قراءة في كتاب الهاشمي الطرودي: "الإسلام السياسي في تونس... هل من خصوصية؟"
فئة : قراءات في كتب
المقدمة
يعدّ الهاشمي الطرودي رمزا من رموز الصحافة التونسية ذات التاريخ العريق. ساهم بدور فاعل في النضال الاجتماعي والسياسي في صفوف حركة "برسبكتيف" (Perspectives) اليسارية بتونس، فكان ثمنها عدّة سنوات في غياهب السجون إلى جانب العديد من رفاقه، مثل الأستاذ محمّد الشرفي وغيرهم. ومن مظاهر نضاله أيضا كتابته في العديد من الصحف التونسية مثل جريدة الرأي، مجلّة المغرب وأخيرا جريدة المغرب. فهذه الكتابات، جعلت منه علما من أعلام الصحافة في تونس على غرار العديد من القامات الكبيرة، مثل محمد حسنين هيكل في مصر.
لقد مثلّت هذه المقالات مادّة أوّلية لكتابه الصادر عن دار محمد علي الحامّي للنشر (صفاقس / تونس) سنة 2016 الذي تكوّن من قسمين. كان الأول تحت عنوان "المشهد السياسي في تونس (1960 -2015)، في الحديث عن كتلة تاريخية جديدة". أما الجزء الثاني، فكان تحت عنوان "الإسلام السياسي تونس... هل من خصوصية؟".
إنّ هذا الصحافي والكاتب، بالرغم من نضاله في صفوف اليسار، فإنّ مراجعاته الإيديولوجية جعلته يكتب بكثير من الموضوعية في مسألة الفكر الإصلاحي وجذور الإسلام السياسي بتونس منذ نشأته إلى اليوم.
وفي هذا السياق، سأحاول قراءة هذا الكتاب "الإسلام السياسي بتونس هل من خصوصية؟" بطريقة نقديّة.
أوّلا ـ التعريف بالكاتب والكتاب
1) التعريف بالكاتب: الهاشمي الطرودي: صحفي، مناضل سياسي، من مواليد مدينة نفطة بالجريد التونسي عام 1944. درس بجامع الزيتونة، حيث تحصّل على شهادة التحصيل عام 1962. وتخرّج من مدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين عام 1964، حيث تحصل على الإجازة من كلّيّة الشريعة، وهو مناضل ومفكّر يساري كان ينتمي إلى حركة "برسبكتيف" أثناء فترة حكم الحبيب بورقيبة. ولقد قضى بسبب أفكاره عدة سنوات في السجن، ما بين 1968-1972 و1972-1973.
يعدّ الهاشمي الطرودي أيضا، من أبرز الأقلام الصحافية في تونس وفي الخارج. كتب في مجلة المغرب، الطريق الجديد، الرأي، الموقف، الصباح وجريدة الشعب. وأخيرا كان من أبرز أقلام جريدة المغرب. وكتب الهاشمي الطرودي أيضا في عدة صحف أجنبية، مثل جريدة الحياة اللندنية، والدستور الأردنية.
يعتبر الهاشمي الطرودي من أبرز الصحافيين المناضلين ضد الاستبداد السياسي، سواء في عهد الحبيب بورقيبة، أو زين العابدين بن علي. وكان أيضا من الأقلام البارزة التي ناضلت بضراوة ضد انحرافات النظام السياسي في عهد الترويكا. وبالرغم من دخوله السجن في عهد الحبيب بورقيبة، فإنّ ذلك لم يمنعه من تقييم مرحلة حكمه بكلّ موضوعية، حيث أبرز بحرفية المؤرخ إيجابيات المرحلة وسلبياتها ونقائصها، مثل الحكم الفردي وغياب الحريات.
