قراءة نقديّة في كتاب: "السّلطة والمعارضة في الإسلام" لزهير هوّاري البحوث التّاريخيّة المعاصرة: سؤال المنهج ومأزق التّحديث
فئة : قراءات في كتب
قراءة نقديّة في كتاب:
"السّلطة والمعارضة في الإسلام" لزهير هوّاري
البحوث التّاريخيّة المعاصرة: سؤال المنهج ومأزق التّحديث
شكري بوشعّالة
مقدّمة
لا أحد ينكر ما للحدث التّاريخيّ من أهمّيّة في فهم كلّ مجتمع لتجربته الوجوديّة، واستقراء سيرورتها ماضيا وحاضرا تأسيسا للمستقبل، وتتضاعف تلك الأهمّيّة حينما يرتبط الأمر بحقبة تاريخيّة مؤسّسة وحاسمة، كالتي اشتغل بها الباحث زهير هوّاري في مؤلّفه "السّلطة والمعارضة في الإسلام: بحث في الإشكاليّة الفكريّة والاجتماعيّة 11هـ - 132 هـ ⁄ 612م - 750م"، وهي الفترة الممتدّة من هجرة رسول الإسلام إلى سقوط الدّولة الأمويّة على يد الثّورة العبّاسيّة.
وما من شكّ في أنّ هذه الحقبة قد كانت منطلقا لعديد البحوث والدّراسات العربيّة منها والاستشراقيّة بضروب من المقاربات شتّى وصنوف من المناهج عديدة؛ حتّى بات الخوض فيها من مستهلك المواضيع ومكرور المباحث، وأضحى الرّهان الأساس لكلّ مقبل عليها هو تحقيق قدر عزيز من طرافة المقاربة.
وإذا كانت التاريخانيّة الغربيّة قد شدّدت على المقاربة النّقديّة للتّاريخ وعقلنة التّأليف فيه، حينما نزعت عن الكتابة التّاريخيّة لبوس التّمجيد وإكسير الأسطرة، فإنّ التّأليف التّاريخيّ عند العرب، رغم أصالته ومحاولة عصرنته قد ظلّ مشوبا بإشكالات المنهج ومآزق التّحديث.
في هذا الإطار، تتنزّل قراءتنا النّقديّة في كتاب زهير الهوّاري أملاً في تبيّن حدود الجدّة المنهجيّة في مقاربته لأثيل الحوادث التّاريخيّة جاعلين من الإشكالات التّالية مقصدنا الأساس منه:
- أيّة جدّة منهجيّة قارب بها الهوّاري كرونولوجيّا مبحث "السّلطة والمعارضة في الإسلام" التّراثيّ؟ وهل من طرافة تذكر في ما خلص إليه من نتائج؟
- ما حدود بحثه في إشكاليّة المسألة اجتماعيّا وفكريّا دون سائر العوامل؟
- هل شرط التّأريخ تكثيف الرّواية أم إثارة القضايا ومحاولة رصد ثوابتها ومتغيّراتها بعيدًا عن إسار الميقاتيّة المقيت؟
- أليس من شروط البحث التّاريخيّ في الإبستيميّة المعاصرة تجاوز الرؤية التّقليديّة للحدث التّاريخيّ، وعدم الاكتفاء بنقل المرويّات وسردها سردا "طبريّا" أو "أثيريّا" عبر تنويع مناهج المقاربة إيمانا بتكامل العلوم وتواشج المعارف البشريّة وتطالبها؟
التّعريف الفنّيّ بالكتاب وترجمة موجزة لصاحبه:
صدر كتاب "السّلطة والمعارضة في الإسلام: بحث في الإشكاليّة الفكريّة والاجتماعيّة (11هـ-132هـ ⁄ 612م - 750م) في طبعته الأولى سنة 2003م عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر في بيروت لزهير هوّاري، وهو أستاذ جامعيّ وأكاديميّ لبنانيّ معاصر، وباحث في التّاريخ الإسلاميّ له سلسلة من المقالات والمؤلّفات؛ منها ما نشر بموقع العربي الجديد"[1] فضلا عن كتابه موضوع القراءة النّقديّة في هذه الورقات، وهو متوفّر في نسخة مصوّرة في الفضاء الرّقميّ.
