كليّات في عالم من الجزئيّات
فئة : ترجمات
كليّات في عالم من الجزئيّات
جون هايل
ترجمة: حاتم الهادي السالمي
«إنَ جميع الموجودات لا تعدو أنْ تكون جزئيات»
لوك
1. فلسفة ما ينبغي أنْ يكون:
ما هي طبيعة الخصائص؟ أيْ ما طبيعة خصائص الأشياء التي تشغل المجال المكانيّ والزمانيّ للعالم؟
ينظر لوك إلى الخصائص بوصفها أنماطاً؛ أيْ «جزئيّات مجرّدة». من ذلك أن حمرة هذه التفاحة وحمرة تفاحة مختلفة لا تتطابقان، ولكن التفاحتين متشابهتان من جهة اللون، وحتّى إنْ كانتا متماثلتيْن في غاية الدّقة، فإنّهما مختلفتان باختلاف الطريقة التي تستمدّ كلّ تفاحة منهما وجودها في العالم.
لذا، يتمثّل أحد الإمكانات في النَّظر إلى الخصائص بوصفها كليّات؛ أيْ كيانات مشتركة يمكن أنْ تكون متكرّرة[1].
فغالبا ما يسلّم، في زمننا الرّاهن، الفلاسفة الذين ينظرون إلى الخصائص باهتمام بالغ بأنّ هذه الخصائص تشكِّل كليّات؛ ذلك أنّ الفكرة القائلة إنّ هذه الخصائص يمكن أنْ تكون جزئيّات تصيب هؤلاء الفلاسفة بالذهول إلى حدِّ أنهم لا يتمكنون من استيعابها.
ويلاحظ بيتر إنفاغن، على سبيل المثال، ما يأتي:
«يُفترض أنْ يكون الكلَّي شيئاً تتوافر منه 'نظائر'، وأنْ تكون له خاصيّة؛ فالحمرة، مثلاً، صفة من صفات الكلّي؛ إذ يمكن لنا أنْ نفترض أنّ بعض الأمثلة من خاصيّة الحمرة ستكون بعض الأشياء مثل التفاح الأحمر.
وأمّا بالنسبة إلى هؤلاء الذين يعتقدون في وجود 'أمثلة عن الخصائص'، فإنّ هذه التّفاحة الحمراء، وتلك التفاحة الحمراء، لا تمثّلان أمثلة عن خاصيّة الحمرة. لكن، إذا أمكننا القول، إنّ في تشابه التفاحتين نرى مثالين للحمرة.
إن الذين يعتقدون في هذه العناصر يطلقون عليها 'حمرة هذه التَفاحة' و'حمرة تلك التَفاحة'. ومن المفتَرَض أن تكون هذه العناصر؛ أيْ «درجات الحمرة المعيّنة» شيئيْن مختلفيْن، وإن كانت التفاحتان على القدْر نفسه من الحمرة» (فان إنفاغن 2007 ب 38).
ويتنامى امتعاض فان إنفاغن تجاه الرّأي الذي ينظر إلى أمثلة الخصائص باعتبارها خصائص محدّدة. ويظهر ذلك في هذا المقطع المقتطف من بعض بحوثه:
«إن الاعتقاد في 'أمثلة الخصائص' لابدّ أنْ يمثل نزعة متجدّدة في الفكر الإنساني، من قِبل أنّه برز مستقلاً في بعض التقاليد الفلسفية. ولكنّي لا أجد أيّ أثر لهذه النزعة في فكري.
فلنأخذْ تفاحتين متشابهتين من جميع النواحي. حسب رأيي، إنّ القول إنّ 'حمرة هذه التفاحة' و'حمرة تلك التفاحة' اسمان لشيئين متمايزين، إنّما هو على الدَّرجة نفسها من المنطقيّة، كقولنا إنّ قطر هذه التفاحة وقطر تلك التفاحة تسميتان لشيئين مختلفين» (فان إنفاغن 2007 ب:38).