2) التعريف بالكتاب
في الواقع هذا الكتاب هو عبارة عن مقالات صحفية كتبها الصحفي والمفكّر والمناضل اليساري الهاشمي الطرودي في عدة صحف مثل المغرب، الرأي، الصباح، الطريق الجديد وجريدة الشعب. وتناول فيها موضوعا من مواضيع الزمن الراهن، وهو الإسلام السياسي في تونس... أيّة خصوصيات؟
هذا الكتاب، هو الجزء الثاني من مقالات المؤلّف، حيث كان عنوان الجزء الأول "المشهد السياسي بتونس(1960 - 2015): في البحث عن كتلة تاريخية جديدة"، الصادر عن دار محمّد علي في ديسمبر 2016.
لقد تمّ تقسيم هذا الجزء إلى أربعة فصول. ومن الضرورة بمكان الإشارة بصفة برقية إلى كون كتاب الهاشمي الطرودي: "الإسلام السياسي في تونس... هل من خصوصية؟" لا يمكن فهمه بقراءة المقالات الواردة فيه بدون الرجوع إلى الجزء الأول.
لقد احتوى الكتاب على حوالي 350 صفحة، وتم تقسيمه إلى أربعة محاور.
ثانيا ـ محتوى الكتاب: قراءة نقديّة
المحور الأول: وهو بعنوان: جولة في رحاب الحركة الإصلاحية والوطنية السياسية. المحور الثاني: ورد تحت عنوان: حركة النهضة ونظام السابع من نوفمبر.
المحور الثالث: النهضة في السلطة وانكشاف طبيعتها الإخوانية.
المحور الرابع: مفكرون عرب يسلّطون الأضواء على الإسلام السياسي.
المحور الأول: في رحاب الحركة الإصلاحية والوطنية التونسيّة
لقد بيّن الصحفي والكاتب الهاشمي الطرودي، أنّ السؤال الذي تم طرحه من قبل روّاد الحركة الإصلاحية بالعالم العربي عن كيفية النهوض والخروج من التخلّف ما يزال يطرح إلى اليوم جزءا من الراهن.
وبيّن بطريقة المتمكّن والعارف بتاريخ الفكر الإصلاحي العربي الكثير من هذه المسائل الشائكة، كما بيّن أنّ رواد الإصلاح الأوائل انقسموا إلى عدّة تيارات، مثل التيّار العصري أو التيار الليبرالي. وكان من أول المؤسسين له الطهطاوي. وتبلور بكل وضوح مع خير الدين باشا الذي أكّد أنّ تقدّم الغرب مرتبط بالتنظيمات السياسية والاقتصادية التي أثمرها الغرب. واستشهد الطرودي بقولة لخير الدين "إنّ أساس التمدن الأوروبي هو المؤسسات القائمة على العدل والحرية". لقد بيّن الهاشمي الطرودي أيضا بلغة المفكّر وليس الصحفي أنّ هذا التيار شدّد على ضرورة الاقتباس من الغرب، وأنّ الشريعة لا تمنع الاقتباس من الغرب وخاصة المسائل الدنيوية.
- أما التيّار الثاني البارز الذي أكّد عليه الهاشمي الطرودي، فهو تيّار الإصلاحية الدينية الذي كان من أبرز رواده جمال الدين الأفغاني، فقد اعتبر أنّ الحل لمشاكل المسلمين وتخلّفهم يتمثّل في الرجوع إلى أصول الدين والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته.
لقد رصد الهاشمي الطرودي خصوصيات كل مشروع ونقائصه، مبيّنا خصوصية الفكر الإصلاحي التونسي من خلال تجربة خير الدين الذي كان فكره نيّرا، واعتبر أنّ الاقتباس من الغرب ضرورة حتمية لا تتنافى تماما مع الشريعة. وأشار الكاتب أيضا إلى خصوصية خير الدين التونسي الذي دعا بكل جرأة واقتدار إلى ضرورة التمييز بين جانبين: الجانب الروحي (الصلاة، الحجّ...) فهو ثابت ومقدّس، والجانب الدنيوي، فهو متغيّر ومتحوّل (مثل الأحوال الشخصيّة، طبيعة النظام السياسي...).
