كتاب "نظام التفاهة" آلان دونو

فئة :  قراءات في كتب

كتاب "نظام التفاهة" آلان دونو

كتاب "نظام التفاهة" آلان دونو

كتاب "نظام التفاهة" (آلان دونو)، وهو أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبك في كندا، صدر عن دار سؤال في بيروت، ترجمة، مشاعل عبد العزيز الهاجري، في طبعته الأولى سنة 2020م.

فكرة الكتاب

عنوان كتاب "نظام التفاهة" (آلان دون) عنوان واضح ومباشر؛ لأن مفهوم التفاهة مفهوم بين وواضح، وصوته قريبة إلى الذهن، ففي معاجم اللغة العربية، رَجُلٌ تَافِهٌ: غَيْرُ مُتَّزِنٍ، قَلِيلُ العَقْلِ لاَ قِيمَةَ لأَعْمَالِهِ. وشخص يَشْتَغِلُ بِتَوَافِهِ الأُمُورِ، أي بِمَا لاَ أَهَمِّيَّةَ لَهُ، يرى المؤلف بكون التفاهة هي الشر في شكل الوعي والعقل الذي يتكيف مع العالم كما هو، الذي يطيع مبدأ القصور الذاتي؛ لأنه كما نعلم جميعًا من الأسهل القيام بأشياء تافهة على القيام بأشياء مهمة مثل التفكير، كما أنه من الأسهل أيضًا القيام بأشياء صغيرة نعلم أنه يمكننا القيام بها بدلًا من البدء في أشياء كبيرة لسنا متأكدين من النجاح في تحقيقها.

أما كلمة نظام، فبمعنى تشكل وتجمع مجموعة عناصر تشكل بمجموعها كلاً واحداً مع بعضها البعض، حيث يرتبط كل عنصر بالآخر، ينتمي كتاب "نظام التفاهة" إلى قائمة الكتب التي تنتقد الغرب وما آلت إليه الحداثة الغربية بصفتها نزعة استهلاكية جارفة حاضرة في كل شيء؛ فعالم السوق والاقتصاد والمال والمادة هو المتحكم الآن في مصير حياة الإنسان، المشكلة هنا لا تعود إلى حضور المال والاقتصاد في حياة الناس، فهذا أمر مطلوب ولا غنى عنه، بل ترتبط في اختزال الإنسان ووجوده في السوق، وتحويله إلى كائن يتحكم فيه السوق الربح، ولو كان ذلك على حساب البعد المعنوي والقيمي لديه، الأمر الذي جعل جانب القيمة والمعنى يتقلص في حياة المجتمعات اليوم، لصالح كل ما هو شيئي وكل ما لا فائدة ولا معنى وقيمة من ورائه، مادام يجلب الربح، وهذه هي النظرة اليوم التي تتحكم في عالم الفن والإعلام.

الغريب أن التفاهة تسربت إلى الجامعات والمؤسسات العلمية والاجتماعية...فالمرء عليه وضع "كتبك المعقدة جانبا، فكتب المحاسبة سارت الآن أكثر فائدة، لا تكن فخورا ولا روحانيا، ولا حتى مرتاحا؛ لأن هذا يمكن أن يظهرك بمظهر المغرور، خفف من شغفك فإنه مخيف، وقبل كل شيء لا تقدم لنا فكرة جيدة من فضلك فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفا"؛[2] لأن نظام التفاهة عدو بطبعه لعالم الأفكار والتأمل، فلا غرابة إذن أن يجعل نظام التفاهة من التافهين جبهة يقوي بعضها بعضا، فما هو "جوهر كفاءة التافه؟ إنه القدرة على التعرف على تافه آخر، معا يدعم التافهون بعضهم بعضا، فيرفع كل منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار؛ لأن الطيور على أشكالها تقع، ما يهم هنا لا يتعلق بتجنب الغباء، وإنما بالحرص على إحاطته بالسلطة".[3] والسلطة هنا ليست بالضرورة نظام الحكم، وإنما هي سلطة الذوق والاختيار وطبيعة تصور الأشياء... إنها سلطة تسلب إرادة الفرد في الكيفية التي يعيش بها يومه وحياته، وتفرض عليه نموذجها المغرق في التفاهة. ويرى المؤلف أن من أهم مظاهر نظام التفاهة لدى كثير من الناس عدم الوعي بأهمية الوقت، يقول: في المستقبل القريب، أولئك الذين فهموا قيمة الوقت سيحكمون أولئك الذين قللوا من أهمية الوقت، أعلم أن كثيرًا من الضغط يقع على عاتقنا جميعًا لإضاعة الوقت والتقليل من شأنه، هناك كثير من الضغط علينا لمحاولة التغلب على الملل بقضاء الوقت في الحماقات.