ويُظهر جيرولد ليفنسن هذا الميل نفسه في نقاشه لظاهرة «المجاز»؛ أيْ الجزئيات المجرّدة لدى لوك: «المجازات لا يمكن أنْ تكون خصائص محدَّدة من قِبل أنّ مفهوم الخصائص المحدّدة، أو الحالة، هي محض سفسطة؟ لذا، لا يمكن الإقرار بوجود المجازات» (ليفنسن:2006). ويعبّر كلٌّ من سنتيا وغراهام ماكدونالدز عن رأي الكثيرين، حيث يشيران إلى أنَ «الخصائص في السياق الفلسفي المألوف تُعرّف على كونها من الكليّات. وإنّ أيّ حالة من الخصائص لا تعدّ مجازاً لذلك الكلَّي؛ بل هي شيء يمثّل تلك الخصائص» (ماكدونالدز: 2006: 547).
إنَ مثل هذه التّعليقات ستمثّل وقفة تأمُّل لكلّ من تحمّل على عاتقه عبء إفهام طلبة السنة الأولى اختصاص فلسفة معنى الكليّات. فهل يتمكن هؤلاء الطلبة، الذين يزاولون دراسة الفلسفة، من الاستيعاب في آخر المطاف؟ أو أنهم، وبكلّ بساطة، لا يتعلمون سوى صناعة القول، وكبح هواجسهم الأصليّة. فلكيْ تصبح فيلسوفاً مشهوداً لك بالكفاءة يجب عليك أنْ تتعلّم الكثير، بما في ذلك الأسئلة الواجب اجتنابها، والمسائل والخصومات الواجب تفاديها.
وبصرف النّظر عن الاعتبارات الأنثروبولوجية، فإنّ أهمّ ما يلفت النظر فيما يخصّ هذه التعليقات هو مدى التحريف الذي تدخله على التقاليد الفلسفيَة، وهو ما يوعز بأنّ غريبي الأطوار من الفلاسفة، دون سواهم، هم من سيحلمون بتصوّر الخصائص على أنّها جزئيات، في حين أنّ الفلاسفة المتحلّين بالرصانة لن يعيروا هذه الآراء أيّ اهتمام؛ ذلك أنّ الفكرة القائلة إنّ الخصائص كلّيات بقيت على محكّ الزمن رأياً يشوبه الخلل، وهو رأي لا يمكن تبنّيه إلا في غياب قرائن دامغة تفنّده. وعلى هذا النّحو، فإنّ الأطروحة القائلة إنّ الخصائص هي كلّيات تشبه بَطلاً من الوزن الثَقيل. فالبطل يحافظ على لقبه حتّى يهزم هزيمة مُبينة حاسمة.
وتصبح الفلسفة مهدّدة، إذا ما عوّل الفلاسفة على إلهامهم على حساب ما يعلمه الجميع؛ أيْ ما يتفق عليه العقلاء كلّهم، أولئك الذين يتقاسمون مدارك العقل السليم، والقادرون على استيعاب المعاني من أهل الاختصاص، وهو ما يُعرف معرفة مذهبيّة بما ينبغي أنْ تكون عليه الفلسفة؟
كلُّ شيء وارد في عالم الفلسفة، فلا وجود لآراء باطلة، ولا لأبطال من الوزن الثقيل. فالطرح القائل إنّ الخصائص هي جزئيات هو فرضيّة أنطولوجيَّة أساسيّة تتماشى كلّياً مع القول إنّ الخصائص هي جزئيّات. وفي كلتا الحالتين، لا سبيل للتفنيد الجازم لأيّ من الأطراف المتناظرة.
إنّ الأنطولوجيا التّأسيسيّة هي مسألة أخذ وعطاء؛ أيْ مسألة تقدير لما يمكننا تحصيله مقابل ما كنّا قد بذلناه، وعلى هذا الأساس، فإنّي أشكّ في أنْ يكون لمبدأ الكليّات النجاعة الكافية. ومع ذلك، لا يعني أنّي أهدف إلى الانتقاص من قيمة هذا المبدأ، بل إلى تبيان السبب الذي يجعلنا، ربّما، نلفي النّظرية التي تسلّم بأن الخصائص في حدّ ذاتها جزئيّات أكثر قبولاً.
