قراءة تنويرية في إرث المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم
فئة : مقالات
برحيل المفكر السوري صادق جلال العظم في منفاه الألماني، ليلة الأحد 11 كانون الأول/ ديسمبر 2016م، خسر النزوع العقلاني أحد أبرز ممثليه، والاحتفاء بالراحل وأبحاثه اليوم؛ هو احتفاء بعقلانية مطلقة العنان في قراءة التاريخ، باعتباره سرديّة تقدم وارتقاء، ذلك أن مطارحات العظم لم تقتصر على مجال ثقافي محدد؛ بل استجاب صاحبها لهاجس معرفي يقارب الموسوعية، فكتب في السياسة، وفي الفكر السياسي، وبالتحديد في الإيديولوجيا، وفي الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع أيضًا، لكن بأسلوب لا ينقل المعلومات، بقدر ما يشحن بها مقارباته، وأحيانًا تكون من بين مرجعياته؛ فكان المفكر ذو الشخصية النقدية أوّلًا، وما كان وصفه بـ(الإشكالي) أو (السجالي)، إلا بسبب حيوية مقارباته، والجرأة على الاقتراب من المحظور والمسكوت عنه في ثقافتنا العربية الإسلامية، وموروثنا الحضاري.
ومما زاد العظم حضورًا في المشهد الفكري، والسياسي، والثقافي العربي؛ بل والعالمي، انحيازه التام إلى انتفاضة شعبه، والتزامه بحقوق هذا الشعب الثائر في الكرامة والحرية، دون أدنى تمييز بين الأعراق والأديان والمذاهب، رافضًا تسمية ما يحدث ببلاده بـ"الحركة الاحتجاجية"، واعتبار ما حصل ويحصل منذ منتصف آذار/ مارس 2011م، ثورة شعب ضد (الاستبداد، والطغيان الوطني، والفساد)، ثورة رأى فيها الخلاص من "سطوة الديكتاتورية".
ولقد مثّل العظم، ذو العقل الفلسفي الجسور والضمير الأخلاقي الحي، مشروع الإنسان العربي، لوعي ذاته وقدراته، ونقد مواجعه، وأماكن ضعفه، لكي يتجاوز السيئ إلى الأفضل، لكن المؤسسات الرسمية كافة تصدت له، بما في ذلك "الجامعة الأمريكية" في بيروت، بما كانت تطرحه من حداثة متوهمة، تحت إدارة اللبناني اليميني (شارل مالك)، في منتصف ستينيات القرن المنصرم، يوم طرق العظم أبوابًا محظورة في عالم الفكر، والثقافة، والسياسة، والاجتماع.
إرث العظم الفكري والنقد التأسيسي الشامل:
إطلالة العظم الفكرية، كانت مدوّية منذ مطلع شبابه، حين أصدر في بيروت العام 1968م، كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، ثم أتبعه بكتابه، الذائع الصيت "نقد الفكر الديني" (1968م)، ومنذ ذلك التاريخ، اندرج الراحل وكتاباته في سياق الحداثة، والتقدّم، والنهضة، ومقارعة الديكتاتورية والاستبداد، والفساد، والدفاع عن الحرية، والديمقراطية، والعلمانية، وكان في الطليعة من سؤال العقل والسؤال لأجل الحرية، وهو المؤمن بما جاء به، مبكرًا، المصلح السوري عبد الرحمن الكواكبي[1]، يقول الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد": "والخلاصة؛ أنَّ الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكلُّ إدارة مستبدة، تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون، أحيانًا، في مضائق صخور الاستبداد، يسعون جهدهم في تنوير أفكار النّاس، والغالب أنَّ رجال الاستبداد يُطاردون رجال العلم، وينكلون بهم؛ فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أنَّ كلَّ الأنبياء العظام، عليهم الصلاة والسلام، وأكثر العلماء الأعلام، والأدباء، والنبلاء، تقلَّبوا في البلاد وماتوا غرباء"[2].