الجامعة

"الجامعة[...] قابلة للتلاعب من قبل أي طرف على استعداد لتمويلها"؛[4] لأن نظام السوق بسط هيمنته على الجامعات ومختلف المؤسسات التعليمية، التي تحولت إلى شبه علامات تجارية، فالشركات الكبرى ومن أجل كسب الثقة في مشاريعها، لها نفود بشكل أو بآخر على مختلف المختبرات العلمية، بتوجيه تقاريرها حتى لا تتعارض مع المصلحة المالية؛ لأنها هي في الأخير التي تتحكم في مصاريفها، فمثلا، بدلا من أن تحتل المختبرات العلمية والجامعات دور المراقب العلمي الذي يحرص على سلامة المستهلك وسلامة الطبيعة، سار الوضع مقلوب فلا استمرارية لتلك المختبرات إلا بفعل التمويل والاحتضان من لدن الشركات العملاقة؛ فمن النادر والمستبعد أن تكشف المختبرات عن مختلف المشاكل الصحية التي تتسبب فيها شركة من شركات التغذية العالمية وغيرها من الشركات الكبرى، وحتى إن ظهرت مشكلة ما، فسيكون دور المختبرات هو العمل على الحفاظ على حضور الشركة واستمراريتها، بدل الكشف على وجهها البشع الذي يقدم الربح عن مصلحة المستهلك.

داخل الجامعات ينسحب التفكير العميق والتأملي في النظر إلى الأشياء، وتستولى النزعة التقنية على مختلف مجريات البحث العلمي، والمشكلة هنا ترتبط في سيادة النزعة التقنية بتحويل الإنسان نفسه إلى شبيه للألة؛ فالمهندس أو الخبير التقني وحتى الطبيب لا يفقه أي شيء في مجال الثقافة، فهو أمي من جهة المعرفة بالتاريخ وبالفلسفة وبمختلف الفنون... هذه الأمية الثقافية تتحول إلى عجز من جهة الثقافة، والمعنى وسؤال معرفة ما يميز الإنسان عن مختلف الكائنات.

فحضور العقل التقني بمعزل عن الثقافة، تجعل الإنسان صاحب التقنية العالية فاقدا القدرة على التمييز بين الإنسان ومختلف الأشياء بجانبه، فهو سهل المنال ليستجيب بوعي أو دون وعي لمتطلبات نظام السوق في كل ما يجلب الربح السريع، وتبعا لهذا السياق، يصبح التفكير "تافها حين لا يهتم الباحثون بالملاءمة الروحية لمقترحاتهم البحثية"[5] لا يبدو أن "هناك طائلا وراء التأمل في ما فعله القدماء من قبلنا من أجل إضافة قطعة عمل جديدة إلى ثقافة قائمة سلفا".[6]

