قراءة في كتاب "اللاهوت" لعبد الجواد ياسين
فئة : قراءات في كتب
يستأنف المستشار عبد الجواد ياسين في هذا الكتاب العمل في مشروعه الفكري، والذي بدأه في "السلطة في الإسلام" وكتاب "الدين والتدين"، ليكون كتاب اللاهوت بمثابة المتمم النظري وعيّنة الاختبار المثالية لفكرته التي طرحها بشكل موّسع في "الدين والتدين"؛ ففي "اللاهوت" يعمد ياسين على اللجوء لمنهج علمي أنثروبولوجي وظيفته اختبار الفكر الديني التوحيدي من حيث سياقات النشأة الاجتماعية واللاهوتية، وعلاقة كل منها بالآخر في الحيز الزماني والمكاني الواحد وبالآخر المفارق لهذا الحيز.
لكن ما يجعل من "اللاهوت" مناسباً لشريحته المُستهدفة هو عدم الاكتفاء بالبُعد الوضعي فقط، إنما يتجه للبحث في البُنى اللاهوتية بمنهج جدلي يجمع بين المتناقضات ليخرج لنا بالفكرة الأكثر مُقاربةً لواقع الأمور؛ إذ يقابل بين العقل الوضعي والعقل الديني ولا يتحيّز لأي منهما، ويقابل بين الأنثروبولوجيا واللاهوت، ولا يتوقف عند أي من المُتقابلين، لكنه يخرج منهما بفكرته الأصلية التي يختبرها، وهي أن هناك دينًا (المُطلق - الأخلاق)، وأن هناك تدينًا (لاهوت - تشريع)، وأنه يصعب فصل كل من الجانبين عن الآخر بشيءٍ من البساطة.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في اللاهوت العام: بنية اللاهوت، وفيه يناقش منهجيته الفلسفية ومصادره القديمة في الشرق الأدنى.
الفصل الثاني: في السياق التوحيدي العام: النسق الكلي وتباينات اللاهوت، وفيه يناقش تطور اللاهوت التوحيدي الكتابي في اليهودية والمسيحية.
الفصل الثالث: في السياق الإسلامي الخاص: لاهوت الإسلام، وفيه يناقش تطور النسق الإسلامي ومصادره التي اعتمد عليها، سواء أكانت توحيدية كتابية أم عربية جاهلية، وأصل كل منها وكيف أثر في تشكيل هذا التصور.
مقدمة منهجية
يبدأ الفصل الأول بالسبب الأساسي للبحث في قضية "اللاهوت"؛ فالعقل الديني يُنكر التعامل مع الدين على أنه صنعة اجتماعية بحتة، والعقل الوضعي ينُكر المُطلق ويراه كتخيل في وعي ولاوعي الديانة ولا يتعامل إلا مع الجانب الاجتماعي من الظاهرة، ومن هاتين المقدمتين المتناقضتين نخرج بنتيجة تركيبية جديدة، وهي "أننا لا نعرف المُطلق إلا داخل العالم، بمعنى أنه لا يتجلى إلا بالتمثل في الاجتماع من خلال التصور".
يرتكزالنسق التوحيدي على ثلاثة عناصر (الذات_المُطلق_الوحي) ومن تفاعل العناصر الثلاثة ينتج اللاهوت؛ فالذات المُتلقية للمؤسس الأول ينطبع عليها صورة اللاهوت الهابطة بواسطة الوحي، وينقل لنا المؤسس تلك الصورة دون زيادة أو نقصان، فالذات البشرية هُنا بحسب العقل الديني ليست فاعلة، وإنما هي صفحة بيضاء يتم نقش الرسالة الدينية عليها لأول مرة، بإهمال كل العوامل الإنسانية والظروف الاجتماعية المحيطة بتلك الذات، وبذلك لا يُلزم العقل الديني نفسه بأي ربط بين الرسالة وشبكة الدلالات اللغوية، وبنى العلاقات الاجتماعية المؤثرة في الرسالة، حتى لا يتم وصمها بأنها إنسانية، وأنها تعرضت لهدر في النقل أو انحراف عن مسارها المُطلق.