يبين الكاتب السوري (خلدون الشمعة)، رأيه حول مجمل الإرث الفكري لصادق جلال العظم، وخاصة في كتابيه "نقد الفكر الديني" و"ذهنية التحريم"، قائلًا: "إننا، هنا، لسنا إزاء نصوص تنتمي إلى النقد (criticism)، بالمعنى العاديّ المألوف؛ بل تطفُر إلى ما هو أبعد منه، إلى النقد التأسيسي الشامل (critique)، النقد المسلّح بمحمول معرفي متعدد الأنظمة، المشفوع بطاقة حجاجية، تقوم آليات تدخلها السجالي بترويض الكائنات المتوحشة (التي تمثل الأفكار المناهضة للفكر العقلاني)، وتتجنب في مخاطبتها القارئ العام لغة الفلسفة الاختصاصية قدر المستطاع"[3].
يضيف الشمعة معقبًا: "ولكن خلف هذا الحشد الهائل من المحاجات، وتدفقها العفوي الذي يجعلها أقرب إلى النص المنطوق منها إلى النص المكتوب، تكمن عقلانية العظم الغائيّة في قراءة التاريخ، وهي؛ عقلانية تصف نفسها، عادةً، بأنها صانعة سردية التقدم المستمر بامتياز"[4].
ولقد تخطى العظم، وفقًا للكاتب الفلسطيني خيري منصور، "منذ بواكيره، السقف الأكاديمي، وأسوار الجامعة، ليكون طرفًا في عدة معادلات، منها؛ السياسية، والاجتماعية، والإيديولوجية؛ لهذا لم تكن أطروحاته داجنة إلى الحد الذي يضمن له البقاء في مأمن من المساءلات، وربما كان كتابه "النقد الذاتي بعد الهزيمة" خروجًا عن السرب، فلم يصفق للهزيمة، باعتبارها لم تحقق هدفها، كما قال الإعلام الذي احترف التزوير والتبرير، ولم يذرف الدموع على أطلال ما قبل حزيران/يونيو؛ لأن ما قبل الهزيمة، كان حاضنة نموذجية لإفرازها، وقد سمى صادق العظم الأشياء بأسمائها؛ فالهزيمة، هزيمة ولا شيء آخر، أما النكسة أو مرادفاتها من الصفات المستعارة من معجم المرضى؛ فلم تكن بالنسبة إليه نافذة للهرب"[5].
كانت هزيمة العرب أمام إسرائيل سنة 1967م؛ هي الدافع الذي حدا بالعظم إلى جمع بعض مقالاته المنشورة في الصحافة الثقافية اللبنانية، بهذا الصدد في كتاب واحد، حمل عنوان "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، ليكون أداة لنقد الإيديولوجيا الغيبية؛ التي تحوّلت، بعد الهزيمة، إلى سلاح نظري أساسي وصريح، بيد القوى الرجعية في مواجهة الدعوات العقلانية، وفي يد الأنظمة لتهدئة الشعوب، وتغطية العجز والفشل الذين فضحتهما الهزيمة أمام الكيان الصهيوني الغاصب، من خلال مماشاة التفسيرات الدينية والروحانية للانتصار الصهيوني والخسارة العربية، على وعد بنصر جديد من عنده تعالى.
وقد كان هذا الكتابُ، بمثابة محاولة من العظم للتصدي، بالنقد العلمي والمناقشة العلمانية، والمراجعة العصرية، لبعض نواحي الفكر الديني السائد حاليًا (آنذاك)، وهو؛ الفكر الذي يسيطر على الحياة العقلية والشعورية للإنسان العربي.
وقد حاولت إسرائيل، كعادتها، استثمار بعض ما جاء في كتبه، وخاصة كتاب "دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية" 1973م، على نحو مضاد لأهدافه؛ فأذاعت فقرات من كتب تلك المرحلة منزوعة من سياقاتها، ولكن ذلك لم يثن العظم عن مقارعة الكيان الصهيوني، وكان، في حينها، ذلك الصوت الجريء الآتي من البرية، بعيدًا عن تدجين الأنظمة والمؤسسات، ودجل المجتمعات، والتواطؤات المسبقة، ولم يكن حاملًا لأُطروحات نظرية، تعارض الحجة بالحجة، والنظرية بالنظرية فحسب؛ بل قرن القول بالعمل.
