"مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلاميّة المشّائيّة" لسعيد البوسكلاوي
فئة : قراءات في كتب
قراءة في كتاب "مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلاميّة المشّائيّة" لسعيد البوسكلاوي
صدر هذا الكتاب لسعيد البوسكلاوي، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بوجدة، وكان تحت عنوان "مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلاميّة المشّائية" من دار المشرق ببيروت عام 2010، وهو عمل يقع في 370 صفحة من الحجم الكبير، ويتضمّن ثلاثة أبواب وثمانية فصول ومقدمة وخاتمة، بالإضافة إلى قائمة بالمصادر والمراجع وفهارس للأعلام والموضوعات. وقد سعى البوسكلاوي، كما يظهر من العنوان، إلى معالجة مفهوم الإرادة كما تجلّت في نصوص الفلاسفة المحسوبين في نظره على التيار المشّائي، وقد عالج هذا المفهوم من خلال ثلاثة مستويات بدت له أنها الوجوه التي كانت لمفهوم الإرادة في هذه النصوص، لذلك فقد درس الإرادة من حيث هي مبدأ فيزيائي، ودرسها من حيث هي مبدأ سيكولوجي، كما درسها من حيث هي مبدأ سياسي.
ويمكن القول بدايةً إنّ قوّة هذا العمل، بل جدّته، تكمن أساسًا في محاولته الجمع بين مستويات نجدها متفرّقة عادةً في كتابات أخرى؛ أي أنّ محاولة مدّ الجسور بين الفيزياء والسيكولوجيا والعلم المدني هي إحدى نقاط قوة هذا العمل، وقد فرض التقسيم الذي أجراه البوسكلاوي على موضوعه التجوال والذهاب والإياب بين علوم وموضوعات ومفاهيم لا يسهل الربط بينها، لهذا تجده ينظر في مفهوم الطبيعة ومفهوم الحركة في مجال فلسفة الطبيعة، كما تجده يعالج مفهوم الإرادة من حيث هي مبدأ سيكولوجي، في محاولة منه لتحديد الإرادة بين كونها انفعالاً وكونها فعلاً، وتحديد موقعها بين الغريزة والعقل، وإلى جانب ذلك فقد نظر فيما يميزها عن العقل العملي وتحديد تعلقها بمبدأ الخير. وقبل التطرّق إلى تفاصيل هذه الأبواب، ينبه الدارس القارئ إلى مجموعة من الصعوبات التي اعترضت مسار بحثه، من أهمها عدم وجود أبحاث تنظر في مفهوم الإرادة عند الفلاسفة المسلمينالمشّائين، ورغم هذه الصعوبة لم يتردد الدارس في إيجاد مسوغ رئيس يحمله على البحث في موضوع الإرادة، يتمثل هذا المسوغ في حضور الإرادة كإشكال فلسفي، له أهميته عند الفلاسفة المسلمين، منبها في الوقت نفسه أن اشتغال الفلاسفة المسلمين على موضوع الإرادة لم يكن اشتغالاً صريحا بالقدر الكافي ضمن نصوصهم ومؤلفاتهم، لكنه حضور موزع في مجمل ميادين المعرفة التي كانت موضوع اهتمامهم، فهو إشكال حاضر بالقوة في جميع مجالات المعرفة، بدءًا من مجال الطبيعيات ومرورًا بمجال النفس والأخلاق والسياسة وصولاً إلى التخوم الميتافيزيقية، وهو أمر يوحي بصعوبة ثانية، لأنه يجب تتبع مسار هذا المفهوم في شتات من النصوص، وهو أمر ليس هيّنًا.