بينما يرتكز النسق الوضعي على عنصرين أساسيين في تأمل الظاهرة (الذات_الموضوع)؛ فالذات الإنسانية مرت بعدد من التطورات النظرية داخل السوسيولوجي والأنثروبولوجي حتى تم اعتبارها فعّالة بشكل فردي قياساً إلى المجتمع؛ فمع أوجست كونت وإيميل دوركهايم سيتم اعتبار أن الدين هو تصور المجتمع عن نفسه لضمان وحدته وهويته داخل أُطره الخاصة، فيقول دوركهايم: "الله هو المُجتمع وقد ألَّهَ ذاته"، وتنتقل النظريات الوضعية حتى أهم الأنثروبولوجيين، مثل سميث وفريزر وحديثهم عن دين طقوسي ذي مسار تطوري، فمن خلال ممارسة الذات لعدد من الطقوس والممارسات ينشأ اللاهوت من خلال علاقة (تصعيدية) يتم فيها استدعاء الموضوع، وهو المعُتقد اللاهوتي (فكرة الإله) وليس الإله نفسه، وعلى الرغم من أن المنهج الوضعي يبدو عاجزاً في كل مرة عن تفسير نشأة الأديان التوحيدية الثلاثة وتقاربهم من ناحية الأفكار، إلا أنه مع منتصف القرن العشرين ومع ظهور الفلسفات الهرمينوطيقية والفينومينولوجية التي يتم فيها إعادة الاعتبار للذات الإنسانية والشعور الداخلي والتصور الذاتي، لتصبح المناهج المتبعة في دراسة الظاهرة الدينية هي الأنثروبولوجية الفلسفية كما تبدأ من عند رودولف أوتو ومرسيال إلياد وميشيل ميسلان وغيرهم.
ينشأ اللاهوت بحسب عبد الجواد ياسين نتيجة انفصال أنطولوجي بين الذات وموضوع التصور في المقام الأول، ذلك الانفصال هو ما أمكنه أن يُكرّس عتبة فاصلة بين الديانات البدائية الطقوسية القائمة على الطوطمية (الديانات الطبيعية)، وبين الأديان القائمة على تصورات بشرية حول الإله والكون والإنسان، وعلى الرغم من نقده للنظريات الأنثروبولوجية التي تدفع في هذا الاتجاه إلا أنه يقبل هذة النظرة على اعتبار أنها قد بدأت بفترات طويلة قبل اليهودية، لكننا لا نملك أية مادة قابلة للتوثيق، إذ حدث الانفصال نتيجة لحركة التطور الأنطولوجي بين الذات الواعية بذاتها في مقابل الموضوع وتفاقم الفردانية أمام الموضوع الاجتماعي والطبيعي والرغبة في السيطرة عليه.
قبل أن ينطلق ياسين في تحليل اللاهوت التوحيدي ومصادره، يحدد عدداً من الأسئلة والإجابات التقريبية لتعيين عدته وأدواته التي تساعده في العمل على مادة البحث. على سبيل المثال: إن كانت الذات في اللاهوت هي مركز التصور ومصدر الخطاب، فكيف يحدث التصور فيها ابتداءً؟ وإن كانت صفحة بيضاء، فلماذا تتعدد التصورات اللاهوتية بتعدد المؤسسين، رغم أن موضوع التصور(المطلق) واحد؟
يتبنى ياسين موقفاً عقلياً لا-تجريبياً، يحاجج فيه بأن الذات مركب من جانب حسي غريزي وجانب عقلي إرادي، من دوافع وقدرات جسدية ودوافع وقدرات نفسية، مما يجعل الذات فاعلة وتُمكنها من فرض ذاتها وإرادتها على المدركات الخارجية وإستيعابها ومعالجتها والإخبار بها بشكل خصوصي جدًّا، وهو الأمر الذي يسمح بوجود تنوعات لاهوتية عِدة، بل وحتى وجود تنوعات داخل التصور اللاهوتي الواحد على خلاف دائم من تصور المؤسسة التي تتحدث باسم الديانة، ونتيجة لوجود العامل الذاتي الفردي تنشأ العديد من الصدامات بين الذات والذات الاجتماعية، وتتنوع بين التبني والنفي التام.
