قراءة في كتاب الفن والمقدس لأم الزين بنشيخة المسكيني: الفن ينازل التعصّب والدغمائيّة
فئة : قراءات في كتب
استهلال:
منذ عتبات النصّ الأولى، تفصح "أمّ الزيّن بنشيخة المسكيني"، في كتابها "الفن والمقدّس، نحو انتماء جمالي إلى العالم"، عن أفق معرفي تعرّض للغفلة والنسيان، وهو أنّه من مهامّ المفكّر أن يخوض "المعارك"، ومنذ البدء كان الفنّ وسيلة لمقاومة الشرّ، التوحّش والعنف المذهل والكابوسي. وتطالعنا العناوين منذ المقدمة، إلماعات وبوارق محيلة إلى هذا الهاجس والهمّ الذي تتغلغل فيه عميقا متّجهة مباشرة إلى حيث يجب أن تحفر، "المقدّس يغيّر عناوينه"، جراءة تنفرد بها في افتتاح نص، يشتغل على ما هو مرهف وخفيّ، ويحرّك ما هو ثاو وراء ظواهر الكَلم، وهي تعلم أن لا سبيل إلى درك ذلك على الوجه الذي تطمح إليه إلاّ بتنويع الجهات والمداخل، وتكثير القراءات تلو القراءات، وتغيير النهج والعصر، وتفصح عن عمق المسألة وغور الإشكال، عندما تتساءل عن "الذّاكرة التي علينا حينئذ الانتماء إليها ذاكرة الحروب الدينيّة، أم ذاكرة المعارك الحيويّة؟"[1]. وهكذا، فإنّها تشير إلى ضرورة أن نستبصر وجه الحضور الكثيف للمعضلات الموجّهة "كيف أرّخ المحدثون لفكرة المقدس؟"[2].
إنّ هذا الكتاب الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، سنة 2020 في 283 صفحة، "يحاول الانخراط في صلب برادايم تعدّد الاختصاصات، فتراه يترحّل بين فلسفة الدين والتأريخ لحرب الأيقونات وللتسامح التنويري (كما ورد في القسم الأول: الحداثة انتماء جمالي إلى العالم) ومجال فلسفة الأدب بما هو بحث عن المقدّس عبر معارك الاستعارة وكينونة المكتوب ورواية الأغنيات المخنوقة عبر فلسفة الشعر وأغنيات الغجر المخضّبة بأعراس الدم لدى لوركا (وهو ما جاء في القسم الثاني: الأدب والمقدّس) ومجال جماليّات الفنون التشكيليّة التي ترسم المقدّس تارة عبر التصوّف في الفنّ التجريديّ، وطورا في ضرب من صمت الملائكة أو عبر قداسة معارك الأرض أو كوجيتو السّلع (وهو ما ضمّه القسم الثالث، في عقد ينظم حبّاته خيط واحد: كيف نرسم المقدس؟)"[3]. وبالتّالي، ليس يمكن تدبّر هذا الإشكال ما لم نأخذ في الحسبان هذا المأزق المفارقي: "أي شكل من المقدّس يناسبنا في أوطان لا تزال تحيا أحيانا على إيقاع الذبيحة والطقوس القربانيّة"[4]، فتتمخّض عن هذا المنهج في التسآل نتائج تتعلق بـ "النصوص"، وما اندسّ فيها من "انتحالات" أربكت ممكنات أن نكون السعداء فـ "كيف يكون في وسعنا التصالح مع الثقافة العلميّة من أجل التحرّر من ثقافة الخرافة التي لا تفعل غير إنتاج كائنات هشّة ضعيفة خائفة من القدر؟"[5].
