قراءة في كتاب الجماعة السياسية والمواطنة للدكتور عبد الإله بلقزيز


فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب الجماعة السياسية والمواطنة للدكتور عبد الإله بلقزيز

"الجماعة السياسية والمواطنة" هو عنوان المؤلف الجديد للدكتور عبد الإله بلقزيز الصادر في مطلع سنة 2020، والذي يمكن اعتباره استئنافا لمشروع أكاديمي نقدي، يستهدف مساءلة مفاهيم المواطنة والدولة وحقوق الإنسان في أصولها النظرية خاصة في الفلسفة الحديثة - التي أعادت الاعتبار لسلطة الذات ولقدرتها على الفهم والتشريع - قبل توظيفها كخلفية نظرية للبحث في معضلات المجال السياسي العربي.

عبد الإله بلقزيز المفكر الموسوعي الذي يُفكر بصوت مرتفع في مجريات الأحداث، وعندما يستقر على رأي ما يكتب بغزارة منقطعة النظير، وهو ما نلمسه في طبيعة مؤلفاته الإبداعية في موضوعات تمس الإنسان المعاصر بشكل عام، والإنسان العربي[1] بشكل خاص، كما هو الشأن بالنسبة إلى مؤلفاته حول الدولة القومية والثقافة والديمقراطية وحقوق الإنسان التي لا تكتفي بعرض الأطروحات وشرحها، وإنما تتعدى ذلك إلى مستوى النقد وإعادة البناء من جديد، على ضوء خصوصيات الحالة الراهنة، وهو نفس المنهج الذي اعتمده في المؤلف موضوع القراءة.

يقع الكتاب في 223 صفحة من الحجم المتوسط، مُقسمة إلى مقدمة ومدخل وثلاثة أقسام، حيث يضم كل قسم فصلين؛ والملاحظ أن التقسيم الذي اعتمده المؤلف يجعلنا ننتقل في القراءة من العام إلى الخاص؛ أي من المفاهيم في طابعها الكوني/ الفلسفي/ وفي منبعها النظري إلى تمظهراتها في تجربة سياسية مشروطة في الزمان والمكان، والحديث هنا عن المجال السياسي العربي كأفق للبحث والكتابة.

ينطلق الأستاذ عبد الإله بلقزيز في مدخل الكتاب من فكرة محورية ناظمة لكل فصول المؤلف، وهي أن الحديث عن المواطنة لا يستقيم إلا في سياق الدولة الوطنية، التي تحضر فيها المواطنة بوصفها "علاقة سياسية بين أفراد المجتمع، و(بين) دولة يشاركون في شؤونها العامة"[2] من مدخل كون الفرد مخلوق سياسي يترك تأثيره على الحياة السياسية التي تشترط عليه ضرورة الخضوع للعديد من الالتزامات من أجل اكتساب هوية "المواطن"؛ على اعتبار أن الفردانية في معناها الأصلي تُحيل إلى الرغبة في الانفصال/ الانسحاب/العزوف/الاستقلال عن الجماعة، وهي الوضعيات السلوكية التي يمكن أن تشكل خطرا على المجتمع، وقد سبق لجون جاك روسو أن حذر من خطورة ارتفاع منسوب النزعات الفردية في المجتمع بالقول: "وحالما يقول أحد عن مصلحة الدولة "ما شأني بها؟" عندئذ يعتبر أن الدولة قد فقدت"[3]، وهذا يعني أن الفساد المدني سيكون النتيجة المحتومة للحسابات الشخصية البحتة والمصلحة الفردية؛ في حين أن المواطنة تحيل إلى المشاركة والانتماء والالتزام بالتشريعات، وهو الأمر الذي يؤشر على سلامة الجسم السياسي وانسجام عناصره.

وإذا كان التهديد الذي يطال المواطنة في المجتمعات الغربية - حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز - مصدره تفاقم النزعة الفردية، فإن الضغط على المواطنة في المجتمعات العربية يأتي من البنى الجماعوية الكابحة[4]، حيث يكون الولاء للعرق والقبيلة أكبر من الولاء للدولة.

وفي سياق قراءته لأسس المواطنة التي لا تنفصل في نظره عن الديمقراطية، ميّز الأستاذ عبد الإله بلقزيز بين ما هو قانوني دستوري صادر عن جهاز الدولة، وبين ما هو قيمي ثقافي يرتبط بالتجربة الحياتية لكل فرد وبتفاعلاته اليومية، إلى جانب ما نكتسبه من خلال مؤسسات التربية والتعليم. على اعتبار أن "استتباب أمر المواطنة، كاستتباب أمر الديمقراطية () وقف على إحراز نجاح حقيقي في التربية عليها؛ في ازدراع قيمها في النفوس والأفعال؛ في ترسيخها كثقافة عميقة؛ في تمنيعها من أي كابح يفضي إلى تهشيشها"[5]. ويمكن التعويل في مقاومة هذه الكوابح والتأسيس لمجتمع مواطن على دور كل من الأسرة والمدرسة؛ فهما المصنع الاجتماعي الأول للتنشئة والتكوين، أو المشتل الذي يحدد السمات الجوهرية للكائنات السياسية التي لا تخرج من أرحام الأمهات، وإنما من أرحام المؤسسات[6]. لذلك، ينبغي العمل على إعادة تأهيل هاتين المؤسستين، حتى يتحررا من حالة التهالك والسلبية التي تلقي بضلالها على المجتمع بأسره.

وانطلاقا من هذه العلاقة التفاعلية بين ما هو قانوني/ دستوري، وبين ما هو ثقافي قيمي يؤكد عبد الإله بلقزيز أن "بناء نظام المواطنة مسؤولية مشتركة للدولة والمجتمع على السواء. إنه لا يمتكن إلا عن طريق شراكة، فعالة ومتفاعلة، بينهما؛ تضع الدولة الأساسات والقواعد والتشريعات، باسم مجتمع يشارك فيها مباشرة أو عبر ممثليه، وتنهض مؤسسات المجتمع بوظيفة تنزيل ذلك النظام القانوني إلى حيز الفعل الاجتماعي على النحو الذي يؤديه - بالتجربة والتراكم - إلى تحويل المواطنة إلى قيم وإلى ثقافة جمعية"[7].

بعد ذلك، انتقل الأستاذ عبد الإله بلقزيز للحديث عن الدولة الوطنية بوصفها ظاهرة تاريخية تأخذ خصائص وسمات جديدة تتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية التي تنتمي إليها؛ فبالرجوع إلى مبدأ السيادة الذي ولدته معاهدة وستفاليا عام 1648، والتي كان من أبرز نتائجها تأسيس الدولة الوطنية التي اعترفت بحقوق الأفراد، خاصة حقهم في الحرية، وخلصتهم من حالة الفوضى والصراع الذي كان يسم وجودهم في السابق، يُلاحظ الأستاذ عبد الإله بلقزيز أن واقع الدولة الوطنية أصبح أمام وضع جديد يضرب في العمق مفهوم الوطنية والانتماء بالشكل الذي صاغته معاهدة وستفاليا، خاصة في ظل وجود قوانين دولية عابرة للأوطان.

إن التأكيد على البعد التاريخي والنسبي لمفهوم الدولة الوطنية مرده حسب بلقزيز إلى أن المفاهيم والوقائع تتغير، وهي انعكاس مباشر للخلفيات الثقافية والذهنية المشكلة لها، إذ إن "من يطالع تاريخ فلسفة السياسة أو الفكر السياسي، حديثه والمعاصر يدرك أنه ما من شيء استقر ثابتا في منظومة ذلك الفكر"[8]. كما أن الأفكار والمفاهيم والنظريات، مثل الكائنات، تنمو وتنتقل من طور دلالي أو مضموني إلى آخر، فتأخذ صورة جديدة، خاصة حينما يتم توظيفها في مجال تداولي مختلف عن مكان النشأة.

تساوقا مع هذا الطرح، الذي يعترف بالطابع الدينامي والتاريخي لتيمة الدولة، وضع الأستاذ عبد الإله بلقزيز ثلاث فرضيات ساءل مدى أحقيتها طيلة مراحل البحث:

- الفرضية الأولى: لا يمكن أن تكون الدولة الوطنية الحديثة موضوع استنساخ أو استيراد.

- الفرضية الثانية: ينبغي على المجتمعات المعاصرة توفير الشروط الضرورية للحفاظ على روح الدولة الوطنية، رغم حالة التطور الطارئة عليها.

- الفرضية الثالثة: ينبغي أن تكون قضية الدولة في الوطن العربي مسؤولية مجتمع بأسره، وليس من انشغالات فريق سياسي أو اجتماعي بعينه.

وما دامت المواطنة من ثمرات تشييد الدولة الوطنية في العصر الحديث، فإنه لا يمكن أن نفصل تاريخ المواطنة عن تاريخ الدولة ذاته، على اعتبار أن كل تغيير في مفهوم الدولة يترتب عنه بالضرورة تغير في الوضعية الاعتبارية للمواطنين، ويمكن هنا أن نقارن بين الاختلاف المضموني للمفهوم الذي يميز فلسفة كل من أرسطو روسو آلان تورين ونعوم تشومسكي ويورغن هابرماس وغيرهم، حيث تختلف حقوق المواطنين في الفترة المعاصرة بشكل جذري عن الشكل الذي كانت عليه في القرن الوسيط أو في فترة الحداثة.

