قِرَاءَةٌ فِي كِتَابٍ "الْمُعَلِّمُ الْجَاهِلُ خَمْسَةُ دُرُوسٍ حَوْلَ التَّحَرُّرِ الذِّهْنِيِّ" لِمُؤَلِّفِهِ: جاكْ رانْسِيِيرْ ترجمة: عز الدِّينِ الخَطَّابي
فئة : قراءات في كتب
قِرَاءَةٌ فِي كِتَابٍ "الْمُعَلِّمُ الْجَاهِلُ خَمْسَةُ دُرُوسٍ حَوْلَ التَّحَرُّرِ الذِّهْنِيِّ"
لِمُؤَلِّفِهِ: جاكْ رانْسِيِيرْ
ترجمة: عز الدِّينِ الخَطَّابي
هذا الكتاب المثير: "المعلم الجاهل خمسة دروس حول التحرر الذهني" لمؤلفه جاك رانسيير، ترجمة: عز الدين الخطابي، الصادر عن: "مؤسسة عبد المحسن القطان مركز القطان للبحث والتطوير التربوي رام الله-فلسطين"، عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2016. أما عن صفحات الكتاب التي تحتوي على المتن المترجم، فهو 130 صفحة وفقط، تندرج تحتها حتى مقدمة الطبعة الثانية التي قام بها المركز للكتاب، مع مقدمة الترجمة العربية من إنجاز وسيم الكردي، إضافة إلى مقدمة ثانية عنوانها: "الجهل في الثقافة العربية الإسلامية-النفري مثالاً" وهي عبارة عن شِعْرِ مقتبس من (النفري، المواقف والمخاطبات)، والتي تحيل - من وجهة نظري- إلى أن هناك سبقاً عربيا أو تأصيلاً عربياً لمفهوم الجهل في الثقافة العربية الإسلامية نلمسه في متن النفري في كتابه وأشعاره "المواقف والمخاطبات"، رغم أنه بعد قراءة الكتاب يتبين للقارئ أن هناك فرقا بين جهل النفري والمعلم الجاهل عنوان الكتاب!
وبالعودة دائماً إلى عنوان الكتاب، الذي سرعان ما يثير انتباه أي قارئ جيد، أو مهتم بحقل التربية والتعليم والتكوين، فعندما نقول المُعَلِّمِ هو العَارِفُ، والقَارِئُ، والمُثَقَّفُ، والعَالِمُ، ورَسُولُ المَعْرِفَةِ والعِلْمِ عملاً بقول الشاعر: "قُم للمُعَلِّمِ وَوَفِّيهِ التَّبْجِيلاَ، كاد المُعَلِّمُ أن يكون رَسُولاً." آنذاك نكون جميعاً متفقين على أن المعلم المقدس في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية يستحق كل ذلك وأكثر، لكن عندما يتجرأُ جاك رانسيير ويعنون كتابه الشهير بـ "المعلم الجاهل"، فهذا يتطلب منا نحن كقراء ومهتمين التساؤل عماذا يقصد جاك رانسيير بالمعلم الجاهل؟ لأن في هذا القول مساس بقُدْسِيَّةِ المُعَلِّمِ، حتى عندما نقرأ في خلفية الكتاب: "في سنة 1818 ساهم جاكوطو في زرع بذور ثورة بيداغوجية في أوروبا العالِمَةُ. فهو لم يكتف بتعليم اللغة الفرنسية لطلبة من منطقة الفلاماند دون تقديم أي درس، بل شرع أيضاً في تعليم ما يجهله، مطلقا بذلك شعار "التحرر الذهني".
قدم جاك رانسيير في هذا الكتاب تحليلاً عميقاً لأطروحات هذا البيداغوجي المتميز، وأنعش ذاكرتنا بفلسفة منسية، دافعة عن التكافؤ بين ذكاء البشر أينما وجدوا، وهو ما تلخصه هذه القولة لجوزيف جاكوطو: "إن التعليم مثل الحرية، فهو يؤخذ ولا يمنح".
أما عن محتويات الكتاب، فهو يضم خمسة فصول، يحمل كل منها عنوانا رئيسا يتميز فيه عن الفصل الآخر، وكل فصل يحتوي عناوين فرعية مهمة جداً، وهي عبارة عن كلمات مفتاحية تساعد في فهم الأطروحة الماكرو للكتاب وخطوطه العريضة أو بمثابة بوصلة ومفاتيح لفهم الكتاب. أما عن العناوين الرئيسة للفصول الخمسة، فهي كالتالي:
الفصل الأول: مغامرة فكرية.
الفصل الثاني: درس الجاهِلِ.
الفصل الثالث: منطق المُتَسَاوِينَ.