في سرديات التأسيس وإعادة خلق العالم عبر الطقوس:
تبوّئ ـ "أم الزين بنشيخة" الفن مكانة مركزية، إذ الشعوب والذّوات، في تقديرها، إنما رامت التعبير عن أفكارها ومشاريعها وانطباعاتها وآمالها وآلامها من خلال الفنّ. وما "الفنّانون الكبار" في الأغلب إلاّ أناس توغّلوا في عالم الوهم الجميل والأخيلة البديعة، وعادوا ليَرووا "القصص" عمّا رأوا، لأنّ الفن يجعلهم يروا ما انحجب ويبصرون ما انطمس، ثمّ يرتّد إليهم القول، خاسئا حسيرا، كسيحا، ولكنه جميل، فتتّسع الرؤيا. ولأنّ تلك "السور" التي تُتلى تتشامخ فوق مدن البشر، يصرّ "الفنان" على أنّ الله بخاصّة والمقدّس بعامّة ينتمي إلى ممالك حلم الحالمين، من جهة ما هو في كلّ مرّة إعادة تأثيث لعالم أضاع عمقه، وافتقد الحنان. إنّه لحظة إدهاش أولى، ينازل التعصّب والدغمائيّة في حسرة ماتعة وبهجة سارّة وفقا لإلماعات باهرة، من جهة ما هو "جوع هائل إلى المقدّس ينتاب الإنسانيّة الحاليّة، فيغرقها في دوّامات العنف المعمّم حينا، وفي متعة الأعراس والأعياد والطقوس والرموز التي لا يمكن لشعب أن يواصل الحياة من دونها".[6]
كتاب "الفنّ والمقدس"، يأخذك في رفقته لا تستطيع كبح لجام تلهّفك، ولا سيّما وهو ينفذ بنا إلى خبايا الزمن الجميل زمن الآلهة: في أحضان الفن ولدت، ولكنّه أيضا، يجعلنا نعود منهكين مقلقين إلى أراضي الأسئلة المحرجة والمحرقة، فنتلظى في أتون التسآل. ولعلّ ما يمكن أن يكون مدخلا ييسر الولوج إلى نص "أم الزين بنشيخة"، ويرفع التباس غرضه وغربة عبارته، إنّما هو التعلّق بالرّهان الكبير لهذا الكتاب: انتماء جمالي إلى العالم.
إنّه لحقيق بالقول، إنّ الكتاب غنم معرفي نفيس، وهو "يؤرّخ في لغة الضاد لما حدث من تحوّلات فلسفيّة وتشكيليّة وإبداعيّة في البرادايم الإستطيقي الكبير من كانط (...) إلى غاتاري"[7]. وليس في وسع المرء إلاّ أن يلحظ، إذا ما تعمّق النظر، كيف أن الباحثة إنّما لجأت إلى التأكيد؛ وذلك لكي يتسنّى لها فيما بعد أن تضيف ما دقّ من المسائل، وما لم يكن بدّ من التعرّض إليه فيها، وهو الذي لا يكون إلاّ في "صلب ضرب من الوضعيّة التأويليّة التي تحاول فحص المسافة بين النّصوص المكتوبة في لغة الغرب، والواقع الموقّع بحبر لغة الضاد الدمويّ في معارك ترتيب الذاكرة أو السطو على الماضي"[8].
إنّ ما يحتاج منّا إلى إرهاف حسّ بعيد المدى، هو ما تشير إليه "أم الزين بنشيخة"، والذي ينهض دليلا على أنّ دوركهايم "إنّما يوقّع نقلة منهجيّة نوعيّة في مجال الاشتغال على الظاهرة الدينية"[9]. بكتاب "الأشكال الأساسيّة للحياة الدينية"[10]، وهو ما لا يحتاج أن يعلم، بل أن يبصّر به تبصيرا هينا، فهو رمز تزداد قيمته، كلّما ازداد التركيز عليه؛ إذ هو "ينقلنا من الدّين سلوكا فرديا أو عقيدة إلى مفهوم الحياة الدينية"[11]. ولعلّ هذا الثراء النصّيّ سيصبح الدرب الطويل للتأمّل، فـ "لقد أثار هذا المفهوم جدلا فكريّا أثرى عميقا النقاشات في مجال تاريخ الأديان"[12]. وإنّه لمقتضى يقتضي منّا أن نستجلي أبعاد أطروحة دوركهايم، التي تذهب إلى أنه "من أجل فهم كيفيّة تكوّن الفكر الدينيّ، علينا العودة إلى الأصول الأولى لانبثاق المقدّس"[13]. لتستنتج أنّ هناك دلالات متنوعة مخبأة في الوجه الخفيّ للظواهر، ولا تمثّل سوى وجه لغزي ما دامت "الحياة الدينية للشعوب لا ترتبط ضرورة بديانات التوحيد؛ فكلّ الشعوب قد أنجزت حياة دينية خاصّة بها"[14]، وإنّه لممّا ينبئ أنّ "المجتمع هو المصدر الوحيد لكلّ مقدّس".[15]