لقد بين الهاشمي الطرودي أيضا في هذا الجزء من الكتاب أنّ جذور الخصوصية التونسية تعود إلى خير الدين، الذي لخّص مشروعه في عدة نقاط من بينها علوية السياسة العقلية، في تسيير الشؤون الدينية. وبيّن أيضا، أنّ نكبة المسلمين في جهل علماء الدين من خلال عدم تنسيبهم للحقائق. وأشار الطرودي إلى أنّ خير الدين باشا يختلف في هذا المجال مع العديد من روّاد الإصلاح الديني العربي من خلال جزمه أنّه لا خلاص للمسلمين إلاّ بتركيز تنظيمات مقتبسة من الغرب. وممّا استشهد به ما قاله خير الدين: "إنّ التمدّن الأوروبي تدفّق سيله في الأرض فلا يعارضه شيئا لا استأصله" (معارضة شديدة لقسم كبير من علماء الزيتونة لهذا المشروع).
لقد ذكّر الهاشمي الطرودي بأنّ الخصوصية التونسية تعود إلى القرن التاسع عشر (إعلان دستور 1861، الاجتهاد في الدين...). وهذا التوجّه حسب المؤلّف وجد مساندة من علماء مستنيرين من الزيتونة مثل قابدو، سالم بوحاجب، محمد السنوسي، بيرم الخامس، وهؤلاء فتحوا باب الاجتهاد، ولم يروا ضيما من معالجة مشاكل العالم الإسلامي من منظور الحداثة الغربيّة.
ومما قال الهاشمي الطرودي أيضا في هذا المجال بلغة المفكّر: "نجد أنفسنا أمام فتح من فتوحات الحركة الإصلاحية التونسية ولنقل أمام مقاربة غير مسبوقة في ترتيب العلاقة بين الأنا والآخر، فما دأبت عليه الحركات الإصلاحية الدينية في العالم الإسلامي هو التعاطي مع التمدن الأوروبي من رؤية دينية، تتمحور على المقاربة بين الإسلام والمسيحية، انطلاقا من موروث مثقل بالصراع بينهم".[1]
المحور الثاني: الاتجاه السلامي والسابع من نوفمبر
إنّ هذا الباب مهمّ جدّا بالنسبة إلى المؤرّخين والباحثين في مجال تاريخ الزمن الراهن، حيث يجد فيه المؤرّخ أو الصحافي أو عالم الاجتماع وغيرهم من المهتمين بالشأن السياسي، العديد من الوثائق والحوارات المتعلقة بتطور علاقات حركة النهضة بتونس بنظام السابع من نوفمبر (1987 - 2010)
لقد تابع الصحفي الهاشمي الطرودي تطور علاقة الاتجاه الإسلامي بتونس بالسلطة أثناء حكم زين العابدين بن علي، وبيّن العديد من المحطات من بينها:
- إطلاق سراح المساجين بعد انقلابه على الحبيب بورقيبة سنة 1987
- توقيع حركة النهضة على الميثاق الوطني، كان أبرز المحطات الأولى في علاقتها بالسلطة؛ وذلك لأسباب عديدة منها تخلّي حركة الاتجاه الإسلامي عن المقولة الشهيرة لكل أحزاب السلام السياسي "لا اجتهاد فيما فيه نصّ"، وهذا يعني تأسيس النص على مكتسبات الحداثة.
- القبول بمبدأ تاريخية تفسير النص؛ وذلك يعني التخلّي عن مقولة "القرآن صالح لكل زمان ومكان".
- السير على منوال المصلح خير الدين. والفصل بين الثوابت كالعبادات، والمعاملات التي تتغير حسب المرحلة التي تمرّ بها كل أمّة.
- القبول بحرية المعتقد، وتجاوز المقولة التقليدية "دار الإسلام" ودار الكفر. والتخلي عن مفهوم "الردّة". في الواقع كان الصحفي اللامع الهاشمي الطرودي كثير التفاؤل، لأنّ زعماء حركة الاتجاه الإسلامي كانوا أثناء تلك الفترة سكارى إلى حد الثمالة بمقولات حسن البنا والمودودي وغيرهما من قيادات الإخوان المسلمين. وحسب ما يبدو، كان ذلك يندرج في إطار سياسة "التمكين" الذي أحسن إخوان مصر إدارتها مع العديد من الأنظمة بمصر. وهذا ما أكّده عبد الفتاح مورو في تصريح لجريدة المغرب "نحن حركة سياسية وليست دينية "، لكنّه في نفس الحوار يعلن "الإسلام عقيدة ونظام اقتصادي واجتماعي".
