في نقض نظرية هنتنغتون حول "صدام الحضارات"
فئة : مقالات
في نقض نظرية هنتنغتون حول "صدام الحضارات"*
لا نعثر في تاريخ الصحافة المتخصصة في القرن العشرين على مقالة أثارت من ردود الفعل المؤيدة والمناهضة ما أثارته مقالة المنظّر والأكاديمي الأمريكي صمويل هنتنغتون (1927- 2008) "صدام الحضارات" The Clash of Civilizations التي نشرتها مجلة فورين أفيرز الأميركية في أحد أعدادها عام 1993، وقام الكاتب فيما بعد بتطوير أطروحتها المركزية حول طبيعة العلاقة التي ستحكم الصراعات خلال القرن الحادي والعشرين، ونشرها في كتابه "صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي" (1996)، الذي يشدّد فيه على أنّ "صدام الحضارات يمثّل التهديد الأكبر للسلم العالمي، والتوصّل إلى نظام عالمي يستند إلى الحضارات يوفر الوسيلة المثلى لمنع نشوب حرب عالمية".
وقد نشرت مجلة فورين أفيرز في شهر أيلول (2013)، وفي مناسبة الذكرى العشرين لنشر المقالة الشهيرة، كتاباً بعنوان "صدام الحضارات بعد عشرين عاماً: فيمَ أصابت مقالة صمويل ب. هنتنغتون "صدام الحضارات"؟ وكيف أخطأت؟ وكيف تبدو بعد عقدين من الزمن"؟
تضمّن الكتاب المقالة الأصليّة، والردود والتقريظات، وكذلك النقود التي استثارتها المقالة، وكلمات الرثاء التي كتبها عددٌ من أصدقاء هنتنغتون وتلامذته، وعدد من المفكرين السياسيين الأميركيين بعد وفاته. وقد حرّر الكتاب غيديون روز Gideon Rose رئيس تحرير المجلة.
يرى محرّر الكتاب أنّ المقالة قد هُوجمت وقت نشرها وانتُقِدت؛ لكون الإطار الثقافي الذي فَسّرت من خلاله العلاقات السياسيّة الكونيّة يعمل على إضفاء الغموض على اتجاهات هذه العلاقات بدلاً من أن يقوم بتوضيحها. وقد ركزّت تلك الانتقادات على أنّ "رؤية" هنتنغتون للحضارات التي تتصارع فيما بينها كانت مجرّد نبوءة مكتفية بذاتها. لكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 جرى امتداح المقالة ونُظر إليها بوصفها تمثّل تحليلاً نُبوئيّاً للديناميّات التي استخدمتها حملة "الحرب على الإرهاب".
وفي الحقيقة فإنّ نقد فؤاد عجمي للمقالة يبدو الأعنف في الكتاب. فهو يرى أنّ المقالة تعمل على تبسيط العلاقات والحدود بين الحضارات. إنّ هنتنغتون، حسب فؤاد عجمي، يُرينا بثقة عجيبة أين تبدأ حضارةٌ وتنتهي أخرى. وهو يسخر من فكرة هنتنغتون التي تقول إنّ الحضارات ستحّل محلّ الدول، لتتصارع فيما بينها. كما أنّه يتعرّض لنقد رؤية هنتنغتون لعودة الحضارات غير الغربيّة إلى أصولها وجذورها، ما يمكّنها من التخلّص من تأثير الحضارة الغربية، فتصبح الهند أكثر ارتباطاً وتواصلاً مع أصولها الهنديّة، كما تزدهر الأصولية الإسلاميّة في بلاد العرب والمسلمين. لكنّ عجمي يرى أنّ هنتنغتون مخطئ في نظرته إلى انسحاب تأثير الغرب وقدرة الدول والشعوب غير الغربيّة على العودة إلى ميراثها الحضاريّ الخاصّ. وسبب الخطأ الذي وقع فيه هنتنغتون هو أنّه قلّل من أهميّة الحداثة والعلمانيّة، فالهند لن تصبح هنديّة، بل ستحتفظ بميراثها العلمانيّ الحديث، وسوف تدافع الطبقة الوسطى عن هذا الميراث الحديث لكي تستطيع الهند أن تجد لها مكاناً بين الأمم في العالم المعاصر، لأنّ الاتجاه نحو "التعصّب الدينيّ" سيكون طريقاً سالكةً نحو الدمار والخراب. أمّا فيما يتعلّق بصعود الأصوليّة الإسلاميّة فإنّ عجمي يعتقد أنّ ذلك لا يمثّل عودة للأصول والموروث، بل رعباً وفزعاً وحيرةً وإحساساً بالذنب يتملّك الفقراء "أنصاف المتعلّمين" في العالم الإسلامي و"مشايخهم الذين تعلّموا في الغرب"، لأنّ "الآخر" الغربيّ قد وصل إلى عقر دارهم.