أما كتابه "نقد الفكر الديني"؛ الذي تطرق فيه لثنائية المقدّس والمدنّس، والتحريم والتحليل؛ فكان بمثابة تدشين لمرحلة سوف يستعيد فيها النقد جدواه وضرورته، وقد دفع العظم ثمن ذلك مرّتين؛ مرة في مساءلة قضائية، وأخرى في مساءلة وطنية شعبوية[6].
شذرات من السيرة والمسيرة الفكرية والنضالية:
يتحدّر العظم المولود في دمشق عام 1934م، من عائلة أرستقراطية دمشقية عريقة، ذات جذور عثمانية وفروع تركية، تخرّج بدرجة امتياز في قسم الفلسفة في "الجامعة الأمريكية"، في بيروت عام 1957م، ليحصل بعدها على الدكتوراه من جامعة "ييل" في الولايات المتحدة الأمريكية، باختصاص الفلسفة المعاصرة؛ حيث قدّم أطروحته حول الفيلسوف الفرنسي "هنري برغسون".
أثناء عمله أستاذًا في "الجامعة الأميركية" في بيروت، رفضت الإدارة تجديد عقده سنة 1968م، وفُصل بسبب انزعاجها من كتاباته، وتوقيعه عريضة تطالب بانسحاب الجيش الأمريكي من فيتنام. بعدها، ذهب إلى عمّان ودرّس في الجامعة الأردنية، لكن سرعان ما وُضع اسمه على قائمة الممنوعين من دخول البلد، ووُضع، هو نفسه، في أول طائرة متجهة إلى بيروت، بسبب عمله مع "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
وفي بيروت، ازداد انشغال العظم بالهمّ الفلسطيني، فعمل باحثًا في "مركز الأبحاث الفلسطيني"، وأصدر كتاب "دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية"؛ فأثار غضب القيادة الفلسطينية، وتلقى تهديدات جديّة، وفُصل من مركز الأبحاث بأمر من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومُنع من الكتابة في مجلة "شؤون فلسطينية"، إلا أن المفكر الفلسطيني الراحل أنيس صايغ، (رئيس التحرير آنذاك)، تدبّر مسألة استمراره في المجلة باسم مستعار.
وقد شغل العظم عدّة مناصب، من أهمها؛ أستاذ للفلسفة والفكر العربي الحديث والمعاصر في جامعة نيويورك والجامعة الأميركية في بيروت، كما ترأّس تحرير مجلة "الدراسات العربية" الصادرة في بيروت، ثم شغل منصب رئيس قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في "كلية الآداب" بدمشق، بين عامي (1993م – 1998م).
وبعد تقاعده من "جامعة دمشق"، تنقل بين جامعات عدّة في العالم؛ حيث عمل أستاذًا في جامعتي (برنستون وهارفارد) في أمريكا، وفي جامعات (هامبورغ، وهومبولت، وأولدنبورغ) في ألمانيا، وفي جامعة توهوكو في اليابان، وفي جامعة أنتويرب في بلجيكا، وهو عضو في "أكاديمية العلوم والآداب الأوروبية"، ومن أهم المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم العربي.
وقد قضى العظم حياته متنقلًا من جبهة فكرية إلى أخرى، وخاض معارك نقدية مختلفة بسبب كتاباته.