2. الإطار التَاريخيّ:
قبل أنْ نوغل في طرح الموضوع، يجدر بنا أوّلاً أنْ نبسط لمحة وجيزة عن الإطار التَّاريخيّ الحافّ به؛ ذلك أنّ ما يتداوله الفلاسفة المعاصرون حول النَظرية القائلة إنّ الخصائص لا يمكن أنْ تكون كليّات، بل هي في الواقع جزئيّات، له جذور ضاربة في تاريخ الفلسفة، تتجسّد في أفكار يتبنّاها في مواقع مختلفة، فلاسفة متناقضون؛ أيْ هؤلاء الخارجون عن الخط العام، والمنزوون عن التيارات الفلسفيّة المترسّخة. وأمّا بالنسبة إلى الفلاسفة الحقيقيّين والعظماء، فإنّ هذا الموضوع لا يتطلّب حيّزاً يُذكر من التّفكير.
ومع ذلك، فإنّ مراجعة تاريخ الفلسفة على هذه الشّاكلة يعني أنْ ننظر إليه نظرة جرديّة خالصة بالمعنى الاصطلاحيّ للكلمة.
فلنبدأ بأفلاطون المفترَض أنّه النّصير الأصليّ لمبدأ الكليّات، حتى إنّ اعتقدنا أنّ المثل الأفلاطونية تشكل كليّات ونماذج أصلية، فإننا قد نقبل بأن أفلاطون يتبنى المثل المتحرّكة، وهي أمثلة من الكليّات الموجودة في الأشياء؛ بل يشدّد عليها. فثمّة سقراط، وهناك الشحوب الأصليّ وهناك شحوب سقراط؛ أيْ الشحوب الكائن في سقراط. فمن الوارد أنْ يكون سقراط قد تبنّى مبدأ الكليّات، أوْ أنْ يكون معرضاً عنه، ولكنّه حتماً اعتقد في ما يُعرف بــــ «الحوادث الفرديّة»، مثل كرويّة هذه الكرة، ولون هذا الجواد البنّي[2].
لقد تخلى العديد من الفلاسفة البارزين في مطلع القرون الوسطى عن مبدأ الكليّات لينظروا إلى الخصائص على كونها أنماطاً (طرقا) أوْ حوادث. وتضم قائمة هؤلاء الفلاسفة خيرة فلاسفة القرون الوسطى من أمثال بوتيوس وابن سينا وأنساليم وأبيلارد وابن رشد والأكويني وسكوتيوس وأوكام وبوريدان وسواريز. وتواصل هذا الموقف حتّى عصر التنوير؛ حيث تبنّى ديكارت واسبينوزا وليبنتز ولوك وبركلي وهيوم وكانط مبدأ الخصائص، بينما تخلوا عن مبدأ الكليّات. ولم يسجل مبدأ الكليّات، عودته النسبية، إلا مع حلول القرن التاسع عشر. وحتّى في ذلك العصر، تصدى هوسرل وراسل في وقت مبكر لهذا التيار. وفي القرن العشرين تبنى ج. ف. ستاوت وجون كوك ولسن وديفيد وليامس و(ب.ف ستراوسن) و(ولفراد سولارس) مبدأ الخصائص المحدّدة. وهذا الأمر يكاد يكون عرضاً لسلسلة الصور الهامشيّة[3].
إنّ ذكري لكلّ ما سبق لا يرمي إلى التّرويج للرّأي القائل إنّ الخصائص تمثل جزئيّات؛ بل إلى تنمية الشكوك فيما يخصّ المذهب الرائج والقائل إنّ تصور الخصائص باعتبارها جزئيات لا يمكن أنْ نلاحظه إلا في المذاهب الفلسفية المفلسة والمروَّجة من بعض الاستعراضيين والشواذ.
لقد وجد العديد من أعظم الفلاسفة وألمعهم، ممّن نظروا إلى مبدأ الكليّات بعين الريبة، أنفسهم منشدّين إلى الفرضيَة القائلة إن الخصائص تتكوّن من جزئيات، ويعزون هذا الانشداد إلى أسباب معقولة.
