قراءة في كتاب "ابن رشد المقلق" جان- باتيست برونيه
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب "ابن رشد المقلق"
جان- باتيست برونيه
ملخص:
يعد كتاب "ابن رشد المقلق" للباحث جان باتيست برونيه دراسة نقدية للرشدية في الغرب اللاتيني، مركزًا على العلاقة المتناقضة بين الغرب وفلسفة ابن رشد، خصوصًا حول تصوره للعقل. يتناول برونيه فكرة "الغرابة المقلقة" المستوحاة من نظرية فرويد، ليحلّل العداء المرضي الذي لقيته الفلسفة الرشدية في الثقافة المسيحية الغربية. يعتقد المؤلف أن ابن رشد أحدث ثورة فكرية في تصوره للعقل، مشابهة للأثر الذي تركه كل من كوبيرنيك وداروين وفرويد، مما تسبب في ردود فعل عنيفة ضد فلسفته.
يعتمد الكتاب بشكل أساسي على منهج التحليل النفسي، مستعرضًا كيف تم تحريف فلسفة ابن رشد، خاصة من قبل توما الأكويني، حيث قام بتشويه نظرية العقل الرشدية عبر مقارنة العقل بالعين التي يمكن اقتلاعها، مما رمَز إلى القلق البصري والخصاء. كما يناقش تأثير فلسفة ابن رشد في الفن والفكر اللاتيني، ويبرز كيف تم تصويره كـ "هرطوقي" و"ملحد" في العديد من اللوحات الفنية.
من خلال هذا المنهج، حاول برونيه فهم الرفض العنيف لفلسفة ابن رشد، مشيرًا إلى أنها لم تُفهم بشكل جيد لا في العالم العربي ولا في الغرب. ويطرح الكتاب أيضًا تساؤلات حول مدى تأثير نظرية العقل عند ابن رشد على الفهم الحديث للإنسان والعقل، مقدّماً مواقف نقدية تجاه الهجوم المسيحي على أفكار ابن رشد واعتبارها تهديدًا للنظرة اللاهوتية المسيحية.
في الختام، يُعد الكتاب تجربة فريدة لقراءة التراث الفلسفي والتاريخي من منظور نفسي حديث، ويسلط الضوء على التوترات الثقافية بين الغرب والعالم الإسلامي في العصور الوسطى.
1 صورة ابن رشد في الغرب اللاتيني:
يعدّ كتاب "ابن رشد المقلق" لمؤلفه جان باتيست برونيه[1] قراءة نقدية لمآلات الرشدية في الغرب اللاتيني، وحفر ممنهج عن المحددات والمحتويات اللاواعية، للعلاقات المتناقضة التي أقامها اللاتينيون مع نصوص الفيلسوف القرطبي. فتحت الباب أمام عداء صريح ومعلن حيال الفلسفة الرشدية عموما، خاصة ما يتصل بنظريته في العقل. يتكئ برونيه في تشخيصه لأعراض العداء المرضي حيال ابن رشد وفلسفته، إلى نظرية التحليل النفسي مستلهما مفهوم الغرابة المقلقة عند فرويد، وقد بلغ هذا العداء حد "التكفير" والشتم الغليظ والألفاظ الثقيلة.
فهذا الكتاب لا يخلو من جدة وطرافة، جديد في موضوعه شكلا ومضمونا؛ فهو إصدار جديد، وقد يكون من أحدث الكتابات المعاصرة حول ابن رشد. ناهيك عن توظيفه منهجا بسيكولوجيا تطور مع الدراسات النقدية الحديثة، كمنهج لقراءة النصوص القديمة. ومنه، فإن الكتاب المذكور يطغى عليه الهاجس السيكولوجي والتشخيصي، أكثر من الهاجس الإبستيمولوجي والعلمي، ربما لأنه يرى أن العلاقة مع ابن رشد لم تكن قط علمية خالصة.
يقع الكتاب في مائة وثمانين صفحة، على مدار ثلاثة عشر فصلا أقرب للمقال منه إلى الفصل، كما هي واردة في الترجمة[2] العربية. أنجزها جورج زيناتي، مع مقدمة جديدة بقلم الحسين سحبان في الطبعة الثانية.
يجادل المؤلف في أن الفيلسوف القرطبي من خلال تصوره للعقل، أحدث انقلابا وثورة في تصور الإنسان لذاته، لا تقل عن الهزات الفكرية العنيفة التي نجمت عن أعمال كوبيرنيك وداروين وفرويد، علميا وثقافيا.