الفصل الرابع: مجتمع الاحتقار.
الفصل الخامس: المُحَرِّرُ وَقِرْدُهُ.
قبل الشروع في تقديم قراءة فلسفية ونقدية عن الكتاب، أثارت انتباهي خاتمته، حيث إنه بعد وفاة جوزيف جاكوطو بتاريخ 07 أغسطس سنة 1840م، "كتب تلاميذه على قبره في مقبرة الأب لاشيز (PéreLachaise) شعار التحرر الذهني التالي: "أعتقد أن الله خلق النفس الإنسانية قادرة على التعلم. بمفردها ومن دون معلم."" (الصفحة 130)، هذا الشعار في الحقيقة يعكس الأطروحة الأساسية لهذا الكتاب، ومن خلال تأملها وفهمها، يمكن فهم الجزء الأساسي لهذا الكتاب، واعتبار هذا الشعار مدخلاً ومقدمة له، حيث يذكر هذا الشعار، بالقولة الشهيرة المكتوبة على معبد ديلفي بأثينا: "اعرف نفسك بنفسك"، والتي طالما ما اشتهر سقراط بها، وظل يرددها على مسامع الناس ومحاوريه، وهذه القولة هي التي سيتخذ منها التحرر الذهني شعاراً وعنواناً له، ولنا عودة مطولة إليها، أثناء عرضنا لهذه القراءة.
ينطلق الكتاب في فصله الأول المعنون ب: مغامرة فكرية، بالتعريف "بجوزيف جاكوطو، وبالضبط في سنة 1818، التي عين فيها أستاذُ الأدب الفرنسي في جامعة لوفان (Louvain)، في مغامرة فكرية متميزة." الذي سيعيش مغامرة فلسفية عميقة أثناء تدريسه، ومن خلال الوضعية التدريسية التي يمارسها سيبدع طريقة خاصة به في التعليم، "فالسِّرُّ المَكْنونُ للمُعَلِّمِ يتمثل في تعرفه على المسافة الفاصلة بين المُدَرَّسَةِ وذات المتعلم، وأيضاً بين التَّعلُمِ والفَهْمِ." (الصفحة 12)، ومن هنا نفهم أن جوزيف جاكوطو هو من المدرسين الذي حاولوا التعرف على المسافة الفارقة بين المادة التي ندرسها ومحتواها ومضمونها المعرفي، وبين ذات المتعلم الذي يرغب في التعلم، ومحاولة التقليص وإلغاء والحد من هذه المسافة، من هنا يمكننا التفريق بين عملية التعلم بما هي سيرورة تعليمية تعلمية في سياق معين، وبين عملية الفهم بما هي سيرورة ادراكية فهمية وتفهمية يمارسها المدرس أو المعلم بشكل واعٍ وقصدي.
أما عن "الكلمات التي يتعلمها الطفل بشكل أفضل ويفهم معناها ويمتلكها لاستعمالها بشكل أفضل، أيضاً، هي التي يتعلمها دون مساعدة المعلم المفسر وقبل أي لقاءٍ به." (نفس الصفحة 12)، يقصد هنا نموذج المعلم/المدرس الذي كان في السابق/قديماً يلعب دور الشارح والموضح والعارض والمحلل والمفسر للمحتويات والمضامين المعرفية، يدهشنا هنا جاكوطو عندما يخبرنا أن المتعلم/الطفل له القدرة تعلم الكلمات أي تعلم اللغات وفهم معنى ومقصد أي لغة كيفما كانت نوعها، وتملكها بغرض استخدامها في الوضعيات التواصلية، وهنا تكمن خطورة الفكرة، دون مساعدة المعلم المفسر ودون حتى اللقاء بها، وهذه أولى الدعوات إلى التخلص من المعلم أو قتل المعلم المفسر خاصة أثناء تعلمنا للكلمات والعبارات والجمل القولية أي اللغات.