وهنا يضرب الأستاذ عبد الإله بلقزيز المثال بمجموعة من الحقوق التي لم تُكتسب إلا في الفترة المعاصرة مثل بـ:

- حق الاقتراع الذي لم يشمل القوى المنتجة من عمال وفلاحين إلا في بدايات القرن، بعد أن نجحت القوى المنتجة من انتزاعه، ومن حمل السلطات والقوانين على التسليم له كحق عام[9].

- حق المساواة بين الجنسين في كل المجالات بما فيها تسيير المناصب السيادية.

- حق السود والملونين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وجنوب إفريقيا لم يعترف به إلا بفعل النضالات التي قادها كل من مارثن لوثر كينغ في أمريكا ونيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا.

يستنتج الأستاذ عبد الإله بلقزيز انطلاقا من الوقوف على مسار انتزاع هذه الحقوق وغيرها، أن مفهوم المواطنة تطور بموازاة تصاعد الحركات النضالية التي دافعت عن الفئات الهشة والمحرومة. لذلك، أضحى الخطاب حول المواطنة يجذب اهتمام الباحثين عبر العالم، الذين سعوا إلى توطين المفهوم في بيئة اجتماعية وسياسية مُختلفة، وهو الأمر الذي يحذر منه الأستاذ عبد الإله بلقزيز من خلال تشديده على "أن نظام المواطنة لا يستعار جاهزا، كأيّ سلعة، وإنما يبنى حجرا حجرا، ويتقدم البناء فيه كلما تقدم الوعي السياسي للمجتمع والدولة، وترسخت في النفوس إرادة ذلك البناء"[10]. على اعتبار أن حقوق المواطنة لا تنفصل عن حقوق الوطن، فكلما كان الوطن مُوحدا ومدمجا لمواطنيه في وحدة الجماعة السياسية، كلما كانت هناك إرادة للرقي بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي، على عكس المجتمعات المفككة التي تخترقها الطائفية والقبلية من كل اتجاه، والتي ترفع شعار الأمن أولا، وتؤجل فكرة إصلاح أحوال المواطنين بشكل دائم عملا بمنطق الأولويات[11].

القسم الأول/ في الجماعة السياسية: تحديدات نظرية

الفصل الأول- عموميات نظرية في الجماعة السياسية

أولا: مقدمات في مسألة الدولة

افتتح الأستاذ عبد الإله بلقزيز الفصل الأول من القسم الأول للكتاب بتناول مفهوم الدولة، كما يحضر في المخيال الاجتماعي للأفراد، الذين ينظرون إليها كرمز للقهر والعنف والتسلط، وهو المعنى الذي نجده ثاويا في تصور ماكس فيبر للدولة التي يعتبرها "منشأة سياسية ذات طابع مؤسسي، تقوم بفضله بمهام القيادة الإدارية وبتطبيق المقررات التنظيمية بنجاح، من خلال حيازة الإكراه المادي المشروع"[12].

تشيع هذه الصورة للدولة حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز، في البيئات التقليدية والبيئات المدنية المعارضة، وفي بيئات التجار ورجال الأعمال، وفي بيئات العاطلين عن العمل، وفي بيئة المعتقلين السياسيين، إذ تنظر هاته الشرائح للدولة كرمز للقهر والتسلط أو كغول ووحش ضار ينبغي اتقاء شره؛ لذلك تقوم كل فئة حسب وضعيتها بتصرفات لا تخدم الدولة، سواء من خلال التهرب الضريبي أو من خلال العزوف عن المشاركة السياسية أو عبر التعبير عن رفض الدولة المتسلطة من خلال التنظير لنموذج افتراضي يتجاوز نقائص التنظيم السياسي القائم.

والحال أن العنف ظاهرة ملازمة للدولة أو لنقل بتعبير ماكس فيبر بأن بين "الدولة والعنف علاقة حميمة جدّا"[13] يمكن تبرير شرعيتها حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز بالاستناد إلى النقط التالية:

- لا يستقيم الاجتماع السياسي دون تحقيق الأمن والسلم؛ لذلك ينبغي أن تحتكر الدولة وسائل الإكراه المادي ومنعها عن باقي الفئات الاجتماعية.

- يمكن لاستقرار الدولة أن يتهدد من الداخل والخارج في نفس الآن، بالتالي ضرورة امتلاك الدولة للأجهزة القمعية كركن من أركان وجودها وشرعيتها.

- يصرف الإكراه الذي تمارسه الدولة على الأفراد من خلال التشريعات والقوانين المتعاقد عليها، التي تُعلي من قيمة المصلحة العامة على حساب المصلحة الخاصة. وبذلك، فإن ممارسة العنف تكون بغرض إنقاذ أحكام القانون وإعادة الهيبة إليه.

إن وجود الأجهزة القمعية في دولة من الدول، لا يعبر دائما عن رغبة هاته الأخيرة في التسلط والهيمنة وفي تضييق الحريات الفردية، وإنما هو واقع "يقتضيه منطق الدولة؛ أي منطق قيام اجتماع سياسي منظم يحصل فيه التعايش بين الأفراد والجماعات، ويتحقق فيه السلم والمدنية"[14]؛ إذ من الطبيعي أن توجد في مقابل النزعات الطبيعية العدوانية والتدميرية للإنسان مؤسسات تعمل على ترويض الجسد وأخرى تضطلع بدور تهذيب السلوك. لذلك، راهن فيلسوف العقد الاجتماعي في العصر الحديث على التربية التي تُعلم الفرد احترام القوانين إلى جانب الالتزام بالدين المدني الذي يجعل "من الوطن موضوع عبادة من طرف المواطنين، ويعلمهم أن خدمة الدولة تعني خدمة الإله الحافظ"[15]

يرى الأستاذ عبد الإله بلقزيز في سياق تأصيله للأساس الذي تقوم عليه المقاربات المختلفة لمفهوم الدولة، أن منطلقات البحث في هذا المفهوم تختلف، على اعتبار أن الدولة مفهوم تتشاركه التخصصات، من علم سياسية وعلم اجتماع، وفلسفة، واقتصاد، وأنثروبولوجيا؛ أي إنه موضوع واحد تختلف زوايا النظر إليه، وذلك لاعتبارين أساسيين:

أولا: إن أي بحث في الدولة يتم من داخل مجال من مجالات التفكير، تختلف مناهجه وخصائصه عن باقي الحقول المعرفية التي من شأنها تقدم تصورا معينا عن الدولة، كاختلاف المقاربة الفلسفية للدولة عن المقاربة السياسية أو التاريخية.

ثانيا: أن كل مقاربة للمفهوم من داخل تخصص معرفي معين تدعي أنها تمتلك الوجاهة، والحال أن كل مقاربة تبقى مجرد محاولة نسبية للفهم في حاجة لأن تطعم بفتوحات باقي التخصصات.

يؤكد تعدد التخصصات الدارسة للدولة على ارتباطها بكل مناحي الحياة، إلى جانب حضورها في الوجدان الخاص بالأفراد بغض النظر عن زاوية نظرتهم للحياة. لذلك نبّه الأستاذ عبد الإله بلقزيز "من مخاطر الاعتقاد أن المقاربة الجزئية التخصصية تكفي لتكون رؤية متكاملة أو رصينة إلى الدولة، أو تبرر للباحث الواحد - أو الباحثين المشدودين إلى ميدان اختصاصهم - تجاهل الجهود العلمية المبذولة، من قبل نظرائهم، في ميادين دراسية أخرى حول الموضوع نفسه"[16]. ودعا في مقابل ذلك، إلى ضرورة تبني مقاربة تركيبية، تعترف من جهة بالتكامل بين التخصصات، وتقدم للباحثين من جهة، مادة خصبة وشمولية يمكن البناء عليها في عملية الفهم.

ليست الدولة من منظور الأستاذ عبد الإله بلقزيز سوى تعبير عن المجتمع المنظم، لذلك كلما انتشرت الفوضى وفقد المجتمع بوصلة توجهه الأخلاقي والسياسي، عظمت الحاجة إلى سلطة الدولة؛ إلا أن ما ينبغي التنبيه إليه في نظره هو ضرورة تمييز مفهوم الدولة عن المفاهيم المتداخلة معه كمفهوم السلطة، ومفهوم النظام السياسي. على اعتبار أن الخلط بين هذه المفاهيم قد يؤدي إلى "أخطاء فادحة - وربما قاتلة أحيانا - في العمل السياسي"[17]، ويضرب المثل هنا بما وقع لبعض المعارضات السياسية العربية التي قادها الجهل بذلك التمييز إلى تدمير الأوطان والدول، اعتقادا منها بأن ما تنجزه ثورة تقضي على نظام الحكم، وهذا يعني أن المعارضة التي من المفروض أن تواجه النظام السياسي تواجه عادة الدولة والمجتمع في رمته.