يتناول الدارس مفهوم الطبيعة، في الفصل الأول من الباب الأوّل، بغرض البحث عن كيفية تشكل الإرادة مبدأً فيزيقيًا أولاً، قبل أن يتحول إلى مبدأ إنساني لاحقًا، ولأجل توضيح هذا الغرض نجده يقسّم هذا الفصل إلى أربعة عناصر، وهي على ما يبدو مترابطة فيما بينها، إذ كل عنصر يؤدي إلى التفكير في العنصر الآخر، ولذلك كانت اللحظة الأولى هي الوقوف عند حد الطبيعة، لينظر الدارس في مرحلة موالية في مفهوم القوة من جهة، والصورة من جهة أخرى، ليختم فصله بالنظر في مفهوم الغاية. ولتوضيح ذلك وقع اختياره على هذه المفاهيم باعتبارها مداخل لكل من مفهوم الطبيعة ومفهوم الإرادة، ومبرّره في هذا الاختيار هو أنها "مفاهيم فيزيقية وميتافيزيقية تنطبق على العالم الطبيعي وغير الطبيعي على حدّ سواء، تنسحب على الطبيعة كما تنسحب على النفس".
وقد كان لاهتمام الدارس بمفهوم القوة ما يبرره بالفعل، فهو يريد من خلال هذا المفهوم الوقوف على دلالاته التي تتجاوز مجال الطبيعة، لتمتد إلى مجال النفس، فيصبح مفهوم القوة أشمل من مفهوم الطبيعة. وقد أفرد الدارس النقطة الثالثة من الفصل الأول، للنظر في مفهوم الصورة، وقد عمل، لتحقيق هذا الغرض، على عقد مقارنة بين تحديد أرسطو لمفهوم الصورة، وبين تحديد الفلاسفة المسلمين له، واقفًا في مرحلة أولى عند محاولة ابن سينا، التي طبعها نوع من الاحتراس، والتي تكشف عن نوع من الجدة، وتتمثّل أساسا في كون الشيخ الرئيس يولي أهمية بالغة لمفهوم الصورة من حيث هو مفهوم كلي، يتجاوز مفهوم الطبيعة: "ليست الصورة، إذن، مبدأً طبيعيًا بسيطًا بقدر ما هي مبدأ كلّي يتضمّن الطبيعة ويتجاوزها ليشمل ما سواها"[1]. وما يترتب عن هذا الفصل، حسب الدارس، هو وضع حد فاصل بين مجالين مختلفين. أما الأول، فمجال الطبيعة، في حين تمثل النفس المجال الثاني، والأول أضيق من الثاني، ومن هذه الجهة على وجه التحديد، يسند الصورة للنفس لأنها مكونة من عدة قوى مختلفة، إذ فيها ما هو طبيعي وحيواني ونفسي وإرادي ونطقي أيضًا.
إن ما يشد انتباهنا هو عملية توظيف الدارس لكل من ابن باجة وابن رشد، إنه توظيف يحمل في ثناياه نوعاً من الامتياز لابن الصائغ[2]، بينما يقدم ابن رشد على أنه مجرد تابع وتلميذ لمعلمه ابن باجة، وهو أمر ربما لا يروق بعض الرشديين المحدثين. وكأنا نجد في الدارس ما يمكن أن نطلق عليه "باجية محتشمة"، لأنه لا يعلنها صراحة، لكن نوعية استثماره للنص الباجي، تبرز قوة وحضور هذا الرجل، وأهميته الفلسفية في متن الكتاب بوجه عام. وأهمية ابن باجة لا تنحصر في مستوى تصنيف الصور فقط، وهو التصنيف نفسه الذي أخذ به ابن رشد فيما بعد، بل إن أهمية الرجل تتمثل في قدرته على الجمع بين عالم الطبيعة وعالم النفس، إذ تحمل الصورة على المجال الأول بتقديم، وتحمل على النفس، وهو المجال الثاني، بتأخير، وهو أمر احتاط منه ابن سينا سابقًا، لكن الدارس يعلق على هذا الأمر بنوع من الانتصار لابن باجة، على ما يبدو، إذ وصف موقف ابن سينا في عدم قدرته على الفصل بينهما بأنّه نوع من "الاحتراس الشديد"، بينما ينعت ابن باجة بأنه قد "تحرر من كل احتراس"[3]. كما أن أهمية ابن الصائغ تتمثل في تفرده: "بتصوّر جديد لا نجده عند غيره من الفلاسفة؛ تصوّر يجيب عن إشكال علاقة مفهوم الصورة بكلّ من الطبيعة والنفس."[4] على اعتبار أن الطبيعة هي مبدأ الحركة الطبيعية، والنفس هي مبدأ الحركة الإرادية، لكن قبل النظر في تفاصيل هذين المبدأين، لا بد من النظر في المبدأ الأخير في علم الطبيعة، ألا وهو المبدأ الغائي، والذي سيختم عن طريقه الدارس فصله الأول.
