قراءة في كتاب أبي بكر الرازي أخلاق الطبيب

فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب أبي بكر الرازي أخلاق الطبيب

قراءة في كتاب أبي بكر الرازي أخلاق الطبيب

ملخص:

تسعى هذه الورقة العلمية إلى القيام بمراجعة لواحد من الكتب البارزة في الحضارة العربية الإسلامية، والذي يشكل إسهاما نوعيا ضمن تخصص الفلسفة من ناحية الماكرو وفلسفة الصحة والمرض من ناحية الميكرو، حيث التقاطع والتداخل بين تخصصين وهما الفلسفة والطب، وهو الكتاب الموسوم بـ "أخلاق الطبيب" لصاحبه أبي بكر الرازي. والحال، أن الحكماء والمفكرين والفلاسفة في المراحل السابقة من تاريخ الحضارة السالفة الذكر كانوا ينهجون تجاه الموسوعية، وهو الوجه الآخر المقابل للتخصصية. ومن هنا إذن تأتي هذه القراءة من أجل الكشف عن التوجهات والتوصيات المتعلق بالطب والطبيب في شموليتها وتفاصيلها لدى أبي بكر الرازي.

عناصر الكتاب الشكلية والمنهجية:

يستدعي الحديث عن فلسفة الصحة والمرض أو المرض والصحة في الفلسفة، المرور عبر لحظة الحضارة الإسلامية، باعتبارها لحظة مفصلية وجوهرية في مسار الحقل السالف الذكر؛ وذلك في مرحلة توهجها وازدهارها وتفوقها الفكري؛ أي العصور الوسطى أو القرسطوية، حيث سنقف عند عتبة كتاب يشكل إسهاما نوعيا مهما من أجل بناء صرح فلسفة الصحة والمرض، والذي سيسعى بدوره إلى حل الإشكالات المتعلقة بهذا الحقل الفكري. إن هذا الكتاب المعنون "أخلاق الطبيب" لأبي بكر الرازي عبارة عن خارطة طريق يجب أن يطلع عليها طالب الطب والطبيب أيضا، فهي ترسم وتحدد وتفصل وتصف صورة الطبيب الجيد، وكأننا أمام نموذج مثالي بالمعنى الذي قدمه لنا السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر. من هنا إذن تأتي مراجعتنا لهذا الكتاب، من أجل تقديم إسهام الحضارة الإسلامية ككل، وأبي بكر الرازي خاصة في مجال الطب.

ويعد الكتاب الموسوم "أخلاق الطبيب" لصاحبه أبي بكر الرازي كتاب صغير الحجم من الناحية الكمية العددية؛ إذ إن عدد صفحاته يبلغ حوالي 103 صفحة. ولكنه كبير القيمة من الناحية الكيفية والنوعية والتوجيهية. واسم المؤلف الكامل هو "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي"، وهو عبارة عن رسالة موجهة إلى بعض تلامذته، أي النجباء منهم وليس كلهم. وفي هذا الإشارة إلى التحفيز على الاجتهاد المستمر، كما أنه عبارة عن خارطة طريق تضم مجموعة من التعلمات والوصايا التي يجب أن يستدمجها الطالب، ويلتزم ويتشبع بها حتى يصبح طبيبا جيدا وليس طبيبا سيئا. والحال، أن الرسالة تستهدف علاقة طالب الطب بذاته وبزملائه الذين يعتبرون مشروع أطباء في المستقبل، وبمحيطه الاستشفائي؛ لأن الطبيب لا يشتغل لوحده، ولكن في إطار مؤسسة. وكذلك علاقته بالمجتمع والجماعة بالمعنى الميكرو أي الصغير - نقصد مجتمع الأطباء وحتى المقربين منه - والماكرو أي العام؛ أي المجتمع ككل، فأفراده يترددون على الطبيب، وهم في حاجة إليه. من هنا إذن دور الطبيب الجوهري والحيوي. ولكي يصبح طالب الطب طبيبا جيدا وأصيلا عليه أن يتوفر على مجموعة من الخصائص والصفات ذات البعد الأخلاقي والمنهجي التي يحددها الرازي في هذا الكتاب/الرسالة بطريقة واضحة ومعيارية، وهو هنا لا يكتفي بأقواله، وإنما يورد أقوال غيره من حكماء الطب الأقدمين، والذين يعدّون من مؤسسي صرح الطب. وفي هذا الأمر إشارة إلى الانفتاح الفكري على الآخر.

