قراءة في كتاب "الشخصية المغربية: تأصيل وتأويل" للمؤرخ الطيب بياض

فئة :  قراءات في كتب

قراءة في كتاب "الشخصية المغربية: تأصيل وتأويل"  للمؤرخ الطيب بياض

قراءة في كتاب "الشخصية المغربية: تأصيل وتأويل"

للمؤرخ الطيب بياض

لا يمكن لأي قراءة أن تفي حق هذا المنجز العلمي والإحاطة بجميع جوانبه الظاهر منها والمستبطن، بالنظر إلى مستويات التركيب والتكثيف التي يتضمنها الكتاب من جهة، وكذا لتعدد وتنوع المسارات والرؤى التي تم توظيفها لسبر أغوار الشخصية المغربية في أبعادها التاريخية المختلفة من جهة أخرى. فعلى عكس ما يوحي به لأول وهلة حجم الكتاب من صورة خادعة لدى القارئ (90 صفحة من الحجم المتوسط) - أو بالأحرى 70 صفحة تقريبا لموضوع الكتاب، إذا ما استثنينا الصفحات المخصصة للإهداء والشكر والتقديم والبيبليوغرافيا والفهرست - فإن مضامينه الثرية تجبر القارئ على إعادة قراءته أكثر من مرة والوقوف بتأنٍّ عند كل فقرة وكل صفحة، وتفرض عليه استحضار كامل تركيزه وانتباهه، ليكتشف أن ما كُتب في 70 صفحة هو عصارة فكرية وعلمية مركزة لخصت في جوهرها الكثير من الأحداث والتفاصيل كما أكد ذلك المؤلف في تقديمه للكتاب.

عنوان الكتاب أيضا مصدرٌ آخر للاندهاش!! وحيث إن "مبدأ المعرفة هو السؤال، وشرط السؤال الاستفهام، وحافز الاستفهام الاندهاش... فالأفراد والمجتمعات التي لا يسكنها الاندهاش لا يمكن أن تبلغ المعرفة، المعرفة الحقيقية التي ينتهي إليها الإنسان بذاته، لا معرفة الآخرين التي تُخزن وتُنقل كبضاعة..." على حد تعبير الأستاذ حسن أوريد في روايته (زينة الدنيا)، وبالتالي يطرح السؤال: ما علاقة المؤرخ بمفهوم الشخصية؟ هذا المفهوم الذي تخصصت في تحليل أبعاده المتعددة والمعقدة بكثير من العناء الدراسات النفسية والاجتماعية. يجيبنا الأستاذ الطيب بياض سريعا في مستهل كتابه بمقولة معبرة جدا للمؤرخ الفرنسي مارك بلوك "نقول أحيانا: التاريخ علم الماضي، يا له من كلام سيئ، وإنه لأمر سخيف أن يكون الماضي في حد ذاته موضوعا للعلم (...) في الواقع تعلمنا منذ زمن طويل، من خلال شيوخنا العظماء من أمثال ميشلي وفوستيل دو كولانج أن ندرك أن موضوع التاريخ بطبيعته هو الانسان (...)، أو لمزيد من الدقة ينبغي الحديث عن الناس في الزمن (...)، فالزمن بطبيعته مستمر، لكنه دائم التغيير أيضا، ومن تناقض هذين الميسمين اللذين يسمانه، تنشأ الإشكاليات الكبرى للبحث التاريخي."

ينتهي الاندهاش عند هذا الحد حين ندرك بأن التيمة المركزية لانشغالات المؤرخ هي الإنسان، وبالتالي فإن البحث في ماهية الإنسان المغربي وتشكل شخصيته عبر الأزمنة يندرج في صميم اهتمامات المؤرخ، دون إغفال التقاطعات التي يستوجبها هذا البحث مع باقي العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى.