كما يوجه جاكوطو نقده اللاذغ للأسطورة البيداغوجية التي "قسمت الذكاء إلى قسمين، فهناك حسب هذه الأسطورة ذكاء أدنى وآخر أعلى. أما الأول، فيسجل الإدراكات بلا تبصُّر، ويحتفظ ويؤول ويكرر تجريبياً ما يتلقاه داخل الدائرة الضيقة للعادات والحاجات. إنه ذكاء الطفل الصغير والعوام. وأما الثاني، فيعرف الأشياء عن طريق الاستدلالات، ويشتغل بطريقة ممنهجة، منتقلاً من البسيط إلى المعقد، ومن الجزء إلى الكل؛ فهو الذي يسمح للمعلم بتبليغ معارفه وتكييفها مع القدرات الذهنية للتلميذ، وبالتحقق من كون هذا الأخير فهم ما تعلمه؛ وذلك مبدأ التفسير الذي يعتبره جاكوطو مبدأ التَّبْلِيدِ." (الصفحة 14)، وهنا تكمن حدة النقد اللاذع الموجه للأسطورة البيداغوجية التي تقسم الذكاء؛ بل نلحظ أنه عمل على نقد تصور المعلم القديم الذي له عقلية قديمة جامدة، يعمل من خلالها على شحن أذهان الأطفال/المتعلمين بالعديد من المعارف والعلوم والفنون والقيم والمعلومات والأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والتمثلات والمعتقدات والقيم والمعايير والسنن والأعراف والممارسات والدوافع الجاهزة وغير المنظمة، هذا المعلم القديم الذي يظل يدعي ويعتقد أنه يملك معرفة يحاول من خلالها ضمان سلطته داخل النسق الاجتماعي الذي ينتمي إليه. لهذا يدعو جاكوطو أن "فعالية هذا الشخص [أي المعلم] ستتجلى بشكل أكبر كلما كان عَالِماً متنوراً وصادقاً. فكلما كان عالماً، بدت له بشكل بديهي المسافة القائمة بين معرفته وجَهْلِ الجُهَّالِ. وكلما كان متنوراً، بدا له الاختلاف بين السير على غير هدى والبحث بشكل منهجي أمراً بديهياً، وعمل على تعويض الحرف بالعقل، وسلطة الكتاب بوضوح التفسيرات." (الصفحة 14).
ومن هنا نلحظ أننا عدنا إلى فكرة على المعلم أن يترك مسافة بين ما يدرس وذات المتعلم، بالإضافة إلى معرفة جهل الجهال، وهي درس مهم جدا من دروس التحرر الذهني.
وهذا ما كان كعنوان فرعي من فروع الفصل الأول، حول المعلم المُحَرِّرِ، "فالطريق السريع لم يكن هو طريق أفضل بيداغوجيا، بل كان طريق الحرية"، هكذا فالمعلم الحقيقي ليس هو المعلم الذي يشتغل بالطرائق والمقاربات البيداغوجية الحديثة أو اختيار أفضل طريقة بيداغوجية للتدريس بل العكس هو الصحيح، المعلم المحرر هو الذي يختار الحرية كأفضل بيداغوجية يمكن أن يدرس بها، كما أنه ينظر ويختار طريق الثقة في القدرة العقلية لكل طفل/متعلم.
لهذا يميز جاكوطو بين أربعة أنواع من المعلمين "معلم محرر، أو معلم يساهم في التبليد، بواسطة معلم عارف أو جاهل. وطبعاً، فإن احتمال الاقتراح الأخير هو الأصعب." (الصفحة 20)، لهذا يدعونا جاكوطو إلى تعليم ما نجهله، كما أن من يريد أن يكون متحررا عليه أن يحرر نفسه أولاً، من خلال وعيه الحقيقي بالسلطة الحقيقية للعقل البشري، "فبإمكان الجاهل أن يتعلم. بمفرده ما يجهله المعلم"، نستطيع إذن حسب جاكوطو تعليم نفسنا بأنفسنا ولأنفسنا، وهو ما يشتهر اليوم بالتعليم الذاتي، الذي نتعلم من خلاله ذاتنا بذاتنا ولذاتنا من دون تدخل المعلم، وهكذا فالجاهل يتعلم بنفسه ما يجهله المعلم، وبمقتضى ذلك "إن التعليم الشمولي وجد فعلياً إلى جانب كل الطرائق التفسيرية منذ نشأة العالم. وبالفعل، فإن هذا التعليم الذاتي ساهم في تكوين كل العظماء" (الصفحة 21)
ومن هنا، فبإمكاننا تعلم عدة أشياء من دون حاجة إلى شرح أو تفسير أو توضيح أو فهم أو تأويل، وهذا نقد عميق جداً للمعلم الذي يدعي أنه يفسر المحتويات والمضامين المعرفية، ونقد كذلك للطريقة التفسيرية في التدريس.
وكل هذه مجرد دعوى إلى تطبيق شعار التحرر الذهني المتمثل في "اعرف نفسك بنفسك"، وهي أول دليل ودعوة إلى اكتشاف المرء نفسه بنفسه ولنفسه من خلال الكَشْفِ عن قدراته الذهنية، حيث إن "التحرر؛ أي قدرة كل فرد من أفراد الشعب على الشعور بكرامته كإنسان ومعرفة قدرته الذهنية والعمل على استخدامها. (...) وأن هذه القدرة هي شرط الحرية." (الصفحة 22)، ومن هنا يصبح التحرر هو شعور الإنسان بكرامته وحقيقة وجوده كإنسان وتحرير قدرته الذهنية على الإبداع والخلق والابتكار والصناعة. لهذا، فالتعليم الذي لا يقود إلى التحرر هو تعليم بليد وقديم وغير صالح البتة.