والكتاب في أصله أطروحة دكتوراه في التّاريخ الإسلاميّ، قدّمها صاحبها إلى قسم التّاريخ بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة دون أن يحدّد تاريخ مناقشتها ونالت درجة جيّد جدّا. ويقع في اثنتي عشرة وستمائة صفحة موزّعة على سبعة أبواب، وفي كلّ باب فصول ثلاثة مع مقدّمة منهجيّة، وخاتمة تأليفيّة لأبرز النتائج المستخلصة، فضلا عن ثبت للمراجع باللّسانين العربيّ والأعجميّ والفهارس العامّة. وقد حرص مؤلّف الكتاب على تقسيم مادّته على النّحو التّالي:
- المقدّمة المنهجيّة: من الصّفحة 7 إلى الصّفحة 17
- الباب الأوّل: رسالة ورسول ومعارضة: من الصّفحة 19 إلى الصّفحة 75
- الباب الثّاني: معارضات الخليفة: من الصّفحة 78 إلى الصّفحة 140
- الباب الثّالث: من الاغتيال إلى الفتنة: من الصّفحة 141 إلى الصّفحة 198
- الباب الرّابع: عليّ بن أبي طالب: معارضة الامتيازات: من الصّفحة 199 إلى الصّفحة 247
- الباب الخامس: الخلافة الأمويّة: المركزيّة. من الصّفحة 248 إلى الصّفحة 305
- الباب السّادس: أحزاب وتيّارات المعارضة. من الصّفحة 307 إلى الصّفحة 400
- الباب السّابع: الإصلاح المستحيل وثورة المعارضات من الصّفحة 401 إلى الصّفحة 528
- الخاتمة: من الصفحة 529 إلى الصّفحة 537
- المراجع والفهارس العامّة: من الصّفحة 538 إلى الصّفحة 612
ويبدو توزيع المادّة البحثيّة متوازنًا في الأبواب الخمسة الأولى باستثناء البابين الأخيرين اللّذين يحوزان شطرها تقريبا؛ ولا يحتاج النّاظر في متن الكتاب إلى كبير عناء لتصنيفه ضمن كتابات الفكر السّياسيّ عامّة ومبحث الدّينيّ والسّياسيّ في التّأليف التّاريخيّ على وجه التّخصيص، وهو ما يبرّر اندراجه ضمن هذا المشروع البحثيّ.
العرض التّأليفيّ الموجز لمحتويات الكتاب:
يشير المؤلّف في مستهلّ كتابه إلى أهمّيّة البحث في قضيّة المعارضة وتعدّد إشكاليّاتها، مشدّدًا على الجانب الفكريّ والاجتماعيّ في علاقة المعارضة- بما هي قوى رافضة ومناوئة - بالسّلطة القائمة وحرب التّموقع وديناميّة الصّراع بينهما.
وينصبّ البحث وفق منشئه على حقبة تاريخيّة مهمّة من التّاريخ الإسلاميّ شملت إلى جانب فترة البعث الخلافة الرّاشدة والعهد الأمويّ، وهي فترة ثريّة من حيث الأحداث التي عرفتها سياسيّا واجتماعيّا وفكريّا...وحسبه أنّها الفترة التّأسيسيّة لفكرة المعارضة لا بالمعنى التّاريخيّ للكلمة فحسب، بل بالمعنى المعاصر أيضا.
وإذا كان السّياسيّ والاقتصاديّ قاسمًا مشتركا بين الدّراسات -عربيّها واستشراقيّها- السّابقة على مضمون هذه الأطروحة وفق تعبير صاحبها، فإنّ الاجتماعيّ والفكريّ هو أسّها هذه وعمادها، وهو ما يبشّر بسدّ ثغرة بحثيّة في مقاربة تاريخ المعارضة والسّلطة في الإسلام. وقد بدأت المعارضة في الإسلام منذ بداية الرّسالة المحمّديّة، وكانت داخليّة قبل أن تصبح خارجيّة بتمدّد مجال الدّولة الإسلاميّة النّاشئة واتساع رقعتها الجغرافيّة.
