قضية المرأة والحاجة إلى تفكير فلسفي
فئة : مقالات
قضية المرأة والحاجة إلى تفكير فلسفي
رشيد بن سعيد طالع
مقدمة
لن ينكر أحد جهود الفلسفة النسوية في تقديمها لمجموعة من المبادئ والأسس النظرية[1] التي احتكمت إليها جل الحركات النسائية، ومكنتها من المطالبة بالمساواة المطلقة بين الجنسين كحل جذري يقضي على كل الشرور التي لحقت المرأة على مر العصور نتيجة سيادة النظام البطريريكي الذي يمنح السلطة المطلقة للرجل. لكن المتأمل في هذه المبادئ، يجدها تنطلق من وضعية المرأة داخل المجتمع ولا تتجاوزها نحو تحديد ماهيتها، بل تعتبر النسويات كل سؤال يتغيا تحديد ماهية المرأة سعي لإثبات خضوعها بالرجوع إلى الأسباب التي قامت الفلسفة النسوية بالكشف عنها، خاصة الأسباب الاجتماعية والدينية والبيولوجية، والحال أنه ليس ثمة علاقة منطقية لزومية بين سؤال الماهية وفكرة الخضوع.
إن سؤال الماهية بما هو سؤال فلسفي يحدد الخصائص الذاتية التي بها يكون الكائن، وتجعله منفردا عن غيره من الكائنات، غرضه الأساسي التأسيس للاختلاف بين الموجودات لا التطابق الذي يجعل الكل شبيها بالكل ويقضي على كل تفرد ممكن لكائن ما. وعليه، فإن سؤال ما المرأة؟ هو سؤال يروم بالأساس تحديد ماهية المرأة كذات تختلف كما قالت سيلفيان أجاسينسكي عن غيرها من الذوات في أشياء معينة وتشبهها في أشياء معينة. هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه الورقة التي لا تشكل سوى مدخل لبحث أشمل وأعمق؛ وذلك من خلال اعتمادنا لثلاثة تصورات متباعدة زمنيا متقاربة فكريا وموضوعاتيا؛ الأول يرتبط بتصور محيي الدين ابن عربي والثاني بسيلفيان أجاسينسكي والثالث بكارول جليكان.
1- تصور محيي الدين ابن عربي: الحب قوة المرأة
لقد أخطأت المقاربة البيولوجية في نظر ابن عربي، حينما حصرت المرأة في خانة الضعف والرجل في خانة القوة؛ لأنها اقتصرت فقط على المعطيات الحسية (خاصية الحيوان) دون التسامي نحو الكلي والرمزي (انفراد الإنسان).
إن هذا الأمر يكشفه ابن عربي، حيث يقول: "وليس في العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه إلا من عرف لما وجد العالم وبأية حركة أوجده الحق تعالى، وأنه عن مقدمتين فإنه نتيجة، والناكح طالب والطالب مفتقر والمنكوح مطلوب والمطلوب له عزة الافتقار إليه والشهوة غايته"[2]. إنها قوية وقوتها تكمن في الحب، حيث توقظ في الرجل الانجذاب إليها، وتثير إليها الرغبة في الحب، فيعرف باطنه في حنينه وافتقاره إليها، وهو يخال نفسه القوي الشديد ويدفعه عشقها للانحناء أمامها.[3]
لقد احتقرت الحركات النسائية الحب الذي تتمتع به المرأة، فبخست من شأنه وقللت من قيمته، وقامت بحصره في باب العواطف والمشاعر[4]، والحال أن الحب سلوك ثقافي قبل أن يكون شعورا باطنيا وفرديا.[5] وإلى جانب ذلك، دعت النسويات إلى التنكر لهذا الحب، باعتباره السبب الذي يبقي المرأة في سلبيتها الدائمة، [6] إلا أن ذلك يبقى صعب المنال؛ فالحب ممكن بلا وجود والوجود غير ممكن بلا حب.[7]
2- تصور سيلفيان أجاسينسكي: السياسة قوة المرأة
تجعل أجاسينسكي من السياسة قوة المرأة ومحددها الجوهري، حيث تقول: "إذا كان الرجل قد اخترع الحرب، فإن المرأة قد اخترعت السياسة منذ اللحظة الأسطورية التي أقنعت فيها المرأة الرجل بدل أن يأخذها بالقوة كما تؤخذ القلعة".[8]
ولأنها لا تملك السلطة والقدرة على الحرب تلجأ إلى ممارسة السياسة، باعتباره فن الإقناع والتحكم في الكلام وإلى إقامة علاقة مع شركائها، باعتبارها علاقة تقتضي وجود مصلحة مشتركة، لا ينبغي أن نفهم من عدم القدرة هاته على الحرب هونا وجبنا للمرأة، بل على العكس من ذلك ينبغي أن نقرأها كنقطة قوة يمنحها لها اختيارها للسلم؛ فعندما نكون على علم بحرب توشك أن تقع ولم تقع، فإننا نتأكد مليا أن التفاوض والحوار والإقناع انتصر على السيف المادي الذي يريق الدماء، وهو ما يزيدنا تأكيدا في تأكيد أن المرأة قوية الأقوياء، حينما تلجأ لخيار الإقناع والتحاور بدل العنف والحرب.