ولو نحن تأملنا ما أسلفت الباحثة ذكره، لألفيناها تظهر لنا وعيا حادّا بثقل ما أورده السابقون؛ ذلك أنّ "الزمان المقدّس يولي أهمّية قصوى للأساطير الأولى، وسرديات التأسيس التي تروي كيف خلق العالم وكيف يعاد خلقه عبر الطقوس"[16]. إنّ هذا لمدلول لا يجوز إهماله، فـ"ليس ثمّة نصّ ليس منخرطا بالضرورة ضمن شبكة من التساؤلات التي هي في الوقت نفسه تساؤلاتنا الخاصة".[17]
والطريف أنّ "الفصل بين المقدّس والدنيوي كما عند "دوركهايم" وهذه الرّغبة في الأساطير والرّموز والقصص والطقوس ليست حكرا على الإنسان الدينيّ بالنسبة إلى "مرسيا إلياد"[18]. وحريّ بنا أن نشير إلى ارتباط أفق التسآل الغابر بأفق التسآل الحاضر، بل أن ننتبه إلى اندراج الأوّل في الثاني، "إذ هي تتجلى أيضا لدى الإنسان غير الديني أو العلماني الحديث"[19]. فما أحقّنا بشدّة التَبيُّن وحُسن الابتغاء بأنّ "هذا الإنسان غير الديني الذي أسّس الحداثة على ما سمّاه "ماكس فيبر" "نزع القداسة عن العالم". وبالتّالي، فلا تستغربنّ إن نحن بدأنا منذئذ ننظر إلى أنّ بين معارك الهويّة ومعارك الانتماء، هوّة دلاليّة لا غفران فيها لأيّ أحد"[20]. فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلا، فليأخذ له عَتَادهُ، فإنّه قد رام أمرا جسيما لا يصلح على غفلة، إذ إنّ "كلّ انتماء مغاير للهوية المنغلقة على ثوابتها، إنّما يشترط قيمة التسامح باحة لضيافة الآخر".[21]
ولمّا كان مقام هذا الطرح عالما رحيبا، فقد ارتأت أن تستشرف آفاقه باستعراض الرؤى التي وضّحها "مرسيا إلياد" الذي ذهب إلى أنّه "وعلى الرغم من تحرّره من أساطير أجداده هو لا يزال يحافظ على الإرث الديني"[22]. فإذا نحن قد أبصرنا بأنّ دوركهايم وإلياد، وقد رسما معا خرائط المقدّس الديني، فَلننظر كيف أنّ "المقدّس غيّر من عنوانه ومن خرائطه ومن المؤمنين به"[23]. وهذا موضع لابدّ من التمهّل عنده - فقد كادت هذه اللطيفة التي لابدّ أن يستشعرها الناظر الحصيف أن تتلاشى - فـ "لقد خرج المقدّس من حدود الدين من أجل أن يخترع لنفسه حقولا مغايرة: هو مقدّس الحياة اليوميّة نفسها".[24] وتجذيرا للمرجعيّات المعتمدة والوصول بالتحليل إلى أفق استطاعته، بل قل أقصى درجات الدقّة والصرامة والابتعاد عن التعميمات الكسلى والخطابات والحماسيّات العقائديّة. ههنا تشير الباحثة إلى أنّ هذه "اللّمع"، إنّما هي صياغة نظريّة مكثفة لما يقترحه "ميشال ليريس". إنّه "مقدّس خارج أسس المؤسسات الدينيّة"[25] الرسميّة وخارج الأطر الجماعوية، وهو مقدّس في متناول الجميع"[26]، وهو عين ما سيستأنفه فيليب وديفيد لريون في كتابهما "الصمت والكلمة"[27]، "حيث يقع تنزيل المقدّس فيما أبعد من الدين، وذلك بوصف المقدّس سابقا على ديانات التوحيد وبوصف الدين لا يجسّد سوى الطابع الإداري والمؤسساتي للمقدس"[28]. هكذا ستكون الرؤية ملفوفة بالخيال مشوبة بالوهم مفعمة بالأسطوري، لكنّ هذا لا يعني أنّه مجرد انسراح طليق للذهن يتجاهل الواقع؛ فـ "دور الفنان الشاعر خاصّة هو اقتفاء أثر المقدّس، وتأسيس ضرب جديد من التّسامح مع الصورة؛ أي مع الكلمة التي هي الربّ نفسه وقد تجسّد. وينبغي أن نشير إلى أنّ هذا النوع من التسامح الجمالي، إنّما يراهن تحديدا على المصالحة بين الفنّ والمقدّس بتحويل المقدّس إلى موضوعة فنية"[29]؛ إنّها لإدراكات تساق من أجل هدف بات أقوى تقريرا لتفهم المنهجيّة في تواؤمها المنتظم والفعّال، وقد وقعت طيّ الجحود والتعطيل، وإن كان الأقدمون قد أثنوا عليها ثناء لا مزيد عليه، "حيث لم تعد الأنعام أو الأبقار هي ما يجري نحرها، بل البشر هم القرابين الجدد تحت راية الإرهاب المعولم وفقر المخيال وسياسات الإنعاش الكلبيّة والعدميّة؟".[30]