3. فاصل بين المصطلحات:
قد أكون قد سقت ما يكفي «من الدلائل» لإقناعكم بأنّ تصوّرنا للخصائص على أنّها جزئيات يستحقّ منّا شيئاً من الإنصات. ومن بين الأسباب التي تجعل من تتبّعها عبر التاريخ أمراً عسيراً هي أنّ حالات الخصائص، وخلافاً للكليّات (أو المثل)، انضوت إلى العديد من الرايات[4]. فقد تحوّلت مثل أفلاطون المتحرّكة مع أرسطو إلى «حوادث فرديّة» وتحوّلت مع فلاسفة العصور الوسطى إلى «حوادث حقيقيَة» وإلى «أنماط». وقد أطلق ج. ف. ستاوت (1921،1936) و(كايث كامبل) (1980،1990) عليها «الجزئيّات المجرّدة»، وأطلق عليها غوستاف بيرغمان «الجزئيّات الكاملة» ونيكولا فولترستروف (1970ب) «الحوادث»، وجيدو كونج (1967) «الجزئيّات الملموسة»، وغارث ماثيوس ومارك كوهن (1968) «الخصائص الموحّدة». إضافة إلى ذلك، يتحدث فان إنفاغن في النَصوص المستشهد بها آنفاً عن «أمثلة الخصائص».
أمَا في الوقت الرّاهن يفضّل العديد من الفلاسفة مصطلح «المجاز»، وهي تسمية اقترحها في الأصل ديفيد وليمز[5]. ويذكر وليم في هذا النطاق جورج سانتايانا، أحد زملائه الذين سبقوه في جامعة هارفرد، بوصفه ملهمه في صياغة هذا المصطلح: 'لقد استعمل سانتايانا مصطلح «مجاز» ليدلّ على جوهر الحدوث...؛ ويتحتم عليّ أنْ أحوّل هذه الكلمة المفرغة من معناها المعجمي لتدلّ على الجزء المجرّد، والذي هو، إذا صحّ التّعبير، حدوث جوهر (1953:7؛1966:78).
ويضمّ كتاب سانتايانا (مملكة المسألة) (1930) فصلاً عنوانه «المجاز» يبيّن فيه صاحبه أنّه يرغب في أنْ يعني هذا المصطلح «جواهر» أوْ كليّات، باعتبارها مقابلاً «للحوادث» المعيّنة.
إنَّ ما دفع وليمز إلى أنْ يغيّر استعمال سانتايانا للمصطلح أمر غير واضح، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ نظرة وليمز المفضّلة للأنطولوجيا تعكس مميّزات محوريّة لدى سانتايانا. (انظر أسفله، وانظر: وليمز 1954).
لقد صرنا في حيرة من أمرنا. فقد تبنّى وليمز مصطلح «المجاز» لسانتايانا، ولكنّه يوظّفه بكلّ وعي ليقصد عكس ما ذهب إليه زميله السابق هذا في جامعة هارفارد. فما سبب ذلك؟
تبدو الاحتمالات الجلية التي تشير إلى أنّ وليمز لم يكن على دراية بالمصطلحات التقليديّة، أو أنه كان يسخر من سانتايانا، غير واردة لعدّة أسباب.
1- أنّ وليمز كان حتماً ملمّاً بالمصطلحات التي استعملها الفلاسفة الآخرون، مثل «الحوادث الفرديّة» لأرسطو، و«أنماط» العصور الوسطى و«الجزئيَّات المجرّدة» لستاوت، التي أدت المعنى الذي يبدو أنه كان يقصده بــ «المجاز».
2- أنّ وليمز فهم استعمال سانتايانا للمصطلح.
3- أنّ لأنطولوجيا وليمز العديد من القواسم المشتركة مع أنطولوجيا سانتايانا.
4- أنّ وليمز شخص حسن التقبّل يحذق استعمال اللغة، ولا يمت إلى العبثية الاصطلاحيّة، أوْ للاستهزاء المجاني بالتقاليد بصلة.