يرى الحسين سحبان في تقديمه لهذا الكتاب "ابن رشد المقلق" أنه لا يكتفي بكونه تفكيكا ممنهجا، لصورة ابن رشد كما عبرت عنها الكتابات الكلاسيكية الغربية والعربية فحسب، وإنما هو كذلك كشف دقيق عن وجه آخر للفيلسوف الأندلسي، وعن نسق فلسفي رشدي متكامل ومنتظم حول نواة صلبة، هي نظريته في العقل. [3]علما أن هذا الباحث يسجل أن برونيه، لم يقف عند الجذور التاريخية لمفهوم العقل عند ابن رشد، لا سيما أنه حمل على نظرية الفيض، وقام بتسفيه مفهومها عن العقل. علاوة على أن الهدف من الكتاب ليس هو نظرية العقل، وإنما محاولة فهم العنف الذي قوبلت هذه النظرية في الغرب المسيحي، على ضوء المفهوم الفرويدي "أونهايمليش_UNHEIMLICHKEIT"؛ أي الغرابة المقلقة، تجلت أعراضها بصيغ مختلفة في الفكر والفن منذ القرن الثالث عشر. وقد اختزل المؤلف تصور الفيلسوف الأندلسي للعقل في صيغة مختصرة "العقل مفارق، وواحد، وأبدي...إنه منفصل عن الأجسام وعن البشر، وهو مستقل عموديا في الرؤوس...غير مولد، وغير قابل للفساد"[4] وقد لقي هذا الطرح حسب جان باتيست برونيه، نقدا لاذعا في الأوساط الفكرية والثقافية المسيحية واللاتينية، خاصة من لدن توما الأكويني. توزع بين ما هو لاهوتي تكفيري، علما أن المؤلف لا يفصل في هذه التهمة، هل مردها إلى أن ابن رشد فيلسوف مسلم، فهو يدين بدين آخر، أو لأن فكره هو بمثابة تقويض للنظرة الأنطوثيولوجية المسيحية للعالم، فيعد ملحدا، ثم نقد نظري فلسفي وجهه توما الأكويني للرشديين جميعا، في كتابه "وحدة العقل ضد الرشديين" الصادر عام 1270. وأخيرا فني وإبداعي، حيث يتناول المؤلف لوحتين تشكيليتين في عصر النهضة الإيطالية. لكل من بونوزو جوزوليBONOZZO GOZZOLI، والرسام الإيطالي فيليبينو ليبي FLIPPINO LIPPI، تجسدان تهمة الكفر والهرطقة لابن رشد، حشرا ابن رشد في اللوحة تحت أقدام الأكويني ضمن هراطقة مسيحيين؛ فهل هو فعلا إقرار ضمني غير واع بانتماء ابن رشد إلى العالم اللاتيني؟ ولماذا كان غربيا ولم يكن عربيا؟ لم يكن ابن رشد غريبا بالنسبة إلى المفكرين العرب والمسلمين، وإنما الفقهاء الذين ناصبوه العداء، كما تجلى في نكبته.