نحو مقدس جمالي يصاحبنا في عالم العنف المطلق:
وإذا نحن أجدنا النظر، وجدنا أنّ "العالم الرأسمالي المعولم يسقط منذ عقد من الزمن في ضرب من البؤس الرمزيّ بتحويله ميدان الحياة كلّه إلى بضاعة"[31] ومن أمارات ما تقوله وتدلّل عليه، أنّها إنّما تسعى من وراء ذلك إلى استكشاف الآثار العميقة شديدة الأثر التي قد يؤدي بنا إليها "البؤس المعمّم"، وهي إنّما تترسّم السّبل بوعي الفكر الحادّ باستحالة التبادل بين "السلع الماديّة" و"الجواهر الرمزيّة". ويمكن أن ننظر إلى هذه الاستحالة على أنّ هذه السلع أو تلك، إنّما تنتميان إلى نظامين مختلفين غير متكافئين. وبالرّغم من ذلك، فالفنّ بعامّة والفنّان بخاصّة أضعف من أن يؤسّس - منفــردا - الإيمان بالإنسان وقيمته، بل الموقف، من جهة ما هو محصول يُؤهّل الفنّ والفنّان أن يتكلّم عن الناسّ وقضاياهم، وما يعتمل في ذواتهم من معارضة للسلطة: الدينيّة، السياسيّة والاجتماعيّة؛ فالسلطة تَحجب عن الإنسان ذاته وتحول دونه وفهم نفسه. وعليه، ترى أنّه ينبغي أن نعيد فتح "كتاب الفنّ" في كلّ مرّة تحدّيا لكلّ سلطة تَرهّب الكلمة والفنّ من جهة ما هو مــوقف، حتّى تفتح كثرة القراءات الوافرة والمهمّة صورته في أنفسنا.
إلاّ أنّ ما يلفت النظر، هو أنّ "المقدّس فكرة قديمة جدًّا، وربّما تكوّن أقدم الأفكار ظهورا لدى الإنسان".[32] وإمعانا في التحديد والضبط، تشير الباحثة إلى الأطروحة التي تذهب إلى "ظهور المقدّس تحت راية الألوهة الأنثى"[33]، والتي تعيد "التاريخ للمقدّس من وجهة نظر الألوهة الأنثى ضدّ كلّ أشكال السطو على التاريخ الإنسانيّ من طرف السلطة الذكوريّة".[34] ومن الملاحظ، أنّ الراهن إنّما يؤثثه تذوّق هذه "النصوص" من جهة ما هي تقول ما كنّاه، وما نطمح أن نكونه، وهي بالتّالي تفتح المسارب والثنايا، وإلاّ ضاع المعنى ما دامت تقف في مقام الدهشة، والحيرة عنها لا تزول؛ فـ "المقدّس قد ظهر أولا ضمن هذا المجتمع الأموميّ قبل هيمنة الذكور عليه"[35]. ونحن نروم الانتباه إلى هذا الذي ما يفتأ يتشكل، لينبجس على هيأة مغايرة في كل مرة، فيستبين الأمر جليا لمّا ندرك عودة المقدّس "من جديد مغيّرا من عناوينه، فهو مقدّس ما بعد دينيّ أو علمانيّ أو جماليّ أو مقدّس الحياة اليوميّة أيضا"[36]، هاجسه البحث في التعريفات التي مرّت بها فكرة المقدّس حديثا. إنّها مؤشرات تتضمّن إرادة الباحثة الكشف عن "مقدّس دينيّ ومقدّس خارج حدود الدين، وهي الفكرة التي ستتوسّع فيها وتزيدها تفصيلا، ممهّدة الطريق لنقدها. فأما الأولى، فقد وقّعها "دوركهايم" وأستأنفها كلّ من "كارل أتو"[37] و"مرسيا إلياد"[38]، وامتدت بجذورها في أرض تلك الطروحات، حيث يكون من الخطأ البالغ أن نحاول الفصل بينها، وأن نبحث أحدهما بمعزل عن الآخر، في حين ولدت الفكرة الثانية" لدى "ميشال ليريس"[39] ووجدت استئنافات مختلفة لها لدى جملة من المفكرين والكّتاب من بينهم "ألبارت لبيات" وفيليب وديفيد بروتون ضمن كتابهما "الصمت والكلمة"[40]. وقد ذهبت الباحثة، مذاهب بعيدة حين وقفت عند فكرة ثالثة تصل المقدّس بالعنف بتوقيع الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرار"[41]، غير أننا قد اعتدنا في نظرنا إلى