أما بالنسبة إلى موضوع التصور (الله / المطلق) فالمنحى التجريبي أو الوضعي لا يعتبره معرفة، إنما مجرد إيمان (نزوع تذوقي أو شاعري)، ليُصبح موضوع المعرفة هو فعل الإيمان بالإله وليس الإله نفسه. بالنسبة إلى العقل الديني تعتبر تلك التفرقة شكلاً من أشكال السفسطة اللغوية، لأن الدين لا يُفرق بين المعرفة والإيمان، لكن ياسين يعود فيُسائل العقل التجريبي إن كانت المعرفة تجريبية وحسية بالضرورة، فكيف تتكون لدينا تصورات لاهوتية عن الإله؟ وهنا لا تخبرنا الأنثروبولوجيا كيف تنشأ تلك الأفكار والتصورات، إنما تُخبرنا فقط كيف يتم تناقلها.
ليبقى الوحي هو العنصر الأكثر إشكالية بين العقلين الديني والوضعي، فالعقل الوضعي ينظر للوحي على اعتباره عُنصرًا لاهوتيًا بالأساس؛ بمعنى أن الوحي مفهوم إنساني نابع من داخل الاجتماع، وخاضع لتفاعل الذات مع الإدراكات الخارجية من خلال ملكات الإدراك؛ أي إن الوحي لا يزيد عن كونه علاقة تصاعدية يقوم بها العراف أو الكُهان من خلال ممارسات طقوسية للتنبؤ بالمستقبل والتواصل مع كيان ما مُفترض وتم تطورها، حتى أصبحت في شكلها التوحيدي كما نعرفها، بينما العقل الديني يرفض تلك الرؤية التطورية والاجتماعية ويعتبر أن الوحي هو تواصل مباشر بين الله وشخص بشري مُعيّن خلال لحظة زمانية ومكانية مُحددة، وهو اتصال (هابط) وليس صاعداً كما في ممارسات العرافة والتنجيم ومن ثم لا يمُر بأية مراحل تطورية أوهيمنة اجتماعية، فالعقل الديني لا يكتفي بالفطرة أو التأمل الذاتي، وإنما لا بد من وجود وحي يُسلّم البشر كل تفاصيل الديانة في الاجتماع البشري.
وهنا يقدم ياسين اعتراضه المُجمل على العقلين؛ فالعقل الوضعي لايمكنه اختبار قضية الإيمان (الوحي_الإله) لأنه لا يمتلك أية أدوات تجريبية تمكنه من فحص تلك المعطيات، فيقع في مشاكل موضوعية تُبين تحيزه والبراديغم العلمي الأوروبي الخاضع له وموقفه الخاص من المسيحية، بينما يقع العقل الديني في مشكلة إضفاء الإيمان على وقائع تاريخية واجتماعية لا يملك لها أي توثيق، فيقع في مشكلة (فيض المعنى) يتم عندها الحط من مكانة الإنسان والذات وفاعليتها لصالح المُقدس، وهو خلاف الواقع.
ففي النهاية تُعتبر منهجية ياسين في كتابه اللاهوت موقفاً وسطاً بين الأنثروبولوجيا والفلسفية العقلية؛ فالفلسفة تُبين لنا تناقضات الأنساق لكن لا تشرح مصدرها، بينما تُقَدِّمُ الأنثروبولوجيا لنا مراحل تكون النسق وتطوراته، وبمزجهما معاً يُمكن مقاربة الموضوع بشكل أكثر دقة وأقل تحيُّزًا وتحضر فيه المصادرة في حدودها الدنيا.