ومنذ بواكير اشتغالاته الفكرية، رأيناه منصبًا على نقد الجانب العقلاني من الفكر الديني الإسلامي، متحاشيًا الدخول في مشروع تفكيك الأبنية اللاواعية واللاعقلانية في هذا الفكر، الذي يعاد إنتاجه في البلدان العربية، بلا وعي، في السياسة، وفي الممارسات الاجتماعية والمنتجة للمعنى، وكان سلاحه الأمضى في كل معاركه النقدية؛ جرأته العالية المقتدرة على تحليل الواقع، وقراءة الظواهر السلبية في واقعنا قراءة نقدية كاشفة، مساويًا بين النقد والمعرفة الموضوعية المبنية على أساس علمي،
ومنذ تخرجه من "الجامعة الأميركية" في بيروت، واصل العظم رحلته المتمردة بفكره النقدي التنويري، وكتاباته وأطروحاته اللا تقليدية لقضايا فكرية، وثقافية، وسياسية، واجتماعية، في مجتمع ذي حساسية بالغة تجاه الدين والدولة، وهو ما أهله ليكون في العقود الأربعة الأخيرة، أحد أبرز المثقفين العرب في المشرق العربي، وواحدًا من أهمّ مفكري التنوير، والعلمانية، والعقلانية، والتمدن، والحداثة، والمقاربة النقدية للتراث في وطننا العربي. وفي هذا السياق، يعترف العظم بأنه فعل هذا بشكل واعٍ ومتعمد، وحديثه عن خطين متعارضين؛ الأول: يرتكز على مقولة (كما تكونوا يُولَّى عليكم)، والثاني: على مقولة (الناس على دين ملوكها).
صاحب مشروع فكري علماني تنويري:
يقول الكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر: "إن صادق العظم، كان أحد ألمع الكُتّاب العرب الذين نجحوا في إثارة الدبابير من أعشاشها، وشرع في تحطيم الأيقونات السياسية العربية، بعد هزيمة الخامس من حزيران/يونيو 1967م؛ كالماركسية، والناصرية، والبعث، والخرافة، والدين. وفوق ذلك، اندرج صادق العظم وكتاباته في سياق الحداثة، والتقدّم، والنهضة، ومقارعة الاستبداد، والدفاع عن الحرية والديمقراطية والعلمانية. ولعلنا نجد في سيرته، وسيرة عائلته، البدايات التأسيسية؛ التي جعلته مفكّرًا حرًّا، وتقدّميًا، وعلمانيًا في الوقت نفسه"[7].
ترك العظم سجلًا حافلًا من الكتب والمقالات، وكان كتابه الأهم: "نقد الفكر الديني"، الصادر سنة 1969م، قد أثار، ولا يزال، عاصفة كبرى من النقد المؤيد أو المعارض في العالم العربي والإسلامي، وتعرض الراحل، وناشر الكتاب إلى المحاكمة والملاحقات القانونية في بيروت، بحجة إثارة النعرات الطائفية، والمذهبية، والعنصرية، أو الحضّ على النزاع بين مختلف طوائف الأمة، أو تحقير الأديان، على الرغم من أن الكتاب، كما جاء في حيثيات الحكم الصادر بحق العظم، يضم مقالات، ما هي إلا "أبحاث علمية فلسفية تتضمن نقدًا علميًّا فلسفيًّا".
ومن أهم ما طرحه العظم في كتابه هذا: "أن الإيديولوجية الغيبية، والفكر الديني الواعي، الذي تفرزه مع ما يلتف حولها من قيم، وعادات، وتقاليد؛ هي حصيلة للروح العربية الأصلية، الخالصة والثابتة عبر العصور، وليست أبدًا تعبيرًا عن أوضاع اقتصادية مُتحوِّلة، أو قوى اجتماعية صاعدة تارة، وزائلة تارة أخرى، أو بنىً طبقية خاضعة للتحول التاريخي المستمر، ولا تتمتع إلا بثبات نسبي"[8].
ويرى الفيلسوف والمفكر الفلسطيني السوري، الدكتور أحمد برقاوي، رئيس قسم الفلسفة بجامعة دمشق سابقًا: "أن صادق مفكر الممكن بامتياز، ولهذا ظلت عيناه نحو المستقبل، وظلت روحه مفعمة بالأمل، ولهذا، اختار عين الناقد لما هو كائن، نقد الواقع، ونقد الوعي منحازًا دون تردد إلى الحقيقة، كما يراها، وبارتباط بمصير الكائن. فحق القول: إنه مفكر الاختلاف مع الواقع، ومع الوعي الذي لا يراه خارج المايجب أن يكون"[9].