يعيد عجمي تصوّر هنتنغتون للعلاقة بين الحضارات والشعوب والدول إلى رغبته في التبسيط، وعدم قدرته على فهم العلاقة المركّبة التي تتضمّن الانجذاب إلى الغرب والنفور منه في الوقت نفسه. وهو يرى أنّ "الحضارات لا تدير الدول ولا تتحكّم بها، بل إنّ الدول هي التي تدير الحضارات وتتحكّم بها".
ينطلق نقد عجمي لأطروحة هنتنغتون حول "صدام الحضارات" من رؤية استشراقية جديدة تعتقد جازمةً أنّ كلّ ما نراه من أعراض الصدام مع الحضارة الغربية نابعٌ من الإحساس بالرعب والفزع والبغض والحسد والغيظ الذي يتملّك الفقراء من أبناء وبنات الشعوب الشرقيّة تجاه الحضارة الغربية المتقدمة. إنه نقدٌ طالعٌ من تنظيرات المستشرق البريطاني ـ الأميركي برنارد لويس التي أوردها في مقالته الشهيرة "جذور الغضب الإسلامي"، التي استعار هنتنعتون منها عنوانَ مقالته، وفيما بعد عنوانَ كتابه، إن لم يكن الخطوطَ العريضة لرؤيته للعلاقات بين الحضارات الشرقيّة من جهة والغرب من جهة أخرى. فبرنارد لويس يعيد بوادر الصدام بين العالم الإسلامي والغرب إلى الإحساس بعقدة النقص تجاه الحضارة الغربية المتقدمّة، وكذلك إلى الحقد والحسد تجاه من كانوا يقيمون في ظلال الحضارة العربية الإسلامية، وأصبحوا أكثر حداثةً وتقدماً وهيمنة على العالم. ومن الواضح أنّ عجمي لا يحيد كثيراً عن هذه الرؤية في عمق نقده لأطروحة هنتنغتون.
