قراءة في كتاب: ''التعددية الدينية في فلسفة جون هيك''
فئة : قراءات في كتب
اسم الكتاب: التعددية الدينية في فلسفة جون هيك.
المؤلف: د. وجيه قانصو.
النّاشر: المركز الثقافي العربي (المغرب)، الدار العربية للعلوم ناشرون (لبنان)، الطبعة الأولى، 2007.
صدر عن المركز الثقافي العربي بالمغرب، والدار العربية للعلوم ناشرون بلبنان، كتاب يحمل عنوان "التعدّدية الدينية في فلسفة جون هيك، المرتكزات المعرفية واللاهوتية" في طبعته الأولى، الصادرة عام 2007، للباحث اللبناني الدكتور "وجيه قانصو"، وحينما نستقرأ جنبات هذا الكتاب لا نجده يبحث عن إمكانية التعايش مع الآخر، المغاير لنا وفق شرائط الأمن والاستقرار، بل يبحث في إمكانية تعدد مناهل الحقيقة وتنوع مشاربها، وفق منطوق وفرة القداسة وامتدادها في فضاءاتنا العمومية، كما أن الكتاب هو أيضا بحث في انتفاء احتكار المعنى وفق بعدا أوحد، وتفكيك مركزية الالتجاء إلى الله، وبذلك فمطارحة مسألة التعددية في هذا المؤلف ليست سليل ترف فكري، بل هي في حقانية الأمر واقع مواضعاتي تجاهله الكثير، بحكم انهمامهم على ذواتهم المحضة، وعدم اهتمامهم بالمغايرة، فالآخر يمتلك حظه الوافر الذي يتساوى فيه معي في مبلغنا نحو الحقيقة، بالإضافة إلى أن التاريخ الإنسي هو في حقانية الأمر تاريخ علائقي مع الله، ولكل بؤرة سوسيولوجية نصيبها الشعائري المدّثر بروح القداسة[1]، وبذلك تكون التعددية الدينية ظاهرة فيزيقية أصيلة بأصالة البؤرة السوسيولوجية التي نعيش تحت كنفها، وأن محايثة الثقافي والتاريخاني والاجتماعي، بأن ديانة يعني لزوماً التعددية، إذ هي ظاهرة ملازمة للكينونة البشرية التي اقتضى وجودها على وجه الأرض تنوعاً واختلافاً وتفاوتاً، والبحث في التعددية الدينية يحيل مخيالنا اللاهوتي والفلسفي بصورة حثيثة بمنحى المفكر جون هيك الذي تمازجت مطارحاته الفكرية مع حياته الشخصية، فكانت خبراته اللاهوتية حصيلة تحولات ذاتوية عايشها هذا الأخير وحصيلة تجربته مع الآخر، وخلاصة مسار تأملي لاهوتي مهيب لجون هيك.
- الإشكالية المركزية للكتاب:
ويطرح الباحث اللبناني وجيه قانصو في كتابه هذا مشكلات مركزية، يمكن تلخيصها في مايلي:
- . ما هو موقف اللاهوت المسيحي من التعددية الدّينية؟ وماهي منطلقات الثورة الثيولوجية التي دعا إليها جون هيك؟
- . ما منزلة الله كحقيقة علوية عند الأديان الكبرى في العالم؟، وما هو الأنموذج الإبستيمي اللاهوتي الذي فسّر من خلاله جون هيك تجربته الدينية؟.
- . وما مفهوم الخلاص عند جون هيك؟ وكيف تصور هذا الأخير فكرتي تفوق المسيحية وفرادة المسيح؟
- خطة الكتاب:
حاول الباحث وجيه قانصو تقديم إجابات مقنعة حول هذه المشكلات المؤرقة، وذلك من خلال انتهاجه لخطة محكمة يمكن إجمال فصولها في مايلي:
الفصل الأول: جون هيك (السيرة والمسار)
الفصل الثاني: إشكالية التعددية الدينية
الفصل الثالث: الله بين التعالي والاختبار
الفصل الرابع: نموذج جون هيك المعرفي
الفصل الخامس: تناقض الادعاء في الحقائق الدينية
الفصل السادس: إشكالية الخلاص
الفصل السابع: الدّين والتجربة الدينية
الفصل الثامن: الكريستيولوجيا والتعددية الدينية
الفصل التاسع: خاتمة (نقد وتقويم)
ونستهل قراءتنا لكتاب "التعددية الدينية في فلسفة جون هيك" لوجيه قانصو بادئ ذي بدء بفحوى الفصل الأول.
