"الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة" لأحمد الريسوني
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب: "الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة" لأحمد الريسوني
صدر كتاب "الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة" للمفكّر المغربي أحمد الريسوني عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في طبعته الثانية عام 2013، كانت مادة الكتاب حوارًا دار بين أحمد الريسوني والأستاذ محمد جمال باروت، وقد توزع الكتاب على فصلين؛ الأول هو البحث الذي قدمه الريسوني في حواره، والثاني هو التعقيب الذي قدمه الريسوني على بحث باروت. يتناول الكتاب الاجتهاد وشروطه وجدله المركّب مع واقع المسلمين، إذ يتطرق لفكرة المصلحة ومعناها، وكيف يكون الاجتهاد في صالح الدين ومصلحة المتدين، دون أن تطغى مصلحة المسلم على صالح الدين، فيصبح الاجتهاد أداة لمنح المصلحة الذاتية مشروعية زائفة على حساب الإسلام.
يبدأ الباحث مقدمة كتابه بالاحتفاء بالاجتهاد ومكانته في الإسلام، إذ يثاب المجتهد على اجتهاده، سواء أحسن أم أخطأ، عملاً بالحديث النبوي الشريف: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر". فالإسلام يغري أتباعه بالاجتهاد، ولكن وفقًا للتقاليد الإسلامية التي توافق عليها الفقهاء والعلماء. وينقد الريسوني الاجتهاد الذي لا يعترف بسقف أو بحدود مشبّهًا أصحابه بأصحاب الاتجاه الباطني، مقتبسًا ذلك التشبيه من كتاب "قضية تجديد أصول الفقه" لمفتي مصر السابق علي جمعة، إذ يحمل الباحث على رافعي الشعارات القائلة: "ليس لأحد حق تفسير الدين وحده" أو "ليس لأحد أن يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة" وغيرها من الشعارات التي تعكس رغبة في مشاركة الفقهاء في مجال عملهم الديني، ويقيم الريسوني أوجه الشبه بين العلوم الطبية والرياضية والعلوم الدينية الشرعية لكونها علومًا يقوم بها مختصون، ويشترط المجتمع شروطًا لممارسة مهنة الطب والهندسة، في حين أنّ باب الدين والاجتهاد فيه مفتوح تمامًا للمتسللين من خارج ذلك المجال. ولم يصف الباحث أسباب ذلك التسلل بالجمود الديني وتداعياته على الواقع العربي المسلم الذي يعتبره كاتب السطور سببًا كافيًا لدخول الباحثين والمثقفين ذوي التكوين العلمي غير التقليدي إلى ذلك المجال بعد أن فرغ صبر الجميع من قدرة علماء الدين على إنتاج معرفة حقيقية بالدين دون ترديد أفكار خرجت من القرون الوسطى ودون تجديد يُذكر، بالإضافة إلى تداعيات ذلك الخطاب الراكد على جمهوره، وانزلاق هذا الجمهور إلى غياهب مناطق أكثر تطرفًا وظلامية نظرًا لغياب النقد العلمي لهذا التراث. وبالرغم من أن الباحث يفخر في بداية الكتاب بالاجتهاد إلا أنه لم يُشِرْ إلى ما صار إليه الخطاب الإسلامي بغلقه هذا الباب وإن ذكر أن شروط المجتهد "قد وقع تعسيرها وتعقيدها على مرّ العصور، حتى كادت أن تصبح شروطًا تعجيزية".
ثم تطرق الباحث إلى ثلاث مسائل أنموذجية يذهب العصريون فيها صراحة أو ضمنًا إلى أن المصلحة أصبحت تقتضي خلاف ما جاءت به بعض النصوص، وهي مسألة الصيام ومسألة الحجاب ومسألة قطع يد السارق. فقد انتقد الباحث رؤية الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة في إباحة إفطار الصائم حتى ينجز عمله، ودافع عن الحجاب غطاءً لا يكشف سوى الوجه والكفين، وعاود الهجوم حينًا والدفاع حينًا آخر في قضية قطع يد السارق. وتعمد الباحث استخدام لغة المصالح والمزايا المادية التي تخلقها طاعة تلك النصوص إدراكًا منه أن تلك الحسابات المادية هي الأصدق والأقرب لعقل الطرف المناظر.