ويمكن حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز التمييز بين الدولة والنظام السياسي استعانة بالقانون، وعلم السياسية وعلم الاقتصاد، وعلم الاجتماع على عدة مستويات:

- على مستوى أجهزة الدولة ومؤسساتها: التي تعتبر من الملكيات القانونية والدستورية للأمة التي لا يمكن تفويتها أو حيازتها دون سند قانوني أو التصرف فيها عبثيا أو مزاجيا.

- على مستوى حجم السلطة: سلطة الدولة بمؤسساتها السيادية أوسع من سلطة النظام الحاكم المقيد من قبل مؤسسة وأجهزة الدولة، وهنا يضرب الأستاذ بلقزيز المثال بكل من القضاء، والجيش اللذين ينبغي أن يكونا مستقلين عن سلطة النظام، وإذا هيمن النظام على هذه القطاعات ضرب أبرز مبدأ لبناء النظام السياسي الديمقراطي، وهو مبدأ فصل السلط كما تحدث عنه مونتسكيو في كتابه العمدة "روح القوانين".

- على مستوى الديمومة والاستمرار: زمن النخبة الحاكمة "زمن انتقالي، مؤقت، ومتغير؛ يتغير سلميا عن طريق الاقتراع والتداول، وقد يتغير عنفا بثورة اجتماعية أو انقلاب عسكري. أما زمن الدولة، فمستمر لا انقطاع فيه"[18].

انطلاقا مما سبق ذكره، استنج الأستاذ عبد الإله بلقزيز أن الفرق بين الدولة ونظام الحكم يكمن في منطق اشتغالهما على اعتبار أن "منطق مؤسسات الدولة منطق مهني، محايد تجاه السياسة ومنازعاتها وأهوائها، ومنطق مؤسسات السلطة الحاكمة سياسي، غرضه تحقيق برنامج اجتماعي محدد: يميني أو يساري، ليبرالي أو اشتراكي، ديني، أو مدني...إلخ"[19].

بعد تمييزه بين الدولة ونظام الحكم، شرح الأستاذ عبد الإله بلقزيز العلاقة القائمة بين الدولة والأمة من منطلق كون "الدولة ليست شيئا آخر سوى الأمة، وقد تجسدت في جماعة سياسية موحدة ينتظمها نظام جامع، وتقوم فيها سلطة مركزية تدير شؤونها"[20]، انطلاقا من قوانين متعاقد عليها تتعالى عن المصالح الجزئية للفئات الاجتماعية التي من شأنها أن تؤدي إلى القبلية والعصبية، وتنشد في مقابل ذلك تحقيق الصالح العام.

إن الوعي الإيجابي بالتكامل بين الأمة والدولة لم يولد دفعة واحدة، وإنما مرّ من محطات نضالية عديدة تمخض عنها ترسيخ فكرة الدولة في وجدان الأفراد وفي ثقافة المجتمع، وإن كان هذا الوصف ينطبق على واقع المجتمعات الغربية، فإنه ظل بعيدا عن التحقق في "المجتمعات العربية، الذي يزدحم اجتماعه الأهلي بالعصبيات التقليدية، والتي ظلت الدولة السلطانية التقليدية فيها تعيد إنتاجها في سياق إعادة إنتاج نفسها"[21].

ثانيا: الدولة والشرعية

تعتبر الشرعية العمود الفقري الذي تنهض عليه كل دولة، خاصة وأنها تُبرر سلطة الحاكم، وتجعلها مقبولة من طرف المحكومين، حيث أكد الأستاذ عبد الإله بلقزيز في معرض شرحه لهذا المفهوم، أنه لا يعني به "مشروعية الدولة بما هي كيان جامع يوفر الاجتماع السياسي والغذاء والأمن الذاتي والسيادة على الأرض والثروات...وإنما (يعني به) ذلك المقدار من المقبولية الذي تتمتع به دولة ما، والذي من دونه تتحول إلى جسم مرفوض من المجتمع، أو من قسم كبير منه"[22].

وتجدر الإشارة إلى شرعية أية دولة تقوم على مجموعة من القيم المشتركة قد يكون مصدرها:

- الدين: كما الحال للمجتمعات الإسلامية والمسيحية، حيث يغدو الدين "نظام اجتماعي تشتق منه مبادئ حاكمة للسلطة والدولة"[23]

- العقل: الذي أسس السلطة على التعاقد والتوافق على القواعد المنظمة للبلاد والعباد، بالشكل الذي عبر عنه فلاسفة العقد الاجتماعي في فترة الحداثة، حيث برز التفكير في سؤال المواطنة والعدالة بعيدا عن أية سلطة لاهوتية متعالية.

هذا التقسيم الثنائي للمصادر التي يمكن أن تقوم عليها مشروعية الدولة هو مجرد محاولة للفهم لا تدعي نفي باقي التصنيفات، خاصة التصنيف الثلاثي الذي وضعه ماكس فيبر في تمييزه، بين المشروعية التقليدية والمشروعية الكارزمية، والمشروعية العقلانية انسجاما مع تصوره الغائي للتاريخ، الذي يسير في نظره نحو المزيد من العقلنة.

لكن على الرغم من أهمية تصور فيبر، لم يتوان الأستاذ عبد الإله بلقزيز في الكشف عن هفواته، خاصة وأنه في نظره غير قابل للانطباق على الواقع المادي للشرعيات السياسية القائمة، بفعل كونه ينظر لأنماط الشرعية على أساس التعاقب والممايزة المطلقة، والحال أن واقع الدول يكشف بأن هذه المشروعيات يمكن أن تتداخل في نظام سياسي واحد (المغرب، لبنان، الأردن، اليمن...).

الفصل الثاني: الدولة ووظائفها

افتتح الأستاذ عبد الإله بلقزيز هذا الفصل، بالإشارة إلى أن العنف الذي تمارسه الدولة يكون دائما مقرونا، إما بالدفاع عن الحدود في حالة وجود تهديد خارجي، أو في استتباب الأمن الداخلي في حالة العنف الأهلي، إذ إن "حفظ الأمن الداخلي (للمجتمع والدولة) هو...الهواء الذي يستنشقه العيش المشترك داخل الجماعة الوطنية"[24]. لذلك، لا ينبغي على الدولة أن تتقاعس في الرد على ما من شأنه أن يهدد الأمن الاجتماعي كما هو الشأن بالنسبة إلى العمليات الإرهابية التي يعتبرها بلقزيز "أعلى أشكال العدوان على الأمن الاجتماعي وعلى هيبة الدولة ووظائفها الأمنية"[25]، غير أن ما ينبه إليه بلقزيز في هذا السياق هو أنه ليس للإرهاب تعريف سياسي دقيق بسبب التلاعبات السياسية؛ لأن ما يعتبره البعض إرهابا يعده الآخرون مشروعا سياسيا، لكن ما يمكن الإجماع عليه حسبه هو أن "الإرهاب فعل من الأفعال الرهيبة التي تعرض المجتمع للنزيف القاتل"[26].

انتقل الأستاذ بلقزيز بعد ذلك، إلى عرض وظيفة الدولة كما برزت في فلسفة العقد الاجتماعي، التي بنت فكرة الدولة على أساس الحق الطبيعي للفرد الذي لا ينبغي التنازل عليه بشكل مطلق للدولة (إذا ما استثنينا تصور هوبس) التي ينبغي أن تسهر على ضمان حرية الأفراد وحماية ممتلكاتهم، وهو التصور الذي عمل بلقزيز على نقده من منطلق أنه لا وجود للفرد إلا في نطاق الدولة، التي لا تتعارض سيادتها مع سيادة الشعب. فرغم تشديد التصور اللبيرالي على مبدأ حرية التملك الذي ينبغي على الدولة أن تحميه قدر الإمكان، إلا أنه يمكن حسب بلقزيز تكييف مبدأ الملكية الخاصة مع مبدأ سيادة الدولة، من أجل إنتاج نوع من المواءمة بين منطق سيادة الدولة، وبين مفهوم حقوق المواطنة، بين مبدأ الدولة ومبدأ الفرد، القانون والحرية[27].

تحتاج نظرية الحق إذن إلى المزيد من المراجعة من أجل كسب معركة العدالة، كما راهن عليها كل من جون راولز وأمارتيا صن، إذ من الضروري حسب بلقزيز ربط العدالة الاجتماعية بنظرية الحق على اعتبار أن الحقوق الاجتماعية- الاقتصادية وجهان لعملة واحدة هي حقوق المواطنة[28].

القسم الثاني/ في الجماعة السياسية / الحالة العربية

الفصل الثالث: في الدولة والمجتمع عولمة الأوهام

انتقل صاحب الكتاب في هذا القسم، للحديث عن التجربة العربية في التعاطي مع قضايا حقوق الإنسان والحريات العامة، خاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات، التي تضاعفت فيها درجة اهتمام أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم بما هو سياسي، بعدما كان هذا الانشغال تحتكره فئة بعينها، وهي رجال السياسة.

