كتب صادمة

فئة :  مقالات

كتب صادمة

كتب صادمة

الكتب الصادمة لها طعم مميز، بسبب مختلف الأفكار الجديدة غير المعهودة لدى عموم القراء، وبسبب الجدل الواسع الذي يصحبها لفترة طويلة، وهي بهذا الجدل تحرك وتخلخل مختلف القناعات والمسلمات داخل المجتمع؛ فقراءتها وقراءة ما كتب حولها تجعلك، تفهم عن قرب طبيعة تفكير المجتمع، واهتماماته وتصوراته في مرحلة معينة.

كثير من المؤلفين عبر التاريخ، عانو كثيرا بسبب التصريح بمختلف أفكارهم وتصوراتهم، التي تخالف حينها التصور العالم، للمجتمع ولمختلف مؤسساته، وقد كان ذلك سببا ليعمل البعض منهم، على تعديل كتاباته حتى تنسجم مع السياق والزمن الذي عاشوا فيه، ومنهم من نشر الكثير من مؤلفاته باسم مستعار، حتى لا يعرفه أحد وينجو بنفسه من مختلف التهم، ومنهم من تركها مخطوطة، وبين يدي حلقة ضيقة من أصدقائه. والكثير منهم لحقهم الكثير من الأذى لا لشيء إلا لكونه يقول برأي مخالف. نذكر من بين هؤلاء التونسي الطاهر الحداد (-1935م) صاحب كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع". وقد عانى نصر حامد أبو زيد من محنة كبيرة بسبب اتهامه بالردة ... ومن سخرية التاريخ، أن هؤلاء يتحملون عبئا كبيرا ويعنون بسببه، ويحرمون من الكثير من حقوقهم، إن لم يكن ذلك سببا في هلاكهم، وفي الأخير يأخذ التاريخ مجرى الأفكار التي ينادون بها، حيث تبدو في أعين الأجيال اللاحقة أفكارا مقبولة وواقعية.

التاريخ والتحولات الكبرى

طبيعة التحولات الكبرى التي تلحق بتصورات الناس في نظرتهم للوجود وإلى العالم، عبر التاريخ تكون من ورائها صدمات اجتماعية وتاريخية من قبيل الحروب التي تدفع حضارة وثقافة من بين الثقافات، ليكون لها حضور واتساع في مجال واسع. الحرب تخلق صدمة نفسية واجتماعية بين طرفين، حيث ينتبه كل طرف إلى الاستفادة من نقط قوة الآخر. كما أن الكوارث الطبيعية من قبيل الزلازل والفياضات تخلف من ورائها صدمات، ينتج هزات في تصورات الإنسان للوجود.

لكن أهم التحولات الاجتماعية عبر التاريخ تأتي نتيجة صدمة الكتب، فعلى ممر التاريخ وفي مختلف الثقافات، تظهر بين الحين والآخر كتب ومؤلفات صادمة، تثير جدلا واسعا ونقاشا كثيرا، ويختلف المختصون بشأنها، وأحيانا ينخرط في الموضوع عامة القوم. الكتب الصادمة والخارجة عن المألوف يمكن أن عبر التاريخ بالإمكان تقسيمها إلى نوعين: كتب ومؤلفات تثير كثيرا من الردود والقيل والقال بين مختلف فئات المجتمع، وتأتي تلك الردود والمواقف تبعا لانتماءاتهم الأيديولوجية والمذهبية والطائفية... وكثيرا من يكون هذا النوع من المؤلفات يناصر اتجاها مذهبيا أو مدرسيا معينا على حساب آخر، وقد يزول أثرها وحضورها بعد فترة قليلة من الزمن. مؤلفات أخرى يمتد أثرها عبر التاريخ، ولا يتوقف عند الصدمة الأولى التي تخلفها عند ظهورها بين يدي القراء. وهذا النوع الكتب والمؤلفات يراهن على نقاش وبحث قضايا منهجية تعيد بناء التفكير بشأن قضايا تعني الإنسان والمجتمع في نظرته إلى العالم والوجود، وكيف يمكن له أن يفكر ويستثمر ملكاته العقلية.