"وحدد طريقة هذا التعليم الشمولي المتمثلة في تعلم شيء ما وتقديم الباقي انطلاقاً من المبدأ التالي، وهو أن كل الناس سواسية في الذكاء".
فالتعليم الشمولي "هو هذا التعليم الكوني الذي يكون فيه التلميذ هو المعلم." (الصفحة 25)، من هنا بدأت فكرة أن على التلميذ أن يكون هو محور العملية التعليمية التعلمية، لا المعلم الجاهل هذا ما أراده جاكوطو من الفصل الثاني المعنون بـ: "درس الجاهل."
بالإضافة إلى أن النظام التعليمي الجيد هو النظام الذي يجعل من الطفل هو المركز لا المعلم، وتحويل الخسارة إلى ربح، فيتقدم الطفل بفضلنا لا نتقدم بفضله، كما لا نقوم بشحن ذهن المتعلم من أجل شحذ ذاكرته وملؤها بالمعارف والعلوم والفنون والقيم والمعلومات والأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والتمثلات والمعتقدات، بل نعلم المتعلم من أجل النسيان، ومن أجل تجاوز ما درسه، وليس من أجل تكديس المعارف بحوزته والاحتفاظ بها لزمن معين، كما أن المتعلم ليس بآلة تكرارية، تكرر كالببغاء ما ثم قوله إليها من كلمات، "لأن المطلوب هو تكوين الذكاء، وليس شحن الذاكرة"، يجب على الطفل أن يفهم ويستوعب جيداً ما درسه، لا حفظه واستظهاره وتكريره وترديده، وبهذا نركز على ذكاء الطفل وملكة الفهم عنده لا ملكة الحفظ والتكرار والاسترجاع والذاكرة.
هذا التعليم القديم ينعكس سلباً على الأطفال؛ لأنه: "أولاً: يردد أطفالكم مثل الببغاوات ويطورون ملكة واحدة وهي الذاكرة، في الوقت الذي نشغل فيه الذكاء والذوق والخيال. فأطفالكم يحفظون عن ظهر قلب، وهذا أول خطأ." (الصفحة 29)؛ لأنه يستحيل على الأطفال حفظ كل شيء يتلقونه من معارف عن ظهر قلب، فأدمغة البشر عموماً، وأدمغة الأطفال خصوصاً، غير قادرة على تحمل كم المعارف والعلوم والنظريات والفنون والقيم والمعلومات والأفكار والتصورات والآراء والمنظورات والتمثلات والمعتقدات الجاهزة؛ ذلك أن الذكاءات تختلف من الطفل إلى الراشد، "لهذا يجب علينا ألا نشحن ذكاء الطفل، وإلا ألحقنا الضرر بصحته وبتفتح ملكاته."
أما عن المعلمين الجيدين، "فهم يوجهون برصانة ذكاء التلميذ بفضل أسئلتهم، وتتجلى هذه الرصانة في تشغيل الذكاء." (الصفحة 34)
ويذكرنا هنا جاكوطو بطريقة المعلم سقراط. "فقد تمكن هذا الأخير بأسئلته من دفع عبد مينون (Ménon) إلى التعرف على الحقائق الرياضية المتوفرة لديه."، وهنا تكمن خطورة المنهج السقراطي، حيث يوجه المحاور كي يكتشف ما يوجد لديه من معارف؛ ذلك "أن إظهار معرفته هو في الآن نفسه إظهار لعجزه"، وإظهار كذلك لجهله،
"بهذا المقتضى، تُعَدُّ السقراطية (Socratisme) شكلاً متقناً للتبليد. فسقراط يسأل كي يعلم، مثله في ذلك مثل أي معلم عارف. والحال أن من يريد تحرير المرء عليه أن يسأله، كما يسأل كل الناس، وليس بطريقة العلماء؛ أي كي يتعلم لا لكي يعلم. والشخص الوحيد الذي سيقوم بذلك، فعلاً، هو الذي لا يعرف أكثر مما يعرفه التلميذ، ولم يسبق أن سافر قبله، وهو المعلم الجاهل." (نفس الصفحة)؛ ذلك أنه إذا أردنا تعليم تلميذ معين ما نجهله نحن، هو أن ننطلق بكل بساطة من طرح الأسئلة الأولى التي تخطر ببالنا حول ذلك الشيء الذي نجهله في الأصل، ولن نحتاج أي علم أو معلم لإثارة هذا النوع من الأسئلة؛ لأن الإنسان الجاهل من حقه أن يتساءل عن كل شيء، ويطرح أي أسئلة يريد، ويبحث عن إجابات مناسبة لذكائه.