لقد بدأت بعض المجتمعات العربية كالمغرب وتونس تولي الاهتمام بالشأن العام من مدخل حقوق الإنسان ابتداء من سنة 1978، ثم تطور هذا الاهتمام ليشمل قضايا جديدة كالانشغال بحقوق المرأة مع نهاية الثمانينيات، ثم بروز مؤسسات المجتمع المدني في بداية التسعينيات، واعتبارها خلفية نظرية لتغيير الجماعة السياسية العربية نحو الأفضل. لكن ما يلاحظه الأستاذ عبد الإله بلقزيز هو أن شروق شمس المجتمع المدني بالمجتمعات العربية رافقه غروب شمس الممارسة الحزبية العربية؛ فقد "وطن في أذهان كثيرين أن زمن المجتمع المدني أزف، وأنه - هو وحده - من سينهض بما أخفقت الحزبية في النهوض به من أدوار التغيير"[29].

تعتبر هذه النظرة التي حملها العرب عن المجتمع المدني حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز عن تبشيرية إيديولوجية مبتذلة، تتوخى الترويج لأفكار تحمل مسؤولية ما يجري للسلطة والدولة، وتعتبر المجتمع سليم التكوين والهيئة، ومن شرعنة القول الذي يعتقد بأن حدوث التقدم ينبغي أن يتم على حساب تجحيم دور الدولة وإضعاف سلطانها السياسي والاجتماعي[30].

الجهل والعولمة

عمل مؤلف الكتاب في هذا المبحث، على تشريح الخلفية الفكرية الموجهة لعمل المجتمع المدني، والتي رغم كونها ترتدي قناعا مدنيا/ تنويريا/ إنسانيا، إلا أن أنشطتها في الواقع ذات حمولة سياسية؛ أي إنها في الأصل تناضل من أجل تحجيم دور الدولة، وهذا يعني أنها تمارس سياسة مضادة للسياسة الرسمية. لكن ما يشدد عليه بقزيز في مقام نقده للمجتمع المدني في نسخته العربية هو جهل الناس الكبير للمفهوم "النظري للمجتمع والدولة، على السواء، ولعلاقات الترابط بينهما كما قامت وتطورت، كما وعتها فلسفة السياسة والفلسفة الاجتماعية، والعلوم الاجتماعية الحديثة"[31]. إن التمثل الخاطئ لمثل هذه المفاهيم خاصة لدى النخب والقادة، إلى جانب إسقاطها على واقع لا يناسبها، كما هو الشأن للواقع العربي، يضع مصير الدولة والمجتمع على كف عفريت، ويجعل الدولة أمام اختبارات سياسية واجتماعية مفزعة. يمكن أن تؤدي إلى هلاك الدولة والمجتمع على حد سواء.

تجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن معضلات العالم العربي لا ترتبط فقط بجهل مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان أو تأصيلها بشكل مشوه، وإنما يرتبط قسط كبير منها بالعولمة وما خلفته من علاقات للسيطرة والهيمنة بين الدول الاقتصادية العظمى ودول العالم الثالث؛ حيث عملت العولمة على "إعادة تشكيل العالم - مجتمعات ودول - على النحو الذي تتحقق به أهداف قواها الحاكمة للنظام العالمي"[32].

لقد ساهمت العولمة حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز في تفكيك العديد من الدول والمجتمعات، الواقعة في مناطق النفوذ والمصالح، وإعادة تركيبها بما يلائم قواعد السيطرة والهيمنة الجديدة في حقبة العولمة، أو التوسع الرأسمالي الاحتكاري اللامحدود، الذي يرتبط بما يمكن تسميته بـ "رأسمالية الكوارث"، حيث النظر إلى الحرب والصراع والتفكك والثورات كعملة ثمينة لبيع العديد من الأسلحة، فتفكيك الدول الذي نعتبره معضلة إنسانية تراه الأنظمة الاقتصادية في العالم فرصة للمزيد من السيطرة والتحكم، ولنا في حركات الربيع العربي مثال على ذلك، حيث رفعت الفئات المعارضة شعار الحرية والمساواة والعدالة لكن ما حصلت عليه هو المزيد من التفكك والتشظي في العلاقات إلى درجة التقاتل حول من يمتلك الشرعية، وما يرافقه من توجيه للصراع واستغلاله في تصفية الحسابات السياسية بين الدول.

ثانيا: في أن المجتمع لا يكون من دون دولة

تطرق الأستاذ عبد الإله بلقزيز في هذه الفقرة، إلى إبراز العلاقة القائمة بين المجتمع والدولة من خلال نقده للتصور الذي يعتبر بأن "الدولة ضد المجتمع"، على اعتبار أن المقابلة بين الدولة (=الشر) والمجتمع (=الطيبوبة والخير) تعبير عن نظرة ميتافزيقية معيارها تجاوز الفكر السياسي الحديث.

ومن بين الأيديولوجيات السياسية التي تحمل هذه النظرة السلبية للدولة، أشار بلقزيز إلى كل من المفهوم اللبيرالي الذي يرغب في تحجيم سلطة الدولة وتوسيع دائرة حريات الأفراد، إلى جانب المفهوم الماركسي الذي يعتبرها تعبيرا عن مصلحة الطبقة المالكة، أضف إلى ذلك المفهوم الأنثروبولوجي للدولة، الذي يشترط أن تماثل الدولة المجتمع بشكل مطلق حتى تصح صفة التمثيل، خاصة في المجتمعات المتعددة الثقافات.

1- نقد المفهوم الإثنوغرافي للدولة

بعد عرضه للمفهوم الإثنوغرافي للمجتمع الذي يقوم على أساس رصد خصائص الجماعات البشرية البدائية ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وقيميا، من خلال الإشارة إلى أنماط العيش وآليات التنظيم الاجتماعي. يعتبر المجتمع من منظور هذا التصور سابقا تاريخيا على وجود الدولة، وهي الفكرة التي عمل بلقزيز على دحضها مشيرا إلى تقاطعها مع الفرضية التي انطلقت منها الفلسفة السياسية في العصر الحديث، عندما أقرت بوجود ما أطلق عليه حالة الطبيعة التي على أنقاضها قامت الدولة بمعناها الحديث، لكن هذا التقاطع في المواقف لا يعني التوافق على اعتبار أن المفهوم الإثنوغرافي للمجتمع لا يشترط ضرورة وجود نظام سياسي لتجاوز مساوئ حالة اللادولة. على هذا الأساس، يقر بلقزيز بلامشروعية هذا التصور؛ إذ "ليس لهذا المفهوم الإثنولوجي من وجهة صحيحة في تمييز المجتمع عن الدولة، لأنه - بكل بساطة - يتحدث عن جماعة بشرية لا عن مجتمع لا قوام له إلا بالدولة (...) والمجتمع لا يكون كذلك، أي مجتمعا، إلا إذا نشأت فيه دولة وتحولت إلى مبدإ لتنظيمه من جديد"[33].

2- نقد المفهوم العدمي-الفوضوي للدولة:

يقدم المفهوم الفوضوي للدولة نفسه، كمقابل للنزعات التي تضفي على الدولة طابعا مقدسا، وتبرر العنف الذي تمارسه على المجتمع بدعوى أن هذا الأخير يختزل الشر الذي ينبغي إخماده، بينما يقوم المفهوم الفوضوي للدولة على أساس رفض الدولة، لكونها تعبير عن الشر الذي يصيب المجتمع، والذي لا يمكن التخلص منه إلا بحلّها. نموذج هذه النظرة العدمية، تُجسده تيارات فلسفية عدة، كما هو الشأن للفوضوية التي تعتبر أن كل تنظيم اجتماعي نقض لفعالية المجتمع وتقييد لحريته وللماركسية اللينينية، التي تدعي إمكانية قيام مجتمع من دون دولة، من نمط ما سماه ماركس وإنجلز بالمجتمع البدائي، حيث لا يحتاج تنظيم المجتمع للدولة بمعناها الحديث، والليبرالية، التي تعتبر بأن الدولة نقيض شرعي للاقتصاد الحر القائم على حرية التملك والاستثمار والانتاج.

ما يجمع بين هذه الإيديولوجيات الثلاث حسب بلقزيز هو "أنها لا تنتج، بتصوراتها للدولة، إلا طوباويات، وأولها طوبى المجتمع المستكفي بنفسه والمستغني عن الدولة"[34].

3- نقد المفهوم الأنثروبو-عولمي للدولة:

إذا كانت العولمة تعني في أبزر معانيها تحطيم الدولة الوطنية وتفكيك الحدود والسيادات، فلا غرابة أن تقترن بالحروب أو بما أسماه سمير أمين عسكرة العالم، على اعتبار أن العولمة هي أعلى مراتب الإمبريالية، حيث تعمل على تفكيك حدود الدول وتحويلها إلى مسرح لتجريب العديد من الأسلحة والخطط العسكرية، في إطار ما أسماه بلقزيز بــ الهندسة السياسية الأنثروبو-عولمية للدولة، التي تم اختبارها في العديد من الدول العربية والإسلامية، قبل ذلك في يوغوسلافيا قبل ربع قرن.