في مقابل هذه الرؤية الاستشراقية للعلاقة بين الغرب والحضارات الأدنى منه شأناً، نعثر ضمن جوقة الأصوات التي تنتقد هنتنغتون على صوت من العالم الشرقي يشخّص الأزمة من منظور مختلف. فكيشور محبوباني Kishore Mahbubani يرى أنّ الغرب يعيش لحظة خوف من المستقبل، ومن انعدام الثقة بأنّه لن يكون المسيطر في القرن الحادي العشرين، كما كان المسيطر طوال ثلاثة أو أربعة قرون سابقة. إنّه "يعيش عقلية حصار". انطلاقاً من هذه الخلفيّة يمكن أن نفهم مقالة هنتنغتون. ويشرح محبوباني أنّ "الأميركيين وقعوا، منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، ضحايا الهوس والخوف الأوروبيين من الإسلام، بوصفه قوّةً ظلاميّة سوداء تحلّق فوق الحضارة المسيحيّة الفاضلة". والغريب أنّ ذلك يحدث، بكلمات محبوباني، "في الوقت الذي يتّم فيه تذكير المسلمين يوميّاً بضعفهم". فكيف يمكن لهنتنغتون أن يقول إنّ "للإسلام حدوداً دمويّة"، في الوقت الذي يتسبّب فيه الغرب بطريقة ممنهجة بزيادة سوء الأوضاع في العالم الإسلامي؟
يقول محبوباني: "إنّ ثمة جملتين أساسيتين في مقالة هنتنغتون، إذا وضعناهما جنباً إلى جنب فإنّهما ستجلوان لنا طبيعة المشكلة؛ أولى هاتين الجملتين هي التي يقول فيها هنتنغتون: "في سياسة الحضارات لم تعد الشعوب والحكومات التي تنتمي للحضارات غير الغربيّة إلى الأبد موضوعاً للتاريخ بوصفها هدفاً للكولونياليّة الغربيّة، بل إنّها صارت، مع الغرب، محرّكةً وصانعةً للتاريخ". أمّا الجملة الثانية فهي: "يستخدم الغرب في الواقع المؤسسات الدوليّة، والقوة العسكرية، والموارد الاقتصادية، ليدير العالم بطرق تحافظ على سيطرته وهيمنته على العالم، وتحافظ على مصالح الغرب، وتشجّع على نشر القيم السياسية والاقتصادية الغربية". يقول محبوباني إنّ "الجمع بين هاتين الجملتين يمثّل وصفةً تقود إلى الكارثة". ويضيف أنّ "هنتنغتون يفشل في الإجابة عن سؤال شديد الوضوح: إذا كانت هذه الحضارات موجودة طوال هذا الوقت، فلماذا أصبحت تمثّل تهديداً الآن؟ إنّ محاولة أمينة وصادقة للإجابة عن هذا السؤال تكشف عن خلل قاتل بدأ يظهر منذ فترة وجيزة في العقل الغربيّ: عدم القدرة على إدراك الحقيقة بأنّ الغرب بدأ يعاني من أعراض ضعف بنيويّ في نظام قيمه ومؤسساته. ويفسّر هذا الخلل، بصورة جزئيّة، الاندفاع منذ مدّة قصيرة إلى الاعتقاد بصحّة الفرضيّة التي تقول بنهاية التاريخ بسبب انتصار النموذج الغربي". ومن الواضح، حسب محبوباني، أنّ هنتنغتون، مثله مثل غيره، لا يدرك هذه الحقائق.
تبدو ملاحظات كيشور محبواني، التي يوردها في نقده لنظرية هنتنغتون حول صراع الحضارات، موجّهةً إلى جذور الرؤية الغربيّة، الفلسفيّة والثقافيّة والأيديولوجية والحضاريّة، وكذلك على صعيد القوّة والعلاقات الجيوـ استراتيجيّة، لموضع الغرب من العالم، أكثر من كونها مجرّد تعليق جانبيّ على مقالة هنتنغتون الشهيرة. على الغرب أن يعيد قراءة رؤيته لنفسه وللعالم، وأن يتبيّن مواطن الخلل في ممارسته، لكي يعرف أنّ الحضارة الغربية هي جزءٌ من فسيفساء الحضارات العالميّة وليست الحضارة المنتصرة، التي انتهى بها وإليها التاريخ، ومن ثمّ يجوز لهذه الحضارة المنتصرة أن تفرض على الآخرين سيطرتها وقيمها ومعاييرها ورؤيتها للعالم. ومن الواضح أنّ هنتنغتون، مثله مثل فرانسيس فوكوياما (صاحب نظرية نهاية التاريخ)، فشل في تقديم نموذج تفسيري لعلاقة الغرب ببقيّة العالم، وكذلك لطبيعة الصراعات التي ستنشب بين البشر في القرن الحادي والعشرين.