فيما يرى الباحث السوسيولوجي التونسي شكري الصيفي: "أن أفكار العظم، عرفت عدة مراحل، بدأت ما بعد النكسة، بحثًا عن أسباب الهزيمة، وركز على ذلك في مؤلفيه "النقد الذاتي بعد الهزيمة"، و"نقد العقل الديني"، وتمحور بحثه على، ما أطلق عليه، "نزع القداسة عن نقد الدين"، وصنف إيديولوجيا الإسلام السياسي على أنها لا تمثل كل الإسلام، ولا تمتلك سلطة تأويل النص الديني. ومن هذا المنطلق؛ قسم العظم هذا التيار إلى ثلاثة نماذج؛ الأول: أطلق عليه نمط (الإسلام الرسمي الراديكالي)، واعتبره مناهضًا للحريات، ومانعًا للتعددية الدينية، والأنساق الثقافية والفكرية المغايرة له. والثاني: أطلق عليه (الإسلام التفجيري الانتحاري)، وهذا النمط يقوم على مبدأ الحاكمية، ويؤمن بعقيدة التكفير والقتل بحجة حماية الدين، وقاد هذا النمط صراعات عنيفة في الداخل، وخاض حربًا مع الغرب انتهت بأحداث 11 سبتمبر/ أيلول. النمط الثالث: هو (إسلام البيزنس والسوق)؛ وهو إسلام الطبقة الوسطى البرجوازية، المرتبطة بالبنوك الإسلامية، وصيغ المرابحات التجارية، وهو نموذج يهتم بالبعد الاقتصادي"[10].
من جهته، يرى الباحث والشاعر السوري د. ركان الصّفدي، أستاذ الأدب العربي بجامعات الكويت وسوريا: "أن العظم جاء في زمن الأسئلة الحادة، بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967م، التي هزّت الثوابت العربية، وزلزلت السائد، وطرحت مشروعية محاسبة كل شيء في واقعنا العربي المريض، من الدين إلى السياسة إلى المجتمع، ولذلك؛ كان كتابه "نقد العقل الديني"، الواخز ضمن هذه الحالة التي عمّت الأمة المصدومة، وقد انطلق فيه من رؤيته الماركسية في تفسير العالم، وحركة التاريخ؛ فوجّه نقده الجريء إلى أهمّ مكوّن من مكوّنات العقل الجمعي العربي (الدين)، وحمّله الكثير من مسؤولية انكسارنا التاريخي، كما فعل فلاسفة التنوير في عصر النهضة الأوروبية. وفعل مثل ذلك في كتابه "في الحب والحب العذري"، الذي كان إنارة لجانب معتم آخر من حياتنا، وهو الجانب العاطفي والاجتماعي، وفي الكتابين نلمس فكرًا واحدًا، ومقولة واحدة هي: رفض القمع، قمع الفكر وقمع الجسد؛ فالدين الذي تأنسن في منطقتنا، أصبح صورة عن الإنسان المسيطر، الذي يحكم بسوط الخوف والجوع، والإنسان الذي تألّه فرض أعراف وعادات، تحوّلت إلى ما يشبه الدين، وقد أراد العظم أن يفكّك هذه البنية، ويعيد إلى الإنسان إنسانيته المستلبة عن طريق الحرية، بحسب المفهوم الماركسي؛ أي الحرية المرتبطة بتحرر المجتمع من الاستعباد بجميع أشكاله، وهو، وإن سبق إلى الكثير من هذه الأفكار، ولاسيما في كتابات عصر النهضة العربية، وكتابات؛ سلامة موسى، وشبلي الجميل، وغيرهما، تميّز بالوضوح الصارخ والجرأة المطلقة في المس بالمقدّس، في زمن المواربة السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وهو ما جعله في دائرة الضوء، وعلى مرمى من أعدائه الكثيرين".[11]
وقد تميزت كتابات العظم بأسلوب سلس، يجتذب القارئ الذي يوجه إليه الخطاب بصورة مباشرة، وكأنه يلقي محاضرة أمام طلابه في الجامعات، العربية أو الغربية، التي درّس فيها، ومن أهم مؤلفاته: "دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة" 1966م، "النقد الذاتي بعد الهزيمة" 1968م، "نقد الفكر الديني" 1969م، "دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية" 1970م، "دراسة نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية" 1973م، "الصهيونية والصراع الطبقي" 1975م، "سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية" 1977م، "زيارة السادات وبؤس السلام العادل" 1978م، "الاستشراق والاستشراق معكوسًا"1981م، "الحب والحب العذري" 1981م، "دفاعًا عن المادّية والتاريخ" 1990م، "ذهنية التحريم"، "سلمان رشدي وحقيقة الأدب" 1994م، "ما بعد ذهنية التحريم" 1997م، و"الإسلام والنزعة الإنسانية العلمانية" 2007م.