كما أن "ما يطلبه المعلم الجاهل من تلميذه هو أن يبرهن له على أنه درس بعناية"، ودرس هنا بمعنى بحث في ذاته ولذاته بذاته عن الأسئلة التي يجهلها ويريد جوابا عنها، على متعلمنا أن يكون دؤوب البحث باستمرار، يبحث من أجل البحث؛ لأنه وهو يقوم بعملية البحث، أكيد سيجد أشياءً كثيرةً في طريقه، كما على الطفل المتعلم أن يلعب دور المستكشف في عالم غامض مجهول، "وما هو أساسي هو هذه اليقظة المستمرة، وهذا الاهتمام الذي إذا توقف سيفسح المجال أمام الغباوة التي يجيدها كل من العَالِمِ والجاهل. فالمعلم هو الذي يبقي الباحث على الطريق، ليسعى بمفرده إلى الاكتشاف من دون توقف." (الصفحة 38)؛ لأن المعلم هنا هو الذي يمحي تلك الأفكار والتمثلات والمعتقدات الخاطئة التي يتلقاها الأطفال في وسطهم الأسري.
"لقد قال ديكارت: أنا أفكر، إذن أنا موجود، وهذه الفكرة الجميلة الصادرة عن هذا الفيلسوف العظيم هي أحد مبادئ التعليم الكوني. ونحن سنقلب الفكرة ونقول: أنا إنسان، إذن أنا أفكر." (الصفحة 40) وتكمن خطورة جاكوطو في أنه قام بعملية قلب مهمة للكوجيطو الديكارتي المشهور، فالفكر-حسبه- ليس خاصية الجوهر المفكر الديكارتي، بل هو خاصية الإنسانية جمعاء، كما أن عبارة: "اعرف نفسك بنفسك" هي شعار رئيس يدعو إلى التحرر الذهني لكل إنسان وكل كائن عاقل.
يذكرنا هذا بمحاورة كراتيل (Cratyle) الشهيرة التي جاء فيها أن "الإنسان (Anthropos) هو الكائن الذي يفحص ما يراه ويتعرف على نفسه من خلال هذا التفكير في فعله" (انظر: Platon, Cratyle, 399c).
هكذا، فالتعليم الشمولي هو تعليم يتجلى في وعي المعلم بالاستقلالية، ويثير هذا الوعي المستقل في كيان المتعلم، وإبراز قدرته في التفكير بذاته. إن الوعي المستقل هو وعي بالتحرر.
كما يوجه جاكوطو نقده اللاذع لما يسمى بالرأي؛ وذلك في الفصل الثالث المعنون ب: "منطق المتساوين"؛ ذلك "أن الرأي ليس شيئاً حقيقياً. (...) فمن لا يعرف الحقيقة يبحث عنها، (...) وسيكون الخطأ الوحيد هو اعتبار آرائنا حقائق." (الصفحة 49)، وتجدر الإشارة إلى أن جاكوطو كان من السباقين لدحضه للآراء، واعتبرها ليست بحقائق، قبل غاستون باشلار، كما يرى أيضاً أنه وجدت وستوجد على الدوام وفي كل مكان ذكاءات مختلفة، وغير متكافئة ومتفاوتة بين جميع الناس، وأن ما هو أساسي ومهم هو اكتشاف المرء لقدراته الأساسية وكفاياته المهارية، وأن يعود كل كائن عاقل إلى ذاته باستمرار، من أجل التعرف عليها جيدا والوعي بها واحترام الذات؛ لأن كل كائن عاقل هو كائن يملك فاعلية وإرادة. لهذا، "فإن عبارة "اعرف نفسك بنفسك" لم تعد على الطريقة الأفلاطونية "اعرف ما هو خير لك" بل أصبحت تعني: عد إلى ذاتك، وإلى ما لا يمكن أن يخدعك ذاتياً." (الصفحة 59).
هذا دليل قاطع على أنه وجب على الإنسان وككل كائن عاقل أن يتبع طريقه ذاته بذاته ولذاته بغض النظر عن الآخرين.
لكن علينا الحذر دائماً من الطريقة السقراطية التي تدعي تمكين المتعلم من استخراج معرفته الخاصة؛ لأنها طريقة فيها كثير من المُنَاوَرَةِ والخِدَاعِ، سقراط أكبر مخادع في تاريخ الفلسفة، هو وأرسطو الذي قال: "إن أفلاطون عزيز علي، لكن الحقيقة أعز بالنسبة لي"؛ ذلك أن أرسطو "لم يفعل شيئاً مخالفاً لما قام به أفلاطون. فهو قد سرد آراءه مثل هذا الأخير [يقصد أفلاطون]، وروى مغامراته العقلية، واقتنص في طريقه بعض الحقائق. أما الحقيقة، فهي لا تُعَوَّلُ على الفلاسفة الذين يعتبرون أنفسهم أصدقاء لها؛ لأنها صديقة نفسها فقط." (الصفحة 61).