ومرة أخرى، وضمن هذا السياق يتم استحضار كل من موقف ابن باجة وموقف ابن سينا، مبرزًا من تلك المقارنة أن ابن باجة قد ذهب أبعد بكثير مما ذهب إليه ابن سينا، وذلك من خلال ربطه لمفهوم الغاية بصفتي "الكمال والأفضلية". فجاءت نتيجة هذه المقارنة على التشديد بأهمية ما قام به ابن باجة من خلال الفصل بين المفهومين: "فالغاية، إذن، هي دوماً كمال وأفضلية حسب فيلسوفنا؛ في حين أنّ الضرورة غالبًا ما تكون عائقًا يمنع الطبيعة من تحقيق أفضل صورها."[5]
وفي نهاية هذا الفصل، نجد المؤلف يطرح بعض التساؤلات التي تهمّ أساس الإرادة، من مثل: هل أساسها طبيعي أم لا؟ لكنه أرجأ الجواب عن هذا الإشكال إلى أن نظر في موقع الحركة الإرادية ضمن مبحث علم الطبيعة، وهو الأمر الذي خصّص له الدارس فصلاً مستقلاً. ولم تشكل الحركة التلقائية موضوعًا رئيسيًا من بين الموضوعات التي التفت إليها أرسطو بالدراسة، لكنها ستحظى باهتمام أكبر وأوفر عند الفلاسفة المسلمين، خاصة مع الفيلسوف السرقسطي ابن باجة: "لكنّه سيحظى، في المقابل، بعناية خاصّة عند الفلاسفة المسلمين المشّائين في شروحاتهم على نصّ السماع لأرسطو، بل سيصير محور الفحص عند بعضهم، وخاصّة عند الفيلسوف الأندلسي ابن باجة الذي نجد لديه، كما سنرى، وعيًا حادًّا بخصوصية هذا الموضوع وأهمّية الأسئلة التي يطرحها"[6]. ومن أهم هذه الإشكالات اهتمّ الدارس بإشكال يعتبره أساسيًا، ألا وهو: كيف تتولد الحركة الإرادية من مبحث الطبيعة؟ يتّضح أن الدارس في معالجته مفهوم الحركة، لا يتردد في استحضار التعريف الأرسطي من جهة، والذي أخذ به معظم الفلاسفة المسلمين، ونجده، من جهة ثانية، يقتصر على نماذج جعل من ابن سينا فيها منطلقه، ومن ابن باجة منتهاه، أما ابن رشد فيحظى بمكانة متوسطة، وهي وضعية تقدم ابن رشد فيلسوفًا لا يخرج فيها عن منزلتين: منزلة الفيلسوف الوفي لمعلمه، أو منزلة التابع أو التلميذ لابن باجة، وهو مشهد يقدم للقارئ، على ما يبدو، فيلسوفًا مقلدًا بحصر المعنى.