اللاهوت العام
اللاهوت بالنسبة إلى عبد الجواد ياسين مجموعة التصورات البشرية عن المُطلق أو هو تعاطي المُطلق داخل الاجتماع، ليتم تناقله والتفاعل معه داخل الحدود الجغرافية والثقافية التي يقع فيها هذا المجتمع أو ذلك، فيُحدد ثلاثة أنساق من التديّن أنتجت اللاهوت التوحيدي العبري كما نعرفه، وهذه الأنساق هي نسق التديّن المصري والكنعاني والميزوبوتامي (نسق ما بين النهرين) حيث يحتوي كل نسق تديّن على عدد من العناصر جرى تطويرها في اللاهوت التوحيدي.
لقد جمع نسق التديّن المصري القديم عددًا كبيرًا من المتناقضات، بين التوحيد التجريدي الخالص وبين التعددية التجسيمية، وبين أول الأفكار عن المعبد والكُهان والعرافين والقصص النشكونية، لكن في قلب تلك التناقضات تقع فكرة الملك الإله؛ فالملك كانت له قوى الآلهة مثل "حو" النطق المقدس و"سيا" المعرفة المقدسة و"حكا" القوة المقدسة والسحر؛ وفي الدولة الحديثة صار تأليه الملك عقيدة راسخة تُوجه إليه العبادة والطقوس، فبمجُرد تتويج الملك يُصبح تجسُّداً للإله أو تجليًا له بحسب ما نعرفه من وثائق، لكنه في نفس الوقت يتحلى بكل الصفات البشرية، أي يُمكننا القول بأنه حلقة الوصل بين البشر والآلهة، نقطة الاتصال بين الذات والموضوع بشكل تصاعُدي، وهي الفكرة التي سوف تتطور إلى النبي مع اللاهوت العبري، ومع وساطة الكُهان والعرافين داخل المعبد أو خارجه في شئون الحياة اليومية تم تنبي فكرة حضور الإله واهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية والظروف الاجتماعية، وليس فقط تمجيده خارجها، وهي أيضا الخاصية التي سوف تُميز النسق العبري.
وفي نسق التديّن الكنعاني الأكثر تأثيراً في السياق العبري بحكم الجغرافيا، كانت التعددية هي السمة الغالبة على هذا النسق؛ فالميثولوجية الأوغاريتية تحكي عن الإله "إيل"، وهو إله شخصي يسمى بالقوي والثور والملك، وهو في نفس الوقت رحيم ومقدس، وهو الذي سوف يُعرف فيما بعد بالإله "يهوه" العبراني، ومن نسل إيل خرج بعل وقام بينهما صراع انتهى بهزيمة إيل واستئثار بعل بزوجتيه. حكمت الميثولوجية الكنعانية التصورات البشرية عن الإله، فلكل إله معبد وعدد كبير من الأنبياء المتحدثين باسمه والمتوسطين بينه وبين البشر، وكما يتحدث مرسيا إلياد: "النبوة الوجدية الإسرائيلية تغوص جذورها في الديانة الكنعانية"؛ فمن تلك الممارسة الوجدية وتدوين تاريخ الشعب وأساطيره وهويته سوف ينشأ اللاهوت العبري.
أما فيما يتعلق بنسق تدّين ما بين النهرين، وهو من أهم وأقدم الأنساق في المنطقة وأكثرها تأثيراً نتيجة لتجاور فترة النسق العبري الذي يبدأ بإبراهيم مع فترة تواجد المملكة البابلية في الجنوب والأشورية في الشمال، اشتمل التدين الميزوبوتامي على عدد كبير من المجامع الإلهية وامتزاجها بعناصر طقوسية وممارسة العرافة والتنجيم نتيجة لخبرة سكُان المنطقة بالنجوم والفلك ومعرفتهم الكوزمولوجية، لكن أهم ما ميّز هذا النسق من التدّين هو فكرة "المدينة"، فنشأة المدينة البابلية رافقتها أسطورة نشكونية تحكي حكاية بداية الخلق من العماء (chaos) بالإضافة إلى أهم وثيقة قانونية مكتوبة، فقوانين حمورابي (BC1792- 1750) وفي الوثيقة أمر إلهي صادر لحمورابي بإقامة العدل في الأرض وتسليمه عدد من القوانين، هذة الفكرة التي سوف يتم تطويرها مع الأنبياء العبرانيين لتصبح "الشريعة"، وهي مجموعة القوانين الإلهية لتنظيم حياة شعب الرب كما يراها.