وقبل الخوض في مختلف تجلّياتها رصد المؤلّف جملة من الصّعوبات التي اعترضت حفره في موضوع المعارضة في الإسلام، منها خاصّة بنية المجتمع الإسلاميّ ببعده القبليّ وعدم استقرار ملامحه إلى جانب تأخّر عصر التّدوين، وما أفرزه من اشتغال المتخيّل بالحوادث التّاريخيّة، ما جعلها عرضة للتّزييف والتّحوير والأسطرة، وهو ما عقّد مهمّة المؤرّخ في كتابة التّاريخ وغربلة الرّوايات.
آثر المؤلّف منذ البداية أن يكون بحثه في موضوع المعارضة والسّلطة في الإسلام "مشدودا إلى التّاريخ"[2] لا ينفصم عنه، وبشّر بانتهاج الموضوعيّة العلميّة في مقاربته محاولا الاحتفاظ "بمسافة عن كلّ التّيّارات والاتّجاهات"[3] مؤكّدا في الآن ذاته على ضرورة تحيين الوعي التّاريخيّ عند العرب، باعتبار أنّ "وعي التّاريخ وأصحابه في تلك المرحلة يختلف بالضّرورة عن وعينا نحن"[4] على حدّ عبارته.
في الباب الأوّل من الكتاب والموسوم بـ "رسالة ورسول ومعارضة"
بيّن المؤلّف أنّ سلطة الرّسول الرّمزيّة والاعتباريّة بالمدينة قد تشكّلت تدريجيّا، ودخلت في صراع رباعيّ الاتّجاهات لمشروعه التّوحيديّ، وهي تباعا المعارضة القرشيّة المكّيّة لاستشعار القرشيين بأنّ بساط النّفوذ والسّلطة بدأ يسحب من تحت أقدامهم لصالح مركز نفوذ جديد أقامه الرّسول بالمدينة، ومعارضة المنافقين بالمدينة، والمعارضة اليهوديّة لاعتبارات عقديّة بالأساس ترى في الدّين الجديد تهديدا حقيقيّا لسلطتهم الرّوحيّة على أتباعهم ممّن تهوّد من القبائل العربيّة والمعارضة البدويّة التي مجّت الانصياع إلى أوامر محمّد القائد، فانقلبت عليه وارتدّت على المعاهدات والأحلاف المبرمة بين الأطراف المتصارعة تاريخيّا تأسيسا لمفهوم الأمّة الواحدة.
وفي الباب الثّاني: معارضات الخليفة
انصبّ اهتمام الهوّاري على صنوف المعارضات التي واجهها الخليفة الأوّل أبو بكر الصّدّيق، وتكاد تكون نسجا على منوال المعارضات التي عانى ويلاتها باعث الرسالة، فكانت هاشميّة مكّيّة ومدينيّة تزعّمها سعد بن عبادة ومعارضة قبليّة أشعلت فتيلها حركات المتنبّئين الرّاغبين في النّسج على منوال التّجربة النّبويّة قصد استعادة شيء من السّيادة والزّعامة المجتمعيّة، فضلا عن معارضة المرتدّين بعد وفاة الرّسول، والصّراع على عرش الخلافة بين كبار الصّحابة واشتعال نار الفتنة.
وفي الباب الثّالث: من الاغتيال إلى الفتنة
اشتغل المؤلّف بتجلّيات الإشكاليّة في عهدي عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان، فحين كان سعيهما حثيثا إلى استقطاب القبائل العربيّة، وتحفيزها على الانصهار الطّوعيّ في الحروب التّوسّعيّة نحو العراق والشّام باسم الإسلام، كان لمراكمة الغنائم من فارس وبيزنطة دور حاسم في إثارة نعرة المعارضة من تحت رماد بتضافر عوامل عدّة؛ منها الاقتصاديّ والسّياسيّ بتمركز سلطة القرار حول شخص الخليفة واعتماد سياسة اجتماعيّة تنهل من المعين القبليّ القرشيّ، خاصّة مع الخليفة الثّالث. وقد كان لاغتيال الخليفتين الأثر الكبير في إصباغ المعارضة بلون دمويّ عنيف وقاتم.