وينظر الدارس بعد ذلك في مبدأ الحركة في الأجسام الطبيعية، وما ترتب عليها من إشكالات، لكن أهمية الوقوف عند مبدأ الحركة في الأجسام الطبيعية هو الانتقال إلى مستوى ثانٍ عبّر عنه المؤلف من خلال طرحه لمجموعة من الإشكالات، من مثل: كيف تتحرّك الأجسام نحو استكمالها الطبيعي؟ أي ما هي هذه الخاصّية الذاتية التي بها تتحرّك إلى مواضعها الطبيعية؟ صحيح أنّها الصورة، لكن كيف تحرّك هذه الصورة بوصفها قوّة طبيعية في الأجسام ومحرّكة لها؟ وهل تحرّك على جهة واحدة في الأجسام البسيطة كما في الحيوان؟ وهي إشكالات تقودنا إلى مستوى آخر من البحث، وهو ما عبر عنه بالميل أو الشوق الطبيعي.لكن مسألة اعتبار الميل مبدأ هي بالنسبة للدارس فكرة موجودة لدى كل من ابن باجة وابن رشد، غير أنهما عبرا عنها بمفهوم "الشوق الطبيعي" بدل مفهوم "الميل"، مع نوع من التحفظ لأن مفهوم الميل مفهوم فيزيائي، بينما مفهوم الشوق يعد بالدرجة الأولى مفهومًا نفسيًا.
وإذا كان الفلاسفة المسلمون يجمعون على أن المقصود بالحركة الطبيعية، هي الحركة الكائنة عن حال غير طبيعي، فإن ابن باجة يذهب أبعد من ذلك من خلال الجمع بين الحركة القسرية والحركة الطبيعية، إذ يعتبر الأولى تتقدم الثانية بالضرورة، فالحركة الطبيعية وفق هذا المعنى هي حركة قسرية. وهنا بالضبط مكمن المشكل، إذ كيف أمكن لمحرك أن يحرك أجسامًا طبيعية خارجًا عنها ونقول في الوقت نفسه إن مبدأ حركتها وسكونها من ذاتها؟ إن هذا الإشكال لا يفيد بقول متناقض بقدر ما سيعين الدارس على كشف السياق العام والخاص في ظهور الحركة التلقائية. وهكذا، نجده لا يتردد كثيرًا في رفع هذا التناقض الذي غالبًا ما ينسبه بعض الدارسين إلى ابن باجة، وحجته أن ابن باجة لا ينفي الحركة الذاتية عن الأجسام الطبيعة، بل ينفي عنها أية قوة فاعلة، لأن هذه الأخيرة تمتاز بها الحيوانات ذات الأنفس. أما المبرر الثاني الذي يستثمره الدارس لرفع أي التباس في الفيزياء الباجية، فهو متعلق بالمنهج الذي أطلق عليه "منهج التصنيف"، وهو المنهج الذي سمح له بتصنيف الحركات، ليجد للحركة التلقائية مكانها وأهميتها ضمن هذا التصنيف، وهو أمر تفرد به ابن باجة ولم يسبقه إليه أحد.
وكأن الدارس يجد في ابن باجة، السند الرئيس والقوي في معالجته موضوعه المتعلق بمفهوم الإرادة، وما أفرزه من إشكالات فلسفية، بل يعتبرها على قدر كبير من الأهمية، موازاة مع القضايا التي شهدتها الفلسفة الإسلامية بشكل عام، وهي قضايا أغفلت، سواء عن قصد أو عن غير قصد، مقاربتها لمفهوم الإرادة. إن أهمية ابن باجة لا تنحصر في كونه تطرق إلى معالجة صنف من أصناف الحركة وهو الحركة الإرادية، كما يبدو للوهلة الأولى، بل إن رهان الدارس يذهب إلى أبعد مدى معتبرًا ابن الصائغ مؤسسا لقول إنسيّ حقّا، وهي أطروحة قد تبنّاها في وقت سابق أستاذه