إنّ القارئ، المؤرخ وكل من يريد متابعة الهاشمي الطرودي في استقصائه يجد العديد من الشهادات حول تطوّر علاقة حركة النهضة بالسلطة.
لقد بيّن الهاشمي الطرودي أيضا في مقالاته الصحفية، الظروف التي أدت إلى المواجهة بين النظام السياسي بتونس أثناء حكم زين العابدين بن علي في بداية التسعينيات وحركة النهضة، من بينها رفض النظام السياسي بتونس إعطاء الحركة تأشيرة النشاط العلني. وكذلك اكتشافه للمجموعات الأمنية.[2]
أما المحور الثالث من كتابه "الاسلام السياسي بتونس.. هل من خصوصية؟"، فقد كان تحت عنوان: "النهضة في السلطة وانكشاف طبيعتها الإخوانية السافرة".
لقد وضّح الهاشمي الطرودي من خلال مقالاته الصحفية المتعلّقة بممارسات حركة النهضة بعد فوزها في انتخابات أكتوبر 2011 أنّها تميزت بعدّة خصوصيات منها: أخونة الدولة والمجتمع، تدمير ممنهج للدولة الوطنية لحسم صراعهم التاريخ مع الحبيب بورقيبة الذي أطلقت عليه العديد من التسميات (التغريبي، المخلوع الأول وغيرهها). وكان هدف الحركة إرساء دولة دينيّة وإحياء نظام الخلافة الراشدة.
لقد بيّن المؤلّف أيضا أنّ سياسة "الأخونة" قاسم مشترك بين الإخوان في مصر والنهضويّين في تونس، مشيرا إلى أنّ الدولة الوطنية بكلّ من تونس ومصر، دولة حديثة على الرغم من طابعها الاستبدادي. وأنّها تختزل ثمرات الحركات الإصلاحية والوطنية في مجالات الإصلاح والتنوير والتحديث على امتداد القرنين الماضيين.
لقد بيّن الهاشمي الطرودي بلغة العارف لخفايا تاريخ الحركات الإسلامية أنّ هذا المنجز الحضاري الذي تفتخر به القوى الوطنية والديمقراطية يشكّل النقيض للدولة الإسلامية. وتعتبر أيضا الحركات الإسلامية أنّ الدول الوطنية "مشروع استعماري تغريبي يعادي الإسلام" وتعتبر أيضا أنّ مشاريع هذه الدول الحديثة تتناقض في رؤيتها ومناهجها مستشهدا ببعض المقتطفات التي أصدرتها حركة النهضة بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لتأسيسها. وممّا ورد فيها "لقد تأسّست حركتنا بعد خمسة عشر سنة من استقلال البلاد، بعدما تمكّنت النخبة التغريبيّة الحاكمة من تحطيم معظم البنى التحتيّة للمجتمع والدولة، مثل إلغاء الأوقاف، المحاكم الشرعية والتعليم الزيتوني وتفكيك العلاقات الأسرية".[3]
ولقد أكّد أنّ هذا "مربط الفرس" لكبرى الخلافات بين الدول الوطنية والحركات الإخوانية، مثل حركة النهضة بتونس، معتبرا أنّ مشروع هذه الحركة ليس الإصلاح ودمقرطة الدولة، بل تغيير طبيعتها من دولة مدنية إلى دولة دينية[4]. لقد استخلص أيضا أنّ غاية مشروع الإخوان هو هدم الدولة القائمة لتبنّي مكانها دولة مشروع الإسلام السياسي بديلا للدولة الديمقراطية، دولة الحرية والحق والتسامح التي رسمت ملامحها شعارات ثورات الربيع العربي[5]. مبيّنا أنّ حركة النهضة بتونس ركّزت جهودها للهيمنة على مفاصل الدولة، الأمن، القضاء، الإدارة ومؤسسات القطاع العام عبر زرع نشاطاتها وأنصارها في مختلف هذه المؤسسات[6].