وفي الباب الرّابع: عليّ بن أبي طالب؛ معارضة الامتيازات
أثار الكاتب في البداية إشكاليّة مصطلحي السّلطة والمعارضة على عهد رابع الخلفاء الرّاشدين، باعتبار اتّساع رقعة الدّولة الإسلاميّة، وتشظّي الزّعامة وتوزّعها على أكثر من شخصيّة قياديّة، منها خاصّة شخصيّة عليّ بن أبي طالب بمكّة وشخصيّة معاوية بن أبي سفيان بالشّام، وهو ما عقّد إشكال التّصنيف لدى المؤلّف للأحداث التّاريخيّة وفق ثنائيّة السّلطة والمعارضة، غير أنّ ذلك لم يمنع إقراره بوجود معارضة مكّيّة لعليّ بن أبي طالب بزعامة عائشة وطلحة والزّبير فضلا عن المعارضة الأمويّة ذات الولاء لعثمان القتيل. في هذا الإطار، نفهم تخصيص الهوّاري فصلا كاملا لحرب صفّين نظرا لما تعكسه هذه الحادثة التّاريخيّة من تلاشي وحدة المجتمع الإسلاميّ القائمة على أساس عقديّ لتطفو إلى السّطح من جديد النّعرة العصبيّة أو قبليّة الانتماء، وستزداد الأمور سوءا بانشقاق الخوارج عن عليّ، وتبنّيهم "لخطّ المعارضة المستمرّة" وفق تعبيره.
أمّا الباب الخامس: الخلافة الأمويّة؛ المركزيّة
فقد انعقد بفصوله الثّلاثة على أسّ عقديّ يكرّس مذهب الجبر مطيّة لاعتبار السلطة الأمويّة أمرا واقعا وقدرا محتوما كائنا ما كان نهجها، وهو ما أحدث غليانا مجتمعيّا بالبصرة والكوفة، ودعّم الصبّغة الدّمويّة للمعارضة في التّاريخ الإسلاميّ، خاصّة مع وفاة عليّ بن أبي طالب، وهو ما ضاعف الصّراع على السّلطة وأذكى حربا أهليّة نالت من قوّة الدّولة الإسلاميّة الكثير.
وأمّا الباب السّادس: أحزاب وتيّارات المعارضة
فقد خصّصه المؤلّف لبيان الأسباب الموضوعيّة لبروز المنازعات والصّراعات الدّامية بين السّلطة ومعارضيها في ظلّ تسلّط عدد من الخلفاء الأمويّين واستبدادهم، وفي مقدّمتهم عبد الملك بن مروان والحجّاج بن يوسف وغيرهما، منبّها إلى بروز ما يمكن أن نصطلح على تسميته بحرب التّأويلات وبحث أصحاب السّلطة والمعارضين مثلا بمثل عن سند نظريّ حديثيّ يثبّت الحكم الأمويّ، أو يسعى إلى تقويضه ونسف دعائمه. وقد استرسل الكاتب في البحث عن ظروف نشأة فرقة الخوارج، وعن دورهم في توسيع نطاق المعارضة في الإسلام عبر استقطاب القبائل والموالي على حدّ السّواء، وهو ما أفضى إلى اعتبارهم كائنا مجتمعيّا منبوذا نظرا إلى تشدّدهم العقائديّ ورفضهم الأعراف المتّبعة في تولّي السّلطة السّياسيّة، وفي مقدّمتها قرشيّة الخلافة. ومقابل ذلك أفرد الباحث الفصل الأخير من هذا الباب للمعارضة الشّيعيّة، فأكّد على أصلها العربيّ قبل الفارسيّ من خلال مناصرة شيعة اليمن لأهل العراق في حرب صفّين وكلّ الثّورات المطالبة بأحقّيّة آل البيت بالسّلطة، ليقف بعد ذلك على التّطوّر الطّارئ على المشروع الشّيعيّ، وما عرفه من انقسامات وتلوينات ومحاولات تقعيد دينيّ فقهيّ، وتمكين سياسيّ ثائر. فأمّا التّقعيد، فعلى يديْ الإمامين جعفر الصّادق والباقر، وأمّا التّمكين فعبر زيد بن عليّ الثّائر والمختار الثّقفيّ من قبله، حين سيطر على الحكم بالكوفة، ورفع شعار "يا لثارات الحسين" وخطّط لبناء دولة علويّة بالعراق.