انتشرت شروح الفيلسوف القرطبي في كل أوروبا، فيما يرى جان باتيست برونيه، وكانت مرجعا لا مندوحة عنه في فهم فلسفة أرسطو. لكن انطلاقا من 1250، اعتبر شرحه لمذهب العقل عند المعلم الأول، فضيحة وشبه إجماع على رفضه ذلك تحت تأثير الأكويني؛ فالعقل واحد وأزلي ومفارق، يلزم عنه، أن الإنسان بلا عقل وغير مسؤول عن أفعاله، علما أن ابن رشد لم يؤيد قط هذه النتيجة. وكان كارثيا من الناحية الدينية، وسخيفا من الناحية العقلانية. هكذا يتساءل برونيه ما سبب تكرار هذا الرفض في التاريخ الأوروبي إلى غاية القرن التاسع عشر؟ وهل شوه ابن رشد الحب أيضا؟ يشير المؤلف[5] إلى قصيدة "سيدة ترجوني" للشاعر الإيطالي جويدو كافالكانتي GUIDO CAVALCANTI، حيث يورد تصويرا سوداويا للحب مستلهما أنثروبولوجيا ابن رشد. فإلى أي ننسب الحب؟ إلى عقل مفارق أم إلى جسد بلا عقل؟ إلى عقل يفكر فحسب أم إلى جسد يحس فحسب؟ هكذا أصر السكولائيون على أن إنسان ابن رشد كائن مسوس وشيطاني، مجنون؛ لأن العقل هو الحاجز بين العقل والجنون. فهذا دون سكوت DUNS SCOT يستنكر بدوره إقرار ابن رشد بوجود وعي مركزي، فهو وهم بلا معنى وغير مفهوم لأحد من الناس، وقد استحق أن يطرد من الجنس البشري. وهذه المواقف قد نجد منها الكثير، حيث يحيلنا المؤلف لكتاب "ابن رشد والرشدية" لإرنست رينان. لكن جان باتيست برونيه يتساءل، لماذا لم تختف هذه الرشدية التي ما إن ظهرت حتى حوربت؟ فقد كان يستشهد به في مدينة[6] أوترخت نحو عام 1640، بابن رشد ضد ديكارت، ومن بعده ضد كانط في القرن التالي. وكان ليبنتز وغيره، يرجعون باستمرار إلى ابن رشد، ثم إن كانط نفسه في "كتيبات في التاريخ"[7] يقول: "دعونا لا نترك فلسفتنا للتاريخ من اجل المغامرة في فلسفة ابن رشد"، وبالتالي هنالك خلط بين الانبهار والرفض، فرغم الهجوم العنيف على فلسفة ابن رشد وتصوره للعقل ومذهبه في النفس، وموقف العداء حيال فيلسوفنا. فقد ظل حاضرا بقوة في المشهد الثقافي والفكري اللاتيني، ومرجعا في النقاشات الفلسفية واللاهوتية الدائرة إعجابا أو رفضا. فهل الإقلاق الذي يسببه ابن رشد للعالم العربي أقل من الذي سببه "أفرويس" في العالم اللاتيني؟ هل تراث ابن رشد عرف جيدا وفهم جيدا في العالم العربي؟ الجواب بالنفي حسب جان باتيست برونيه.
2 الغرابة المقلقة:
لا ينظر المؤلف إلى ابن رشد على كونه غريبا غرابة خالصة، وكأنه وافد أجنبي اندس في العالم اللاتيني ليحدث فيه الفوضى والبلبلة، وإنما مرد ذلك إلى أنه أحد أوجه ما يطلق عليه فرويد أونهايمليش UNHEIMLICHE، مشيرًا إلى الدلالة اللغوية الاشتقاقية لهذا اللفظ. إنه مشتق من لفظ heimliche بمعنى البيت الذي هو بمثابة الفضاء الحميمي الخاص. يشعرنا بالطمأنينة، فهو يمثل كل ما هو مألوف. وعند إدخال حرف النفي un عليه، يعني ضد "هايمليش" أي الغريب، والمخيف والمفزع والمقلق. لقد جعل فرويد من اللفظ بإلهام من شيلينغ، يدل على المعنى وضده. فيكون معناه الغريب والمفزع بعد أن كان من قبل مألوفا فطواه النسيان، كسر كان ينبغي أن يكون مكتوما لكنه انكشف فجأة. إنه ببساطة عودة المكبوت، وكأن ابن رشد الفيلسوف والشارح للمتن الأرسطي، هو دفين اللاشعور الثقافي اللاتيني. إنها محاولات أوديبية يائسة لقتل الأب. يقول جان باتيست برونيه: "كل ما يفكرنا بتأثير الرغبات المكبوتة وأصناف الأفكار التي تخطينها، والتي تعود إلى ما قبل تاريخنا الفردي، وكذلك إلى الأزمنة الأصلية للشعوب"[8] ذلك هو ما يفزع ويخيف، يذكرنا بوهم النسيان.
يتعلق الأمر بتحريف ماكر من لدن توما الأكويني، تبدى على شكل قلق أو وسواس العمى. ووصل به الحد أن يبثه في نفوس السكولائيين؛ ذلك من خلال تحريف أحد عناصر النظرية الرشدية، من خلال تشبيه العقل الهيولاني بالعين. بدلا من تشبيه ابن رشد وأرسطو له بالوسط الشفاف الذي هو شرط لرؤية العين للألوان. وقد أضاف إلى هذا التحريف فكرة مفارقة العقل للأفراد، حيث استنتج أن ابن رشد يريد اقتلاع العقل من الإنسان، كما تقتلع العين من محجرها، ثم توضع في فضاء محايد. تقوم فيه بالرؤية، وهي مبتورة من الجسم. فابن رشد حسب تأويل الأكويني يريد أن يصيب الإنسان بالعمى العقلي. هذا العمى منظورا إليه من زاوية التحليل النفسي هو أونهايمليش أنثروبولوجي ذكوري؛ لأن العين رمز للقضيب، واقتلاعها رمز للخصاء.