الإشكال أن نراه منفصلا عن استتباعاته. ولكون هذه العلاقة وما يلابسها من مستجدات وتيمات دائما أكثر خفاء وصعوبة التماس وحاجة لمنهج نقدي قادر على الغور والتقصي، حاولت "أم الزين بنشيخة" بانتباه محترز وبطريقة تدريجية استنطاق أطروحة "جيرار". ولعلّ من أولى القرائن الإحالة الواردة على أنّه "ثمة علاقة جوهريّة ضروريّة بين العنف والمقدس، وهذا يعني أنّه علينا البحث عن مفهوم المقدّس ضمن العنف الأصلي للجماعات الإنسانية منذ القبائل البدائية إلى مجتمعات التوحيد"[42]. ولقد عُنيت وجهدت حتى الآن في إثبات ما ظلت تؤشر إليه باستلماح دلّل بشدة على ما يذهب إليه من أن "العنف أنتج المقدس؛ وذلك عبر الذبيحة التأسيّسية"[43]. ولعلّه لا ينحجب، ما في هذا الضرب من القرن الحميم بينهما، على كلّ شاهد، عاقل، غير متحيز، من ضرورة هدم "الهندسة الميتة" لدعاوى الأسلاف وللمناهج المعطاة تاريخيا، حتى تستطيع إمداده باستمرار بروح منهجيّة متنوعة ومتداخلة ومتعددة الروافد وأكثر حياة وفعالية.
ولمّا كان همّ "أم الزين بنشيخة" أن تؤكد ارتباط ذلك بالراهن، تخيّرت أن تستند إلى مفهوم انكَبّ "روجيس دوبريه" طويلا على تفصيله وبلورته، مفهوم "شباب المقدس"[44]، فينهض عندها حجّة تؤكّد أنّ الحداثة التكنولوجيّة الهائلة على خلاف - ما ذهب إليه بول ريكور - قد قامت خارج حدود العالم المقدس، وقد منحت المقدس شبابا جديدا. ولا يحسبَنّ أحد، من حُفَّاظ وخَزَنَة النصوص الذين ألفوا الرؤية من وجه واحد، وأقاموا في البعد الواحد، أنّ المقدس بقي هو هو، فما لا تؤهلهم وسائلهم النقدية لدركه، إنّما هو أنّ المقدس قد غيّر ههنا من معانيه. ولعلنا سنقر بهذا، إذا نحن حاولنا أن نتبين أن الأمر لا يتعلق بالمقدس الديني المطلق والدائم، بل بمقدس دنيوي علماني زائل وعرضي، سنقرّ أنّ كلّ عصر يصنع مقدسه بنفسه"[45]. وإمعانا في بيان مصدر هذا التواشج حتّى نتحرّاه، وضّحت بكثير من اليسر، أن الأدب عند جيرار "هو ضرب من مواصلة المقدس بطرق مغايرة"؛ ذلك أنّ الشيء الذي حرصت على التنبيه إليه، حتّى لا يقع إغفاله هو أنّ "المقدس بوسعه أن يغير تجسيداته؛ فلا يكون حينئذ من المغالاة في شيء أن تتحدّث عما تسمّيه بـ"الاعتناق الروائي" الكفيل بتوجيهنا نحو مقدس من نمط جمالي يجد في الروايات الحديثة بوصلة له".[46]
ولعلّه جدير بنا أن نوضّح في هذا المستوى، أنّ المسألة يمكن أن تقرأ قراءتين؛ قراءة عادية ميكانيكيّة آلية باردة، وقراءة تجعلنا نعيد صياغة "الأحداث" و"الحكايا" و"السرود" و"الأوهام" و"الأحلام" حينئذ، يكون القارئ منشئ ممكنات تفتح آفاقا واسعة. وحتى يصبح الإبصار بالموضع الذي تصدر عنه ممكنا، لا يسعنا إلاّ أن نذكّر بأن "أم الزين بنشيخة" لم تكتف منذ البداية بتبنّي طروحات نظريّة متداولة، بل تبنّت نسيجا من صيغ مكثفة متناسقة تضرب بجذورها في منابع ومدارات معرفية متباينة، تُهيئ شروط إمكان حدث مبني ورؤية تتجلّى، لفهم "النوازل" عن طريق اكتناه تجسدها النصيّ. فـ"بوسع الأدب إذن، أن يوجهنا نحو مقدّس جمالي يصاحبنا في عالم العنف المطلق القائم على الحقد والكراهية العاجزة"[47]. والبحاثون الذين يبرهنون بإسهاب على عكس ذلك، إنما يتناسون أن "الأدب هو الوجه المشرق من الكارثة"[48]. وتلك إرهاصات عتبة أخرى، قول تفتتح به القسم الثاني من الكتاب "الأدب والمقدس" "لست أنت من يتكلم، بل أترك الكارثة تتكلّم فيك، حتى وإن حدث ذلك في نسيان أو صمت"[49]، لترتسم آفاق أخرى من المعنى.
