قراءة في كتاب: "السرد الديني والتجربة الوجودية" تأليف: سعيد بنكراد
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب: "السرد الديني والتجربة الوجودية"
تأليف: سعيد بنكراد
القصص القرآني هو من أروع ما يوجد في القرآن، لا من حيث المضمون ولا من حيث البناء، وكذلك طريقة عرض القصة داخل النص القرآني ككل، ومن غير أن نعود للخلاف الذي دار بين العلماء المتخصصين في علوم القرآن حول قضية ترتيب القرآن؛ إذ هناك خلاف حول الترتيب هل هو توفيقي أم توقيفي، والمقصود هل ترتيبه على هذا النحو، هو اجتهاد من الصحابة رضوان الله عليهم، أم ذلك وحي من الله، حيث إنه ورد في بعض الأحاديث ما يشير إلى أن الرأي الثاني هو الراجح، هذا الخلاف يؤثر بكل تأكيد على شكل بناء القصة داخل القرآن، إذ كثيرا ما طرح إشكال لِمَ لَمْ تأت قصص القرآن مجتمعة كما في الكتب السالفة، وخاصة التوراة، حيث إن كثيرا من القصص تجد أصولها هناك، لا سيما قصص الأنبياء، الرأي الراجح يرى أن عرض القصة القرآنية بهذه الكيفية، جاء لهدف خدمة السياق؛ أي في كل مرة يتم الإشارة إلى الجانب المهم من القصة الذي يخدم السياق القرآني، غير أن هذا لا يعني عدم قراءة هذه القصص وكأنها قصة واحدة، وهذا يعطيها بعدا جماليا أكثر، خلاف الطريق الأولى التي تعطي الأهمية للمضمون على حساب الشكل، غير أن صاحب الكتاب الذي هو موضوع هذه القراءة، قد أفاد وأجاد في هذا الموضوع، حيث إن هذا الكتاب يعدّ ذا طابع خاص، سواء من حيث الأسلوب الذي كتب به، وكذلك طريقة معالجة بعض القصص التي انتقاها المؤلف بعناية شديدة، الأستاذ سعيد بنكراد، ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعامل فيها مع النص الديني، أو يحاول تقديم قراءة تأويلية في بعض النصوص الدينية، حيث إنه يؤكد في كتابه ذا كما في غيره من الكتب، أن قراءته لا تروم تقديم تفسير لمعاني النص، بقدر ما هي قراءة جمالية في أسلوب النص، وهذا يتوافق وتخصصه في السيمائيات، ومن ثم قد أبدع ببعض القراءات السابقة، مثل المساهمة في تقديم قراءة لمناسك الحج بطريقة رمزية جميلة، هناك سؤال يمكن أن نطرحه قبل الخوض في مضمون هذا الكتاب، وهو هل القصة القرآنية هي فعلا تحكي وقائع حدثت بالفعل، أم أنها تحكي وقائع رمزية أكثر منها وقائع تاريخية، أم جمعت بين كلا الأمرين؟ هذا إشكال عويص وتصعب الإجابة عنه، غير أنه لا بد من التأكيد من القول الجريء للمؤلف هنا، حيث يرى أنها وقائع رمزية، أكثر منها وقائع حقيقية حدثت بالفعل، وحسب رأيه هذا لا يقلل من شأن النص القرآني، ولا يمس تجربة المؤمن، بل هو يعضدها.
يتألف الكتاب من ستة فصول، بالإضافة إلى مقدمة طويلة بعض الشيء، اختار المؤلف أربع قصص، وهي كالآت: قصة إبراهيم، عارضا من خلالها قراءة في رمزية الماء والنار؛ إذ هما أهم ثيمات في القصة، ثم قصة سليمان، عارضا من خلالها قراءة في رمزية العرش، حيث إنه يمثل رمزية في القصة، وهو أهم ثيمة فيها أيضا، ثم قصة يوسف، ورمزية الإغراء، وأخيرا قصة موسى وحبال السحرة. وأما الفصلان الخامس والسادس، فقد خصصهما لقراءة في قصة الخلق، حيث عرض من خلالها قراءة في رمزية الزمنية والجنس المقدس، وأخيرا في الفصل السادس، عرض قصة النار بين القدسي والاستيهام الجنسي.