ولتأكيد هذا المنحى؛ أي القناعة الراسخة لدى الأستاذ الطيب بياض بانتمائه إلى اتجاه يؤمن بتكامل العلوم وتداخلها وتفاعلها، يكفي الوقوف في بداية الكتاب عند الورقة التي تحمل عنوان "اختمار فكرة وتتويج مشروع" والتي تعتبر تقديما للكتاب وقراءة عميقة لمحتواه وأسباب نزوله، ولم يكن كاتب هذه الورقة سوى الدكتور خالد الحياني أستاذ علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء ومدير المكتبة الجامعية محمد السقاط، هذه المكتبة التي احتضنت البذرة الأولى لميلاد هذا الكتاب من خلال الدرس الافتتاحي الذي قدمه في رحابها الأستاذ الطيب بياض بتاريخ 09 يناير من هذه السنة تحت عنوان: "تشكل الشخصية المغربية عبر التاريخ". وفي تقديري، فإن هذا الاختيار لم يكن اعتباطيا بقدر ما يؤشر على العلاقة التكاملية بين المؤرخ وعالم الاجتماع، وهو ما يعيد التذكير به الأستاذ خالد الحياني في ختام ورقته التقديمية: "(...) وأنه (ويقصد الأستاذ الطيب بياض) لم يكن مهووسا بالأحداث ولا متقوقعا على ذاته، بل كان يطرح موضوع الشخصية المغربية كملتقى طرق لحقول معرفية مختلفة، مع الحرص على أن يُعْتَمد المنهج التاريخي في باقي التخصصات للتأصيل للشخصية المغربية وتأويل "نفسانيتها" بلغة عبد الله العروي، والإمساك بـ "الهابيتـــــوس" المهيكل لها بتعبير بيار بورديو."

يُقدم الأستاذ الطيب بياض للإشكالية التي يطرحها موضوع الكتاب من خلال زاويتين، الأولــى بطرح سؤالين في غاية الأهمية حول الإنسان والمجال: ما معنى أن تكون مغربيا؟ وما معنى أن ينشأ هذا المغربي في "جزيرة"؟ ستكون الإجابة عنهما محور تمرين معمق وبديع رام فيه المؤرخ من جهة، اقتفاء أثر الشخصية المغربية داخل سياقها الزمني على المدى الطويل الذي تشكلت فيه، مع استحضار فطنة المؤرخ في توظيف المصطلحات والمفاهيم والمسميات التي رافقت كل حقبة زمنية، ملتزما بــ "الوازع الإبستيمي" الذي نبّه إليه الأستاذ إبراهيم بوطالب. ومن جهة أخرى، تَوْقُهُ العلمي لأن يكون ما يقدمه للقارئ إسهاماً نوعياً وقراءة متفردة ذات قيمة مضافة وجديدة في حقل بحثي جد معقد، وهو ما نجح فيه الأستاذ الطيب بياض بشكل بارع، حيث أجاد في تبسيط موضوع الشخصية المغربية لقرائه عبر آليات تفكيك وتحليل واضحة ولكن بمستويات من التركيب والتكثيف لا يقدر على فك مرتكزاتها سوى المتمكن والمختص.

الزاوية الثانية في طرح الإشكالية كانت هي الهاجس المنهجي وتحديد العدة النظرية، وهو القلق الذي قض مضجع المؤرخ منذ ميلاد فكرة الكتاب، كيف لذات أن تكتب عن ذاتها بموضوعية وحياد؟ هل هناك من سبيل للانفلات من ضغط الثنائيتين المتعارضتين: الذاتية والموضوعية، الوجداني والعقلاني؟ سجل الأستاذ بياض عبوره الآمن لهذه الهواجس في مقدمة الكتاب، حيث يقول: "يتعلق الأمر بكتلة مشاعر وجملة عواطف مستبطنة نحملها في وعينا ولا وعينا تجاه الفضاء الذي ننتمي إليه، والذي قد يبدأ بالبيت وينتهي بالوطن الجامع، تلعب دور المُوَجه بشكل لا شعوري، فتفعل فعلها لتحجيم مساحة الموضوعية بعد أن تكون قد أوحت للذاتية بالتسلل، ولو عبر مسام دقيقة، إلى أعمالنا حول ذواتنا." ويستطرد: "ولعل الوعي بانغراسها في عقلنا الباطن والإقرار بمفعولها المغناطيسي اللاإرادي، هو المدخل السليم للحد من تأثيرها على فهمنا الموضوعي لما نروم دراسته، من منطلق الحرص على بناء معرفة تاريخية تتمتع بقدر محترم من المصداقية"، وهو ما نجح فيه الأستاذ بشكل متميز وبحرفية المؤرخ المتمكن، حيث استطاع بأريحية تجاوز المطبات المنهجية التي يطرحها الموضوع، وقد أسعفه في ذلك تعاطيه الفطن مع الدراسات والأبحاث المتعددة الحقول التي لامست الموضوع بمستويات وخلفيات مختلفة وتميزه النقدي في تحديد الرصين منها وتلك التي اصطبغت بميولات أيديولوجية تخدم استراتيجيات استعمارية أو حتى رهانات وطنية.