وحينما نتصفح الكتاب بصريا، يتبين لنا أنه عبارة عن شذرات وعناوين صغرى تشكل مجتمعة هذا الكل المركب من التعليمات والنصائح والتوجيهات. وهنا هندسة الكتاب تلعب دورا مهما في التعلم والتعليم، حتى اللغة المعتمدة هي سهلة ودقيقة تخلو من الحشو والمفاهيم الصعبة والمركبة، ما يسهل مهمة الطالب الباحث.

الأطروحة المركزية للكتاب:

يستخدم الرازي في كتابه "أخلاق الطبيب" لفظ "ابني" بكل كبير ومتكرر أثناء مخاطبة طلبته، لما لها من قرب وجداني وعاطفي، كما أنه يمزج على مستوى الخطاب الموظف بين الصيغة العامة التي تسري على الكل والصيغة الخاصة التي تهم حالة بعينها. إلى جانب ذلك، فالطبيب حسب الرازي يجب أن يكون متاحا للكل، ولا يجب أن ينبني عمله على مسألة التمييز المادي والفكري بين الفقراء (العامة) والأغنياء (الخاصة)، ثم الثقة، والتي لا تعطى وإنما تبنى بين الطبيب والمريض، ومسألة بنائها تحتاج إلى مبدأ الزمان، فلا شيء يأتي من لا شيء، وإنما هناك إعداد قبلي لابد منه... وكل هذه التعليمات تتأسس على مرجعية دينية إسلامية روافدها القرآن الكريم والسنة النبوية، والتي تجنب الطبيب من الوقوع في براثين الخطأ وغياهب الظلمات. كما أن الأخلاق التي يتحدث عنها ههنا الرازي لا تتأسس فقط على الدين والتدين، وإنما الأخلاق بمعناها الإنساني الفلسفي.