هناك فقرة أيضاً مهمة جداً في الفصل الرابع المعنون بـ: "مجتمع الاحتقار". أما عن العنوان الفرعي للفقرة، فهي تحت عنوان: الملك الفيلسوف والشعب صاحب السيادة، هذه الفقرة من وجهة نظري الشخصية هي من أفضل الفقرات في الكتاب؛ لأنها تتحدث عن فكرة "الملك-الفيلسوف" المستوحاة من محاورة الجمهورية لأفلاطون، حيث في هذه المحاورة يعرض لنا أفلاطون حلم أن يكون الملك فيلسوفا في جمهورية الفلاسفة، "ونحن نعرف الصورتين المفرطتين والمتناظرتين لهذا الادعاء، وهما: الحلم الأفلاطوني القديم المتعلق بالملك الفيلسوف، والحلم الحديث المتعلق بسيادة الشعب." (الصفحة 87) وسيفصل كثيراً في هذه الفكرة، أتمنى العودة إلى هذه الفقرة نظراً لكونها تعالج مسألة الوهم السياسي الذي يعيش فيه الإنسان.
أما عن درس المعلم الجاهل، "فالمطلوب هو التحقق من سلطة العقل وما يمكن أن نفعل به وما يمكنه فعله ليظل نشيطاً داخل أقصى حالات عدم الصواب. وبين العاقل المخالف للصواب (Le raisonnable déraisonnable) المنزوي داخل دائرة الجنون الاجتماعي كيف يظل عقل الفرد ممارساً لسلطته باستمرار." (الصفحة 92)، لكل هذا نلحظ لدى جاكوطو نزعة عقلانية محضة، حيث يؤسس نظريته حول التعليم الشمولي على العقل، والعقل وحده.
كما تطرق أيضاً إلى "أن سقراط لم يرغب في دراسة فن الوشاية الذي اعتمده أنيتوس ومليتوس (وهما اللذان وجها التهمة إلى سقراط، مع شريكهما الخطيب ليكون. وقد تضمنت التهمة ما يلي: عدم الإيمان بآلهة المدينة، وإفساد عقول الشباب وإدخال آلهة جديدة إلى المدينة، ما أدى إلى الحكم بإعدام الفيلسوف سقراط عن طريق تجرع السم-المترجم) واعتبر أن ذلك سيشكل انحطاطا للفلسفة وسينسب إليه بهتانا. وقد أثار هذا الرأي احترام أغلب الناس لسقراط، لكن الرأي الحقيقي لهذا الأخير يتمثل في اعتبار أنيتوس ومليتوس واشِيَيْنِ بَلِيدَيْنِ. وبالتالي، لا يوجد أي فن في خطابهما، بل مجرد وصفة لا فائدة منها. والمشكلة هي أن خطاب كل منهما، هو تجلٍّ للذكاء الإنساني، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى خطاب سقراط." (الصفحة 93)، وهذه في الحقيقة هي وجهة نظر سقراط وأفلاطون في محاورة "جورجياس" من الخطابة بكونها مجرد صناعة مضحكة ولا فائدة منها، وأن سقراط رفض أن يصبح خطابيا ليدافع عن نفسه أمام القضاء، وهذا ما جعل منه شهيد الفلسفة أو شهيد الحقيقة.
لهذا "اعتقد سقراط أن الآلهة اختارته، وأرسلت إليه خطاباً شخصياً، وبذلك تبنى جنون الكائنات المتفوقة، وهو الاعتقاد بالعبقرية." (الصفحة 94)
لهذا، فالتعليم الشمولي ينظر إلى المتعلمين كمتعلمين حقيقيين يجب أن نعمل على تحريرهم ذهنياً، لهذا يعتبر العقل عبر ممارسة سلطته الخاصة معترفا بتكافؤ الكائنات المفكرة.
"مبدأ هذا التعليم [الشمولي] هو كما يلي: ينبغي تعليم شيء ما وتقديم الباقي وفق المبدأ الذي مفاده أن كل الذكاءات متكافئة." (الصفحة 97)
من خلال التعليم الشمولي كما لاحظ جاكوطو هو نتعلم ما نجهله؛ وذلك حين نستعمل كل وسائلنا لإقناع الجاهل بأن لديه سلطة.