توفر العولمة الظروف الملائمة للترويج للحركات الاجتماعية والمدنية المضادة للدولة، حيث تصبح هذه الأخيرة مجرد صورة شكلية لا تتحكم بزمام الأمور، نتيجة نجاح سياسة البلقنة، إذ تصبح خيراتها وثرواتها موضوع استغلال جائر من طرف القوى الإمبريالية كما وقع في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.

انتقد عبد الإله بلقزيز هذا المفهوم بالقول: "إن دولة المفهوم الأنثروبو-عولمي التي ينشئها تحالف قوى العولمة والقوى التكفيرية والزعامات المذهبية والعشائرية، هي بالتعريف-الدولة العصبوية المتناسلة من المجتمع العصبوي. وهي اختصارا، دولة ضد الدولة والمجتمع على السواء"[35].

الفصل الرابع: نقد الالتباسات

عمل الأستاذ عبد الإله بلقزيز في هذا الفصل، على الكشف عن أوجه التداخل الموجودة بين الدولة والمجتمع والنظام السياسي، وذلك من أجل رفع الالتباس عنها حتى تتوضح الرؤية للقارئ.

أولا: في أن الدولة هي المجتمع

ليست الدولة حسب بلقزيز ذلك الكيان الغريب عن المجتمع، أو الذي يقدم نفسه كسلطة تفرض بالقسر والقوة على المجتمع، هذا القول في نظره من مخترعات الجهل، فالدولة ليست سوى المجتمع منظما؛ أي منضبطا لمنظومة من القواعد والقوانين التي تحفظ الحقوق والأمن والسيادة، وتوفر الشروط لإشباع الحاجات المادية والمعنوية واكتساب أسباب التقدم[36]؛ أي عبر توفير الشروط اللازمة لترسيخ قيم المواطنة، والولاء للوطن.

1- الدولة ليست السلطة والنظام السياسي

انطلاقا من تعريفه للدولة بوصفها "كيان اجتماعي وسياسي مجرد يرمز إلى مجتمع ما بوصفه جماعة سياسية أو مجتمعا سياسيا"[37]، استنتج الأستاذ عبد الإله بلقزيز أن الدولة لا تعبر عن مصالح فئوية ضيقة، وإنما تقدم نفسها كسلطة محايدة وفوق التجاذبات الإيديولوجية والمصلحية. إنها تعبير عن الإرادة العامة التي تعود للجميع ولا تعبر عن أية مصلحة فرد أو فئة واحدة.

حدد الأستاذ بلقزيز مفهوم السلطة، انطلاقا من استحضار معنيين:

معنى أول: يحيل إلى قدرة الدولة على ممارسة سلطانها على نفوذها (المجال الجغرافي...)

معنى ثان: يعني نظام النخبة الحاكمة ومضمون برنامجه السياسي وتوجهاته.

لكن ما يلمح له بلقزيز متبعا التصور الميكروفزيائي للسطة عند ميشيل فوكو، هو أنه لا يمكن اختزال السلطة في أجهزة الدولة أو في نظام النخبة على اعتبار أن السلطة مشتتة في كل الجسد الاجتماعي[38].

إن الاختلاف الموجود بين الدولة والنظام السياسي حسب بلقزيز هو أن المفهوم الأول ينتمي إلى حقل البنى الكليانية التي توجد خارج المنافسة الاجتماعية، وتعبر عن الكل الاجتماعي (الأمة) بينما ينتمي المفهوم الثاني إلى حقل الممارسات القائمة على التنافس والصراع على السلطة من أجل تدبير الشأن العام لمدة محددة تتغير فيها قواعد السلطة لكن تبقى بنية الدولة ثابتة.

إن الخلط الموجود بين المفاهيم السالفة حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز مرده إلى "الفقر النظري الفادح الذي تعانيه الثقافة السياسية العربية العامة، بل الفكر السياسي نفسه! ويفوقه فداحة أن يترجم الخلط ذلك نفسه في السياسة، فيتحول الصراع ضد السلطة أو نظام سياسي إلى معركة للمعارضات ضد الدولة! وماذا يجري في صفوف المعارضة العربية، اليوم، غير هذا؟!!!"[39].

2- دولة المجتمع: الإرادة العامة

بعدما أبرز الأستاذ عبد الإله بلقزيز تهافت التصورات الرافضة لفكرة الدولة وحدد أهم سلبياتها، عرج على التصور الحديث للدولة، كما تبلور في فلسفة جون جاك روسو مُبديا اتفاقه مع هذا الطرح الذي يجعل الدولة كيانا يمثل المجتمع ويعبر عن الإرادة العامة، التي لا يمكن لأي فرد معارضتها بأي حال من الأحوال، وإلا اعتبر خارج عن القانون.

ثانيا: في تاريخية الدولة

1- في أن للدولة الحديثة تاريخا من التراكم

استعرض الأستاذ عبد الإله بلقزيز المسار الذي قطعته الدولة في الغرب، لتأخذ صورتها الحالية من مدخل الإشارة إلى مسألتين أساسيتين؛ هما: منظومة الحقوق السياسية، أو منظومة حقوق المواطنة.

لقد كان الحق في الاقتراع وإلى حدود مطلع القرن العشرين امتيازا خاصا بمالكي وسائل الإنتاج دون غيرهم، كما ظلت النساء محرومات من هذا الحق إلى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية، رغم النظر إليهم كمواطنات. تدل هذه الأمثلة أن الدولة الحديثة لم تبن بشكل كامل وجاهز، وإنما نضجت بعد سلسلة من النضالات، التي تجعل استنساخ دولة من هذا القبيل في سياق اجتماعي وسياسي مختلف، مسألة مستحيلة على اعتبار أنه كما تكون المجتمعات تكون الدول.[40]

2- في أن الدولة في البلاد العربية طردية العود

انطلق الأستاذ عبد الإله بلقزيز في هذه الفقرة من الإشارة إلى ضعف سلطة الدولة في العام العربي وعجزها عن احتواء كل مكونات المجتمع، الأمر الذي يجعلها معرضة باستمرار للاختراق، سواء من طرف قوى معارضة داخلية (حركات متطرفة، تدخل القوى الدينية...) أو من طرف العدوان الأجنبي.

أرجع الأستاذ عبد الإله بلقزيز ضعف الدولة في الوطن العربي إلى أربعة أسباب رئيسة، وهي:

- حداثة عهد الدولة في البلاد العربية بالدولة الحديثة

- ضعف فكرة الدولة في المتخيل الجماعي

- المقاومات المستمرة التي يبديها المجتمع الأهلي والتقليدي العصبوي لقيام الدولة.

- النتائج السلبية التي تخلفها العولمة وتوسعها على تماسك الدولة الوطنية.

ومن أجل تجاوز هذا الوضع، يجب ممارسة نوع من النقد المزدوج للدولة والمجتمع على السواء، على اعتبار "أن هذا النقد وحده يصوب النظر في مسائل السلطة والدولة والمجتمع والديمقراطية، ويخطو نحو فهم الآليات العميقة التي تصنع ظواهر الاجتماع السياسي"[41]

ثالثا: فيما يتهدد الدولة

1- في أن الاستبداد مهلكة للدولة:

اعتبر الأستاذ عبد الإله بلقزيز بأن الاستبداد سمة ملازمة للسياسية والسلطة في العالم العربي، إذ يساهم الاستبداد في تدهور أوضاع المجتمع وفي تفجير العديد من الأزمات، كبروز الحركات التحررية واندلاع الحروب الأهلية. هذا المآل هو نتيجة مباشرة لغياب الحياة الدستورية ولتعطيل العمل الحزبي وانحصار حرية التعبير.

لكن ما نبه إليه في هذا المستوى من التحليل، هو ضرورة تجنب الخلط في فهمنا لمفهوم الاستبداد، حتى لا نحمل الاستبداد الذي يمارسه نظام سياسي يتصرف في سلطة الدولة على الدولة بأسرها؛ لأن ذلك يؤدي إلى بناء سياسية خاطئة "تنتهي بهلك الدولة والوطن ووحدة الشعب! وهكذا يؤسس الجهل بأصول الأشياء لأفعال خرقاء قد تبلغ حد المغامرة"[42].

2- في أن الاستبداد نظام اجتماعي-ثقافي

اعتبر الأستاذ عبد الإله بلقزيز بأن ربط الاستبداد بالمحدد السياسي فقط، تصور اختزالي قاصر عن فهم معنى الاستبداد في شموليته وكليته، من خلال الإشارة إلى أبعاده الثقافية والاجتماعية على حد سواء، لذلك لا يمكن من منظوره علاج الاستبداد من مدخل سياسي محض، بل لا بد من اعتماد مقاربة تركيبة تجمع بين ما هو تربوي وقانوني وسياسي في سبيل تغير وضع المجتمع وتأهيليه ماديا ومعنويا، حتى يكون في مستوى تطلعات الإنسان الذي ينتمي إليه.

رابعا: الذهني والواقعي في الدولة والمجتمع المدني

1- دولة الطوبى، دولة الواقع:

أشار بلقزيز إلى القصور الذي تعاني منه المقاربات المنجزة حول الدولة في الفكر السياسي العربي، والتي تحاول أن تفكر في الدولة انطلاقا من بناء ذهني لا واقع له؛ أي إنها تركز على الجانب النظري فقط من خلال استعارة نموذج جاهز لا يقوم على أساس تشخيص واقعي، ولا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية المجتمع.