هذه الصرامة في تحديد العدة النظرية والمنهجية المعتمدة لطرح الموضوع عززه المؤرخ في تقديم الإشكالية بسلسلة من التساؤلات والاقتباسات التي أكدت حذره المنهجي في التعاطي مع القراءات ذات البعد الاستعماري أو الانجذاب الوطني، حيث اعتمد على بيبليوغرافيا متنوعة وغنية ومن حقول معرفية مختلفة زاوجت بين التاريخي والأنثروبولوجي والسوسيولوجي ونتائج الأبحاث الأركيولوجية... وغيرها. ومن هذا المنطلق، وظف الأستاذ الطيب بياض على نحو ذكي منهجا حفريا تفكيكيا تتبع من خلاله المساحات الخفية التي ظلت بعيدة نوعا ما عن نطاق التفكير في المسار التاريخي لتشكل الشخصية المغربية، أوما سماه المفكر محمد أركون "دائرة اللامُفكر فيه"، مع ما تتطلبه الكتابة التاريخية من تمحيص للحقائق واستقصاء للأسباب وتماسك في الأسلوب واالاكتفاء بالتفاصيل الوثيقة الصلة بالموضوع، وهو ما يؤكد التزام الأستاذ الطيب بياض بالمنهج العلمي في رصده لمختلف التجليات التاريخية للشخصية المغربية والتقعيد لها.

لعل أهم ما يميز هذا الكتاب تناوله التاريخي للشخصية المغربية من خلال بعدين رئيسين يشير إليهما العنوان الفرعي للكتاب: التأصيل والتأويل، حيث خصص الكاتب حيزا مهما لتتبع أصل الإنسان المغربي في سردية تاريخية محايدة تجاوزت الأطروحات التي تؤرخ لبداية هذا الإنسان بقدوم الإسلام إلى هذه الربوع وأن أول كيان مغربي كان مع إدريس الأول، أو تلك التي توزعت آراؤها في تحديد أصل البربر بين أوروبا والشرق الأوسط... إلى تحديد البدايات من خلال النتائج التي خلصت إليها الأبحاث الأثرية والأركيولوجية، التي أكدت للعالم بأن "هذا المجال الجغرافي الذي يقع في أقصى الشمال الغربي لإفريقيا هو مهد الإنسانية المعاصرة وموطن أقدم إنسان عاقل"، حيث تم اكتشاف أقدم إنسان عاقل (Homo Sapiens) بجبل إيغود بإقليم اليوسفية ويعود إلى 300 ألف سنة. وتابع الكاتب مسعاه التأصيلي مقتفيا تحول وتطور هذا الإنسان عبر مختلف الأزمنة والحضارات التي صقلت شخصية المغربي بصيغته الحالية.

إلى جانب هذا التقديم الخبري لأصل الإنسان المغربي، خص الأستاذ الطيب بياض جزءا من دراسته لتأويل هذه الشخصية في أبعادها المختلفة من خلال تحول فذ من تقصي الأخبار إلى إنتاج الأفكار، انتقال رصين من السردية التاريخية إلى التحليل والنقد ثم الـتأويل والتثمين والفهم.

في هذا السياق يقول الصحفي والكاتب يونس مسكين في قراءة له للكتاب بعنوان "خميرة وطن": "...لا يقوم المؤرخ الطيب بياض بأي نقد أو تقليل من قيمة هذه الذات، بل على العكس تماما، لأنه يستعين بخلاصات علمية آتية من مجال الأركيولوجيا والآثار، ليعطينا فكــــــرة لا تشم فيها رائحة المزايدة أو المغالاة أو الانتصار للذات، عن غنى هذا الإنسان الذي يقال له اليوم "المغربي"، بفعل ما تراكم في موروثه الجيني من طبقات سميكة من التجارب التي تؤهله لأن يكون "جد" الإنسانية".

ولعل التعاطي النقدي والتحليلي للشخصية المغربية ككيان خاضع للسيرورة التاريخية ولد فهما خاصّا لدى المؤرخ، بسط من خلاله أفكاره بكل سلاسة دون تسجيل أيّ تجاوزات لمربع الموضوعية. وقد ركز على عنصرين هامين في رصده لتشكل الشخصية المغربية الجماعية: ثقل التاريخ وملتقى الحضارات، إضافة الى التراكم الثقافي بين المحلي والوافد، حيث شبه هذه الشخصية في صورة صخرة رسوبية تشكلت عبر الأزمنة في طبقات من مختلف المواد منحتها مع الوقت قوة وصلابة، وهو تعبير عن تنوع وغنى الروافد والمكونات التي تسم الشخصية المغربية، شخصية لها القدرة على تدبير الأزمات حسب وضعياتها والاستفادة من انكساراتها وهزائمها قبل انتصاراتها ونجاحاتها، قدرة فريدة ساهمت في خلق هوية لاحمة لهذا الإنسان.