وفي 2008 صدور كتاب بعنوان: "هذه المحرّمات التي تسكننا" بالفرنسية؛ يتضمن مقالات ودراسات حديثة، مسبوقة بحوار طويل أجراه صقر أبو فخر، ونشر بالعربية في كتاب بعنوان: "حوار بلا ضفاف" عام 1998م.
وسيبقى في صحيفة أعمال العظم الفكرية، وفي رصيد مواقفه النضالية النبيلة، دفاعه الشرس عن الروائي البريطاني، الهندي الأصل (سلمان رشد): صاحب الرواية الشهيرة "آيات شيطانية"[12]؛ حيث فنّد العظم الهجمة الساذجة التي أثارها العديد من أصحاب الفكر العربي الغوغائي، ردًّا على رواية "رشدي"، وفضح الكتّاب والنقّاد العرب، الذين تصدّوا لهذه الرواية من غير أن يقرؤوها، مكرّسًا، لهذه الغاية، كتابًا بعنوان: "ما بعد ذهنية التحريم".
حضور دولي لافت لمفكر سجالي:
ترأس المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم "رابطة الكتاب السوريين"؛ التي تأسست عام 2012م، إثر انطلاقة الثورة السورية، وقد حاز عدّة جوائز دوليّة، منها؛ جائزة "ليوبولد لوكاش" للتفوق العلمي عام 2004م، والتي تمنحها جامعة "توبينغن" في ألمانيا، وجائزة "إيرازموس" الشهيرة في هولندا، وكان آخرها، وسام الشرف الألماني من "معهد غوته" الألماني، في التاسع من حزيران/ يونيو 2015م.
وقد قال العظم يومها: "شرف كبير لي، وفخر أكبر؛ أن تكرمني الجمهورية الاتحادية الألمانية بهذا الوسام، وأن تقترب خاتمة فاعليتي في الحياة الثقافية العربية، على وقع الاحتفال بتقليدي ميدالية غوته"[13]، وأضاف: "أبدأ كلامي بالتذكير بكتاب المفكر السوري الراحل بوعلي ياسين[14]، حول (الثالوث المحرم) في ثقافتنا العربية السائدة؛ أي (الدين، والسياسة، والجنس)، ويتركز إسهامي، هنا، في أنني كسرت الثالوث المحرم هذا، وخرقته على الأصعدة؛ الفكرية، والنقدية، والاجتماعية، والسجالية، وبصورة مباشرة لا مراوغة فيها، أو لفًا ودورانًا حول الموضوع، هربًا من مسه مباشرة، ويعتبر هذا، في حد ذاته، تكريسًا عمليًا، وبالممارسة لحرية الفكر، والتعبير، ولديمقراطية النقاش والسجال في المجتمع.
من ناحية أخرى؛ ساعد نشاطي الكتابة باللغتين، العربية والإنكليزية، (بالإضافة إلى الترجمات إلى لغات أخرى) في توريط أوروبا في القضايا، الفكرية والثقافية، المطروحة اليوم على بساط البحث والنقاش، عربيًا وإسلاميًا؛ الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، والنقل والعقل، والعلم والدين، والجهاد والإرهاب، والاستشراق والاستغراب، والغزو الثقافي، والتحديث، وغيرها. كما ساعد في توريط الفكر العربي وبعض الإسلامي، عمومًا، في قضايا معاصرة حيوية وضاغطة، مثل؛ المجتمع المدني، والعلمانية، والإصلاح الديني، والنص والتأويل، وحقوق الإنسان والمواطن، والديمقراطية، والحريات العامة، وحرية الفكر والضمير والتعبير، وما إليه.