نضرب مثالا لهذا النوع من الكتب الصادمة، بكتاب محمد الغزالي "تهافت الفلاسفة" وقد اعتبر البعض هذا الكتاب ضربة لما وصفه البعض باستكبار الفلاسفة وادعائهم التوصل إلى الحقيقة في المسائل الغيبية بعقولهم. وقد تلاه كتاب آخر لابن رشد، وهو يرد على الغزالي "تهافت التهافت" كلا الكتابين لهما أثر وتأثير زمن لحظة ظهوره، ولكن الصدمة التي خلفها كل من الكتابين صدمة معرفية لها صداها عبر التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي في نقد الغزالي لفلاسفة زمنه وفي رد ابن رشد عليه. وإلى الآن لازالت صدمة الغزالي وابن رشد حاضرة حتى هذه اللحظة في طبيعة الموقف من الفلسفة. لا شك أن هناك كتبا أخرى لها نفس التأثير والحضور، ولكن ليس بنفس التأثير.

في الثقافة المعاصرة هناك الكثير من الكتب التي كانت صادمة، نضرب مثلا على ذلك كتاب تشارلز داروين "أصل الأنواع" صدر عام 1859م، والذي يعد أحد الأعمال المؤثرة في العلم الحديث، وركيزة من ركائز علم الإحياء التطوري. كان الكتاب مثار جدلٍ وأثار نقاشاتٍ علمية وفلسفية ودينية. ولقد تطورت نظرية النشوء والارتقاء منذ أن عرضها داروين للمرة الأولى ولكن بقي مبدأ الانتخاب الطبيعي أوسع النماذج العلمية قبولاً لكيفية حصول ارتقاء الأنواع، ورغم قبول نظرية النشوء والارتقاء الواسع في الأوساط العلمية إلا أن الجدل حولها لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. فالصدمة التي أحدثها كتاب أصل الأنواع، لها أثر كبير على تصورات الناس.

القرن العشرين وأبرز الكتب الصادمة

في القرن العشرين، ظهرت في العالم العربي الإسلامي، مجموعة من المؤلفات التي خلفت نقاشا وجدالا كبيرا، ويمكن أن نقول عنها إنها كانت كتبا صادمة لتصورات ومسلمات المجتمع، وصادمة لطبيعة التفكير الذي تعوده المجتمع لفترة طويلة، لنكتفي بذكر ثلاثة كتبٍ من هذا النوع، وهي أشد إثارةً في الحياة الثقافية العربية في النصف الأول من القرن العشرين.

الأول: «الإسلام وأصول الحكم» الذي ألفه الشيخ علي عبد الرازق، وصدر سنة 1925م، وهو يرى أن الإسلام لم ينص على طريقة في الحكم؛ فالسياسة أمرٌ دنيوي يعود للناس اختيار وسائله ومبادئه، وهو يرى أنّ نظام الخلافة الذي نُسِب للإسلام ليس من الإسلام في شيء، إنّما هو من وضع المسلمين.

حاجج عبد الرازق عبر كتابه حول مسألة محورية، ألا وهي عدم وجود نص واضح وصريح حول الدولة ونظام الحكم السياسي، لا في القرآن ولا في السنّة. وأن الدولة الإسلامية ومنذ نشأتها كانت دولة سياسية، بينما مفاهيم الدولة، السلطة، الإمام، الخليفة، الخلافة فجميعها ملتبس ولا يوجد نص صريح حولها في المرجعيتين السابقتين، وهو ما يدعو إلى الاجتهاد والعمل على تأسيس علم سياسة هو غائب إلى حدّ كبير في تاريخ الفكر العربي والإسلامي.