ينتهي ياسين إلى أنه من خلال هذه الأنساق الثلاثة وأهم عناصرها تكونت ثقافة التوحيد الحصري في شكله اليهودي ثم المسيحي والإسلامي، ثم يُحدد ثلاثة عناصر أساسية شكّلت اللاهوت التوحيدي، ومرت بمراحل من التطور والانفصال حتى وصلت إلى الأشكال الثلاثة التي نعرفها، وأهم تلك العناصر التي يُناقشها الكتاب بكثيرمن التوسُّع هي (الشعب_الأنبياء_النص) من خلال مستويان للمقارنة: مضمون الوحي، آليات التواصل.
اللاهوت التوحيدي الخالص
يتأسس اللاهوت التوحيدي في أشكاله الثلاثة على ثلاثة عناصر محددة جرى عمل تخريجات وتموضعات جديدة لها مع كل دين إبراهيمي؛ فالقراءة اللاهوتية والفلسفية تبدأ موضوع الدين من المُطلق لكن القراءة التاريخية تبدأ من نقاط مجتمعية كالشعب والسلطة والدولة وغيرها.
كانت فكرة "الشعب" أو الأمة موضوعاً للوحي العبري من البدايات للدرجة التي يصعب معها تحرير النص التوراتي في بداياته من حمولته الاجتماعية واستخلاص؛ أي رسالة خاصة بالمُطلق، فالرب كان معنياً في المقام الأول بالشعب الإسرائيلي، وليس بأي شعب آخر بشكل مخالف لكل الأنساق السابقة، فالوعد الإلهي لإبراهيم وإسحاق ويعقوب (آباء الشعب) كان مُحدداً في شكله بتكثير الذُرية وتمليكها مساحة من الأرض، وكذلك في قصة الخروج فقد أرسل الرب موسى إلى فرعون، ليطلق شعبه وليس للتبشير بالله أو دعوته إلى الدين ولكن لإنقاذ شعبه فقط، يقول في سفر الخروج: "وتقول له: الرب إله العبرانيين أرسلني إليك قائلاً: أطلق شعبي ليعبدوني في البرية" فالرب لم يكن للشعب المصري ولا لهداية فرعون، وإنما ربّا للشعب اليهودي ومُهلِكًا لكل أعدائه الذين حولوا حياة المصريين إلى جحيم من إطلاق الضفادع والبعوض والذباب وتحويل النهر إلى دماء، فكما يقول ياسين: "كان الشعب غرض الوحي الواضح منذ اللقاء الأول"؛ فقد تبنى الرب هذا الشعب قبل أن يؤمنوا به أو يعرفوه وقال لموسى: "وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم" في إشارة لآباء الشعب بأنهم لم يعرفوه، وإنما عرفوه بـ "إيل"، وسوف يستمر تحيّز الرب للشعب حتى بعد استقرارهم في كنعان واختيارهم لملك (شاول) والذي أصبح نبياً، ليس هذا وفقط، وإنما صار مناصراً أوحد للشعب يؤيدهم في جميع حروبهم ومذابحهم التي ارتكبوها ضد ساكني المنطقة من الموآبيين والأراميين.