فما الذي يفسّر خيارات وليمز الاصطلاحيّة؟
وعند التفكير في استعماله لمصطلح «المجاز» ليقصد به «الجزء المجرّد»، يسوق وليمز الملاحظة التّالية:
«حيث تتّفق مقولة الجزئيات المجرّدة، المشار إليها، مع منطق الجزء والكل، أوْ ما يُعرف بتقويم الموجودات الأفراد، وحيث تعطي نتائج ومحصلات إلى غير ذلك، وحيث إنها تعرف على كونها أجزاء أدقّ وأصغر من السياق الذي ترد فيه، فهي تكون، بشكل كبير، «عناصر الوجود»، ولقد أثبت ذلك كتابةً في مجلة الميتافيزيقيا (2)؛ حيث أطلقت عليها «مجازات»، وهو مصطلح له علاقة تاريخية وطيدة مع المصطلح اللاتيني 'أنماط'» (1959:4).
إنّ ما ذكرناه يربط بين المجازات والأنماط أو الطرق. لكن ما هي الَروابط التاريخية التي يحتفظ بها وليمز في ذهنه؟
يعرّف قاموس أكسفورد للغة الانجليزيّة المجاز بكونه وجهاً من الكلام يتمثَّل في استعمال كلمة أو جملة لتؤدّي معنى مغايراً لمعناها المعروف في أصل الوضع، وأيضاً في الاستعمالات العرضيَة بوصفها وجهاً للكلام المجاوز للحقيقة؛ أيْ الاستعمالات اللَغوية الحافّة. لذا، فبغضّ النّظر عمّا يكون وليمز بصدد القيام به، فهو يستعمل المجاز كما يجب أنْ يكون الاستعمال. لكن قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية لا يقف عند هذا الحدّ. فإضافة إلى الاستعمال المألوف نجد استعمالات نادرة في المنطق لتعني «جهة»، أو نمط، مثل الجهة في القياس المنطقيّ[6].
إذن، توجد علاقة، حتّى وإنْ كانت غامضة، بين «مجاز» وليمز ومفهوم «النمط» التقليدي، ولكن لماذا يجب علينا تحمّل عناء البحث في مصطلح تربطه علاقة ضعيفة مع مصطلح أكثر ألفةً (أو على الأقلّ أكثر تقليديّةً)؟ لماذا لا نكتفي، على سبيل المثال، بـ «النمط»، حيث نرفض المساهمة في الانتشار المحبط للمصطلحات. أعتقد أنّ ولميز كان يريد استنباط مصطلح لا ينطوي على معانٍ قد تشكّل التباساً جديّاً، أوْ لا يتضمّن روابط تاريخية. لذا، يلاحظ وليمز صراحةً أنه باستعمال كلمة «مجاز»، يقصد ما قصده غيره من أمثال ستاوت بكلمة «الجزئيَات المجرّدة» (1966:92؛1953:174). وعلى الرغم من ذلك يجد إشكالاً مع مصطلح «مجرّد» الذي أصبح يُــــستعمل بصفة مغايرة لــ «معناه الصحيح»، والذي يعني «جزئيّاً، ناقصاً أوْ شذريّاً؛ أيْ سمة ما هو أقلّ من الكلّ المحتوي له» (1953:15؛1966:85؛ انظر أيضاً Williams 1959:5).
«إنّ المعاني المتعدّدة لكلمة «مجرّد»، التي تجعلها مزعجة بالنسبة إلى مزاج التجريبي المعاصر، توعز بأنّ المجرّد يتوّلد من نوع من المهارات العقليّة العجيبة، أو من نوع من الخلود غير الماديّ الدّخيل والبعيد عن المتناول... ويعلن فلاسفة المنطق «تخلَيهم عن الكيانات المجرّدة» دون أنْ يحدّدوا ما يجعل الكائنات «مجرّدة»؟ أو ما يجعل الفرد يتمادى. في التبرّؤ من الكيان 1953:14؛1966:84».
إن الشكل البيضوي لكرة بلياردو محددة، إنّما هو شكل مجرّد، لا بمعنى أنَه يفتقد إلى كونه ملموساً بالكامل، بل بمعنى أنّ فصله عن الكرة هي مسألة تجريد؛ أيْ كما جاء في «اعتبار الجزء» للوك، تكريساً لقدرتنا على النظر في شكل الكرة بصفة مستقلّة عن لونها، أوْ عن تصوّر الكرة في حدّ ذاتها.
ليس المقصود هنا أنه لمّا نسير قُدماً في عملية التجريد فنحن ننتج عمليّة إسقاط «لشيء» من اعتبارنا؛ بمعنى إسقاط (الاعتبار الجزئيّ) هو ما يمكّننا من فهم مصطلح تجريد.