المرحوم محمد ألوزاد، من خلال كتابه "القول الإنسي لابن باجة"، لكن في قوله هذا يحاول جمع شتات مجموعة من المفاهيم التي تبين هذا الأمر. ونجد الدارس، وهو بصدد معالجة مفهوم الإرادة من منظور كل من ابن سينا وابن باجة، يستنتج أن: "المعنى الذي رامه ابن سينا من توظيفه لمفهوم الإرادة هو غير المعنى الذي كان يؤسّس له ابن باجة، فإنّ الإشكال لم يكن ليطرح أصلاً عند الأوّل، ولم يكن مدعوًّا لأيّ احتراس في اختيار لغته ومفاهيمه في صدد هذا الموضوع، بينما لم يكن لينشغل ابن باجة، إلى الدرجة التي رأينا بوضع المحرّك الأوّل في الحيوان، ومنه في الإنسان، بين المحرّك بالطّبع والمحرّكات السماوية، إلاّ لأنّه كان يوطّئ بالفعل لتأسيس قول في الإنسان عبر التساؤل عمّا يحدّده من مبادئ، وعبر قياس حركاته وأفعاله ونتائجها بطبيعة المبدأ أو المبادئ المحرّكة له نحو إتيان هذه الأفعال. وهو ما يفسّر إحالاته العديدة على كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، واستحضاره لمضامين أخلاقية بأكملها في تناوله لهذا الموضوع".[7]
إن ما يفهم من هذا التأكيد المسترسل من لدن الدارس على موقف ابن باجة، هو أن هذا الأخير توفق في الإقرار بمشروعية موضوع الحركة الإرادة من عمق "علم الطبيعة"، وهو أمر ينفصل به عن معلمه أرسطو، ويتفرد به عن باقي الفلاسفة المشّائين، مع فارق جوهري بين كل من ابن سينا وابن باجة، هو أن مقاربة الأول لمفهوم الإرادة انتهى به المطاف إلى الأفق الميتافيزيقي، وبالتالي لم تعد تطرح الإرادة بالنسبة إليه مشكلاً فلسفيًا يذكر، بينما تأكيد ابن باجة على حضورها ضمن علم الفيزياء، وامتدادها في علم النفس، والأخلاق وحتى العلم المدني، جعل منها موضوعًا إنسانيًا بامتياز، وهو موضوع وفق هذا المنحى سيطرح مجموعة من الإشكالات العويصة، مادامت الإرادة هنا لصيقة بالإنسان. ومن هنا أيضًا نفهم لماذا يلح الدارس على مسألة أساسية هي جعله من فلسفة ابن باجة في مبادئها ومنطلقاتها قولاً إنسيًا بامتياز، وهذه عبارة نقتبسها من خاتمة الدارس وهي توضح هذا الأمر أحسن توضيح، إذ يقول: "لم يسبق لأحد من المشّائين، قبله ولا حتّى بعده، أن تجشّم ركوب مخاطره وتبعاته النظرية داخل علم تحكمه علّية فيزيائية صارمة كما سبق القول[8]. وهكذا إذن "أضحى موضوع "الإرادة" محور الفحص، خاصّة مع ابن باجة الذي جعل منه موضوعًا قائمًا بذاته لا يتقدّم فقط بوصفه دليلاً على وجود المحرّك الأوّل، وإنّما يتقدّم، أيضًا، بوصفه ما يقام عليه الدليل من فرط طابعه الإشكالي وتشابك الأسئلة التي يطرحها."[9]