نموذج هذه التصورات الطوباوية لدولة الينبغيات، هي ما تجسده "دولة الخلافة" عند فقهاء السياسة الشرعية و"الدولة الاشتراكية" عند الماركسيين، و"الدولة الديمقراطية" كما تتناولها الأدبيات الفلسفية المعاصرة.

لاحظ الأستاذ عبد الإله بلقزيز، انطلاقا من وقوفه على النماذج السابقة للدولة أن "بين النموذج الذهني، دولة الطوبى المثالية، والواقع السياسي مسافة لا يمكننا أن نملأها بالرغبات والشعارات والينبغيات، وإنما تملأ بالممارسات المنتجة للحقائق المطابقة - أو المناسبة - للواقع الموضوعي"[43]. لذلك، ينبغي عوض التفكير في الدولة المثالية النضال من أجل تحسين شروط الدولة الواقعية.

2- في أن المجتمع المدني والدولة صنوان في الدولة الحديثة

يعبر التصور القائل بكون المجتمع المدني يوجد كمقابل للدولة - حسب بلقزيز - عن فهم إيديولوجي وقاصر للمفهوم، على اعتبار أن كل المقاربات الفلسفية لمفهوم المجتمع المدني في النصف الثاني من القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر، رغم تشديدها على الاستقلال النسبي للمجتمع المدني عن الدولة، إلا أنها لم تذهب إلى تحديد المجتمع المدني كجسم اجتماعي في مقابل الدولة، أو في تناقض معها[44]، إذ يقوم الفهم السليم للمجتمع المدني، على أساس النظر إليه في تكامل مع الدولة، على اعتبار أن الدولة الوطنية هي الإطار السياسي الحاضن له والضامن لاستمراريته، خاصة وأن الدستور الذي تقوم عليه هو من يحدد الخطوط العريضة لتداول السلطة في المجتمع، كما يعبر عن حقوق وحريات الأفراد المنتمين للدولة. لذلك، فإن افتعال الصراع بين المجتمع المدني والدولة فعل سياسي ساذج ومحفوف بالمخاطر.

لذلك ينبغي حسب بلقزيز "القيام بثورة حقيقة داخل مؤسسات المجتمع المدني: التي يدعو بعضها - وينخرط بعضها في - الثورة على الدولة!" وحينها ستكتسب دعوى المجتمع المدني شرعيتها وحجيتها، ويرتفع عنها الاشتباه"[45].

خامسا: من أجل عقد اجتماعي

لا يمكن بناء الدولة بمفهومها الحديث خارج فكرة العقد، وإلا كانت مجرد امتداد للسلطة الأهلية أو القبلية...إذ يقوم التعاقد كما عبرت عنه الفلسفة السياسية في العصر الحديث على أساس تنازل الأفراد عن جزء من حريتهم من أجل الحصول على المزيد من الأمن والسلم، لكنهم لا "يتناولون لدولة خارج عنهم، بل يتنازلون لأنفسهم؛ إذ المصلحة العامة، في منطق الدولة الحديثة، ليست ضد مصلحة أي مواطن أو إلغاء لها، وإنما هي أيضا مصلحته"[46].

لم تنضج الدولة في العالم العربي لتعبر عن روح الاجتماع القائم على التعاقد، فلا الوضع الاجتماعي ولا السياسي مؤهل، لنقل كيان الدولة من أحكام الضرورة إلى أحكام الإرادة، وعندما يتحقق هذا الانتقال ستزول حسب بلقزيز كل "مظاهر التجافي بين الدولة وبين المجتمع، ليتصالح المجتمع مع دولته، ويتخلى عن النظر إليها بوصفها مجرد سلطة قهرية"[47].

القسم الثالث: في المواطنة وحقوق الإنسان

الفصل الخامس: من أجل إنسان عربي جديد، المواطنة معبرا

افتتح الأستاذ عبد الإله بلقزيز هذا الفصل، بإثارة العديد من الأسئلة المرتبطة بالمعنى الذي تحمله عبارة الإنسان العربي الجديد. ما الجديد في إنسانيته؟ هل هو الإنسان المواطن كما دأبت على وصفه الفلسفة الحديثة أم هو الإنسان الكوني المترفع عن مفهوم المواطنة كتعبير عن الانتماء القانوني لمجال سياسي مخصوص؟ هل هناك تطابق بين الإنسان والمواطنة؟

يتضمن هذا السؤال الإشكالي حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز حكما سلبيا ينظر إلى الإنسان العربي كتعبير عن القديم، كما أنه يختزل نظرة معيارية إلى "الإنسان الجديد" الذي ينبغي تنشئته وفق قواعد ونماذج جاهزة، قد يجدها البعض في المثال المرجعي الإسلامي، وقد يربطها البعض الآخر بتتبع مسار الدول المتمدنة، هذه النماذج من القراءات لما هو جديد "ليست افتراضية من اجتراح خيال؛ هي نماذج شديدة الصلة بمقالات الفكر العربي ونظمها التفسيرية الدارجة"[48].

إن مفهوم الإنسان حسب بلقزيز أشمل من المواطنة التي هي بعد من أبعاده، إذ إن الإنسان حيوان؛ لكنه حيوان عاقل، اجتماعي، سياسي، ميتافزيقي/ متخيل...حيث تسعى المواطنة إلى إشباع هذه المطالب فيه، والتي هي تعبيرات متباينة عن ماهيته، إذ تلبي حيوانيته بإشباع حاجياته الغريزية، وتشبع عاقليته بتحصيل المعارف والعلوم وتشبع سياسيته بالمشاركة السياسية، وتشبع ميتافزيقيته بضمان حقه في ممارسة الطقوس الدينية.

وهذا يعني أن المواطنة تجيب عن منظومة كاملة من الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين كافة، دون تمييز بينهم بسبب الدين أو العرق أو الجنس أو اللون أو الأصل. قد تكون المواطنة أحيانا منقوصة في أطرها القانونية، وقد توظف كخطاب إيديولوجي أو كواجهة لتلميع صورة الدولة، لكن مع ذلك يمكن للمواطنة إذا فهمت على الوجه الخليق بها أن تعمل على محاربة الاستبداد، وعلى ترسيخ حق المشاركة السياسية، إذ لا تبرز قيمة المواطنة إلا بعد أن يتخلص الإنسان من الاستغلال المفروض عليه، ويمتلك الإرادة والحرية في القول والفعل دون وجود أي ضغط أو إكراه من طرف القوى المستبدة في المجتمع.

خلص الأستاذ بلقزيز من خلال تحديد قراءته النقدية لمفهوم المواطنة إلى ثلاثة استنتاجات:

أولها: أنه لا يمكن المطابقة بين مفهوم الإنسان والمواطن؛

ثانيها: أن المواطن لحظة في تطور الإنسان، وليس تمثيلا مطابقا له؛

ثالثا: رغم النقد الذي يوجه للمواطنة، فإنه لا يمكن الاستغناء عنها لتطوير حياة الإنسان.

هذه المقاربة النقدية حسب بلقزيز، مناسبة لإضاءة جوانب مهمة من المسألة التي هو بصدد دراستها، وهي "إنسان عربي جديد" على اعتبار أن اعتماد المقاربة العلمية/النقدية هي التي من شأنها أن تجنب الباحث الوقوع في الطوبى، وتدفعه إلى سلك سبيل الواقعية من أجل الحصول على الأجوبة المقنعة حول إمكان بناء مجتمع المواطنة وحقوق الإنسان.

لا يثار سؤال المواطنة في العالم العربي إلا بعد طرح سؤال الدولة والمؤسسات المدنية والحركات الاجتماعية، على اعتبار أن هذه المؤسسات هي التي تضفي على الأفراد الهوية السياسية، سواء من خلال القوانين أو عبر البرامج السياسية، لكن إلى جانب ذلك تلعب المؤسسات التربوية بما فيها الأسرة والمدرسة دورا جوهرا في دفع الأفراد لاكتساب هوية المواطنين من خلال التخلص من الولاءات التقليدية المناقضة لحقيقة العيش المشترك.

لا يمكن أن تتحقق هذه القطيعة دون تعبئة كل القوى الحية في المجتمع؛ لأن المرور من "مجتمع الرعايا إلى مجتمع المواطنين مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والشعب، بين النخبة الحاكمة والمعارضة، لا ينفرد بها فريق دون آخر"[49]، وهو الأمر الذي يفترض أن يمتلك الجميع وعيا إيجابيا بالدولة، يدفع الأفراد إلى النظر إليها كنظير، وليس كعنصر خارجي؛ لأن الدولة هي المجتمع وقد اتخذ صورة منظمة.

إن بلوغ مطلب بناء الدولة الوطنية، القائمة على مبدأ المواطنة، ليس سهلا ولا يتحقق بــ "كبسة زر"؛ إذ هو يتطلب رياضة مديدة على التطور الإيجابي، وعلى تعظيم المكتسبات وتثميرها وحمايتها في أي مجال من مجالات الاجتماع الوطني[50].