غيــر أن حاضر الإنسان المغربي لا يعكس هذا التفاعل المنتج للإنسان مع الطبيعة والجوار، والذي من المفروض أن يكون منطلقا لنهضة تنموية تشمل جميع المجالات. وفي الحقيقة، فقد شكل هذا الواقع منطلقا لفكرة الكتاب ودافعا للأستاذ الطيب بياض للتقصي عن أبعاد الشخصية المغربية، حيث أشار في العديد من اللقاءات والحوارات التلفزية إلى رحلته الأكاديمية لبلاد التنين، والتي سمحت له بالاحتكاك المباشر بالإنسان الصيني، وما شكله ذلك من "صدمة" حسب تعبيره دفعته إلى التساؤل حول مسار النهضة الصينية الحالية والتي اكتشف أن وراءها شخصية صينية استفادت من مقوماتها ومنظومتها القيمية وتراكم حضاراتها وتاريخها الغني، ترجمها الصيني إلى مبادئ وقواعد حياتية يحكمها الالتزام بقيمة الأخلاق وقيمة الوقت وقيمة الصدق في العمل والإنتاج...وكانت الحصيلة طفرة كبيرة حققت نموا وتقدما اقتصاديا وثقافيا ينظر إليه العالم الآن بنوع من الرهبة والاندهاش.

وقد كان هذا الاستنتاج مدخلا طرح من خلاله الأستاذ الطيب بياض مقارنة بين الإنسان الصيني والإنسان المغربي، وكيف أن قواسم مشتركة عديدة تجمع بينهما: ثقل التاريخ وتجدر الحضارات، تعرضهما لنفس الهجمات الخارجية التي حاولت طمس هويتهما، موقعهما الجغرافي المتميز...إلخ. فكيف لم تسعف هذا المغربي مثل هذه العناصر لخلق طفرة تنموية تسمو به إلى مصاف الأمم المتقدمة؟ وكيف يمكن لهذه الشخصية التي تصالحت مع ماضيها أن تهب للمصالحة مع حاضرها ومستقبلها؟

إذا كان الأستاذ الطيب بياض قد أجاد في استثمار عدة نظرية ومنهجية متنوعة وجديدة، فإنه لم يغفل جانب اللغة، التي لطالما نلمسها في كتاباته. فالمعرفة تبقى ناقصة بدون كتابة، والكتابة تتموضع بين اللغة والأسلوب، بفضلها يختار الكاتب ويلتزم، فهي مجال للحرية والالتزام في نفس الوقت. لقد كتب الأستاذ بياض كتابه هذا، كتابة تاريخية متفردة، بلغة راقية امتزجت فيها الانسيابية والسلاسة الأدبية، بالصرامة العلمية والأكاديمية، بوعي تاريخي دقيق وحس نقدي عميق، ومقاس فهم مجدد للبحث التاريخي.

إن اللغة تؤثر بشكل كبير في صنعة المؤرخ، والأسلوب الأدبي يضمن للمعرفة التاريخية حفاوة الاستقبال والموقع الحسن في نفوس القراء، مما يؤدي إلى تفجير مكنونات البحث التاريخي، وهو ما أكد عليه كل من مارك بلوك وميشيل دوسيرتو وجابلنكه، هذا الأخير يعتبر التاريخ أدبا معاصرا، ولابد للكتابات التاريخية أن تولد النشوة لقرائها.

ولعل الأستاذ بياض نجح بأسلوبه هذا في تأليف سمفونية معرفية جعلت القارئ ينتشي ويستمتع بها، مسافرا على نغمات اللغة والمفاهيم وصولا إلى توليد نص متناغم المقامات.

ختاماً، لا يمكن لجاحد إنكار التراكم المعرفي المتنوع الحاصل في دراسات المؤرخين للشخصية المغربية، ولا يمكن لقارئ حاذق ومتفطن تجاهل نجاح الأستاذ بياض في القبض على ما ظل منفلتا عن الفهم في تاريخ المغرب والنفاذ إلى كثير من دهاليزه السفلية، وقد بصم بذلك على مقاربة جديدة في البحث التاريخي، راسما لنفسه مسارا معرفيا ينسجم وفهمه هو، ولا يشبه بالضرورة أحدا.

ليبقى كتاب "الشخصية المغربية: تأصــيل وتــأويل" منجزا فريدا في مضمونه مجددا في منهجه، فاتحا آفاقا رحبة للنقاش، ودعوة لمزيد من الدراسات والأبحاث.