نضيف أيضاً أن التعليم الشمولي طريقة طبيعية للعقل الإنساني، حيث يخرج المتعلم من مستنقع احتقار الذات إلى تعظيمها وإثباتها وإجلالها، وتكوين أناس ذوي عقول متنورة ومتحررة يبحثون عن طريقهم بأنفسهم. هكذا يدعونا جاكوطو إلى أن المعلم المحرر هو الذي "لا يملك أي معرفة ليعلمها"، ويساعد على نشر الأفكار التحررية.
التبليد -حسب جاكوطو- ليس شعوذة محصنة، بل هو خوف من الحرية والإيمان بواقع التفاوتات. لهذا كان هدفه هو مواجهة النزعة الظلامية في التربية والتعليم وتشجيع العلوم والفلسفة والإنسانيات، والكشف عن طريقة جديدة في التعليم تتوخى التحرر الذهني من الشرود. "فالتحرر يعني بالنسبة إليه، وضع النور بدل الظلام. لهذا اعتقد أن طريقة جاكوطو هي طريقة تعليمية مثل الطرق الأخرى، فهي عبارة عن ابتكار جيد بكل تأكيد." (الصفحة 110). كما ركز أيضاً على تبادل المعلومات والخبرات والمعارف والمباحث بين المتعلمين بعضهم البعض حول اكتشافاتهم بغرض تحسين قدراتهم الذهنية في الفهم والإدراك.
"واليوم بدأ عصر جديد أصبح فيه الإنسان-الطفل (L'Homme-Enfant) يتبع طريق النضج المستقيم. فقد تمكن المرشد من تحديد الحجاب الموضوع على كل الأشياء وشرع في رفعه كما يجب -أي بانتظام، خطوةً خطوةً وتدريجياً. (...)؛ لأننا في حاجة إلى طريقة موجهة، ودون طريقة جيدة سيكون الطفل-الإنسان (L'Enfant-L'Homme)، فريسة أوهام الطفولة والرتابة والأحكام المسبقة." (الصفحة 113)، هكذا رفع السحر في الحقل التربوي والتعليمي، وأصبحنا نتحدث عن مفهوم الطفل-الإنسان، بدل الراشد-الإنسان، فمفهوم الطفل والطفولة وليدا عصر الأنوار مع كل من جون جاك روسو المؤسس وكانط.
مع جاكوطو، أصبحنا في حاجة ملحة إلى تعليم يعمل على "زحزحة العقول التواقة إلى التحرر، عند أدنى تشتت ذهني يحصل لها."
كما أن الطريقة الجديدة المدرجة ضمن التعليم الشمولي هي "طريقة طبيعية تحترم النمو الذهني للطفل، مع تزويد عقله بأفضل التمارين، وهي طريقة نشيطة تعوده على التفكير الذاتي ومواجهة الصعوبات بمفرده وتكون لديه الشعور بالثقة في كلامه وبحس المسؤولية." (الصفحة 116)، كما أنها طريقة تطبيقية وسريعة، تعمل على تكوين متعلمين مُتَنَوِّرِينَ ومَهَرَةٌ؛ "ذلك أن من يستطيع إنجاز ما هو أكثر، بإمكانه إنجاز ما هو أفضل، كما أن الطريقة الخاصة بتعليم ما نجهله، تسمح بتعليم ما نعرفه بواسطة اللعب." هكذا إذن نفهم لماذا جاكوطو اعتبر "التحرر الذهني بمثابة قلب التراتبية القديمة، القائمة على امتياز التعليم."؛ ذلك أن التحرر الذهني سيشكل ثورة ونقلة في حقل التربية والتعليم شبيهة بالثورة الكوبرنيكية لسنة 1543م في حقل علم الفلك.
لهذا، يعتبر التعليم الشمولي هو نفسه التعليم الذاتي والطبيعي، اعترافاً للطبيعة التي تعلم الأطفال. وعبر هذا التربية يمكننا الانتقال إلى حالة الثقافة -حسب أوليفيي روبول- وبواسطة التعليم "سيختفي جُذَامُ الجَهْل تماماً من الجسم الاجتماعي" (الصفحة 119).
وما نقصده هنا بالتعليم الذاتي هو التعليم الذي يحث على التفكير العقلي والنقدي "والاستدلال انطلاقا من الواقع، واتباع الطريقة الطبيعية التي كانت دوما طريقة الاكتشافات العظيمة". سيظل اسم جاكوطو يذكرنا بتكافؤ الذكاءات، فإذا كان ديكارت قد اعتبر أن "العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس"، فإن جاكوطو اعتبر أن "الذكاء هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس"، وأن الذكاءات متكافئة بين جميع البشر.