رمزية النار والماء في قصة إبراهيم
يروي لنا القرآن مشاهد من سعي إبراهيم عليه السلام للبحث عن الحقيقة، فقد وردت آيات تتحدث عن حديثه مع أبيه وإنكاره عليه عبادته للأوثان، كما وردت آيات أخرى تروي غضبه وميله إلى حيلة تكسير الأوثان، ليجعل الناس يدركون حقيقة ما يعبدون، كما وردت آيات تحدثنا عن علاقته بالنمرود الذي يمثل الإنسان المتجبر، الذي يمنع الناس من ممارسة حقهم في البحث عن الحقيقة، غير أن المقطع الأشد كثافة في التعبير عن الحالة الوجدانية لإبراهيم عليه السلام كما يرى صاحب الكتاب، هو تلك الآيات التي تروي لنا كيف أنه حينما جن عليه اليل، نهض باحثا عن الحقيقة، وبدأ يتأمل الأفلاك والكواكب، فاحصا إياها واحدا بعد آخر، ليكتشف أنها لا تصلح أن تكون دليلا عن الحقيقة، بل إنها تأفل، ومعنى ذلك قد يكون أنها لا تأثير مباشر لها في الواقع، كيف لإله لا يتدخل في الكون.
إنها قصة معبرة، حتى إن بعض الفلاسفة يجعلون أن بداية التفلسف بدأت مع إبراهيم عليه السلام، وهذا نستشفه من قصته في القرآن؛ إذ نرى أنه كيف طبق منهجا منقطع النظير، ورفض أن يخضع لعادات قومه، لما رأى فيها من تضليل، وجحود للحقائق التي يدركها العقل، كما أنه استرشد بعقله في البحث عن هذه الحقيقة، وهذا واضح سواء من خلال حديثه مع النمرود أو من خلال حديثه مع أبيه، ولجوئه لحيلة تكسير الأصنام. إنه بهذه الطريقة جعل قومه يدركون أن هذه الآلهة التي يعبدونها لا نفع لها، قصة إبراهيم عليه السلام إذا أخذناها من جانبها الرمزي، فإنها قد تتكرر في كل زمان، كما أنها لا تعود لها علاقة بالإيمان فقط، بل كما أسلفت هي قد تكون حاديا للبحث عن الحقيقة، هذا البحث الذي لا زال يشغل الفلاسفة والعلماء إلى اليوم في جميع الميادين، وهو وراء تطور الإنسان واكتشافه لعلوم جديدة؛ إذ لولاه لما تطور، السؤال وراء حقيقة الوجود هو المحرك الأساسي لتطور الإنسان، جميع العلوم تقريبا تروم الإجابة عن هذا الأمر إن بطريقة أو أخرى.
سليمان والعرش
إذا كانت قصة إبراهيم يمثل فيها البطل رجلا كباقي الناس، غير أنه نبي بطبيعة الحال، لكنه لم يكن زعيم قبيلة أو قائدا؛ بمعنى أنه لم يكن له أي دور اجتماعي، فإن الأمر مع سليمان على خلاف ذلك؛ فمند بدء القصة نجد فيها إشارة إلى قوة سليمان الذي وهب من الملك ما مكن له في الأرض، ومن الإيمان ما سخر الله له به ما في الكون، حيث إننا نجد كل شيء مسخرا له، من ذلك الرياح، نجد الطير من ضمن جنده، حتى إن الفضاء الموصوف في القصة أخلي من جميع عناصر الوجود الثانوية إلا ما يدل على عظمة ملك سليمان، العرش، الخيول، الريح، وكأننا أمام تركيز الضوء على نقاط معينة هي المراد إظهارها في الإطار العام الذي ينقل الصورة للمشاهد، كما أن ذكر حيوان مثل النمل أو الهدهد فيه إشارة إلى ما تختزله هذه الحيوانات من رمزية في ذاكرة الشعوب.
