل -اليوم- في ذهنيتنا جملة مقارنة دائمة، بوصفها أنموذجًا للنهضة أو سقفًا للطموح، هي ذاتها شعوب ودول البارحة، الغارقة في الجهل والفوضى، والعائمة على بحر من دماء الاقتتال الديني والأهلي. وانحطاط التعليم والثقافة، وسيطرة الاعتقادات المعتمدة كليًا على الأساطير والخرافات هو السائد آنذاك، هذا ما يوجز حال أوروبا البارحة، أوروبا عصر الظلمات، وعصر الحروب الأهلية والتي ليست ببعيدة زمانيًا، حروب كانت ساحاتها دول تتربع اليوم على عرش الحضارة، فعلى سبيل المثال: فرنسا خاضت ثماني حروب أهلية، ما بين الكاثوليك والبروتستانت، امتدت لقرنين من الزمن، كانت حصيلتها مئات الآلاف من القتلى. أمريكا أيضًا خاضت حربًا أهلية عام 1861 وراح ضحيتها مليون شخص، إسبانيا؛ ثلاث سنوات من حرب أهلية (1936-1939) أُعدم خلالها عشرات الآلاف من المعارضين، وعلى رأسهم الشاعر "لوركا" أحد أهم أدباء القرن العشرين، كما وصل عدد المعتقلين من طرفي الحرب إلى أكثر من 600 ألف معتقل والمشردين إلى 600 ألف أيضًا. كما خاضت اليابان حربًا أهلية استمرت زهاء القرن في مرحلة ما قبل حكم أسرة "توكوغاوا"، والتي يعتبرها المؤرخون بداية النهضة اليابانية. ناهيك عن الحروب البينية التي خاضتها دول كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وحربان عالميتان، وما خلّفتاه من دمار وملايين القتلى.
بدل اليأس، أو ما بعده، كان خيار تلك الشعوب، السعي لتجاوز واقعهم المأسوي، عبر التوسع في المعرفة والقراءة والكتابة، وتمدد فلسفة النقد وذهنية المراجعة على حساب تقلص الذهنية الدفاعية/التبريرية، فازدادت دور النشر وازدهرت المسارح، وكثرت المؤسسات التعليمية، وتحررت المطبوعات من هيمنة الموضوعات الدينية، كما نشطت الترجمة والإرساليات التعليمية. لقد كان خيار الأمل هو خيار النهضة ذاتها. فأوروبا "تحريم الاستحمام والتطبيب" هي أوروبا حرية الفرد وحرية المعتقد، أوروبا الديمقراطية العلمانية، هي أوروبا الإمبراطوريات الدينية وصكوك الغفران. هذا حال التاريخ، المنوط بالعمل والأمل والسعي والنهوض. وإن الحكم القاطع الموجه لمرحلة تاريخية ما، هو حكم تصنيفي قاتل، وهذا ما يفعله اليائس، فهو يختزل التاريخ بمرحلة، على اعتبارها نهاية المطاف، مطلقًا أحكامه عليها كما يحلو له، متسائلًا عن جدوى قريبة وسريعة، وفي الوقت ذاته يرى نفسه ثوريًا، أليس الثوري كما عرّفه المفكر ياسين الحافظ "من لا يتساءل كثيراً هل سيثمر نضاله أم لا. إنه يعرف، ما دام يملك وعياً مطابقاً، أن عمله سيمكث في الأرض، إنه يبذر كل يوم ولكل ريح، والأرض لا بد معطاء. الثوري الحق يناضل فحسب، يخدم فحسب: هذا هو قدره ومعنى حياته. ما دام التقدم سيرورة تاريخية وعملية تراكم. لذا، لا يفتش عن حصيلة مباشرة وقريبة، رغم حرصه عليها واهتمامه بها. يكفيه أنه عمل ويعمل في الطريق الصحيح"؟ والسؤال هنا: هل توقفت شعوب تلك الدول عند خيار الكسالى أم تجاوزته فتجاوزت واقعها؟ هل اكتفت تلك الشعوب بإشعال الشموع والتوسل إلى السماء؟ أم أشعلت شمعة وتوقفت عن لعن الظلام؟ وقد يسأل سائل: ألم تصب تلك الشعوب باليأس؟ والإجابة هنا يوضحها جليًا كل من الواقع والتاريخ؛ لو اكتفت باليأس لبقيت على حالها، فبالإمكان تبرير أو تفهّم اليأس كمرحلة لا تطول، هو مرحلة فقط، وعليه أن يبقى كذلك.
مهما يئس اليائسون، وبقوا يلعنون الظلام، يبقى الأمل خيار العقلاء، من ثوريين ومثقفين ونخب، ويبقى خيارًا وجوديًا وخيار جدوى، خيارًا تستوي معه سيناريوهات التاريخ وجدليته، والواقع واحتماليته، وانفتاحهم الدائم على اللامحدود. فخيار "إشعال شمعة" خيار حي وحيوي، من خلال بوابته نعي الواقع عقلانيًا، نراجع انحرافاتنا، ونراكم دروس أخطائنا وعِبر عثراتنا، ونفنّد أولوياتنا، متجاوزين بذلك إرث حقب طويلة من التهميش والعزوف والهزائم، وواقعًا يعج بالانكسارات والخيبات، فهذا الواقع، يبقى واقعًا، لا يمكننا القفز من فوقه، أو دفن رؤوسنا برماله، ففيه تتجلى الإرادات، وتترجم إلى أفعال وأعمال، كبيرة أو صغيرة، تصيب أو تخطئ، تظفر أو تخيب، لكنها تبقى خير من اللاعمل، وخير من السكون والعطالة، وهذا ما عبّر عنه الفيلسوف الألماني "فيخته"؛ ففي أحلك الظروف التي تعرضت لها ألمانيا في حربها مع فرنسا، وبعد سيطرة نابليون عليها، سؤل "فيخته" حول ما تبقى للألمان من عمل، فأجاب: لقد خسرنا كل شيء، ولكن تبقى لنا التربية. فعلى الدوام هناك شيء نقوم به، وحين نتوقف عن العمل، فإننا نتوقف عن الحياة، ننتهي أفرادًا وشعوبًا وأممًا. فلا ينتج عن تفاعل سكوننا وعطالتنا مع التاريخ إلا مستنقع آسن نركد فيه ونتعفن، وننغلق فيه على ذواتنا، ونوصد من خلاله الباب على الممكنات المستقبلية وآفاقها. فنحن اليوم نشهد تغييرات جذرية كبرى، لم يكن لنا أمل برؤيتها لولا الربيع العربي المسكون بالأمل، وما حصل، وقد يحصل، خلال سياقاته ومساراته، من انكسارات وخيبات وآلام، لا يرجّح أو يحتّم استسلامنا ليأس عقيم، بل على العكس، فما تلك الانكسارات والخيبات والآلام؛ إلا تضحيات دُفعت في سبيل طموحاته وأهدافه، فلا مشروع نهضوي ناجز بلا قرابين يقدمها أبناؤه المؤمنون به، فالأمل -أيضًا- امتحان الإيمان.
بناءً على واقعنا الراهن، بشروطه وظروفه الحاليين، نجد بأننا لا نملك شيء آخر غير الأمل، فالخيار الأسوأ والمرتهن باليأس، هو التوقف في منتصف الطريق، والذي ينطوي على رمي كل ما أنجزناه خلال تلك المسافة، وتحويله إلى هباء وهزيمة، بدل استثماره كمحفزات لمواصلة المسير والظفر بما يليق بتضحياتنا وطموحنا وأهدافنا المحقة والمشروعة.
[1]- مجلة ذوات العدد59