وأمّا الباب السّابع: الإصلاح المستحيل وثورة المعارضات
فقد خصّصه المؤلّف للحديث عن تفكّك العهد الأمويّ بسبب النّزاع على السّلطة بين قادته ورجالاته، ليؤكّد الباحث مرّة أخرى أنّ المعارضة كانت داخليّة قبل أن تعرض للرّياح الخارجيّة، وقد تعدّد ممثّلوها من أهل العراق والحجاز والشّام، فضلا عن الموالي والخوارج والشّيعة. وبات الأسّ العقديّ ممثّلا في الجبريّة أسّا متداعيا آيلا للسّقوط، ورغم مساعي الإصلاح من داخل البيت الأمويّ على يدي كلّ من عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد، إلاّ أنّها باءت بالفشل، وانهارت الدّولة الأمويّة أمام سيل الثّورة العبّاسيّة الجارف، وفقدت شرعيّتها وحجّيّة مرجعيّتها العقديّة الجبريّة، ولم تجد بدّا من إشهار السّيف لاستعادة السّلطة المنفلتة منها لا محالة.
القسم النّقديّ والتّقويميّ للكتاب متنا ومنهجا:
لقد كشف مؤلّف زهير الهوّاري "السّلطة والمعارضة في الإسلام" ما للتّاريخ وللحدث التّاريخيّ من أهمّيّة في دعم وعي الشّعوب والمجتمعات بماضيها لتدبّر حاضرها وواقع حالها، لاستشراف مستقبلها، وهو ما يفسّر اندراجه ضمن المشاريع التّحديثيّة السّاعية إلى فكّ الارتباط بالتّصوّر التّقليديّ عن التّاريخ والحدث التّاريخيّ استئناسا بالنّهج العقلانيّ في الكتابات التّاريخيّة المعاصرة.
غير أنّ المؤلَّف لم يكن في بنيته وتراتب مادّته فصولا وأبوابا سوى نسج على منوال المؤلّفات التّاريخيّة السّابقة عليه قديمها وحديثها عربيّها واستشراقيّها التزم فيه صاحبه بالتّسلسل الميقاتيّ أو الكرونولوجيّ المتواتر لأبرز الأحداث التّاريخيّة التي عرفها المسلمون منذ عهد الرّسول إلى حين سقوط الدّولة الأمويّة وقيام دولة بني العبّاس على أنقاضها.
وقد مثّل العهد النّبويّ بكلّ دلالاته الرّمزيّة وأبعاده الوجوديّة وقداسته المكتسبة في الضّمير الجمعيّ النّموذج الأوفى في دراسة أصول الصّراع بين المعارضة والسّلطة في هذا الكتاب، ولم تكن الأبواب المخصّصة لدراسة الموضوع في عهد الخلافة الرّاشدة سوى رجع صدى ونسخة توشك أن تكون مطابقة للأصل النّبويّ مع بعض الفويرقات طبعا التي حتّمها تغاير الظّروف الموضوعيّة؛ ففي جميعها كان للعوامل القبليّة والعقديّة والسّياسيّة والاقتصاديّة إكراهاتها وفاعليّتها. فلماذا لم يرتّب الهوّاري مادّة بحثه وفقها تجنّبا للتّكرار والاجترار ونأيا به عن رتابة الطّرح وتشاكل مكوّناته فصولا وأبوابا.
ثمّ إنّ احتفاء الكاتب ببعد المسألة الاجتماعيّ في كامل أبواب الكتاب وفصولها، يدفع إلى التّساؤل عن محدوديّة الخلفيّة النّظريّة السّوسيولوجيّة للكاتب، رغم توظيفه لبعض مناهجها وفي مقدّمتها منهج المقارنة بما هو الأداة المثلى لعلم الاجتماع وفق تعبير إيميل دوركهايم؛ فالكاتب وإن رصد وجوه الائتلاف والاختلاف لتجلّيات مسألة المعارضة والسّلطة في الإسلام، إلاّ أنّ نهج تلك المقارنة لم يرق إلى مستوى الالتزام به كخيط منهجيّ ناظم وصارم يضمّ متن البحث برمّته، فظلّت الأبواب كما الفصول مستقلّا بعضها عن بعض، ليشكّل كلّ منها مبحثا فرعيّا خاصّا، رغم ظاهر الانتماء إلى حقبة تاريخيّة بعينها. وهنا تثار مسألة أخرى في غاية الأهمّيّة، وهي مسألة المصطلحات والمفاهيم المركزيّة في هذه الأطروحة، إذ لم يمهّد الهوّاري لبحثه بمدخل مفهوميّ يبين من خلاله عن مقصده من هذا المصطلح أو ذاك المفهوم، ويقيم به الحدود الدّلاليّة والفوارق المعنويّة بينهما، وبين ما شاكلها وتاخم معناها.