ويرى كاتب هذه السطور بالمقابل أنّ الريسوني قد حالفه التوفيق في نقد الرئيس التونسي، فإذا كان الإفطار واجبًا في رمضان حتى لا تنخفض الإنتاجية، فالصيام أيضًا يقلل من استهلاك المسلمين عامة للسلع الغذائية بغض النظر عن الصيام الذي يصومه المسلمون اليوم وما يصاحبه من انفجار استهلاكي يُضاف إلى ضعف الإنتاجية وغلاء الأسعار والعجز في ميزانية الدولة الإسلاميّة.
ويرى كاتب هذه السطور في مسألة الحجاب أن الوضع قد تجاوز مسألة الحجاب إلى انتشار أزياء أكثر محافظة وتشددًا مثل النقاب، برغم نقد فقهاء لتلك الظاهرة التي فنّدها داعية بوزن الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، فإن الباحث لم يتطرق لهذا الانتشار السريع ولأسبابه التي كان أغلب الخطاب الديني السائد سببًا رئيسيًا في دعمه، بالإضافة إلى سلبية جزء من الفقهاء المستنيرين وعجزهم أمام حجم الظاهرة الهائل وعدم قدرتهم على تحليلها اجتماعيًا.
ويراهن الباحث في مسألة قطع يد السارق على سرعة انقضاء ظاهرة السرقة عند قطع أيادي مجموعة سارقين يستحقون ذلك العقاب، من غير الجائعين ولا المعوزين، إذ سينخفض عدد المجرمين ببساطة إلى العُشر، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الباحث لم يتطرق إلى باقي الحدود التي أظن أنها ستعتمدها الدولة ولن تقف عن حد قطع يد السارق فقط، فلماذا توقّف الباحث عن حدّ قطع يد السارق ولم يتحدث عن حدود يستحيل تطبيقها على النفس الإنسانية السوية مثل حدّ رجم الزانية على سبيل المثال وغيرها من الحدود؟
ويميل الباحث إلى تفسير الرفض لتطبيق الحدود بالدوران في فلك الحضارة الغربية، فيرى الريسوني: "أن الإشكال الحقيقي عند الذين لا يروقهم قطع يد السارق، هو أن هذه العقوبة وما شابهها من العقوبات البدنية المعمول بها في الشريعة الإسلامية ليست معتمدة لدى الدول الغربية المتقدمة. ويتسق أحمد الريسوني مع ذاته وأفكاره، فهو يرى أنّ أحكام النصّ "عدل كلُّها ورحمة كلُّها ومصالح كلُّها". فعلى النص أن يأمر وعلى المسلم أن يطيع، وأن يكيّف مصالحه تبعًا للنص.
ويشير الباحث إلى العلاقة الجدلية التي تربط الفقه بالاجتهاد وبالواقع، فالاجتهاد ينحدر حين ينحدر الواقع، والعكس صحيح، واضعًا شروطًا للفقه الذي يمتزج بالواقع، وللمجتهد الذي ينظر إلى الواقع والمآل ويراعي المتغيرات التي تطرأ على موضوع الاجتهاد. ولا يزال هذا التصوّر عن الدين كامنًا في وعي الريسوني، وفقًا لظن كاتب هذه السطور، باعتبار أنّ ذلك الوعي رقيب ومهيمن على المجال الخاص للإنسان. فالنصّ يفتح صفحاته لأتباعه يرشدهم إلى سواء السبيل في كل التفاتة يلتفتها المسلم، فهو تابع أمين للنصّ لا يمتلك سوى التبعية المطلقة للنص، ولمن يتولى تفسيره أو الاجتهاد فيه.
بدا كتاب "الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة" محاولة من الدكتور الريسوني لتفعيل وتنشيط حركة الاجتهاد المُلتزم في الإسلام التي خبت لقرون، فكتاب أحمد الريسوني ردّ فعل على المفكرين الذين يسعون إلى التحرر الكامل من النص. إنّه رد فعل على الجمود والركود في الخطاب الديني الراهن. والكتاب جزء من هذا السجال الذي لن ينتهي إلاّ بوصول المجتمع العربي المسلم إلى سبيل التعددية والتنوع الخلاّق عبر التسامح بين الفرقاء جميعًا.