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، ينبغي على هذا الإنسان العربي الجديد كما سماه الأستاذ عبد الإله بلقزيز أن يقطع شوطا سياسيا وثقافيا طويلا نحو توطين أبعاد أساسية من إنسانيته، وفي مقدمتها حقه في أن يكون مواطنا متمتعا بجميع حقوقه السياسية والاقتصادية...، التي جُرد منها في السابق، على اعتبار أنه لا يمكن الحديث عن وجود المواطنة في مجتمع يجهز على حقوق الأفراد والجماعات.

الفصل السادس: حقوق الإنسان من فكرة إلى إيديولوجيا

يعود تاريخ ميلاد فكرة حقوق الإنسان إلى القرن السابع عشر، حيث بدأت البوادر الأولى للاعتراف بالحقوق السياسية والمدنية للأفراد، ونضجت فكرة الدولة التعاقدية، التي تعمل على جعل الحقوق الطبيعية حقوق مدنية، على اعتبار أن قوانين العقل تجسيد لقوانين الطبيعة.

وجدت هذه الأفكار تربة خصبة لها في العديد من الثورات (الإنجليزية، الفرنسية، الأمريكية...) مع الأخذ بعين الاعتبار تفاوت مستويات تلقي فكرة التعاقد داخل الأنظمة السياسية الغربية.

أدت الأحداث التي شهدها العالم خاصة في فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية، حسب عبد الإله بلقزيز إلى تحويل حقوق الانسان من فكرة ومشروع لبناء الدولة الوطنية الحديثة إلى إيديولوجيا تسخر لخدمة أهداف فوق-وطنية وأحيانا هيمنوية أو إمبريالية[51]، لا تمس لا من قريب ولا من بعيد فكرة حقوق الإنسان كما بزرت في أصولها النظرية.

وحتى بعد انتهاء الحرب العالمية وتصاعد الخطابات التي تجدد القول في حقوق الإنسان في سياق ما عرف باسم "مبادئ ولسون الأربعة عشر"، لم تتنازل أمريكا والدول الأوروبية عن رغبتها في رسم خارطة طريق لعالم جديد يكون تحت هيمنتها من أجل ترسيخ دعائم النموذج الليبرالي، والتضييق على النموذج الاشتراكي، فرغم السبق الذي حققته الدول الغربية في إعلانها العالمي عن حقوق الانسان، إلا أنها لم تنضج بالشكل الذي يجعلها تطبق تلك الحقوق على مستوى تعاملها مع باقي الدول، حيث كانت تعمل على تدعيم كل الفاشيات والاستبداديات التي تشاركها نفس طموح مواجهة الاتحاد السوفياتي، وبذلك أضحت مسألة حقوق الإنسان بضاعة إيديولوجية في فترة الحرب الباردة.

لكن بعد غروب شمس الاتحاد السوفياتي في النصف الثاني من القرن العشرين، تحكمت الدول الغربية في زمام الأمور، وعملت على محو آثار الإيديولوجية الاشتراكية، من خلال الترويج لإيديولوجية واحدة من خلال الترويج للعديد من المفاهيم التي لا تخلو من إيديولوجية من قبيل "نهاية التاريخ"[52]، وصراع الحضارات[53] وهلم جرا...وهو الأمر الذي ترتب عنه ظهور العولمة التي مهدت لانتهاك بنود ميثاق الأمم المتحدة، عندما بدأت الدول الغربية تختزق الحدود الوطنية، وتشرعن لنفسها التدخل في تقرير مصير الشعوب الأخرى. لكن ما فاقم هذه الأوضاع هو اعتماد المقاربة العسكرية والقانونية في شرعنة هذا التدخل، مما أدى الى اندلاع حروب جديدة اعتدت بشكل سافر على حقوق الإنسان (الحق في الحياة، الحق في الاستقلال، الحرية...).

وعلى الرغم من الأهمية التي حظيت بها حقوق الإنسان، كما عرفتها الدولة الوطنية الحديثة النشأة، إلا أن القول بهذه الحقوق لم يمر دون نقد أو مراجعة؛ فهذا كارل ماركس مثلا يميز بين الإنسان والمواطن، ويعتبر بأن المواطن الذي أشارت إليه الإعلانات العالمية لحقوق الإنسان هو المقابل الحقيقي للبرجوازي المالك لوسائل الإنتاج[54]، لذلك لا يمكن في نظره الحديث عن المواطنة وحقوق الإنسان في مجتمع طبقي تعيش فيه قلة من المجتمع الرفاه على حساب كدح الآخرين، لذلك ارتأى إدخال الحقوق الاجتماعية ضمن منظومة المواطنة وحقوق الإنسان، من أجل تحسين شروط عيش الفئات المحرومة في المجتمع.

وعلى الرغم من تزايد الاهتمام بحقوق فئات جديدة، كالنساء والأطفال... "لم يكن اتجاه التعبير عن فكرة حقوق الإنسان اتجاها واعدا بالمزيد من المكتسبات، بل كان الارتكاس والتراجع والسوء من مسالكه أيضا"[55].

لا يمكن الحديث عن حقوق الأفراد بمعزل عن حقوق الجماعة السياسية التي يعيش في إطارها، إذ ترتبط الجزء الكبير من كرامة المواطن بانتمائه لدولة مستقلة سياديا، إذ هناك تداخل كبير بين حقوق الدولة (الاستقلال) وحقوق الشعوب والأمم؛ إلا أن ما ينبه إليه الأستاذ بلقزيز هو أن الدول التي روجت شعار الحرية والاستقلالية هي نفسها التي انتهجت فيما بعد سياسة التوسع الاستعماري باقتسامها للعالم الثالث وقيامها بأبشع الجرائم على أراضيه.

لقد أمست الأنوار التي أشرقت في أوروبا مطلع القرن الثامن عشر، ظلاما دامسا على شعوب العالم الثالث، حيث شرعنة العنصرية والاستعباد، انطلاقا من اعتماد مقاربة تطورية تقابل بين الأنا/ الأوروبي/ المتفوق/ وبين الآخر/الهمجي/ المتخلف...الذي ينبغي استعباده.

قاومت الشعوب المستعمرة الاستبداد بمختلف أشكاله واحترقت كطائر الفنيق الذي يخرج من تحت رماده ليتشكل في صورة أكثر حياة من ذي قبل؛ الحديث هنا عن الحركات الوطنية التحررية التي نجحت بعد صراع طويل في تحرير شعوبها وتوجيه الرأي العام الدولي إلى "إعادة تصويب النظر إلى مفهوم حقوق الإنسان بوصفه يستوعب حقوق الأمم عامة، لا أمما بعينها دون أخرى، ولا الأفراد فحسب"[56].

لا يمكن إذن الجزم بإمكانية تحقق هذا المعنى العام والمطلق لحقوق الإنسان نظرا لوجود العديد من الكوابح، منها ما يرتبط بهضم الحقوق المدنية والسياسية للأفراد، ومنها ما يتعلق بهضم حقوق الشعوب في تقرير المصير، كما هو الشأن بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، الذي ما زال يئن تحت وطأة الاحتلال الصهيوني بمباركة الدول الغربية.

يشير الأستاذ بلقزيز إلى أن مشكلة حقوق الإنسان في الفترة الراهنة لا ترتبط فقط بتغييب مضمونها الشامل (حق الشعوب) واقتصارها على حقوق الأفراد، وإنما تتضمن كذلك حقوق الأفراد المعرضة للهضم، خاصة في الدول الاستبدادية (دولة الرعايا) وبدرجة أقل في الدول الوطنية الحديثة، التي تكون فيها المواطنة "منقوصة الهيئة؛ أي لا يطابق مفهومها واقعها المادي"[57].

يبدو أن انتهاك حقوق المواطنة ليس حكرا على الأنظمة/ الفاشية/ النازية/ الشيوعية...بل من نقائص حتى المجتمعات التي تدعي الديمقراطية، والتي تنتهج سيادة القمع والرفض حتى للحقوق المشروعة لمواطنيها، فعلى سبيل المثال يمنع في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا "الحق في العمل السياسي القانوني لحزب شيوعي؛ لأنه ضد النظام الرأسمالي...وفي بلدان أخرى، يمنع حق المواطنين في انتقاد إسرائيل أو في التشكيك في الهولوكوست، بدعوة معاداة السامية، ويساق المفكرون الأحرار إلى السجون والقضاء، إن هم تجرؤوا على هذا المحظور!"[58]. هذه نماذج بسيطة من الممارسات التي تشهدها الأنظمة الشمولية/الكليانية، المنتهكة لحقوق الإنسان، التي كانت موضع نقد من طرف العديد من الكتابات، لكن لا يمكن إغفال الطابع الإيديولوجي لهذه الأبحاث في ظل الصراعات/ الفعلية / والباردة التي كانت قائمة بين المعسكر الشرقي والغربي، والتي كانت تتبادل التهم وكل منها يشيطن الآخر.