وهو ما حاول المؤلف توضيحه، مستلهما حكاية رجل الرمال لدى هوفمان E. HOFFMANN
وهو شخصية خرافية وخيالية، يحكى أنه يرش الرمل أو الغبار السحري على عيون الأطفال، تمهيدًا لاقتلاعها، وكان هوفمان من أبدع النسخة الشريرة لهذه الحكاية. وقد وظفها المؤلف بدلالة التحليل النفسي، حيث رهاب العمى هو البديل لقلق الإخصاء، وهو قلق بصري طفولي. انطلاقا من هذا القول، فإنه من الواضح أن جان باتيست برونيه يصر على أن الفيلسوف القرطبي هو بمثابة عقدة السكولائيين، التي عبرت عن نفسها في عداء راسخ متعدد الأوجه.
3 نظرية العقل عند ابن رشد:
إن التعقل عند ابن رشد مشروط بالإدراكات الحسية والصور الخيالية، التي قد تقوم بدلا عنها. كخطوة أولية نحو تجريدها، ومنها يشرع العقل الهيولاني في تلقي المعقولات والمعاني الكلية من العقل الفعال. فالأول هو استعداد وقوة مطبوعة في النفس، تسمح بتوظيف الصور الخيالية المتلقاة من الحواس والمخزونة في الخيال، لتلقي وقبول المعقولات التي ينتجها العقل الفعال. فهذا الأخير صورة خالصة وبسيطة، مستقلة عن الأفراد الذين لا يدركون إلا ما هو جزئي ومتغير. وللتحرر من سلطة الجزئي المحسوس، لابد من وساطة الحواس والخيال للاتصال بالعقل الفعال، وهو عقل واحد مفارق وأزلي. إنه صانع المفهوم، يقارنه أرسطو بالضوء الضروري من أجل أن تتم الرؤية. فهو بمثابة الوسط الشفاف الذي يجعل الإبصار ممكنا، كما الضوء الذي يجعل الأشياء تمر من الوجود بالفعل إلى الوجود بالقوة. فالعقل الفعال وكأنه ضوء عقلاني، به ننتقل من الكلي بالقوة إلى الكلي بالفعل؛ بمعنى أن الإنسان لا يتعقل عن طريق فيض إلهي أو مشاركة أو تذكر. فالكلي نصنعه ونجربه، ولا سبيل لنا إليه دون اللجوء إلى التخيلات.
إن ابن رشد فيما يرى برونيه[9] يقول بنوع من التناسب بين الموضوع الذي يحرك البصر، وبين الموضوع الذي يحرك العقل. فاللون لا يحرك البصر إلا بحضور الضوء. كذلك المعاني الخيالية لا تحرك العقل إلا عندما تصير المعقولات المجردة بالفعل، بعد أن كانت بالقوة. هنا حسب برونيه، تقوم أطروحة توما الأكويني، الذي يرى أن العقل عند الفيلسوف القرطبي ليس هو النفس البشرية. فرغم كونها صورة الجسد ومبدأه، ومنها تقوم إنسانية الفرد. فليس العقل فيما يستنتج الأكويني قوة حقيقية لهذه النفس. فالعقل مبدأ مفارق بالوجود والجوهر. وبالتالي، فقد سحب ابن رشد العقل من الإنسان الفرد، وبات الأخير خاضعا لأقنوم خارجي.
بالنسبة إلى ابن رشد، فإن فعل التعقل، يفيد تلقي مفاهيم بما هي مفاهيم صالحة موضوعيا للجميع. فإن شرط الفهم الخالص لهذه الكليات، من غير تعديل أو تشويه، هو اللاعضوية. نتلقاه على طريقة المتلقي، فلا بد أن تكون قوة تلقي الكلي بما هو كلي، خالية بالضرورة من كل تعيين، أو تفريد عضوي؛ لأن تفريد هذه المعقولات بحسب فردية الشخص المتلقي، لا تظل ما يجب أن تكونه.