وبما أنّ الفلاسفة غالباً ما كانوا يعجزون عن التوصل إلى هذا «المعنى العريق» فقد نظروا إلى الكيانات المجرّدة على أنّها غير ملموسة، وموجودة بصفة غير مشوّهة، بمعزل عن المكان والزمان، أوْ خارجهما؛ لهذا فإنّ وليمز يعتقد أنّ لفظ «جزء مجرّد» يمكن أنْ يمثّل خلطاً.
هذا أمر جيّد، ولكن ما الذي يجعل وليمز يتفادى مصطلح «نمط» أوْ «حادث فردي» أوْ حتّى مصطلح سانتايانا «حدوث»؟
يشير الاحتمال الأوّل إلى أنّ الفلاسفة الذين استعملوا مثل هذه المصطلحات، مع بعض الاستثناءات، تبنّوا صنفين من الأنطولوجيات المتعلقة بصفة الجوهر.
يمثّل «النّمط» بالنسبة إلى الأكويني، أو ديكارت أو لوك، الطريقة، بَلْه الطريقة المعيّنة، التي يكون عليها جوهر مخصوص. وتكون هويّة نمط معيّن مرتبطة بهويّة الجوهر التي هي نمطه. بيد أنّ وليمز يرغب بأنطولوجيا ذات مقولة واحدة. ووظيفة الجواهر هي أنْ تتشبّع عبر الزمان والمكان بجزئيات حادثة مخصوصة.
إنَ ما نحتاجه هو مصطلح جديد لا ينطوي على خلفيات تاريخية غير ملائمة، أوْ حتّى محرجة. وهنا، يتحمّل المجاز أعباء هذه الغاية بكل اقتدار.
حين أتعرض إلى خصائص محددة، فإنّني أفضّل مصطلح نمط على مصطلح مجاز (كما هو الحال بالنسبة إلى إ. ج. لوو) (انظر بحوثه 1998، 2006) لسببين:
أوّلاً، إنّ من ينعتون أنفسهم بـ «منظّري المجاز» هم اليوم أيضاً بفضل وليمز وكايث كامبل (1981، 1990) وبيترسيمنس (1994) ودافيد روب (1997، 2005) وحنا صوفيا مورين (2002) «منظّرو الحزمة» الذين يتصوّرون الأشياء على أنها حزم من المجازات المتلازمة[7].
فلقد دافع وليمز نفسه عن أنطولوجيا صارمة تتناول المجاز والعلاقات المريولوجيّة بين الجزء والكلّ.
وأنا أساند كلود برنارمارتان ولوو لاعتبارهم الخصائص المحدّدة أنماطاً محدّدة مشتقّة من عبارة «جهة» اللاتينيّة؛ أيْ الطريقة التي توجد بها الجواهر المحدّدة[8]. وهذا ما يجعلني في خانة منظري الجوهر والصفة التقليديين.
ثانياً، عندما نفكّر في الخصائص باعتبارها أنماطاً؛ أيْ طرقاً، يكون من الأيسر أنْ ننظر إليها بوصفها كيانات تابعة؛ أيْ عناصر تعتمد هويتها على الأشياء التي تنتمي إليها. فشحوب سقراط هو شحوب سقراط،؛ حيث لا مجال لأنْ يتحوّل شحوب سقراط إلى سيمياس. وفقاً لهذا التصور، فإن الخصائص لا تتشكل لتكوّن الأشياء؛ كما أنّ الأشياء لا تتكوّن من الخصائص. إنّ الكائنات؛ أيْ الجواهر، هي الجزئيات الأساسية. وكل جوهر يكوّن طرقاً مختلفة، وهذه الطرق هي الأنماط.
وبوسعك أنْ تدبّر لماذا ينشدّ فيلسوف إلى الفكرة القائلة إنّ الخصائص هي جزئيات مثلما يمكن أنْ ينجذب أيضاً إلى «نظريّة الحزمة». وأمّا إذا اعتقدت أنّ الخصائص كانت كليّات، فإنّك ستحتاج إلى طريقة ما لتقحم مفهوم الخصوصيّة في العالم، ثمّ إنّ حزم الكليّات، ستبدو مجرّد كليّات مركّبة.