ربما كان إسهامي الأفضل في المساعدة على تعزيز قيمة حرية التعبير، عمومًا، هو؛ دفاعي العملي والصريح عن سلمان رشدي، وروايته "الآيات الشيطانية"، وتفنيدي فتوى الخميني بقتله"[15].
خلاصة القول، أخيرًا: إن سوريا والأمة العربية قاطبة، والفكر الإنساني النبيل، خسروا برحيل صادق جلال العظم، عقلًا فلسفيًا ونقديًا كبيرًا، ومفكّرًا حرًّا وتقدّميًا وعلمانيًا، لامعًا، ورفيعًا، وفريدًا في الوقت نفسه، وبعض تكريمه بعد رحيله الجسدي، قد يكمن، أيضًا، في ما بيناه من نزر يسير من إرثه الفكري والحضاري هنا.
هذا الإرث الذي سينال الاهتمام الجدير به، بعدما أعلن ابني المفكر السوري صادق جلال العظم (عمرو وإيفان)، قبل أيام من رحيل والدهما، عن تأسيس جمعية، وموقع إلكتروني، تحمل اسم: (مؤسسة صادق جلال العظم)، والتي سيتم إطلاقهما قريبًا جدًا، للحفاظ على إرث صادق جلال العظم، الفكري والثقافي، واستمراريته، وأشارا في بيان نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى "أنّ هذه الجمعية ستقوم من خلال الموقع الإلكتروني، بتنسيق النشاطات والفعاليات، التي ستقام مستقبلًا لتكريم ودعم استمرار هذا الإرث"، و"من أهم أهداف هذه المؤسسة؛ التواصل، ونشر فكر صادق جلال العظم وكتاباته، وإيصالها إلى الأجيال القادمة من الشباب السوري والعربي، إضافة إلى المفكرين والمختصين".
[1] يعد العلامة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (ولد في حلب العام 1855م، وتوفي في القاهرة مسمومًا عام 1902م): من ممثلي التيار والاتجاه الإسلامي التنويري والطليعة المثقفة الواعية، التي سعت إلى تلمس وتشخيص الداء في العطب الاجتماعي، واصطدمت أفكارها التجديدية، ومعارفها العلمية، وتطلعاتها الثورية، نحو الحرية والديمقراطية، بميراث الأمية، والتخلف، والاستبداد. كان الكواكبي محاميًا، وكاتبًا، وصاحب علم شرعي، وقد ضمّن كتبه تحليلًا دقيقًا وعميقًا للأمراض والأوبئة السياسية والاجتماعية، وشن حملات شديدة وعنيفة على السلطة العثمانية القمعية، ودعا إلى الحرية السياسية، واحترام النهج العقلاني في التفكير، وإلى الكفاح السياسي المنظم ضد السيطرة الاستبدادية التركية والاستعمارية الغربية، وقد كان شعور الكواكبي بالظلم، ورهافة إحساسه بالحرية وعشقه لها؛ الدافع الأول لمواقفه وآرائه، التي جعلته يصارع طغيان العثمانيين، رغم ما قاساه من آلام الغربة والهجرة، ووحشة السجن، وعذاب الاضطهاد، كما كان له، إلى جانب ذلك، تأييد الناس، ومساندتهم لجهوده وجهاده، ومن الآثار المهمة التي وضعها: كتاب "الرّحالة كــ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وقد قام بدراسة وتحقيق النسخة التي بين أيدينا؛ الباحث الأكاديمي الدكتور محمد جمال الطحان، (مدير مركز أبحاث الوعد السوري)، ومحقّق الأعمال الكاملة للكواكبي، وهو صادر في طبعته السابعة في 2016م، عن دار صفحات للدراسات والنشر، ويقع في (224 صفحة، من القطع المتوسط). ويعد هذا الكتاب؛ الذي ألفه الكواكبي باسم مستعار، هو (الرحالة كاف) بعد مئة عام من كتابته، أحد عوامل النهضة في تاريخ العرب الحديث، ومرشدهم إلى التخلص من استبداد السلاطين العثمانيين.