إن السياسة بهذا المعنى، ستتغير دلالتها من تدبير الشأن العام كما رأينا عند أرسطو إلى دلالة عدم اللجوء إلى خيار الحرب[9]، حيث يتبين أنه كلما قلل الرجال في ربط علاقات سياسية فيما بينهم، كلما كثر استعمالهم للعنف الخالص، وكلما كانوا أقل استعدادا للتفاوض في علاقتهم مع النساء.
إن القول بضرورة السياسة للدولة ينتج عنه القول بضرورة المرأة للرجل؛ ذلك أن السياسة تمنع وقوع كل ما من شأنه أن يدمر العلاقات الإنسانية المتحضرة بما في ذلك العلاقة بين الجنسين، وتصل بهما إلى الإذلال والدمار.
3- تصور كارول جيليكان: الاجتماع قوة المرأة
إن من بين المسائل الإيجابية التي تنفرد بها المرأة عن الرجل، وهي كونها أكثر الكائنات تكيفا داخل المجتمع[10]، وهو ما يجعلها بالضرورة إنسانة عاقلة عكس ما ذهبت إليه النزعة المركزية الذكورية؛ ذلك أن التكيف عبارة عن عملية عقلية بامتياز[11]، ويظهر ذلك أثناء مواجهة الذات للموضوعات الخارجية، حيث تقوم باستيعاب خصائص هذه الموضوعات، لتكون بذلك ما يسمى بالخطاطات الذهنية Les schèmes mentaux، لكن الموضوعات الخارجية ليست بمثابة معطيات ثابتة أو جامدة، بل هي دائمة الحركة والتغير والتجديد. لذاك، نجد أن هذه العناصر الخارجية تفرض خصائصها على الذات لترغمها على ملاءمة الخطاطات الذهنية المكونة سابقا، حتى تجعلها تتحدد وفقا للتغيرات الجديدة التي حدثت على عناصر الوسط. إن هذه السيرورة Le processus الدائمة بين عمليتي الاستيعاب والتلاؤم هي التي تخلق توازنا بين الذات والموضوع، وتؤدي - بالتالي - إلى تحقيق التكيف Adaptation المنشود[12]، لكن رغم كل هذا، فإن الحركات النسائية ترفض تخصيص وتمييز المرأة في اجتماعيتها وتكيفها مع الواقع، حيث تقول إن ماهي عليه هو نتيجة صيرورة اجتماعية وثقافية فرضت عليها منذ نعومة أظافرها. وعلى عكس ذلك، تذهب جيليان إلى القول إن المرأة مجبولة على الاتصال، حيث تميل إلى تحديد ذاتها، وإلى الاحتواء وإلى حل الصراعات من خلال محاولة تفهمه في سياق منظور كل شخص واحتياجاته وأهدافه.[13]
خاتمة
إن أبحاث الفلسفة النسوية تقوم بالأساس على طبيعة تصورها لمفهوم الإنسان، حيث تفرغه من كل مضمون جنسي يخفي معه وجود رجل وامرأة، وهذا ما قادها للمطالبة بالمساواة المطلقة بين الجنسين. إن إعادة النظر في قضية المرأة، وما ينتج عنه من تأسيس لفهم جديد يقتضي إعادة النظر في ماهية الانسان. فلا يوجد إنسان دون معالم جنسية ونفسية وثقافية واجتماعية لا تتضمن بالضرورة أية فكرة مسبقة لإخضاع كائن ما على حساب كائن آخر بناء على ما يمتاز به، وإنما تدعونا لضرورة تبني منطق جديد تسميه سيلفيان أجاسينسكي منطق الاختلاط Logique de mixité الذي يقوم على تقسيم تمثلنا لماهية الإنسان إلى قسمين؛ حيث لا تعود المرأة كائنا ثانويا ولا تطلب التماهي مع الرجل.
[1] للاضطلاع على مبادئ وأسس الفلسفة النسوية أنظر:
https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%B3%D8%B3%D9%87%D8%A7-%D9%88%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A6%D9%87%D8%A7-7194
[2] نزهة براضة، الأنوثة في فكر ابن عربي، دار الساقي، لبنان، ط 1، 2008، ص. 222
إن سيمون دي بوفوار تعترف بهذه القوة التي تميز المرأة – وإن كانت تبخس من أمرها - حيث يقول: "إن الضرورة القصوى بالنسبة للمرأة هي ان تسحر قلب ذكر، وتنال البطلات المكافأة التي يطمحن إليها بالإلحاح والمغامرة...وترى الشباب ينطلق مغامرا باحثا عن المرأة، يهاجم تنينا ويصارع عمالقة، وهي تنتظر سجينة ببرج أو قصر أ, مقيدة بسلاسل إلى صخرة أو أسيرة نائمة". كما كتبت دنواي في هذا الصدد: "عندما كنت صغيرة جدا، كنت أتمنى استجرار عطف الرجال، أن أقلقهم، وأن ينقذوني، وأموت بين كل الأذرع". انظر:
سيمون دي بوفوار، الجنس الاخر الجزء الثاني التجربة الحيايتة، ترجمة سحر سعيد، الرحبة، سوريا، ط 1، 2015، ص ص. 36، 37
[3] نزهة براضة، الأنوثة في فكر ابن عربي، دار الساقي، لبنان، ط 1، 2008، ص. 223، 224
والمرأة بفضل إحساسها العالي الذي تتميز به تعرف فيما يفكر فيه الرجل وما يحس به. انظر:
The Difference Between Men and Women, A Man’s Guide To The Female Mind, Pandora’s Box, whitout a date of publication, p. 3,4,5.