يمكن لنا أنْ نحقّق الخصوصيّة من خلال تقديم الجواهر باعتبارها عناصر غير قابلة للتكرار تجسد الكليّات أو تمثّلها. ولكن، إذا افترضنا أنّ الخصائص، في حدّ ذاتها، جزئيّات، فإنّ دور الجوهر في التّخصيص سيكون زائداً عن اللّزوم. فلماذا لا نختصر المسافات، ونقتصر حصرياً على الخصائص؟ لماذا لا نختار أنطولوجيا ذات مقولة واحدة تكون على درجة عالية من الأناقة؟
لقد وفّر ج. ف. ستاوت (1921-1936) مثالاً مناسباً لهذا الطّراز من التّفكير. فهو ينظر إلى تصوّر الكائنات باعتبارها جواهر مزوّدة بخصائص أنّها عديمة الفائدة، وهذا ما يدفعنا إلى تناول نظرية الحزمة المتعلقة بالكائنات. ولكن كما توحي به الأفكار، إنّ حزم الكليّات لا تعدو أنْ تكون كليّات مركّبة. أمّا إذا كنت من المعجبين بالفكرة التي تعدّ الأشياء حزماً من الخصائص، وإذا كنت مرتاباً بشأن نظرية الجوهر، فإنك ستتوق إلى أنْ تكون الخصائص في حدّ ذاتها جزئيّات.
لذا تتمثّل إحدى الصعوبات في استيعاب الخصائص، باعتبارها أجزاء تضاف إلى الكائنات. ولقد رأى بعض الفلاسفة، من أمثال ديكارت، هذه الفكرة غير متناسقة في ذاتها تناسقاً صريحاً.
ففي حال وجود شكل بيضاويّ، فستوجد حتماً أشياء بيضاويّة؛ أيْ سيوجد امتداد بيضاويّ لجوهر معين، وفي حال وُجدت أفكار، فسيوجد حتماً شيءٌ مّا يفكِّر؛ أيْ جوهر مفكّر. ويتمثّل المفهوم في تصوّر الخصائص مثل عناصر مستقلة؛ أيْ عناصر تعتمد هويتها على الجوهر المرتبط بها.
وليس المقصود بإبداء هذه الملاحظات إقامة حجّة للاعتراض على نظريَّة الحزم، بل أسوقها لكي أفنّد الانطباع الذي يزعم أنَّ الاعتقاد في الجزئيّات المجرّدة، أوْ الأنماط، أوْ المجاز، لا يتماشى مع القبول بأنطولوجيا تقليديّة ترتكز على العلاقة بين الجوهر والصفة؟
وعلى هذا، لا يوجد فيما يأتي ما يستدعي الانحياز إلى الرأي القائل بفرضية كون الخصائص جزءاً من الكائنات، أوْ أشكالاً توجد عليها الجواهر المعيّنة، ولكنَّني سأواصل الحديث عن الخصائص باعتبارها «طرقاً» بغية أنْ يكون عرضي مبسّطاً.
4. التماثل والهويّة:
إنّ مفهوم الخصائص، باعتبارها أنماطاً هو مفهوم موضوع على محك الدرس؛ أيْ دراسة الأشكال المعيّنة التي تكون عليها الكائنات.
إنَ الأنماط، شأنها في ذلك شأن الجواهر، مختلفة عدديّاً. فعلى الرغم من كون شحوب سقراط وشحوب سيمياس متماثليْن، ربّما تماثلاً دقيقاً، فإنّهما مختلفان. فشحوب سقراط وشحوب سيمياس يمكن أنْ يكون لهما الكتلة «ك» نفسها، ولكن لمّا توضع الكتلة على الميزان، فإنّه يسجّل (كx2). (بينما لا يمكن أنْ تستقرَّ كرتان لهما القطر نفسه «ق» في صندوق مكعّب الشكل كانت جوانبه «ق»).