في الشكل الأول للاهوت التوحيدي العبري كان حضور الاجتماع مُقتصراً على الشعب العبري هو الفكرة الجوهرية التي أخذت في التحول مع المسيحية بوصفها انشقاقًا لاهوتيًا ورسالة عالمية لجميع البشر والشعوب، فالإله العبري كان إلهاً إثنياً مُميِّزاً للشعب ومحدداً لهويته من بين كل الآلهة التي تحدث عنها العهد القديم في صورته الأولى، وهي الملامح التي سوف يتخلص منها لاحقًا، حيث يُصبح مفهوم الأمة الشامل لجميع البشر هو موضوع اللاهوت في المسيحية والإسلام لاحقًا.
ظهر مصطلح "النبي" لأول مرة في السياق العبري، فيصف العهد القديم الوسطاء الروحانيين في ثقافة الكنعانيين بالأنبياء، ويقول: "فالآن أرسل واجمع إلي كُل إسرائيل إلي جبل الكرمل، وأنبياء البعل أربع المئة والخمسين، وأنبياء السواري أربع المئة الذين يأكلون على مائدة إيزابل." يختلف النبي بحسب الاستعمال العبري عن الرائي، فالرائي يتلقى الوحي من الإله من خلال الحلم ويُبلغه للبشر، لكنه لا يتضمن أي مضمون لاهوتي ولا يشير إلى نشاط دعوي، على عكس النبي الذي يتحدث عن رسالة ذات مضمون كلي، إلا أن وظيفة النبي ما زالت تحتوي على خصائص الرائي مثل التنبؤ بالمستقبل والانفعال الوجدي والتواصل عن طريق الأحلام، فبشكل ما كان الأنبياء العبرانيين نموذجًا مُتطورًا من الرائين المنتشرين في تلك المنطقة، إلا أن أهم ما يُميّزهم هو مجيء رسالتهم بمبادرة من الإله. ينقسم الأنبياء العبرانيون إلى أكثر من رتبة (أبناء الأنبياء)، أو ما يمكن تسميتهم بأنبياء القصر، وأنبياء المعبد الذين يعملون مع الكهنة بغرض تأميم نشاط التدين الشعبي واستمرار عمل المؤسسة الكهنوتية التي نشأت قبل الهجرة إلى كنعان، حيث نشأ المعبد لأول مرة وتم تعيين هارون في منصب الكاهن الأكبر وتخصيص المنصب لأبنائه (اللاويين) بالوراثة، تُقام في هذا المعبد طقوس هي أقرب للروح الشرقية التعددية منها إلى التوحيد، حيث يتم تقديم الأضاحي واستطلاع إرادة الرب من خلال القرعة الأشبه بأزلام الجاهلية.
ومن خلال الأنبياء المجاورين للمعبد أوالمنشقين عنه سوف تنهل المسيحية محتوياتها وتحولها إلى كنيسة، حيث لا تعتمد بشكل منفرد على الكتاب المقدس، وإنما على سلطة الكنيسة وتتوقف حاجتها لهذا الكم الكبير من الأنبياء والرائين، وتنتهي الحاجة لضرورة إصدار التحذيرات من الأنبياء المزيفين الذين يرسلهم الرب لاختبار الشعب.
وأما "النص"، فكان ظاهرة فريدة من نوعها في التدين العبري مقارنة بكل سياقات التدين التي عاصرها، سواء المصرية أو البابلية او الكنعانية، على الرغم من توافر عدد لا بأس به من الكتابات الدينية في تلك الأنساق، إلا أن نوعية تلك النصوص كانت مختلفة في عدد كبير من العناصر عن نص العهد القديم؛ فالنص العبري يُعتبر وثيقة نهائية موحى بها من السماء إلى عدد معين من الأنبياء تحتوي على شرائع وطقوس ولاهوت.
للبحث عن أصل ظاهرة النص هناك طريقتان يمكننا استعمالهما؛ الأولى هي البحث الأركيولوجي والتاريخي للنص، والثانية هي الطريقة الكتابية من داخل النسق عن طريق النقد النصي.