ومن خصوصيات هذه المرحلة، تزايد الإرهاب واستشهاد العديد من التونسيين مثل لطفي نَقِّضْ الذي قتل ببشاعة قلّ نظيرها، وكذلك شكري بلعيد والحاج محمّد البراهمي، بدون أن ننسى شهداء الجيش الوطني التونسي والأمن الوطني.
لقد بيّن الهاشمي الطرودي أنّ الاستثناء التونسي قاوم سياسة الأخونة وأقصاها قسرا من الحكم. وساهم ذلك في عودة الرشد إلى جزء من قيادات النهضة وأجبرهم على التونسة، مفسّرا ذلك "باحتواء عقولهم على البعض من جينات المدرسة الجمهورية البورقيبية التي ميّزتهم عن أخوان مصر".
وأجرى الهاشمي الطرودي في هذا الفصل مقارنة بين حكم الإخوان في مصر والنهضة في تونس، وتوصّل إلى عدة استنتاجات مهمّة من بينها:
ـ التشابه على عدة مستويات مثل السياسات التي تهدف إلى أخونة المجتمع والدولة من خلال السيطرة على الفضاء الديني، والسيطرة على مفاصل الدولة.
- إتلاف كلّ مكاسب تجارب الدول الوطنية.
- ردود متشابهة للشعبين المصري والتونسي في مقاومة سياسات الإخوان في مصر وفي تونس، لكن الطرق المتّبعة في إسقاط النظامين مختلفة.
- التشابه برز أيضا على مستوى أخونة الدولة والمجتمع وتحويلهما من المدنيّة إلى الدينيّة.
- استبدال الدولة الوطنية الحديثة بكل من مصر وتونس بدولة إخوانية تطبّق الشريعة.
- غياب أيّ مفهوم للأمن القومي.
الاختلافات:
الدستور في مصر كان من صنع الإخوان وباقي القوى الإسلامية، ولم تشارك في صنعه بقية الطوائف والقوى القومية واليسارية التي لم تتردد في وصفه بالطائفي والتيوقراطي. ولقد نصّ على أنّ الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع. وتعهّد الرئيس المصري السابق مرسي بتطبيق أحكام الشريعة.
أمّا في تونس، فإنّ الوضع مغاير، حيث كان المجلس الوطني التأسيسي متنوّعا. ولم تستطع حركة النهضة فرض دستورها (نسخة الحبيب خذر)، رغم الفخاخ العديدة التي يحويها المشروع الأخير. وبرز أيضا الاختلاف من خلال قبول حركة النهضة بمشاركتها في الحكم مع أحزب علمانية، مثل حزب التكتّل الديمقراطي بقيادة مصطفى بن جعفر (وسط اليسار).
أما في المحور الرابع والأخير، فقد قدّم الهاشمي الطرودي حوارات شيّقة، مثل حواره مع سعد الدين إبراهيم الذي تحدث فيه عن خصائص المرحلة بمصر ومستقبل الإسلام السياسي. أمّا الحوار الثاني، فكان مع فرج فودة الذي بيّن انطلاقا من العديد من التجارب أنّ الإسلام دين وليس دولة.
وبفضل التنوّع فرضت المعارضة في تونس، حرية الضمير، والتنصيص على الحريات الفردية. وكان من نتائج انتخابات سنة 2011 تكوين حكومة تكون فيها حركة النهضة الفاعل الرئيس (تحالف علماني إسلامي). ومن مظاهر الاختلاف حيوية المجتمع المدني بتونس وقوته (الاتحاد العام التونسي للشغل، رابطة حقوق الإنسان، عمادة المحامين...)، وقد ساهمت بقوّة في تلافي المصير الذي آلت إليه التجربة المصريّة. وفضلا عن ذلك، اختلفت المؤسسة العسكرية في تونس عن نظيرتها المصرية.