وما من ريب في أنّها، في الأصل، رؤية كالوحي ما دامت هي من نتاج الخيال - ألم يتحدّث النقاد قديما عن شياطين الشّعراء - ولكنها ليست مجرد وهم، من جهة ما هي لا تنفلت أبدا من تجربة الحياة. وقد لا يكون من الغريب عندئذ أن "شهدت ساحة الأدب حركة كثيفة تحوّلت فيها الكتابة إلى ضرب من المستودع الكبير لأحلام الشعوب وآلامهم، لخيباتهم وأوهامهم لأفراحهم الصغيرة وبقايا أيامهم"[50]. ولسوف، نرى كما لو أن الجواب شديد الوضوح أو مستحيل الصياغة، فأن "تكتب هو أن تمنح شكلا للزمن وتلك هي أطروحة "ريكور" واعتبار الأثر الأدبي نصا وليس فضاء؛ وذلك معنى أن المرور من الفضاء إلى النص مرور من المكان إلى الزمان"[51]. حالتئذ، يستبين أنّ إحدى العبارتين أحسن وأفصح من الأخرى، وبالتالي يتعيّن اقتفاء الآثار التي لم تنطمس "فالفضاء مفتوح على فضاءات في حين أنّ الزمان هو تجربة تأويليّة تاريخيّة. فحين نقول إنّنا إزاء نصّ، معناه أنّ ثمّة تأويلا وثمّة أفق معنى وثمّة هويّة سرديّة، لكن حينما نتكلّم عن فضاء أدبي، معناه أنّنا نتكلم عن كينونة من نوع استثنائي، وعن غياب الكاتب عن كارثة نكتبها بقلق اللغة"[52]. فيسهل فهم بعض الظواهر وتمثيل وقياس ما نعلمه بعقولنا على ما نراه بأبصارنا. و"لقد انتبه المفكرون منذ لوكاتش وبنيامين وسارتر وبلانشو إلى أهمية هذا المنعرج الأدبي للفكر المعاصر فالتحقوا بالرواية".[53]
إنه لمن اليسير علينا أن نعلم أنّ الحاجة تظهر إلى الرواية الحديثة التي ولدت، لكي تمنح الإنسانية التي مات فيها الربّ نماذج جديدة من التعلق بالمقدس".[54] ولقد غلط أولئك الذين زعموا أنّ معارك الاستعارة[55] مجرّد معارك لغوية أو ألسنية. ومصدر الغلط في عدم دقّة المفاهيم والمقولات والمصطلحات والمفردات؛ ذلك أنّ مدار "المشكلات"، "إنّما هي في جوهرها معارك فلسفيّة حول مصير الفلسفة نفسها، هل يمكن الفصل بينها وبين الخطابة والشعر".[56]
وإنّه لمن الطريف أن نشير إلى أن السرد[57] يتّخذ ههنا معاني عديدة "حيث يشترع كلّ سرد عالما أمامه هو عالم النص الذي يجد في الزمان مناظرا له. وقد أفلحت الباحثة وبطريقة مهيبة في أن تقتفي آثار السرد وتكشف مسار معنى السرد، وهو يتمكّن من النفس فضل تمكن، لترفع السّتور عما كان يكابر ويتوانى؛ فـالسرد هو أيضا مهمّة العلم. وعليه، فإنّه يتعين علينا أن نؤمن أنّ العلم بدوره أضحى "إحدى سرديات المستقبل (...) فالعلم سرديّة جماليّة أيضا حسب "ميشال سار"، وذلك بوصفه يقصّ علينا تاريخ العالم"[58]. وهكذا، فإنّه حقيق بنا أن نحاول إعادة استبصار دلالة العلم الذي "لم يعد ممكنا بوصفه موسوعة، إنّما بوصفه سردية كبرى"[59]. ووظيفة السرد هي إعادة التوازن لعلاقة مختلة. وقد بان الأمر وظهر جليا، في أثناء ما استجرأت عليه الباحثة من أن هذه السردية للعلم، إنما تراهن "على ضرورة جعل العلم متاحا للعموم من أجل توسيع دائرة المؤمنين به، والمنتمين إلى أفقه معا"[60]. وما استفادته المعارف والعلوم وما انجلى في تضاعيف انفتاح بعضها على بعضها، فـ "حينما يفكر العلم، فهو يعبر حتما عبر القصيد والحب والرياضيات بوصفها طرقا للحقيقة في عصر فقد ثقته في إمكانية الحقيقة نفسها"[61]. وبقدر ما اجتهد "دارسون" كثر في إجلاء مضامين "العلم"، غفلوا - في معظمهم - عن رصد هذا التداخل والانشباك بينه وبقية المعارف و"الآمال".