بحسب الرواية التوراتية التي ستنتقل إلى المسيحية والإسلام، فالكتاب موجود قبل دخول كنعان، حيث تسلم موسى لوحي الشهادة على جبل سيناء، وبعدها سوف يكتب موسى وصايا الرب "الشريعة" التي سوف يسلمها للكهنة. أما تاريخيًا وبحسب أغلبية الوثائق الأركيولوجية، تعتبر الفترة التي تم فيها جمع المادة النصية (من مصادرها من مملكتي الشمال والجنوب) وتدوينها تتراوح بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد قبل وأثناء وبعد السبي البابلي، وتحديداً مع صعود حركة الإصلاح الديني لمملكة يهوذا التي قادها الملك يوشيا، وليست وليدة القرن الرابع عشر قبل الميلاد كما يدعيّ الكتاب، إنما هي ناتجة من التأثيرات الفارسية الزرادشتية التي شكّلت أهم ملامح الكتاب المقدس العبري.
خلال مراحل التدوين الأولى (القرن السابع) والثانية (القرن الخامس) والثالثة الأخيرة (نهاية القرن الأول الميلادي) لم يكن للنص سُلطة بوصفه شهادة إيمانية نهائية للشعب، وإنما أصبح يمتلك تلك السُلطة من بعد إغلاق الكتاب وانتهاء فترة الأنبياء، عندها فقط أصبح مُعطى معرفيًا ثابتًا غير زمني يحتل موقع الصدارة بوصفه المصدر الأول للتدين والبوصلة الثقافية الأولى للجماعة بشكل يجعلها تستعصي على الرجوع للأصل التاريخي الاجتماعي في شكله الأول.
في سياق اللاهوت الإسلامي
"النفي نزوع اعتيادي في الوعي الديني عموماً، حيث تستغرق نقاط التناقض علاقات الأفكار، وهو ما يؤدي إلى صرف الأنظار عن الأرضية الدينية المشتركة التي ينطلق منها دائماً كل لاهوت جديد"
في حديث ياسين عن اللاهوت الإسلامي، فإنه يبدأ بالبحث في الأرضية المشتركة سواء العربية السامية أو التوحيدية التي انطلق منها؛ فيقسم ذلك البحث إلى ثلاث فترات: مرحلة ما قبل التأسيس، ومرحلة اللاهوت المكي، ومرحلة اللاهوت المدني.
في مرحلة ما قبل التأسيس يبحث الثقافة العربية الجاهلية وعلاقتها بالأصنام ونسق قريش القيمي (الحمس) المرتبط بأخلاقيات تجارية واضحة، لمركزية قريش وعلاقاتها التجارية بالإمبراطوريات المجاورة، وهي الأخلاقيات التي سوف يتطور منها اللاهوت الجديد بالإضافة للطقوس العربية كالطواف بالكعبة وغيرها؛ فمن خلال رد هذة الطقوس والأخلاقيات وحتى أوليات اللاهوت التوحيدي في معرفة الإله الواحد إلى الديانة الحنيفية ديانة إبراهيم التي انحرف عنها الجاهليون نشأ اللاهوت الجديد، في البداية من الصدام المباشر مع المشركين من خلال (لا إله إلا الله)، وفي المرحلة المدنية حيث تم الصدام مع اليهود، على الرغم من حضور المؤثر اليهودي من البدايات والاقتباس المباشر للقصص بعد تخليصه من الجوانب الوثنية.
في مرحلة القرآن المكي يبدأ الخطاب موجهًا لأصحاب التشكيلة الاجتماعية المشتركة، فمن خلال (فليعبدوا رب هذا البيت) تتم دعوة المشركين إلى الإله التوحيدي الذي يدينون به (بحسب الرواية الإسلامية)، ثم يتصاعد الصدام تدريجيًا، وهي الفترة التي تلت مرحلة نزول الوحي وبداية فترة نبوة على النمط العبراني.