تنصبّ محاولة عبد الرازق في هذا السياق، على وضع مفهوم الدولة وما يرتبط بها من مفاهيم أخرى في حقله المعرفي الحقيقي؛ أي حقل السياسة والاجتماع، في الوقت الذي وضع فيه الفكر الإسلامي التقليدي الدولة في حقل الدين، وتحول نقاش أساليب الحكم من قضية سياسية يصح نقدها وتطويرها إلى قضية فقهية يصبح المساس فيها مساساً بالمقدس. فنمت عبر التاريخ سلطة سياسية محاطة بالغموض والقدسية، وبات المساس بالسلطان، إن كان خليفةً أو إماماً أو ملكاً مساساً بالمقدس؛ فالسلطان تحول وفق هذا الفكر إلى ظل الله على الأرض![1]

الثاني: «في الشعر الجاهلي»، الذي صدر سنة 1926م لطه حسين. أثار كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» معارضة شديدة؛ لأنه قدم أسلوباً نقدياً جديداً للغة العربية وآدابها، يخالف الأسلوب النقدي القديم المتوارث، هذه المعارضة قادها رجال الأزهر، واتهم طه حسين في إيمانه، وسحب الكتاب من الأسواق لتعديل بعض أجزائه.

وردت فكرة مثيرة للجدل في كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين مفادها، أن فهم حياة العرب ما قبل الإسلام (الجاهلية) ينبغي دراستها في القرآن؛ فمرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي.[2] لسنا هنا بصدد نقاش كتاب في الشعر الجاهلي، ولكن إن تعاملنا مع هذه الفكرة بنوع من الجدية، فماذا يعني ذلك؟

يعني أن سيرة الرسول الكريم، وما يحيط بها من وقائع وأحداث ينبغي فهمها بدرجة أولى من داخل القرآن؛ لأنه الوثيقة التاريخية التي يمكن الثقة بها أكثر من غيرها في فهم حياة الرسول وشخصيته ودعوته، وهي فكرة طبقها المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط من خلال كتابه "في السيرة النبوية".[3] كتاب في الشعر الجاهلي شكل صدمة فكرية على متلقيه، ولا شك أن صدمته تلك كانت من وراء ظهر الكثير من المشاريع والأبحاث في مجال الفكر والأدب.

الثالث: «الفن القصصي في القرآن الكريم». الكتاب الأخير أطروحةٌ قدمها محمدُ أحمد خلف الله في العام 1947م لنيل شهادة الدكتوراه بإشراف أمين الخولي، لكن لجنة المناقشة رفضتْها، وحجبت الدكتوراه عن كاتبها.

يعرض الكتاب نظرية في فهم القصص القرآني الذي يشغل مساحة كبيرة من سور القرآن؛ إذ يرى أن القرآن يحوي بداخله أبعادا فنية وأدبية في نسج قصصه، فينبغي أن نتعامل في نظر الكاتب مع القصة القرآنية من زاوية البعد الفني والأدبي، وهذا الأمر مغيب لدى جلّ المفسرين وغيرهم من الذين عملوا على فهم القرآن.

القول إن القرآن فيه قصص أسطورية، جعل أحمد خلف الله موضوع شبهة اتهام؛ فهل ذلك يعني كون القرآن يضم قصص وأحاديث ملفقة وباطلة؟ وإذا كان ذلك فما هو وجه الحق والحقيقة في القصة القرآنية؟ وكيف للقرآن أن يجعل مما هو كذب وباطل في أصله، حقا وحقيقة؟ وهل القرآن في حالة من العجز، ليلجأ إلى تبني الأساطير بشكلها الباطل، ليخدم جانب العبرة والأخلاق فيه؟

[1] انظر الرابط: https: //www.jadaliyya.com/Details/44729

[2] طه حسين، في الشعر الجاهلي، دار المعارف، تونس، 1926م، ص28

[3] انظر: جعيط، هشام، في السيرة النبوية، ج1 و2، دار الطليعة، ط1، 2007م.


مقالات ذات صلة

المزيد