لقد حاولت "أم الزين بنشيخة" رصد خفايا هذا "التساكن"، وسعت إلى استنطاق ما انحجب فيه من تواشج رؤى، وإن لم يكن في ذلك استغلاق عصيّ على الفهم، فإنّه كان ممّا يقتضي مكابدة الإحالة المتعددة الأبعاد. وفي هذا السياق، يأتي السؤال - الذي تثير الباحثة من خلاله في أذهاننا عدة أسئلة، أو هو بالأحرى ينبغي أن يثير في أذهاننا أسئلة - على نحو يروم التأسيس: "كيف نسكن آمالنا بشكل بهيج، وكيف نخترع مناعة ضدّ ثقافة اليأس التي تنشرها بيننا والخراب"[62]. وإذ قد تبين ذلك، فقد يستلزم "العمل على توجيه عقولنا ومخيالنا نحو أسئلة المستقبل التي تدوّنها اليوم العقول الحرّة بالإبداع والفن والعلم"[63]. وهكذا يجب أن يكون لنا من الاستعداد الفكري الذي يفتح "أفق انتظارنا" لحسن تلقي الاكتشاف الرشيق لـ "فتحي المسكيني" من أنه "يمكن للإيمان الحر، بما هو باحة تأويلية لأشكال حديثة من اختراع الانتماء إلى ذاكرتنا في عصر ما بعد ديني"[64]. وإذا تأملنا الصيغة، عرفنا أنه إنما "يريد تحرير العلاقة البشرية بفكرة الله من سلطة الأديان التقليدية. وما يهمنا من هذه الفكرة الاستكشافية هو قدرتها على توجيهنا ضمن المجال الجديد للمقدس بعد الديني"[65]. وبنا إلى هذا كلّه حاجة شديدة، فهذا الفعل سيفعل فعله، ويخلّف أثره القويّ في ما تلاه، ولا سيّما أنّ حالنا انحدرت إلى ما انحدرت إليه.
خاتمة:
"الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم"، نصّ متجذّر في فعل يغتني على الدوام، بلذة وبشدة رائعة من تعقيد وتشابك وتداخل بين اللغة والفكر والاقتصاد والسياسة، يصدر عن ضمير مثقل وملّوع بما يكابده ويعانيه الناس. ليقدح العزم على سلوك صرامة الفكر النقديّ والعقلانية التي تتوخّى فصلا حادا ومريرا، لا يتماهى والتحجّر؛ فـ "الحاجة إلى بدء جديد، إنّما تقتضي استعادة ثقتنا في أهمّية العلم بوصفه أفقا لتطوير منسوب الذكاء في أوطاننا من جهة وبوصفه طريقا أساسيا لبناء الإنسان على نحو إيجابيّ مرّة أخرى"[66]. ولأنها تدرك أننا مدينون للمتخيلات المهزوزة، تعاود "تأمّل" تلك اللّحظات الموغلة في القدم بين العلم والشعر، وما أصابه تشويش وتشكيك لتظهر أن "أصل المقدس الأوّل، إنّما هو في جوهره حبّ أو عبادة للحبّ في نوع من العودة الرمزيّة لـ "فينوس" جديدة تخلق العالم من جديد على إيقاع تنويعات ما تبقّى من الحب في حضارة تصحّر المشاعر"[67]. ولأنّها تؤمن أنّ لـ "الحلم" أشكالا وإيقاعات تخرج من المستحيل والعجائبي، وتنفلت من إسار المدهش، تراهن في لمحات نادرة - (وهو ما تجلّى بشكل كثيف في الخاتمة التي اختارت لها عنوانا موحيا: الفن وعد بالسعادة) - على أنّ "وحده مقدس من نمط جمالي سيخرجنا من طوارئ التاريخ وأهواله"[68]. ما دامت "السعادة هي أن تتمتع بالوجود المقتدر والخلاّق لشيء ما قد كان من وجهة نظر العالم أمرا مستحيلا كما أظهر "باديو". وهكذا، فقد حاولت "أم الزين بنشيخة المسكيني" الوصول بالتحليل إلى درجاته القصوى، فكشفت أبعادا فاعلة بشدّة فريدة، باهرة خفية تضيء السبيل لتقول جازمة: "من أجل ذلك ينبغي تأصيل الذات مرّة أخرى في معنى مغاير من أجل أن تكون "السعادة شعور الذات بوصفها استثناء محايثا".[69]
[1] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، مؤمنون بلا حدود، بيروت، ط1، 2020، ص 23
[2] نفس المرجع، ص12
[3] نفس المرجع السابق، ص25
[4] نفس المرجع السابق، ص12
[5] نفس المرجع السابق، ص 48
[6] نفس المرجع السابق، ص09
[7] نفس المرجع السابق، ص22
[8] نفس المرجع السابق، ص23
[9] نفس المرجع السابق، ص 12
[10] Durkheim, E, les formes élémentaires de la vie religieuses, le système totémique en Australie 1912, Paris, CNRS, éd 2008.