وتأتي هذه التعليمات بشكل متدرج ومتسلسل وتقدم كالتالي: الأولى: النهي عن كثرة الكلام وكتمان السر "أنه من أصعب الأشياء للطبيب، خدمة الأمراء، ومعالجة المترفين والنساء، فإن الطبيب الحر السيرة إذا اشتغل بصناعته، وحفظ الخاصة والعامة، فانه يعيش بخير"[1]؛ أي إنه معياري في عمله. إلى جانب ذلك، "صيانة النفس عن الاشتغال باللهو والطرب، والمواظبة على تصفح الكتب"[2]، والتي من شأنها أن تطور عمله. "واعلم يا بني أنه ينبغي للطبيب أن يكون رفيقا بالناس، حافظا لغيبهم، كتوما لأسرارهم، لاسيما أسرار مخدومه، فإنه ربما يكون ببعض الناس من المرض ما يكتمه من أخص الناس به"[3]. فليس كل شيء قابلا للقول، فهناك الجانب الحميمي للمريض. و"على الطبيب أن يكون مخلصا لله، وأن يغض طرفه عن النسوة ذات الحسن والجمال، وأن يتجنب لمس شيء من أبدانهن، وإذا أراد علاجهن أن يقصد الموضع الذي فيه معنى علاجه"[4]. بمعنى أن يكون الانخراط في هذا الميدان كغاية في ذاته وليس من أجل تحقيق غايات أخرى. الثانية: تواضع الطبيب "واعلم يا بني إن من المتطببين من يتكبر على الناس، لاسيما إذا اختصه ملك أو رئيس"[5]، ومن شأن مقولة التواضع أن تعزز القرب بين المريض والطبيب لما لها من أثر إيجابي في العلاج، قال: "وينبغي للطبيب أن يعالج الفقراء، كما يعالج الأغنياء، وهكذا يجب علينا أن نقتفي السنة التي سنها الحكيم"[6]، "وينبغي أن تدخل على مخدومك كل يوم، وتقعد بالقرب منه، وتجس نبضه"[7] (الدراية بالظروف اليومية تساعد في إعطاء النصائح). الثالثة: غذاء المريض، ولا تذكر على مائدته، إن هذا الطعام يضر عضو كذا أو يهيج علة كذا[8]. يضيف في ذات الشذرة، وينبغي أن تأمر له كل يوم أن يتخذ له من الغذاء ما تعلم أنه يكون مصلحا لما تناول في أمسه من أغذية[9]. الرابعة: استخدام الدواء، استخدام الدواء، وينبغي لك إذا ناولته شربة أو دواء، أن تصيب منه بمشهده مقدارا، فإن ذلك أبعد من التهمة، وأقرب إلى الثقة[10]. الخامسة: النهي عن ذكر السموم لدى الأمير، وإياك وذكر شيء من السموم القاتلة، بين يدي الملك، أو سوقه، وتقول، إني اعرفها، أو واقف على شيء منها، فهي بمعزل عن صناعة الطب[11]. فالطب يسعى للخير والفضيلة. السادسة: وجوب تقريب الطبيب، ويجب على من استخدم الطبيب أن يقربه من نفسه، ويكلمه كما يكلم أخص الناس به، كيلا يحتاج الطبيب بينه وبين مخدومه إلى سفير[12]. فمن شأن تواجد الوسائط بينهما ضياع حقيقة المرض. السابعة: نهي الطبيب عن السكر، نهي الطبيب عن السكر، وإياك ومعاقرة الشراب، إذا كنت معينا لخدمة الملوك والأكابر، فإنه ربما احتاج إليك في وقت فتصادف سكران فتصغره في عينه[13]. الثامنة: ملازمة الطبيب للمريض بعد الدواء، فينبغي أن تلازمه، لئلا يخطئ في الطعام والشراب[14]. التاسعة: فصد المريض بعد معرفة حاله، وإذا أردت إخراج الدم له بالفصد (شق عرق المريض) فيجب أن تجس نبضه، وتتفقد بوله[15]. العاشرة: النهي عن التجربة في المريض، قال الحكيم أبقراط: العمر قصير، والصناعة طويلة، والوقت ضيق[16]، يضيف، قد نهى عن ذلك المعلم الحكيم، حين ابتدأ، فقال: "العمر قصير، والصناعة طويلة، والزمان جديد، والتجربة خطر"[17] - إن الرازي من أنصار التجربة، لكنه كان يرفض تجربة الدواء على الإنسان المريض -. الحادية عشرة: التحذير من أدعياء الطب، واعلم أن اللصوص وقطاع الطريق، خير من أولئك النفر، الذين يدعون الطب، وليسوا بأطباء[18]. فليس كل طبيب طبيب. الثانية عشرة: تواضع الطبيب، واعلم أن التواضع في هذه الصناعة زينة وجمال[19]. الثالثة عشرة: فضل الأطباء، فإنه قد اجتمع لهم خمس خصال لم تجتمع لغيرهم، الأولى اتفاق أهل الملل والأديان على تفضيل صناعتهم، والثانية اعتراف الملوك، بشدة الحاجة إليهم، والثالثة مجاهدة ما غاب عن أبصارهم، والخامس المشتق من أسماء الله تعالى[20]. الرابعة عشرة: لا كهانة في الطب. والخلاصة هي واعلم أنك إذا تملكت هذه الخصال، ولازمتها في سائر الأحوال، وكنت حريا بأن يخصك الملوك، ويقبل عليك الخاصة والعامة، ولا تخلو في خلال ذلك من ثواب وحسن ذكر[21].