هكذا عد إنسان ابن رشد إنسانا غريبا، ممسوس وشيطاني، مجنون بدون عقل.[10]فالإنسان ليس الجسد المفكر، بل هو مجرد موضوع فارغ. علما أن العقل هو قوام الإنسانية وشرط عقلانيتها، وكأننا هنا إزاء ثنائية الجسد من جهة، والعقل من جهة أخرى. بات هنالك ذاتان، الأنا واللاأنا، يقول جان باتيست برونيه: "والمشكلة لم تعد مشكلة خارجانية اللوغوس، مشكلة نزع الصبغة العقلانية عن الانسان وإنزاله رتبة الحيوان، بل أصبحت قضية الفصل في داخله، بين المنطقة الحسية والمنطقة العقلانية"[11]. إن هذا الأمر يقود إلى تمزيق الإنسانية، فهي تارة تفكر وتارة تعيش. نفصح عن الأنا بصوتين مختلفين. يحيلنا المؤلف على لا كان LACAN مقتبسا القول الآتي: "لا يتعلق الأمر بمعرفة مدى كوني أتكلم على نفسي بطريقة مطابقة لما هو أنا هو، ولكن بمدى أظل الشخص عينه الذي أتكلم عنه".
هذا الفصل بين الوجود والفكر أو بين الأنا واللاأنا كما لو كانت ذات أخرى. يرى برونيه أن فاعله الأول هو ابن رشد عند اللاتينيين. فالإنسان بات موجودا من حيث لا يفكر، ويفكر من حيث إنه غير موجود؛ فهل كان الفيلسوف القرطبي سيؤيد هذه الخلاصات التي انتهى إليها برونيه؟ هل حقا تصور ابن رشد للعقل يضمر نوعا من فلسفة اللاأنا؟ هذا لا يعدو أن يكون سوى النزر اليسير من الأسئلة المستفزة التي يثيرها الكتاب. ناهيك عن أن هذا الأخير يومئ صراحة إلى أن القول بوحدة العقل، [12]قد تتضمن السخرية من فكرة الثالوثTrinité في المسيحية، ووجود ثلاثة أشخاص في جوهر الله. وهذه لوحدها قد تكون فرضية معقولة لفهم القضية التي يثيرها الكتاب. وقد يكون النقاش الذي عقده اللاتينيين عبرها مع ابن رشد، هو نقاش لاهوتي بالدرجة الأولى قبل أن يكون نقاشا فلسفيا، وهذا بيت القصيد في الهجوم العنيف الذي لقيه الفيلسوف الأندلسي من لدن اللاتينيين. دون أن ننسى قوله في النفس الكلية ومسألة خلودها، كل ذلك يعد كارثيا من الناحية المسيحية.
خاتمة:
كانت هذه محاولة لقراءة هذا الكتاب، والخوض في دعواه، ولا ندّعي الإحاطة الدقيقة بمضمونه وقضيته، فهو غني بمضامينه غزير بمعطياته. إحالاته كثيرة ومتنوعة، تتقاطع فيها حقول معرفية شتى: أدب، فلسفة، دين، تحليل نفسي وفن...إلخ، لكننا قد نتساءل عن جدوى وقيمة المنهج النقدي الذي وظفه المؤلف، لمقاربة واقعة ثقافية ذات أبعاد تاريخية وثيولوجية وثقافية عامة، مستلهما فرويد ولاكان، متتبعا الزلات والفلتات، بدلا من مفهوم اللاوعي الجمعي. وقد يكون سؤال المنهج المتصل بفرضية القراءة النقدية للنص والتاريخ هو المسكوت عنه واللامفكر فيه في هذا العمل، لكنه يقدم تجربة فريدة حيال إمكانية قراءة التراث والنصوص القديمة بعيون الحاضر، وهو ما يتيح إمكانية رتق الفجوات والفراغات والبياضات، بل والمفارقات التي ما فتئت تصدح بها الكثير من الأعمال والنصوص والأقوال والمواقف.
[1] Jean-Baptiste Brenet, Averroès l’inquiétant. Les belles lettres 2015
ـ جان باتيست برونيه: فيلسوف ومترجم فرنسي شاب من مواليد (1972...).
[2] جان باتيست برونيه، ابن رشد المقلق، ترجمة جورج زيناتي، دار المدار الإسلامي 2021. الطبعة الثانية،
[3] نفس المصدر ص7
[4] نفس المرجع ص 28
[5] ص63
[6] ص31
[7] هامش ص 32
[8] ص38
[9] ص54
[10] ص100
[11] ص114
[12] ص137