الإعلام

في نظر الكاتب حسم التافهون المعركة لصالحهم هذه الأيام، لقد انقضى زمن الحق والقيم؛ لأن التافهين أمسكوا بكل شيء، بكل تفاهتهم وفسادهم، فعند غياب القيم والمبادئ الراقية يطفو الفساد المبرمج ذوقًا وأخلاقًا وقيمًا، فزمن التفاهة زمن الصعاليك الهابط، وكلما تعمق الإنسان في الإسفاف والابتذال والهبوط ازداد جماهيرية وشهرة. فيكفي لشخص ما أن يقوم بنشر تفاهة من التفاهات المصورة ليحقق بعدها ما لا يحصى من المتابعين، والغريب أنه سيتحول إلى بطل ونموذج، في وقت لم يقدم شيئا يذكر يعود بالنفع عليه أو على المتابعين له، والأكثر غرابة أن مختلف الشركات تقصده لتسوق من خلاله مختلف مبيعاتها، هنا تتحول التفاهة إلى حرفة وعمل. يرى المؤلف أن مواقع التواصل الاجتماعي نجحت في ترميز التافهين؛ أي تحويلهم إلى رموز، حيث صار بإمكان أي جميلة بلهاء، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عبر عدة منصات تلفزيونية عامة، هي أغلبها منصات هلامية وغير منتجة.

أما في مجال التمثيليات السياسية والنقابية...وهو مجال يهمه الحفاظ على كرامة العمال ومختلف الفئات المستخدمة، تم تدجينها وإخضاعها، وأصبحت مهادنة للشركات متعددة الجنسيات، ولا تستغرب إن وجدت بعض من قيادات النقابات يمتلكون أسهم عالية في شركات كبرى؛ فالملكية حق من حقوقهم وأن يكون لهم رصيد مالي حق من حقوقهم، ولكن عين المشكلة تكمن في تماهي بعضهم مع مصالح رأس المال ومع جلب الربح على حساب كرامة العمال، وبهذا الشكل يبدو العمل النقابي تافها؛ لأنه موجه لمصلحة ذوي رأس المال والربح بأي طريقة كانت.

الحد من التفاهة

لا يمكن الإطاحة بنظام التفاهة إلا من خلال نشر الوعي الجماعي، بأهمية التفكير في قيمة الإنسان ومكانته في الوجود، وهذا أمر يجعل منه كائنا يدرك جيدا بأنه أكبر من أن يتم اختزاله في دائرة الاستهلاك التي تجعل منه شيء مثل باقي الأشياء الكمية التي يتم الاستغناء عنها عند نهاية صلاحيتها ووظيفتها التي استحدثت من أجلها، وقد يتم تدويرها لتصنع من جديد لنفس الحاجة، فقيمة الإنسان لا يمكن أن تختزل في ما يملك أو فيما يلبس أو في ما يأكل... الإنسان أكبر من كل هذا، فهو قادر دون غيره أن يمنح المعنى لوجوده ولمختلف الكائنات من حوله، فإذا عجز الإنسان عن هذه المهمة لظرف من الظروف من قبيل إغراقه في ما هو شيئي على حساب ما هو معنوي وثقافي، فهذا يعني أنه فقد إنسانيته؛ لأن إنسانية الإنسان تقترن في مجملها بما هو ثقافي وروحي وكل ما هو متعالي. عندما، تتسع دائرة الثقافة والنقد والتحليل والسؤال عند عموم الناس، ستتراجع عقلية القطيع التي تنبهر بكل ما هو سطحي وكل ما ليس من ورائه قيمة نافعة، فتثقيف الجمهور ووعيهم سيكون له دور في تقويض أسس المؤسسات التافهة الفاسدة التي تهدد الديمقراطية بشكل مستمر، وستجد الشركات العالمية التي تنهب موارد دول أخرى، نفسها محرجة ولا تفيدها مختلف الحيل والشعارات التي تسوق من خلالها مختلف منتوجاتها من قبيل أشكال الموضة وغيرها.

ينصح المؤلف باختزال المصطلحات التي تريد الآلة الإعلامية ترويجها للتأثير فينا، وتحويلها إلى موضوعات للتفكير، تتجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات في محاولة جادة لخلق البديل.

[1] كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[2] آلان دونو، نظام التفاهة، دار سؤال، بيروت، ترجمة، مشاعل عبد العزيز الهاجري الطبعة الأولى سنة 2020م، ص.69

[3] نفسه، ص.70

[4] نفسه، ص. 101

[5] نفسه، ص.94

[6] نفسه، ص.96