وفي مرحلة القرآن المدني تنتقل الآيات لمعالجة أحوال الجماعة المسلمة بدلاً من أصول اللاهوت، إذ تبدأ في معالجة الأمة المسلمة ووقائع حياتها التفصيلية ذات الطابع التشريعي، وهو الأمر الناتج عن حدوث تطور مباشر لظروف سياسية واجتماعية، وضرورة لمواجهة خصم ديني وسياسي جديد ممثل في اليهود، وهو الدافع نفسه لتبلور شبه حكومة بتشريع إلهي من السماء لصالح جماعة المؤمنين.
على الرغم من أن هذا التطور فعل اجتماعي سوف يُسجله النص، لكنه سيكتسب صفة الإطلاقية ويحتوي عناصر غير قابلة للتغير، صالحة لكل زمان ومكان، بنفس الكيفية التي تم بها إغلاق النص التوارتي، ليكتسب سلطة لا ترى الفعل الإنساني أو الظرف الذي أنتج نظام الدولة الداخلة في الديانة على نمط حكم داوود وأبنائه تبعاً للوعد الذي أعطاه الرب للآباء.
ملاحظات نقدية
ثم مسيرة استكمالية، إن جاز التعبير، في هذا الكتاب يقوم بها عبد الجواد ياسين، وهي الفكرة التي وجدت جذورها واستخلاصاتها الأوليَّة في كتابه "الدين والتدين" بغرض تقديم سردية تاريخية لفكرة الدين نفسها وفض الالتباس بين الاثنين، حيث ينتمي الدين إلى المطلق (المقدس_الأخلاق)، وينتمي التدين إلى التصورات البشرية المتأثرة بحضور المطلق داخل الاجتماعي البشري (اللاهوت)، بالتالي، يصبغ العامل البشري والاجتماعي التدين بصبغته الخاصة كما أوضحنا، لكن ياسين يقع في مغالطتين على وجه التحديد يمكن الاحتجاج بهما على مجمل عمله في كتاب اللاهوت.
النقطة الأولى هنا هو أن ياسين يقدم بحثه، باعتباره أنثروبولوجية فلسفية، ويخص العقل الوضعي الأنثروبولوجي بوصفه أحد طرفي النقيض الجدلي، إلا أننا لا نجد بحثاً أنثروبولوجياً عملياً دقيقاً؛ فما يوجد هنا هو مزيج من مبحث أركيولوجي كما قدمه فنكلشتاين في (bible unearthed) حيث بحث في أهم منجزات علم الحفريات النصي، وللتأكد من نتائج علم النقد النصي المُلتزم بالروايات التوراتية الكتابية يلجأ الباحث إلى المقاربة بين النص وبين الأحفورة للدلالة على صحتها أو أقرب شيء للحقيقة، لكن هذا المنهج لا يعتبر أنثروبولوجيًا بأي شكل ممكن لعدم الالتزام بالقواعد العلمية في البحث مثل المسح الإثنوغرافي واللغوي، وسبب عجزنا عن وجود مثل هذا البحث الأنثروبولوجي المتكامل هو غياب الشعب الأصلي الذي سكن تلك المنطقة من 1400 عام قبل الميلاد، بينما ما زالت هناك شعوب في أمريكا الجنوبية على نفس حالها من عشرات آلاف السنين، وإنما يعتبر ياسين الأبحاث الأركيولوجية المختلطة بروح تطورية (غير علمية) على أنها أنثروبولوجية علمية.
النقطة الثانية هنا، هي الطرف الآخر من الجدلية، وهو الطرف الفلسفي العقلاني الذي يتبناه ياسين من عقلانية كانط وغيره؛ فالعامل الفلسفي هنا يشوش علينا البحث عن سؤال ضروري جدًّا، فإن كانت لدى الأغلبية من الشعوب تصور عن إله مطلق لا يمكن معرفته بعيداً عن الرموز والتمثيلات اللغوية والأسطورية والإحيائية، فكيف توصلت تلك الشعوب إلى هذا التصور عن إله مطلق في معزل عن القصص الكتابية الحديثة جدّاً مقارنة بالعمر البشري القديم؟