وسيخصص فقرة "المجتمع المشبع بيداغوجياً" للتطرق إلى "أن جوزيف جاكوطو نفسه ما كان ليفهمه لولا الصدفة التي جعلت منه معلماً جاهلاً. فالصدفة هي وحدها القادرة على قلب الاعتقاد بالتفاوت المؤسس والمتجسد على أرض الواقع." (الصفحة 125)، وهكذا حذرنا جاكوطو من فكرة وجود التفاوت واللاتوازن المؤسس والمتجسد فعليا على أرض الواقع. ومع ذلك، فالذكاءات متكافئة رغم أن المجتمع غير متكافئ، وهذه هي بداية التحرر الذهني.
ونحن على مشارف نهاية الكتاب، أصبح جاكوطو يتحدث ويؤسس لفلسفة تجلي الذكاء لدى جميع الناس، انطلاقا من فكرة جوهرية تدعو إلى أنه: "بإمكاننا تعليم ما نجهله"، كما "كان يفضل متحرراً جاهلاً واحداً على مئة مليون عالِمٍ غير متحرر، تكون بفضل التعليم الشمولي." (الصفحة 127)، وقد واكب كل هذا تأسيس جمعية نشر التعليم الشمولي، بالإضافة إلى إصدار جريدة فلسفة تجلي الذكاء لدى الجميع، مع إقرار جاكوطو ب "أن الحقيقة لا تقال، بل يتم الإحساس بها. فهي تزود المتكلم بقاعدة للسلوك، لكنها لن تتجلى أبداً في عباراته."
ونفس هذه الفكرة تقريباً سيختم بها هذا الكتاب، حيث عبر عنها قائلاً:
"ابحثوا عن الحقيقة، لكنكم لن تجدوها، اطرقوا الأبواب، لكنها لن تفتح لكم، غير أن هذا البحث سيكون مفيدا لكم لتعلم الفعل (...) تخلوا عن الارتواء من هذا الينبوع، لكن لا تتوقفوا أبداً عن السعي للشرب منه (...) أقبلوا كي ننظم الأشعار. فلتحيَ فلسفة معرفة تجلي الذكاءات! فهي رواية لا ينضب معينها، تتمتع بالخيال وليست مطالبة بتقديم تبريرات للحقيقة، وهي لا ترى هذه الحقيقة المنقبة إلا من خلال اللباس التنكري الذي يغطيها، حيث تكتفي برؤية هذه الأقنعة وتحليلها دونما انشغال بالوجه الموجود تحتها. فالطريقة القديمة لن تكون راضية أبداً، وهي تزيل قناعها وتستمع بذلك، لكن فرحها لن يدوم طويلاً؛ لأنها تدرك أن القناع الذي أزالته يغطي قناعاً آخر، وهكذا إلى أن يتم استنفاد كل الباحثين عن الحقائق. إن رفع هذه الأقنعة التي يوجد بعضها فوق بعض هو ما ندعوه بتاريخ الفلسفة، فيا له من تاريخ جميل! لكنني أفضل حكايات تجلي الذكاء لدى الجميع." (الصفحة 130) هكذا تكون هذه الفقرة من أروع ما كتب في هذا الكتاب، والتي تتحدث عن أنه لا وجود للحقيقة ولا يمكن أن توجد، لكن مع ذلك يجب أن نحاول جاهداً البحث، وفضل فلسفة تجلي الذكاءات لدى الجميع عن تاريخ الفلسفة.
كما أننا نقول عن كتابه هذا المعنون بـ "المعلم الجاهل" إنه كتاب بالفعل في التحرر الذهني، بل وفي العود الأبدي إلى مقولة معبد ديلفي بأثينا: "اعرف نفسك بنفسك".
أما عن آخر جملة كتبت حول جاكوطو، "وكان المؤسس قد توقع هذا الأمر حينما أقر بأن التعليم الشمولي لن يكتب له الرسوخ، لكنه أضاف أنه لن يتلاشى، بالرغم من ذلك." وبالفعل لم ولن يتلاشى بتاتاً.
نقول ختاماً؛ اُشْطُب مُقَدِّمَتَنا هَذِهِ وَادْلُفِ إِلَى مِحْرَابِ الكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلاً يَسْتحِق القِراءَةَ لِيُحَرِّرَ ذِهْنَكَ مِنْ جَهْلِكَ المُسْتَدِيمِ الجَاثِمِ بِدَواخِلِكَ.
المصدر المعتمد:
-جاك رانسيير، المعلم الجاهل خمسة دروس حول التحرر الذهني، ترجمة: د. عز الدين الخطابي، مركز القطان للبحث والتطوير التربوي مؤسسة عبد المحسن القطان، رام الله-فلسطين، دار الأهلية للنشر والتوزيع الطبعة الثانية، 2016