الفصل الأول: جون هيك (السيرة والمسار):
يعتقد الباحث وجيه قانصو أن سيرة جون هيك تتلاحم وفقاً لوشائج قربي مع فكره الحصيف، ولا تنفصل البتة عن مجمل خبراته وتجاربه الذاتية الحميمية، واعتبرها استكشافا مهيباً لروحانية الديني، ووإسقاطاً عنفوانياً لذلك الشغف الروحاني الذي قذف به في بؤرة خطيرة، وضعته تحت طائلة النكوص والقهقرى بمنحى الهرطقة والتجديف، وقسّم وجيه قانصو فصله هذا إلى ثلاثة مباحث ركيزة؛ أولها تحدث فيه عن سيرة هيك الحياتية والأكاديمية، وثانيها تحدث فيه عن السّمات العامة لفلسفة جون هيك، وثالثها تحدث فيه عن لائحة لأهم مؤلفاته.[2]
الفصل الثاني: إشكالية التعددية الدينية
يعتقد وجيه قانصو أن التعددية الدينية فكرة لم تتلاحم تصوراتها مع اللاهوت المسيحي الكلاسيكي، بل هي إشكالية معاصرة، وتمخض عن الأنتلجنسيا المعاصرة وعي بضرورة التعدد الديني، ويعتبر وجيه قانصو أن هناك أمرين دفعا بهيك إلى التوغل في غياهب مسألة التعددية الدّينية.
أولهما: تجربته الفلسفية الخاصة، والتي شجعته على تحريك السؤال الأخلاقي والذهاب به إلى نهايته الطبيعية.
ثانيهما: تجربته الشخصية في التعددية الدينية، والتي عرفته على عالم ديني متنوع وغني بالوقائع والمعطيات الجديدة.[3]
و أول ما أثارته التعددية الدينية في مخيال جون هيك هو معضلة محبة الله الشاملة واللانهائية للبشر، ومدى انسجامها مع عقيدة حصرية الخلاص، كما دعانا هيك إلى النحو بالمنحى الكوبرنيقي في مجال اللاهوت كوسيلة للنأي بأنفسنا عن الإشكالات التي تثيرها معطيات التعددية الدينية في العالم، حيث تقتدر فرضية التعددية أن تستوعب الغنى الماثل في واقع متعدد المناهل، ومعها لا يبقى أي دين مركز حصريا ًكبديل أوحد للخلاص والانعتاقية، بل تصبح أديان الكون برمتها استجابات متعددة ومتنوعة لحقيقة لاهوتية سمحة واحدة.[4]
الفصل الثالث: الله بين التعالي والاختبار
يعتقد جون هيك أن التفسير الأمثل للتعددية الدينية الماثلة في عالمنا اليوم هي الإقرار جزماً بأن الأديان جميعها تتبلور حول حقيقة لاهوتية واحدة هي ''الحق'' في ذاته المتواري عن أن تدركه الأبصار والمجاوز لأي نعت أو توصيف، ولكل هاته الأديان تاريخانيتها الاستجابية الخاصة لله وموروثاً روحانياً خالصاً، وإرثاً دينياً متميّزاً، يعبر البشري من خلاله عن تكهنه لحقانية الله وإدراكه لسمات الكمال والتمام فيه وتجربة الاتصال به.[5] لكن هاته الاتصالية به تختلف بحسب الأسماء المتعددة للمعبود الواحد، وتاريخ الأديان حافل بعدد عظيم من أسماء الكيانات اللاهوتية، لكن الأديان تتفق على وقائعيتها، وأن الناس على اختلاف نحلهم يعبدون معبوداً واحداً، رغم اختلاف إشاراتهم وتنوعها؛ فهم كلهم يتفقون حول "الحق في ذاته". وأن التقليد الديني لجميع الأديان، يحرص بشدة على تعالي الحقيقة الإلهية عن كل نعت أو فهم، ومع ذلك، فإنه يحرص على توكيد أن ما نحذقه عن الله، إنما هو في حدود تجليه سبحانه وتعالى، وحدود التجربة والاختبار البشريين.[6] كما أن معرفتنا بالله ليست مجرد استجابة اعتباطية، بل يكمن وراء معرفته سبحانه وتعالى إرثٌ ثقافي وحضاري مهيب.[7]