[4] سيمون دي بوفوار، الجنس الاخر الجزء الثاني التجربة الحيايتة، ترجمة سحر سعيد، الرحبة، سوريا، ط 1، 2015، ص. 307. ثم انظر: يمنى طريف الخولي، "النسوية وفلسفة العلم"، مجلة عالم الفكر، العدد 2، المجلد 34، أكتوبر 2005، ص. 21
[5] جان لوك ماريون، ظاهرة الحب ستة تأملات، ترجمة يوسف تيبس، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1، 2015، ص. 12
[6] إن الحب - على عكس ما ذهبت إليه الحركات النسائية - يرفع الإنسان إلى مقام الإبداع باعتباره كائنا رمزيا وإلى مقام التسامح باعتباره كائنا أخلاقيا وإلى مقام التواصل باعتباره كائنا اجتماعيا. يقول ابن حزم الأندلسي متحدثا عن منزلة الحب وأثره في النفس: "ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه وصرفه طباعه قسرا إلى طباع من يحبه، وترى المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمى الأنف، أي الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة ليانا، والصعوبة سهولة، والمضاء كلالة، والحمية استسلاما". أنظر:
ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة في الألفة والألاف، تحقيق د. الطاهر أحمد مكى، دار الهلال، ط 2، 1994، ص. 170
ويقول في موضع اخر متحدثا عن سلطان الحب: "ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء وانبساط مدبري الدول فما رأيت أشد تبجحا ولا أعظم سرورا بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده ووثق بميله إليه وصحة مودته له وحضرت مقام المعتذرين بين يدي السلاطين ومواقف المهتمين بعظيم الذنوب من المتمردين الطاغين فما رأيت أذل من موقع محب هيمان بين يدي محبوب غضبان". أنظر:
نفس المرجع، ص. 52.
للاضطلاع أكثر على ماهية الحب عند ابن حزم الأندلسي. انظر:
[7] جان لوك ماريون، ظاهرة الحب ستة تأملات، ترجمة يوسف تيبس، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1، 2015، ص. 20
[8] سيلفيان أجاسينسكي، سياسة الجنسين، ترجمة عز الدين الخطابي وزهور حوتي، روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، ط 1، 2011، ص. 129
[9] نفس المرجع، ص. 130
[10] يعد الباحث المغربي د. يوسف تيبس (1) من بين المدافعين عن هذا التصور، حيث يستدل على قدرة المرأة على التكيف باعتبارها قوة تنفرد بها عن غيرها من خلال استناده على مؤسسة الزواج. ضمن محاضرات كان يقدمها الدكتور يوسف تيبس في مادة "الصداقة والحب" بماستر الفلسفة العملية: قضايا ومناهج"، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، فاس، 2016
(1) د. يوسف تيبس: أستاذ جامعي ومفكر مغربي صدرت لهم مجوعة من الترجمات أهمها: المنج إنسانية الإنسانية الهوية الإنسانية لإدغار موران، البناء المنطقي للعالم والمسائل الزائفة في الفلسفة لرودولف كارناب، أسباب وأشخاص لديريك بارفيت ...، والمؤلفات ككتاب التصورات العلمية للعالم قضايا واتجاهات في فلسفة العلم المعاصر، كما ساهم في تأليف مجموعة من الكتب الجماعية والمقالات ذات الاهتمام المنطقي والفلسفي.
[11] تجدر الإشارة إلى أن سيمون دي بوفوار قامت بمراجعة الفكرة القائلة بأن المرأة أقل ذكاء من الرجل لتثب تساويهما في نسبة الذكاء عن طريق علاقات رياضية. أنظر:
سيمون دي بوفوار، الجنس الاخر الجزء الأول الوقائع والأساطير، ترجمة سحر سعيد، الرحبة، سوريا، ط 1، 2015، ص. 57
[12] محمد شرقي، مقاربات بيداغوجية من تفكير التعلم إلى تعلم التفكير، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2010، ص. 40
[13] نحيل هنا إلى كتابها الذي يتناول بالتفصيل هذه الخاصة التي تزخر بها المرأة:
Carol Gilligane, In a Different Voice Psychological theory and women’s development, Harvard University Press, 1993