إنّ ما كتبه الأستاذ والصحافي اللامع الهاشمي الطرودي كان ممتازا وارتقى أحيانا في كتاباته إلى مرتبة الباحث في العلوم السياسية والاجتماعية، لكن هذا لا يمنعننا من إبداء بعض الملاحظات، وهو دور العوامل الخارجية سواء في مصر وتونس. وفي هذا السياق، من الضرورة بمكان الإشارة إلى كون الولايات المتحدة بين 2010 و2012 لعبت دورا مهما في وصول النهضة بتونس والإخوان بمصر. وكان للتطورات الخارجية دور مهمّ في تحوّل سياسات حركة النهضة بتونس، والتي من بينها ضغوط بعض الدول العربية مثل الجزائر الإمارات والسعودية، وكذلك فرنسا والولايات المتحدة بدون أن ننسى سقوط نظام الإخوان. فكل هذه العوامل تمّت قراءتها بأكثر حكمة من الإخوان بمصر. وبرز ذلك من خلال الوفاق على الدستور وخروجها من السلطة. وكذلك قبولها بالهزيمة في انتخابات 2014.
ومن المسائل الأخرى التي لم يتوسع فيها الكاتب كثيرا هو دور المعارضة الليبرالية والديمقراطية وقوى المجتمع المدني مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو ما يمثّل خصوصية تونسية مقارنة بالتجربة المصرية. فالاتحاد في تونس سواء أثناء النضال الوطني أو بعد الاستقلال كان شريكا فاعلا في تحديث المجتمع. أمّا في مصر، فإنّ مؤسسة الجيش منذ عهد محمد علي إلى اليوم كان دورها فاعلا في تحديث المجتمع. ومن أخطاء نظام الإخوان بقيادة مرسي هو عملهم على إهانة هذه المؤسسة العريقة. وعدم قبوله بنصائحها.
الخاتمة:
لقد مثلّت تجرية الصحفي اليساري اللامع الهاشمي الطرودي أنموذجا إعلاميا رائدا؛ فقد تميز بسعة معرفته، وقدرته الفائقة على التحليل والشرح والتفسير. ولقد مثل أيضا أنموذجا للصحفي الملتزم بقضايا شعبه. وبرز ذلك من مقالاته الصحفيّة. وواصل هذا التوجّه الملتزم في الكتابة أثناء حكم الترويكا مما جعل جريدة المغرب والصحافيين العاملين فيها يتعرضون للهرسلة والعنف والتهديد بالاغتيال. ولقد ساهم فقيد الصحافة التونسية الملتزمة بمشاكل شعبه.
ووقف الهاشمي الطرودي أيضا في مقالاته على خصوصية الحركة الإصلاحية التونسية وتجربة حركة النهضة، حيث أكد أنّ تجربة حكمها تتقاطع في سياستها مع الإخوان في مصر، لكن النتائج كانت مختلفة، مما أكدّ الفكرة المركزية في فكر الهاشمي الطرودي والمتمثلة في الخصوصية التونسية، وكذلك الظروف الدولية. فهذان العاملان أجبرا حركة النهضة على بداية التونسة، لكن هذا المسار ما يزال طويلا.
وفضلا عن ذلك، مثّلت كتابات الهاشمي الطرودي حاليا مصدرا أساسيا للمؤرخين والباحثين في تاريخ الزمن الراهن. ولقد أبان عن حرفية كبيرة وموضوعية لافتة للانتباه يفتقر اليها العديد من الباحثين في مجال العلوم السياسيّة والاجتماعية.
[1] الهاشمي الطرودي، الإسلام السياسي في تونس... هل من خصوصية؟، دار محمد علي الحامي، صفاقس الجمهورية التونسية، 2016، ص 295
[2] الهاشمي الطرودي، نفس المرجع السابق، ص 226
[3] الهاشمي الطرودي، نفس المرجع، ص 292
[4] نفس المرجع، ص 293
[5] نفس المرجع السابق، ص 294
[6] نفس المرجع السابق، ص 295