الفصل الرابع: نموذج جون هيك المعرفي
سعى جون هيك أن يؤسس براديغماً إبستيمياً ليفسر به التعددية الدينية الحاصلة في عالمنا اليوم، مماثلة في حصافته لأنموذج الفيلسوف الألماني النقداني إيمانويل كانط، ولكنه ومع ذلك لم يكن هيك متغافلاً عن التباين بين مبتغاه الذاتوي، وحقانية النسق الكانطي، فبراديغم المعرفة في مطارحة هيك هو التجربة الدينية التي يكون المقصود من ورائها هو السعي لتنه حقانية الله واختباره، فإنه في المقابل من ذلك نجد كانط ينحو بنسقه الإبستيمي إلى العالم الفيزيقي التي تختبره تجاربنا الحسية الأمبريقية، أما أفهوم الله عند كانط، فهو ليس موضوع تجربة حسية أو معرفة عقلية، بل هو مسلمة نومينية، ضامنة لفعالية القانون الإتيقي والإيمان القلبي، ويكون بذلك الله عند كانط ليس أفهوماً أنطولوجيا، بل هو حقيقة قيمية إيتيقية لا تفهم إلا في منحى العقل العملي والواجب الإتيقي وبهذا وسّع هيك موضوع التجربة المعرفية التي حصرها كانط في المجال الحسي الإمبريقي لتطال مجالات لا محسوسة مفارقة غيبية، ماورائية.[8]
الفصل الخامس: تعارض ادّعاءات الحقيقة
وضح وجيه قانصو في هذا الفصل محاولات جون هيك لدرء مشكلة التعارض بين المفاهيم الصميمية المؤكدة داخل كل ديانة، وذلك عبر الإقرار بأن التعارض بينها ليس تعارضاً حقانياً، وهذا بحكم أن كل أفهوم لاهوتي ديني تشكل بالضرورة في وسط ثقافي حضاري منفصل ومتقوقع عن باقي الحضارات، وأنّ هذه المفاهيم الدينية جاءت لتشفي غليل الروحانيات الخاصة، وإجابة لمطارحات وتفاعلات محصورة داخل أنساق وسياقات محدودة، ومع تلاقح الثقافات وانفتاحية الحضارات بالضافة إلى الزخم المعلوماتي الكبير، فإن هذه المفاهيم لا تمتلك المؤهل اللوجيقي أو الإمبريقي كما لا تمتلك الصلاحية الدينية الثيولوجية أو الذهنية لتؤكد حصريته، أو أن تجعله ينأى بنفسه عن النقد والمساءلة أو حتى فيه للحقائق الأخرى، لأن الحقائق الدينية هي مجزوءة من منظومات دينية خاصة تبلورت تحت طائلة أطر وظيفية خلاصية، داخل كل دين لإخراج البشر من التقوقع الذاتوي الإنّي إلى التموقع الحقاني.[9]
الفصل السادس: التعددية وإشكالية الخلاص
يعتبر أفهوم الخلاص محور البحث في مجال التعددية الدينية، لأنه بلورة كليانية لأي طقوس شعائرية تعبدية أو روحانية جوانية، أو انتماء ديني، فمن خلاله يتحقق تحور في الشخصية الأناسية، حيث تنقل البشري من الذاتوي إلى الألوهي، وبالتالي ينال السعادة الأخروية، ويرضى عنه الله، ويتم التنوير والتحرر الخلاصي المهيب، لذلك عمد هيك إلى أنسنة الخلاص وأخرجه من منطوق الحصرية التي تدّعيه بعض الطوائف الدينية، فينتقل الخلاص من منطق آمن ليحصل لك الخلاص إلى اصنع خلاصك بنفسك، فالخلاص لم يعد مجرد انتماء بل هو صناعة وعملية إيجاد يحدثها الإنسي في واقعه الحياتي وكذا في ظاهره وكوامن باطنه.[10]
الفصل السابع: الدين والتجربة الدينية