هذا فيما يتعلق بالجانب الفيزيقي وحضور مفهوم الإرادة فيه، وما يترتب على هذا الحضور من إشكالات ومآزق، عبر عنها ابن الصائغ أفضل تعبير، إذ حاول فك مشكلاتها من خلال عثوره على مفاهيم تعينه على تحقيق هذا الأمر. لينتقل الدارس بعد ذلك في مقاربته لمفهوم الإرادة إلى مستوى ثانٍ هو مجال السيكولوجيا، إذ لم يعد للإرادة مجال الفاعلية بالمعنى التام، كما كان عليه الأمر في مجالها الأول أي مجالها الطبيعي، بل أصبحت تزاوج بين الفعل والانفعال، مادام أنّ محرّك النفس الفعلي هو "الانفعال الحاصل في الجزء النّزوعي" من النفس،[10] وتتمثل أهمية هذا الباب أساسًا في كون الإرادة لا تحدد طبيعتها بالمعنى المكتمل إلا في مجال علم النفس نظرًا لكونها تتكون من بنية معقدة وعناصر متباينة، وهو مجال يفرض على الدارس استحضار فريقين من الفلاسفة المسلمين: فريق يدرج من خلاله كل من ابن سينا والفارابي، وفريق ثانٍ يمثله كل من ابن باجة وابن رشد، إذ وقع الفريق الأول في خلط والتباس مردهما عدم الفصل بين مجال النفس عند الحيوان ومجال النفس عند الإنسان، وهو التمييز الذي تحقق عند الفريق الثاني، ويبدو أن إشادته هنا بأهمية ابن رشد لا تتجاوز كونه لم ينفصل عن أستاذه ابن باجة، والأهم من ذلك أن الدارس يعيب على كل من ابن سينا والفارابي تعميمهما مبدأ الإرادة على الكائن غير الناطق والناطق دون فصل أو تمييز، بينما سعى كل من ابن باجة وابن رشد إلى ضرورة الفصل، إذ إن مبدأ الإرادة عند الحيوان هو الحس، بينما هو عند الإنسان يتجاوز ذلك ليصبح مبدأً عقلياً، وهي مقدمة أخرى يريد من خلالها المؤلف بيان أن توجه ابن باجة أولاً ثم ابن رشد ثانيًا هو توجه إنساني بامتياز، ولقد ذهب في مناولته لموقف ابن باجة إلى أبعد مدى، وهذه فقرة من الخاتمة تبين هذا الأمر: "يظلّ العقل هو المحرّك الأوّل في الإنسان بلغة ابن باجة، صحيح أنّ الإنسان كسائر الحيوان مؤلّف من المحرّك الأوّل ومن الآلات، إلا أنّ المحرّك الأول ليس هو الخيال كما هو الشأن عند الحيوانات غير الناطقة، وإنّما المحرّك الأوّل في الإنسان هو الأنا، الأنا الإنسانية التي تشترط الوعي، والتي تقف في مواجهة كلّ من النّزوع والخيال على حدّ سواء. بينما الآلات منها ما هي آلات إرادية (النّزوع والخيال) ومنها آلات طبيعية (أعضاء البدن)"[11]. وقد أراد الدارس من خلال هذه الخلفية الإنسانية أن يثبت أن ابن باجة هو رائدها دون منازع، سواء في جانبها الفيزيقي أم النفسي.[12] فمع ابن باجة ستنتقل الإرادة من معنى عام يضم الحيوان والإنسان إلى معنى خاص هو حكر على الإنسان من حيث هو عقل، هذا دون تجاوز الإرادة مبدأً حيوانيا، لتصبح الإرادة في شكلها الكلي هي إرادة قائمة بذاتها: "إنّ صفة الكلّية تنتشلها الإرادة من جزئية مضمون غريزتها التي تضفي عليها صفة العقل، ثمّ ترتقي بها إلى مرتبة الغرض الكلّي."[13]وهو قول سينقلنا المؤلف من خلاله إلى النظر في الإرادة الإنسانية فعلاً مدنيًا، وهو الباب الذي سيخصص فيه القول للحديث عن الإرادة المدنية، في مستوى ثالث وأخير من هذا الكتاب.