خلاصات:

إن كتاب "أخلاق الطبيب" لأبي بكر الرازي من الكتب المهمة في مجال فلسفة الطب. ويمكن النظر له من خلال زاويتين: أنه يحمل راهنية النظر والتفكير في المهنة، سواء تلكم المتعلقة براهنيتها في اللحظة التي كتب فيها الكتاب، أو راهنية المرحلة الحالية المعاصرة؛ أي اعتماد الكتاب كخلفية ومرجعية لفهم واقع مهنة الطب اليوم. وبين الأمس واليوم، نقول إنه جرت مياه كثيرة تحت جسر الطب، ثم ما يتعلق بالرهان المستقبلي، وهو نوع من الاستشراف لما هو قادم، وهو نقاش حول إشكالية الأخلاق التي جاء بها الرازي بالطب، في ظل السياقات والمقامات المختلفة، وليس فقط في الحضارة الإسلامية، وفي ظل زمن العولمة، أو عولمة النقاش، وعلاقتها بالدين والتقنية.

مسألة أخرى، يمكن النظر إليها من خلال هذا كتاب، هي أنه ليس من السهل أن تكون طبيبا، وليس من الصعب أن تكون طبيبا، هي بين السهولة والصعوبة، هي مهنة الاعتدال والتوازن المؤطر بالأخلاق، هي أخلاق الدين وفي نفس الآن الأخلاق بمعناها العام.

ونحن اليوم، في حاجة إلى إعادة قراءة كتاب أخلاق الطبيب، ليس القراءة من أجل القراءة، وإنما من أجل الإرشاد والتصحيح وإزالة مجموعة من الشوائب التي تحيط بمهنة الطب، وهنا يأتي دور مؤسسة الجامعة، باعتبارها منتجة للعلم وللنخب، سواء كليات الآداب والعلوم الإنسانية أو كلية العلوم القانونية والاقتصادية أو كلية العلوم وحتى كلية الطب والصيدلة... من خلال إقامة مؤتمرات وملتقيات علمية وطنية ودولية وكذا مسابقات بحثية للطلبة بغية تطوير وتصحيح وفي نفس الوقت إقامة قطائع بالمعنى الإبستيمي لما قد يعتبر غير صالح وفي نفس الوقت استثمار ما جاء به أبو بكر الرازي باعتبار أنه من ركائز فلسفة الطب.

 

المصادر

أبو بكر الرازي، أخلاق الطبيب، تقديم وتحقيق دكتور عبد اللطيف محمد العبد، الطبعة الأولى 1988

[1] أبي بكر الرازي، أخلاق الطبيب، تقديم وتحقيق دكتور عبد اللطيف محمد العبد، الطبعة الأولى 1988، ص 17

[2] نفس المرجع السابق، ص 19

[3] نفس المرجع السابق، ص 27

[4] نفس المرجع السابق، ص 29

[5] نفس المرجع السابق، ص 35

[6] نفس المرجع السابق، ص 37

[7] نفس المرجع السابق، ص 39

[8] نفس المرجع السابق، ص 40

[9] نفس المرجع السابق، ص 41

[10] نفس المرجع السابق، ص 44

[11] نفس المرجع السابق، ص 46

[12] نفس المرجع السابق، ص 47

[13] نفس المرجع السابق، ص 50

[14] نفس المرجع السابق، ص 62

[15] نفس المرجع السابق، ص 70

[16] نفس المرجع السابق، ص 72

[17] نفس المرجع السابق، ص 78

[18] نفس المرجع السابق، ص 81

[19] نفس المرجع السابق، ص 84

[20] نفس المرجع السابق، ص 87 88

[21] نفس المرجع السابق، ص 94