لقد أدت شيطنة ألمانيا النازية إلى القضاء على وحدتها القومية وتقسيمها إلى دولتين، إلى جانب شرعنة إقامة دولة يهودية على أرض عربية ثأرا لليهود من المحرقة النازية. لقد تم استغلال انتهاك حقوق الإنسان من طرف الأنظمة الكليانية، في تحريض العالم ضدها تصفية لحسابات سياسية بعيدا عن أي اعتبار حقوقي/إنساني.

لقد اختزلت حقوق الإنسان خلال فترة انهيار النظامين النازي والشيوعي، في الخطاب الغربي وما يجري في فلكه مع إقصاء باقي المجتمعات، التي رغم وجودها تحت نير الاستبداد، فإنها لم تكن موضع نقد أو استشكال من طرق الخطابات الغربية، فبـ "قدر ما تحدث الغرب عن حقوق الإنسان، إلى حد الإسهال، في حالة الدولة (الاشتراكية والوطنية) التي يناصبها العداء، سكت عن مثل ذلك في حالة الأنظمة التي وظفها في حربه الكونية"[59].

خلص الأستاذ بلقزيز إلى فداحة الاستغلال الإيديولوجي لفكرة حقوق الإنسان، خاصة خلال فترة الحرب الباردة التي توجت باندحار المعسر الشيوعي، وسعي الدول الغربية إلى محو كل آثاره تمهيدا لتكريس هيمنة أمريكا على العالم.

يبرز الطابع الإيديولوجي لفكرة حقوق الإنسان حسب بلقزيز في العديد من النماذج من قبيل:

- تفكيك كل من: الاتحاد اليوغوسلافي/ الاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا، من خلال تفجير حركات الانفصال والقومية باسم حقوق الإنسان.

- شن أمريكا الحرب على كل من صربيا/ العراق/ محاصرة كوريا الشمالية/ والصين/ قانون محاسبة سورية.

هذا غيض من فيض الفصول الأليمة والحزينة التي كتبها الغرب في مسار تفكيكه للدول الوطنية الموجودة خارج القارة، بالاستناد على القوة العسكرية تارة، وعلى نتائج العولمة الاقتصادية تارة أخرى.

إلا أن ثالثة الأثافي حسب الأستاذ عبد الإله بلقزيز في الخطاب الإيديولوجي لحقوق الإنسان هي الانطلاق من خلفية أنثروبو-ثقافية، تدعو إلى تمتيع الأقليات الدينية والعرقية بكل حقوقها المدنية والسياسية في أفق تمهيدها للمطالبة بالانفصال، وهذا الأمر يتنافى بتاتا مع المفهوم المعاصر للمواطنة الذي يبني الهوية السياسية للمواطن بعيدا عن روابط العرق والدم والقرابة.

يتضح من خلال ما سبق، أن القراءة النقدية التي قدمها الأستاذ عبد الإله لخطاب المواطنة وحقوق الإنسان يمكن أن تسعفنا على التمييز بين ما هو حقوقي/إنساني/تنويري/ بنائي، وبين ما هو إيديولوجي/ برغماتي/ سياسي، على اعتبار فكرة حقوق الإنسان بمعناها الأصيل ولدت في رحم الحركات النضالية (مناهضة الاستبداد، مناهضة الميز العنصري ...) لكنها أضحت تعتمد كذريعة لتفكيك الدول من خلال التدخل في مشاكلها الداخلية، وبذلك حقوق الإنسان من فكرة للتحرر إلى إيديولوجيا للهيمنة.

[1] لاحظنا أن الأستاذ عبد الإله بلقزيز يفكر دائما في بناء إنسان عربي جديد، وهو ما تعبر عنه طبيعة بعض العناوين التي اعتمدها في عناوين ومحاور مؤلفاته، ويمكن أن نسوق هنا نموذجين: نحو وعي عربي متجدد بالمسألة الثقافية/ من أجل إنسان عربي جديد.

[2] عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسية والمواطنة، المركز الثقافي للكتاب للنشر والتوزيع، الدار البيضاء/المغرب، الطبعة الأولى 2020 ص 11

[3] J.J. Rousseau, Du contrat Social, mozambook 2001, P 119

[4] عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسية والمواطنة، م. س ص 14

[5] نفسه ص 16

[6] سبق للأستاذ عبد الإله بلقزيز أن قدم تعريفا للأسرة، كشف فيه عن دورها في تشكيل الوجدان الوطني كما تحدث عن الخطر الذي أصبح يهدد هذه المؤسسة الحيوية، نقرأ له في هذا السياق قوله: "مؤسسة الأسرة من أهم المصانع الاجتماعية التي تُنتج الوجدان الثقافي الوطني بواسطة شبكة من القيم التي توزعها خلال التربية على سائر أفرادها"؛ إلا أن هذه المؤسسة – حسب بلقزيز- أصابها الوهن والتراجع عن إنتاج التربية المؤسسة على القيم الهادفة، بسبب الأزمات المعيشية والوجودية للأسرة داخل المجتمع. انظر: عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة، ضمن ندوة: العرب والعولمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت دجنبر 1997 ص 211

[7] عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسية والمواطنة، م.س ص ص 17-18 

[8] نفسه ص 19

[9] نفسه ص 23

[10] نفسه ص 25

[11]نجد نظيرا لهذه الفكرة عند الأستاذ محمد عابد الجابري، في حديثه عن تأجيل الديمقراطية بالدول الوطنية الحديثة النشأة، نقرأ في هذا السياق قوله: "كانت هناك أنظمة حكم وطني، عمدت إلى تأجيل الديمقراطية أو تجميدها بدعوى أن الحياة السياسية التي تعتمد الليبرالية نفتح الباب للعمالة للمعسكرين المتنافسين، وفي ذلك خيانة للمصالح الوطنية والقضايا القومية".www.aljabriabed.net/maj17-demogenerall.htm

[12] Max Weber, Économie et société, éd Plon, Paris, 1971, p. 7

[13] Max Weber, le savant et le politique, Plon 10 /11 P 100

[14] عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسية والمواطنة، مرجع سابق ص 35.

[15] J.J. Rousseau, Du Contrat Social op.cit. 165

[16] عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسية والمواطنة، مرجع سابق ص 39

[17] نفسه ص 47

[18] نفسه ص 50

[19] نفسه ص 50

[20] نفسه ص 53

[21] نفسه ص 54

[22] نفسه ص ص 57-58

[23] نفسه ص 60

[24] نفسه ص 74

[25] نفسه ص 76

[26] نفسه ص79

[27] نفسه ص 89

[28] نفسه ص 106

[29] نفسه ص111

[30] نفسه ص 113

[31] نفسه ص 115

[32] نفسه ص117

[33] نفسه ص 126

[34] نفسه ص130

[35] نفسه ص 134

[36] نفسه ص135

[37] نفسه ص 137

[38] عرف ميشيل فوكو السلطة بالقول: "يبدو لي أن السلطة تعني بادئ ذي بدء علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة للمجال الذي تعمل فيه تلك القوى، مكونة لتنظيم تلك العلاقات. إنها الحركة التي تحول تلك القوى وتزيد من حدتها وتقلب موازينها بفعل الصراعات والمواجهات التي لا تنقطع". ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، الفكر العربي المعاصر، العدد33، 1985-1984

[39] عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسية والمواطنة، م. س ص141 

[40] نفسه ص 145

[41] نفسه ص 153

[42] نفسه ص151

[43] نفسه ص156

[44] نفسه ص 158

[45] نفسه 160

[46] نفسه ص161

[47] نفسه ص 163

[48] نفسه ص170

[49] نفسه ص 183

[50] نفسه ص 185

[51] نفسه ص 197

[52] هي الإيديولوجية التي روجت لها مؤلفات فرانسيس فوكوياما، خاصة في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير".

[53] نجد هذه الفكرة ثاوية في أعمال صمويل هانتغتون خاصة كتابه صراع العمدة صرع الحضارات.

[54] يعتبر المفكرون الماركسيون أن المواطنة التي ظهرت في الدول الليبيرالية تتخذ طابعا رسميا، يرتبط بالأفراد المنتمين للبرجوازية دون غيرهم، ويمكن تلمس ذلك في النصوص الفلسفية الأولى لكارل ماركس خاصة النص المعنون بـ "المسألة اليهودية"، فحقوق الإنسان حسب هذا الأخير لا يمكن فصلها عن حقوق المواطن، لذلك يبدو التمايز الذي تتم إقامته بين لفظتي الإنسان والمواطن فارغ من أي معنى ولا يحمل أية دلالة: "أي إنسان هذا الذي نميز بينه وبين "المواطن"؟ لا أحد غير عضو المجتمع البرجوازي.(...) فحقوق الإنسان التي نفصلها ونميزها عن "حقوق المواطن" ليست إلا حقوق عضو المجتمع البرجوازي أي الإنسان الأناني، حقوق الإنسان المنفصل عن "الإنسان وعن الجماعة".

Voir: Karl Marx ; La question Juive, éd Plon, paris 1968. P 37

[55] عبد الإله بلقزيز، الجماعة السياسية والمواطنة، م.س ص 204

[56] نفسه ص 208

[57] نفسه ص 211

[58] نفسه ص 214

[59] نفسه ص 218