إن ما يثير انتباه القارئ في الباب الثالث هو ذلك الحضور المكثف الذي سيحظى فيه ابن باجة إلى جانب أبي نصر الفارابي، فمن جهة نجده لا يتواني عن القول بأن ابن الصائغ لا يخرج عن معلمه الفارابي الذي اعتنى عناية مهمة بالقول المدني، وهو الاعتناء نفسه، أو ربما أكثر الذي سيعمل ابن باجة جاهدًا في التأسيس لقواعده، حتى إن اختلف في بعض التفاصيل والنتائج مع معلمه الفارابي، ومن جهة أخرى يجد الدارس في ابن باجة أنموذجاً فريدًا من نوعه، نظرًا لقوله بالمحرك الأول الذي يفيد معنى الإرادة: "ليس المقصود بالمحرّك الأوّل، إذن، شيئًا آخر غير مبدأ الإرادة ذاته."[14] لكن النتائج التي يستخلصها المؤلف من هذا القول توحي بشيء من المخاطرة في القول بأن ابن باجة يريد من هذا الكلام أن يقول أن الأمر يتعلق بالأنا، بل على حد تعبيره إن الإرادة في عمقها هي الأنا، فإن صح هذا الأمر، فهل يكفي تحصيل لفظة الأنا أو استخلاصها من كتابات ابن باجة، حتى ننسب له تفوقه وتفرده بالقول الإنسي، والذي على ما يبدو هو قول يفترض الإرادة ويستدعيها بكل معانيها ودلالاتها سواء العامة أم الخاصة؟
وتجدر الإشارة إلى أنّ نظر الدارس في الإرادة، في الباب الأخير، يختلف عن نظره فيها في المجالين الطبيعي والسيكولوجي، رغم الامتداد الحاصل بين هذه المجالات، ولعل من بين أهم الرهانات التي كان يراهن عليها الدارس هي حضور الإرادة عند الفلاسفة المسلمين، فإلى جانب بروز فيلسوف سرقسطة الذي لم يربط الإرادة بالسعادة الأخروية، في هذا المجال أيضًا، كما حصل مع الفارابي، بل ربطها بالمجتمع الناقص أو الجاهل، وهو منسجم في هذا الربط مع مشروعه الإنسي، يلاحظ مع ذلك أنّ ابن باجة مثّل غيره من الفلاسفة المسلمين، مقارنة مع معلمه الفارابي، يعمل على ربط الإرادة بالعلم لا بالفضائل الخلقية، وهو الأمر الذي لم يسمح لهما معًا بسد الفراغ المعرفي على المستوى العملي، بل تركا المجال للشريعة لتنهض بهذا الأمر، بحجة أن لا سبيل للبرهان على المبادئ العلمية، وهو الجانب الذي يؤاخذه الدارس على مقاربتهم لإشكال الإرادة، والذي ظلّ حبيس المجال النظري، في الوقت الذي كان من اللازم أن يباشر الفلاسفة تصوّراتهم العملية، ولا سيما في وظيفة الإرادة التشريعية والسياسية، فإنّ هذه الوظيفة كانت ستعرف توجهًا آخر في غاياتها ومقاصدها، لولا ذلك الانزياح الذي كان الفلاسفة المشاؤون سببًا مباشرًا في حصوله. والنتيجة هو غياب أي تشريع وضعي يساكن أو يعوّض التشريع الديني، وربما هذا هو الأمر الذي لم يجرؤ فلاسفة الإسلام على إنجازه أو تحقيقه. وهذا هو مكمن الضعف أو ربما الفشل الذي لحق بفلسفة الإرادة الإسلامية في مجملها والتي تفتقر في أبعادها السياسية إلى اعتبار الإرادة غاية في ذاتها، عوضَ البحث عن غايات أخرى من ورائها. وكأني بالدارس يريد أن يعبر عن رغبته في وجود إرادة سياسية عند الفلاسفة المسلمين، بالوزن نفسه، أو ربما أكثر، من إرادتهم المعرفية التي كانوا يسعون وراء تحقيقها. والنتيجة المترتبة عن هذا النوع من المقاربة هو نفي الإرادة، بدل إحيائها وتفعيلها في ظل مناخ سياسي يرعاها، رغبة منهم في تقعيد الإرادة السياسية بوصفها غاية في ذاتها.