في القصة نفسها، نجد في مقابل عظمة سليمان هناك عظمة أخرى، سليمان سخر له الريح والطير، كما أنه كان ملكا عظيما، وهذا تشير إليه أيضا قصة الذين احتكموا إليه، حيث إنهم كانوا يرون فيه أنه ملك عادل، كيف لا يكون وهو الذي يمثل التوحيد في الأرض، هو بالإضافة إلى أنه ملك هو نبي أيضا، غير أن قوة المرأة حتى وإن كانت قوية مثله إلا أن قوة زائفة، وفي الإشارة إلى أنها غير موحدة دلالة على ذلك، ولهذا أراد سليمان أن يجعلها تخضع لسلطانه، وفي القصة إشارة إلى حكمتها؛ لأنها أسلمت في آخر القصة، قصة سليمان تحكي لنا قصة المُلك، والعبرة منها أن المُلك لا يدوم إلا إذا كان حقا، والتوحيد في القصة هو رمز شرعية المُلك، ولهذا المرأة من حكمتها أنها لما أرادت أن يستمر ملكها أسلمت.
قصة يوسف أو الوقوع في غرام الضيف
قصة يوسف عليه السلام هي القصة الوحيدة التي ذكرت كاملة في القرآن الكريم، لهذا تشجعت بعض الشركات وأنتجتها على شكل مسلسل، ذلك نظرا لما في هذه القصة من عبرة من حيث المضمون؛ إذ نجد أن يوسف عليه السلام في القصة قد تعرض لخيانة من أقرب الناس إليه أخواته، غير أنه أبى أن يذيق أحدا هذا الألم، وإن كانت خيانته إن فعلها ستكون من نوع آخر؛ وذلك حينما دعته امرأة العزيز فأبى، فأصبح يوسف ملك مصر، غير أن الحبكة في القصة رائعة. إننا نجد البطل والذي هو يوسف عليه السلام قد تنبأ بداية بما سيقع له، فحكى لأبيه ما رآه، وكأنه بحدسه استطاع التنبؤ بمصيره.
في جميع قصص الأنبياء كما في قصة يوسف أيضا، نجد أن هناك تخليصا للبطل في آخر الحكاية، غير أن هذا التخليص يكون بتدخل من السماء، حيث إن البطل يلتزم بما وعد به من قبل الله، في الأخير يكون الجزاء، ولا يمكن للبطل في القصة أن يخسر، أو تنتصر عليه قوى الشر، وربما هذا المغزى منها؛ إذ نجد كثيرا من المفسرين قديما يشيرون إلى أن ذكر هذا القصص القرآني جاء لتسلية النبي، وذلك جراء ما كان يلاقيه من قومه؛ فالقصة تروي دوما كيف أن المتشبث بدين الله، أو القيم التي التزم بها، في الأخير ينال الجزاء، وهذا هو المعنى الأساسي الذي جاء به الدين. إنه يختبر مدى استطاعة الإنسان الالتزام والتغلب على قوى الشر فيه التي يحفزها الشطيان. أما الجزاء، فإنه لا محالة قادم، ولهذا القصص لم تسلّ النبي فقط، بل تسلّ جماعة المؤمنين في أي زمان، كلما واجهتهم محن وكوارث، لكن كل ذلك لا ينفي شرطية الإنسان الطبيعية؛ أي إنه لا بد له من الأخذ بالسبب الطبيعي، وهذا واضح في قصص الأنبياء.
موسى وحبال السحرة
موسى بطل آخر، في بيئة مختلفة مع عدو مختلف، والعبرة مختلفة بكل تأكيد، في قصة موسى نجده يواجه قوى الشر تدعي أن عندها معرفة، غير أن هذه المعرفة زائفة، لهذا تكون مهمة موسى عليه السلام هو أن يخلص الناس عن طريق التوحيد من هذه المعرفة الزائفة، وهذا تبرزه الآية التي تشير إلى أن هؤلاء إنما سحروا أعين الناس؛ أي إنهم أضلوهم وجعلوهم يخضعون لحقائق واهية لا أساس لها، والتي بسببها هم مستعبدون، هذا بالإضافة إلى تخليص قومه الذين كانوا يمثلون التوحيد، فقد كانوا مستعبدين من قبل فرعون ومضطهدين.
الكاتب لم يتتبع جميع المقاطع التي تروي قصة موسى عليه السلام في القرآن وهي كثيرة، بل هناك جانب يحكي قصته كيف دخل إلى قصر فرعون، وهذا يمثل قدرة الله الذي يتحكم في الكون، وفي مصير الأحداث؛ إذ جعل موسى يكبر في قصر فرعون، كما هناك آيات تحكي قصته كيف خرج من مصر، كيف نجاه الله وقومه إلخ، كل مقطع يرد في سياق معين لتعزيز المعنى العام له، وبذلك يؤدي وظيفته.