يعتقد جون هيك أن التجربة الدينية هي عبارة عن استجابة عفوية حرة للحق المطلق، وذلك عبر ترجمة المعطيات، جوانية كانت أم برّانية، إلى حقائق تتبلور حول الإله، وهذا يعني أن الحقائق الإيمانية ليس في مقدور العقل ولا يدان له بتكنهها بسهولة، بل تتطلب جهدا جهيداً، وانعتاقية انبجاسية للأفئدة، لإدراك الحقائق العلوية اللدنية، وحذقها، نحوّل عبرها ما نتبصره في العالم البرّاني وما نسمع حسيسه في كوامننا إلى حالة اختبار روحاني ومحذوقية لاهوتية، وبالتالي يكون الله معروفا بالنسبة لأولئك الذين يسعون وراءه بأفئدتهم التواقة المخلصة، حيث أعطاهم الله اشارات مرئية يراها فقط أولئك الذين خلصوا له نجيّا.[11]
الفصل الثامن: الكريستولوجيا والتعددية
سعى هيك ألاّ يحدث القطائعية مع التقليد المسيحاني، بل عمل على تحريك الدياليكتيك من داخل بؤرة التقليد المسيحي، وأعاد تأويل الكثير من مفاهيم اللاهوت بما يتناسب ومقتضيات العصر الحالي وواقعه التعددي، مؤكداً أن إسقاط ألوهية المسيح لا تعني بتاتاً ضياع جوهر المسحية، بل إنها ما تزال طريق لخلاص البشرية، وقوة دافعة لها نحو تكنه الخير الأسمى، وأن جوهر المسيحية ليس لاهوتياً أو عقائدياً، بل هو سبيل حياة تختصرها موعظة الجبل بكثافة وأن جوهر تعاليم المسيح هي أن تطبق كما تجسدت في حياة المسيح نفسه أعماله من دون حاجة أن ندثرها بعقائد ونحصرها في دوائر ضيقة، وعلينا أن ننقل فهمنا للدين إلى منطقة حصيفة واعية متزنة، تتركنا ننفتح على حياة دينية تتسع لكل البشرية، وتتصف بالغنى الكبير في تلقي الحقيقة اللاهوتية وتتحرر بذبك المسيحية من أغلال الضيق والحصرية، لتنفتح على عالمنا المعاصر الذي لابد لها أن تقول له الكثير والكثير.[12]
الفصل التاسع خاتمة (تقويم)
صفوة القول وخاتمة يمكننا أن نتوصل إلى نتيجة جوهرية مفادها أن جون هيك اقتدر عل جعل فكرة التعددية الدينية فسحة لاهوتية رحبة جديدة، تفرض نفسها في كل الأبحاث اللاهوتية، خصوصاً في مجال تخصص فلسفة الدين، إذ حقق جون هيك نجاحاً كبيراً في إجلائه للفجوة بين ادّعاءات الأديان الحصرية والشمولية، واستنهض همم الدوغمائيات على حقيقة مفادها أن حصر النعماء الإلهية على مكان أو زمان بعينه، يعني ضرورة عزله كإله محب لباقي المعمورة، كما أثبت أن المغاير لي دينياً، ليس في حالة ضلال وبهتان وزيغ، بل هو تعبير عن شكل مختلف في الاستجابة للحقيقة اللاهوتية، وجهد في أنسنة الخلاص، عبر نقله من الاعتقادات الوثوقية إلى التحور الأناسي من الذات إلى الخير والحق.[13]
[1]- وجيه قانصو، التعددية الدينية في فلسفة جون هيك (المرتكزات المعرفية واللاهوتية)، المركز الثقافي العربي (المغرب)، الدار العربية للعلوم ناشرون (لبنان)، ط1،2007، ص 11
[2]- المرجع السابق، ص 19
[3]- المرجع نفسه، ص 47
[4]- مرجع سابق، ص 62
[5]- المرجع نفسه، ص 79
[6]- المرجع السابق، ص 76
[7]- المرجع نفسه، ص 77
[8]- المرجع نفسه، ص 91
[9]- المرجع نفسه، ص 122
[10]- المرجع السابق، ص 131
[11]- المرجع نفسه، ص 152
[12]- المرجع السابق، ص 183
[13]- المرجع نفسه، ص 203