وأخيرًا، ما هو مقصد الدارس من وراء إثبات فلسفة إرادوية عند الفلاسفة المسلمين؟ صحيح أنّ النظر في مفهوم الإرادة تطلب من الدارس عناءً ومجهودًا كبيرين، لأن طبيعة المفهوم تقتضي ذلك، ولأن مفهوم الإرادة نفسه يتقاطع مع مفاهيم ودلالات تنتمي إلى مجالات متعددة، كمجال الفيزيقا، والسيكولوجيا، وعلم الهيئة، والعلم المدني، وصولاً إلى التيولوجيا. إنّ الأمر يتعلق بالنظر في طبيعة هذا المفهوم أولاً، وهو نظر دفع الدارس إلى الوقوف عند النص الأرسطي أولاً حتى يتبين له في الوقت نفسه منزلة هذا المفهوم عند أرسطو، مقارنة مع منزلته عند الفلاسفة المسلمين، وبالفعل قد يتبين له أن الإرادة عند أرسطو مفهوم باهت، ولم يعنَ به كإشكال فلسفي قائم بذاته، في المقابل من ذلك ومن خلال الوقوف عند نماذج من الفلاسفة المسلمين، نجد أن هذا المفهوم أخذ مسارًا جديدًا أفرز مجموعة من الإشكالات الذي تطلبت من الفلاسفة جهدًا كبيرًا، ليظهر من ثمّ بوصفه إشكالاً عميقًا، ينطلق من فلسفة الطبيعة ويمر عن طريق السيكولوجيا، ليجد منتهاه في العلم المدني. وإذا كانت الإرادة في المجالين الأولين قد لقيت عناية خاصة ودقيقة، فإن الأمر لم يكن كذلك حينما تعلق الأمر بالقول السياسي، إذ تمّ سلب الإرادة بمعناها العملي والتشريعي لتسجن في قالب نظري خالص، وهو الأمر الذي لم يقبله الدارس، وكان دون توقعاته أو ربما طموحاته.
[1]- سعيد البوسكلاوي، مفهوم الإرادة في الفلسفة الإسلامية المشائية، ص 41
[2]- انظر مثلاً: المصدر السابق، ص45، أما بصدد تلمذة ابن رشد على يد ابن الصائغ فانظر: المصدر السابق، ص 44
[3]- نفسه، ص 45
[4]- نفسه، ص 45
[5]- نفسه، ص 45
[6]- نفسه، ص ص57-58. إن حضور ابن باجة في معظم تفاصيل الكتاب هو أمر له أكثر من دلالة، من أهم هذه الدلالات أن ما يوجه فكر الدارس ليس هو اهتمامات معظم الفلاسفة المسلمين، كما هو مشار إليه من عنوان البحث، بل إن ابن باجة كان له نصيب أوفر وعناية أكبر من غيره. ولقائل أن يقول أن الأمر متعلق بحضور بعض التفاصيل والجزئيات عند ابن باجة أكثر من غيره، لكننا نقول إن الدارس لا يتوانى في التنويه والإشادة بكل فكرة مصدرها ابن باجة، صحيح أن الأمر لا يضير في شيء، لكن ما يثير استغرابنا هو لماذا لا يعلن الدارس هذا الأمر؟ هل كانت هناك أسباب تفرض على المؤلف هذا الإعجاب الصامت والخفي بجل أفكار ابن الصائغ؟ أم أنه تخوف من خندقته ضمن الفكر الباجي؟
[7] نفسه، ص ص 99-100
[8] نفسه، ص ص 99-100
[9] نفسه، ص 323
[10]-ابن باجة، رسالة الوداع، ضمن: رسائل ابن باجة الإلهية، تح: ماجد فخري، ص 124
[11]- نفسه، ص 331
[12]- هذه مجموعة من الفقرات التي تبرز نوعًا من الانحياز لابن باجة، وهي فقرات تبرر في الوقت نفسه سبب هذا الانحياز على أنه انتصار للإنسان أو "الذات الإنسانية" كما يصرح بها الدارس، وهو انتصار في عمقه لا يبتعد كثيرًا عن أستاذه المرحوم محمد ألوزاد الذي كان يدافع بدوره عن نزعة إنسية عند ابن باجة قبل الأوان، انظر مثلاً: "غير أنّنا سنكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ ميزة هذا الموقف الثاني الذي يمثله ابن باجة، علاوة على أبي الوليد، تكمن في تأكيده على أنّ الإرادة ليست شيئًا آخر غير العقل، أعني العقل العملي، تمامًا كما ليست الشهوة بوصفها مبدأً محرّكًا شيئًا آخر غير التخيّل" ص 218
[13]-نفسه، ص 220
[14]- نفسه، ص 279