والحقّ أنّنا، وبعد تدبّر مادّة البحث وتقليب النّظر فيها لم نجد كبير فرق مثلا بين الاجتماعيّ والقبليّ أو بين الفكريّ والعقديّ - الدّينيّ أو بين الثّورات والمعارضات، أو بين الخارجيّ والفوضويّ وهكذا...حتّى كدنا نجزم بأنّ الكاتب، إنّما يوظّف معجما سياسيّا حديثا لتوصيف أحداث تاريخيّة تراثيّة، وقد استشعر الهوّاري هذا الإشكال، حينما أثار في الباب الرّابع إشكاليّة مصطلحي السّلطة والمعارضة بين علي ومعاوية، وكان عليه منهجيّا إثارة المسألة المصطلحيّة في بداية بحثه لا في وسطه كما ذكرنا سابقا، وفي السياق ذاته أقرّ المؤلّف بضبابيّة مفهوم السّلطة العربيّة الإسلاميّة وحسبه أنّه لم يكن واضحا، إذ تدامج مع الإمارة القبليّة في كثير من المفاصل، مثلما تدامجت جوانب المسألة بشكل يعسر معه الفصل بينها؛ فارتفاع وتيرة المعارضة أو انخفاضها يرتبط وفق تعبيره بالسّياسيّ والفكريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، وهو ما يضع ادّعاءه تدارك النّقص الحاصل في البحوث السّابقة اجتماعيّا وفكريّا، موضع تنسيب ومراجعة.
ومن المآخذ المرصودة في هذا المؤلّف كمّ المرويّات الكبير في كلّ الفصول والأبواب، وإذا كان من المفيد لدى المؤرّخ أو الباحث في التّاريخ الاشتغال بالمرويّات في مضانّها قصد إقامة المقارنات بينها وتأويلها واستخلاص النّتائج منها خاصّة ما تعلّق منها بالحوادث الجليلة، فإنّ استرسال الكاتب في عرض روايات عن الطّبريّ أو المسعوديّ أو من سواهما عن أحداث عابرة، يبدو مفرغ المعنى، وليس له من مزيّة سوى التّمطيط والإطالة وتسويد الصّفحات بما لا يخدم إشكاليّة الموضوع (راجع مثلا الصّفحات 25، 430، 31، 54، 164، 83، ...) وهو ما دفع بنا إلى الإقرار بوجود طابع روائيّ سرديّ لهذا البحث التّاريخيّ على شاكلة المؤرّخين القدامى، وهي في نظرنا منقصة منهجيّة لبحث تاريخيّ معاصر لم يستطع صاحبه التّخلّص منها، رغم استئناسه بمقاربات أعلام في الكتابة التّاريخيّة، مثل هشام جعيّط ورضوان السّيّد وجولدتسيهر وجواد علي وغيرهم.
ومن المآخذ على الباحث أيضا، اتّسام أغلب خلاصاته واستنتاجاته في أبواب البحث وفصوله بالتّكرار، ومنها ما هو متعارف عليه، بل إنّ بعضها (ص 70 مثلا) يعتبر من باب البداهة وتحصيل الحاصل والمستهلك (ص 119 حديث الأئمّة من قريش ومدى صحّته، وقد كان من بين المواضيع المتداولة في مؤلّف حوار المشرق والمغرب لحسن حنفي ومحمّد عابد الجابريّ الصّادر في تسعينيات القرن الماضي) هذا فضلا عن الطّابع السّرديّ لبعض الاستنتاجات (530 مثلا)، وهو ما يدفع إلى الإقرار بوجود إشكال في منهج المقاربة لدى هذا الباحث، رغم زعمه الإتيان بما لم يؤت به منهجا ومتنا.