[2]- عبد الرحمن الكواكبي، "الرّحالة ك طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، تحقيق: الدكتور محمد جمال الطحان، دار صفحات للدراسات والنشر، دمشق 2015م. يعد هذا الكتاب، الذي ألفه الكواكبي باسم مستعار، (الرحالة كاف)، بعد مائة عام من كتابته، أحد عوامل النهضة في تاريخ العرب الحديث، ومرشدهم إلى التخلص من استبداد السلاطين العثمانيين.
[3]- خلدون الشمعة، مقال بعنوان: "الحتمية التاريخية تسير فـي الاتجاه المعاكس"، مجلة نزوى العُمانية، ملف خاص عن صادق جلال العظم، نشر بتاريخ 27/4/ 2015م.
[4]- خلدون الشمعة، المصدر السابق.
[5]- خيري منصور، مقال بعنوان: "أطروحات مضادة عن صادق جلال العظم"، جريدة "القدس العربي" اللندنية، نشر بتاريخ 3/12/2016.
[6]- صدر كتاب "نقد الفكر الديني"، عن "دار الطليعة" البيروتية سنة 1969م، ويضم مجموعة أبحاث تتصدى، بالنقد العلمي، والمناقشة العلمانية، والمراجعة العصرية، لبعض نواحي الفكر الديني السائد، والذي يسيطر، إلى حد بعيد، على الحياة العقلية والشعورية للإنسان العربي، وكان من نتيجة صدور هذا الكتاب؛ أن أوقف العظم في بيروت في 19 كانون الأول/ ديسمبر 1969م، وأدخل السجن في 8 كانون الثاني/ يناير 1970م، ثم أخلي سبيله بعد أسبوع، وحوكم في 27 من الشهر ذاته، وصدر الحكم بردّ الدعوى في 7 تمّوز/ يوليو 1970م، وكان معه في الدعوى الكاتب والناشر المعروف (بشير الداعوق).
[7]- صقر أبو فخر، مقال بعنوان: "الدمشقي الذي غاب في منفاه"، جريدة "المدن" الإلكترونية، تاريخ النشر 12/12/ 2016م.
[8]- صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، دار الطليعة، بيروت، 1969م.
[9]- أحمد برقاوي، مقال بعنوان: "الرحيل النبيل"، جريدة (القدس العربي) اللندنية، نشر بتاريخ 13/12/2016.
[10]- شكري الصيفي، تصريح ضمن استطلاع صحفي بعنوان: "صادق جلال العظم… خاض معركة الاستبداد السياسي والديني ولم يهادن السائد"، نشر بجريدة (القدس العربي) اللندنية، بتاريخ 13/12/2016.
[11]- د. ركان الصّفدي، المصدر السابق.
[12]- "آيات شيطانية" (The Satanic Verses): هي رواية من تأليف الكاتب البريطاني من أصول هندية سلمان رشدي، صدرت في لندن بتاريخ 26/9/1988م، وفي 14/2/1989م صدرت فتوى من الخميني بإباحة دم سلمان رشدي.
[13]- صادق جلال العظم، من حوار أجرته معه محطة DW) عربية) الألمانية، نشر بتاريخ: آب/ أغسطس 2015م.
[14]- بوعلي ياسين: مفكر وكاتب سوري، ولد في قرية عين الزهور أو (عين الجرب) في شمال اللاذقية، عام 1942م، اسمه الحقيقي "ياسين حسن"، وكان اصدقاؤه يلقبونه بـ(بو علي)، توفي عام 2000م، من أهم مؤلفاته: "الثالوث المحرم: دراسة في الدين والجنس والصراع الطبقي"، 1973م.
[15]- صادق جلال العظم، من حوار أجرته معه محطة (DW عربية) الألمانية، مصدر سبق ذكره.