[11] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص 12
[12] نفس المرجع ص12
[13] نفس المرجع السابق، ص12
[14] نفس المرجع السابق، ص12
[15] نفس المرجع السابق، ص13
[16] نفس المرجع السابق، ص14
[17] نفس المرجع السابق، ص180
[18] نفس المرجع السابق، ص14
[19] نفس المرجع السابق، ص15
[20] نفس المرجع السابق، ص 19
[21] نفس المرجع السابق، ص 30
[22] نفس المرجع السابق، ص15
[23] نفس المرجع السابق، ص 15
[24] نفس المرجع السابق، ص 15
[25] Leiris Michel, le sacré dans la vie quotidienne (1938) Paris, éd, Allia, 2016
[26] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص15
[27] Le Breton Philippe et David, le silence et le parole, contre les exees de la communication, Paris, ERES, 2017
[28] نفس المرجع السابق، ص 16
[29] نفس المرجع السابق، ص 119
[30] نفس المرجع السابق، ص12
[31] نفس المرجع السابق، ص10
[32] نفس المرجع السابق، ص10
[33] نفس المرجع السابق، ص 11
[34] نفس المرجع السابق، ص 11
[35] نفس المرجع السابق، ص 11
[36] نفس المرجع السابق، ص 10
[37] Rudolf Otto, le sacré (1917), Paris, Payot 1995
[38] Eliade Marcia, le sacré et le profane (1957), Paris, Gallimard, 2001
[39] Leiris, Michel, le sacré dans la vie quotidienne. Op. Cit.
[40] Le Breton Philippe et David, le silence et le parole Op. Cit..
[41] GIRARD René, la violence et le sacré (1972), Paris, Pluriel 2011
[42] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص 16
[43] نفس المرجع، ص16
[44] Debray Régis, Jeunesse du sacré, Paris, Gallimard, 2012.
[45] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص 17
[46] نفس المرجع، ص 17
[47] نفس المرجع السابق، ص 17
[48] نفس المرجع السابق، ص 17
[49]Blanchot, M, L’écriture du désastre, Paris, Gallimard, 1980
[50] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص 124
[51] نفس المرجع، ص 126
[52] نفس المرجع السابق، ص 126
[53] نفس المرجع السابق، ص124
[54] نفس المرجع السابق، ص 145
[55] Ricœur, P, la métaphore vivre, Paris, Seuil, 1975
[56] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص 148
[57] Ricœur, P, temps et récit, Seuil, 1984- 1991. 3V.
[58] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص 24
[59] نفس المرجع السابق، ص 52
[60] نفس المرجع السابق، ص 52
[61] نفس المرجع السابق، ص 52
[62] نفس المرجع السابق، ص 75
[63] نفس المرجع السابق، ص 24
[64] انظر، فتحي المسكيني، الإيمان الحرّ، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، 2018، ص221/ 248
[65] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص20
[66] نفس المرجع السابق، ص48
[67] نفس المرجع السابق، ص 25
[68] Girard, B, la conversion de l’art, Paris, champs, Essais, 2008, p14
[69] أم الزين بنشيخة المسكيني، الفن والمقدس، نحو انتماء جمالي إلى العالم، ص 275