لقد بدا الهوّاري متبنّيا، في مواضع عديدة من مؤلّفه، للرّؤية الحداثيّة للفكر التّاريخيّ تلك التي أنسنت النّظر في الحدث التّاريخيّ، وجعلت من التّاريخ "تاريخ البشر للبشر وبالبشر" بعبارة عبد اللّه العروي الطّافحة تاريخانيّة ورجّحت كفّة المادّيّ المتعيّن على اللاّمادّيّ المفارق والتّفسير الموضوعيّ لسيرورة الوقائع والأحداث على التّفسير الخرافيّ والأسطوريّ، وشتّان ما بين من يجعل التّاريخ أمرا إلهيّا لا حول للإنسان فيه ولا قوّة، وهي الرّؤية التّقليديّة، وبين من يعتبره قطب الرّحى في الفعل التّاريخيّ.
غير أنّ الكاتب، وإن وظّف بوعي أو بغير وعي بعض الآليّات التّاريخانيّة كنقده للمتون والرّوايات، واستخلاصه بعض القوانين العامّة الخاصّة بالقضيّة موضوع الدّرس، ومحاولته نزع القداسة عن علاقة الدّين بالسّياسة في التّراث العربيّ الإسلاميّ، بدءا من شخص الرّسول مرورا بمن خلفه وصولا إلى سقوط الدّولة الأمويّة وتأسيس الدّولة العبّاسيّة، لم يجرؤ على التّصريح بذلك علنا بحجّة أنّه يتّخذ له موقعا محايدا من كلّ الاتّجاهات طلبا للموضوعيّة، أو ربّما لعدم اقتناعه بوجاهة المقاربة التّاريخانيّة الماركسيّة في دراسة التّراث الإسلاميّ، مثلما فعل عبد اللّه العرويّ في مجموع كتاباته. ويتأكّد تحفّظه ذاك بعدم إدراجه مؤلّفا واحدا لهذا المفكّر المغربيّ السّاعي إلى تعصير الدّراسات التّاريخيّة.
ثمّ إنّ رغبة الهوّاري المعلنة في تحيين نظرة العرب إلى التّاريخ والحدث التّاريخيّ تناقضها محاذرته الوقوع في مطبّات الفلسفة، وكأنّه يستبعد أن يكون للفلسفة دور في تعقّل موضوع السّلطة والمعارضة في الإسلام، واعتباره موضوعا تاريخيّا صرفا، غير أنّ النّظرة الموضوعيّة لإيبستيميّة العصر الذي نحيا توقفنا على مجانبة الهوّاري الصّواب، حين استبعد المدخل الفلسفيّ إلى المسألة متغافلا عن البعد التّكامليّ بين المعارف البشريّة، مدّعيا أنّ النّظر الفلسفيّ مؤدّ إلى "السّقوط في قاع التّنظير والأحكام المسبقة"[5] وفي ذلك مجانبة لواقع العلوم في الفترة الحديثة والمعاصرة تلك التي ينتمي إليها صاحب الكتاب، ألم يقدّم هيغل تصوّره عن علاقة العقل بالتّاريخ؟ أليس هو القائل: "إنّ التّاريخ هو محكمة العقل"؟ والتاريخ هو تاريخ الإنسان، والفكر هو جوهر الإنسان ومسار التاريخ الإنسانيّ، إنّما هو مسار تطوّر العقل. هذه العقلنة التي طبعت إيبستيميّة التّاريخ الحديث والمعاصر منذ القرن التّاسع عشر كفيلة بأن تبدّد مخاوف الهوّاري من الفلسفة، وكان بالإمكان أن تضيف الكثير لمنهج مقاربته التّاريخيّة للموضوع.
صحيح أنّ لرؤية المؤرّخ العربيّ "خصوصيّة" في مقاربة التّاريخ والحدث التّاريخيّ تختلف اختلافا جذريّا عن الرّؤية الحداثيّة لذات المجال المعرفيّ؛ غير أنّ الانتماء الطّوعيّ أو الكرهيّ إلى العصر الرّاهن يحتّم علينا تحيين رؤيتنا استئناسا بشتّى ضروب المعرفة البشريّة، حتّى لا يتعطّل فكر العرب التّاريخيّ، ولا يتحنّط وعيه ونظرته التّطوّريّة إلى مسار البشريّة العامّ نحو المستقبل.
[1] www.alaraby.co.uk
[2] راجع مقدّمة الكتاب ص 10
[3] نفسها.
[4] مقدّمة الكتاب ص 16
[5] راجع مقدّمة كتابه ص 17