في سياق متصّل تنتقد جيم كيركباتريك تقسيم هنتنغتون الغامض وغير المقنع للحضارات في العالم. إنّ قائمة الحضارات التي يسردها هنتنغنتون (الغربية، والكونفوشيوسيّة، واليابانيّة، والإسلاميّة، والهنديّة، والأميركيّة اللاتينيّة، والسلافية الأرثوذكسيّة، والإفريقية) تفتقر إلى الدقّة. فما يعدّه هنتنغتون غير غربيّ، مثل الحضارتين السلافيّة والأميريكة اللاتينية، هو جزءٌ من الحضارة الغربيّة. إننّا لا نعرف الأسس التي صنّف على أساسها هنتنغتون قائمة حضاراته، وما العناصر التي يعتقد المفكّر الأمريكيّ أنها تُمكِّننا من وضع الحدود الفاصلة بين الحضارات: هل هي اللغة، أم التاريخ، أم الدين، أم العادات، أم المؤسسات، أم المشاعر العامّة التي تمكّن الناس من تعريف أنفسهم؟ بغضّ النظر عن العناصر التي تمكننا من تعيين حدود الحضارات، فإنّ الحضارات التي يصطنعها هنتنغتون تتشارك فيما بينها في أكثر من عنصر من هذه العناصر.
من النقاط الهامّة التي تثيرها كيركباتريك أيضاً: أنّ التاريخ يخبرنا أنّ أعتى الصراعات التي اندلعت في التاريخ كانت داخل حدود الحضارات نفسها، وليس فيما بينها، والحربان العالميتان الأولى والثانية مثالان بارزان على ذلك. فهدف الأصوليّة الإسلاميّة هو شنّ الحرب على حكومات الدول الإسلاميّة لا تدمير الحضارة الغربيّة.
إنّ جملة هنتنغتون، التي بنى عليها نظريته الكاملة في صدام الحضارات، أي قوله إنّ "الصراع في المستقبل سيكون بين الغرب وبقيّة العالم" The conflicts in the future will be between “the West and the rest”، تثير الكثير من الجدل والنقاش والآراء المستنكرة. كما أنّ نموذجه، الذي يدّعي أنّ الصراع في القرن الحادي والعشرين، سيكون حول القيم الأساسيّة للشعوب والحضارات، لا على الموارد والمصالح السياسيّة والاقتصاديّة وفرض الهيمنة، يثير الكثير من الاستغراب. لكنّ هنتنغتون، في ردّه على الانتقادات التي حاولت تفنيد نموذجه لتفسير العلاقات الدولية خلال القرن الحادي والعشرين، يرى في المقابل أنّ أيّ رد من الردود لم يقدّم نموذجاً بديلاً أو مقنعاً قادراً على تفسير طبيعة الصراعات الدوليّة التي بدأت تظهر في أماكن عديدة في العالم. وهو يقول إنّ جاك ديلور رئيس الجماعة الأوروبية في التسعينيات يرى أنّ "صراعات المستقبل سوف تتسبب في إشعالها عناصر ثقافية لا الاقتصاد أو الأيديولوجية. إنّ على الغرب أن يطوّر فهماً أكثر عمقاً للافتراضات الدينية والفلسفية التي تقيم في أساس الحضارات الأخرى، وللكيفيّة التي ترى بها الشعوب الأخرى مصالحها". ويضيف قائلاً: "إنّ التاريخ لم يصل إلى نهايته، والحضارات توحّد البشر، كما أنّها تقسّمهم. ويمكن لنا احتواء الصراعات بين الحضارات فقط عندما نعترف بوجود تلك الحضارات".
*The Clash at 20: What did Samuel P. Huntington’s “The Clash of Civilizations” get right and wrong, and how does it look two decades later?
* نشرت هذه المقالة في مجلة "يتفكرون"، 2015، العدد 6