فماذا يكون انعكاس ذلك بالنظر إلى المشكل المحوريّ «الفرد مقابل التعدّد»؟
إنّ ما نريد تبليغه هو أن لكلٍّ من سقراط وسيمياس وهما شخصان مختلفان، قاسماً مشتركاً، حيث يشتركان في لون واحد، وأن لهما اللون نفسه هو ما يوحي بوجود شيء ما مشترك واحد بين سقراط وسيمياس (وأيّ شيء آخر له اللّون نفسه).
وإنّ مثل هذا التَّفكير ليشكّل دافعاً جليّاً لاعتبار الخصائص كليّات؛ حيث يوجد شحوب كليٌّ واحد، بينما توجد تجلّيات فعليّة ومحتملة لا محدودة للشحوب. فسقراط وسيمياس، مثلاً، لهما اللون نفسه؛ بمعنى أنّهما يتقاسمان لوناً وحداً ولهما ميزة مشتَركة وهي ميزة اللون، باعتبار أنّ كلّاً من سقراط وسيمياس يمثّلان نموذجيْن من الشحوب الكلّي ذاته.
ثمّ إنّ الفيلسوف الّذي يرى أنّ الخصائص أنماط، ويرفض مبدأ الكليّات، قد يدّعي أنّ تمتّع سقراط وسيمياس باللون يضاهي وصول لاعبين مبتدئين للكرة باللباس نفسه، أوْ يضاهي المثال الذي ضربه وليمز، الذي يعدّ فيه اكتساب الابن لأنف على شاكلة أبيه، حيث لا يعكس التماثل الهوية، بل يعكس التشابه المطلق لوليمز (1953:5). وعلى هذا الأساس، فإنَّ اشتراك سقراط وسيمياس في اللون نفسه لا يُعادل اشتراكهما في مطرية واحدة؛ أي إنَّ اشتراكهما في اللون نفسه لا يماثل ملكيّتهما المشترَكة لبيت ريفيّ لقضاء العطلة.
وهنا، يستطيع المعارضون لفكرة الأنماط تقييم المسألة والإشارة إلى أنه بينما يمكن للمعتقدين في مبدأ الكليَّات تفسير أوجه الشبه على أنّها قيمة ثابتة في الهويات، يرتكز مناصرو مبدأ الخصائص المحددة على أساس التشابه «الخالص» و«غير المبرَّر». فكلٌّ يحتاج إلى هوية وإلى شبه ذاتيّ، غير أنّ منكري مبدأ الكليّات يحتاجون، إضافة إلى ذلك، إلى أوجه شبه مطلقة غير منقوصة.
ويتمثّل المقترح في أنَّ الهوية، إذا جاز التعبير، تكتسب بصفة مجانيّة، بينما يكون التشابه غير المبرّر، بمثابة شارب أنطولوجي قبيح معرّض لنصل أوكام للحلاقة.
لكن، لنعتبرْ علاقة التشابه، أو بالأحرى لننظرْ في التماثل الدقيق أوْ التّام. ولنفترضْ أن شحوب سقراط وشحوب سيمياس متماثلان تماثلاً دقيقاً؛ فما الذي يجعلنا نعتقد أنّ هذا التَّماثل يجب أنْ يكون مترسِّخاً في بعض صفات سقراط، أوْ سيمياس، الأعمق والأكثر جوهريّة، أوْ في شحوب كلّ منهما؟ وإذا ما اعتبرت شحوب سقراط وشحوب سيمياس، فإنّ هذا الشحوب نفسه، سيكون، نتيجة لذلك، متماثلاً غاية التّماثل.
فإذا وقعت على النّسبة؛ على نسبة كون التّماثل والهوية على حدّ السواء هما علاقة داخلية تقوم على روابطها، فستتوصّل تبعاً لذلك إلى إدراك العلاقة (انظر: هايل 2009)، ولكن إذا نظرنا إلى التماثل، لا إلى الهوية، باعتبارها مثقلة من الناحية الأنطولوجية، فإنّنا سنخطئ في «إدراك» العلاقة الداخلية لصالح العلاقة الخارجية.
ولذا، فمن الوارد جداً الوقوع في هذا الخطأ؛ لأنّه من السّهولة بمكان أنْ نخطئ في تحديد النّسبة.
وهَبْ أنّك حصلت على علاقة داخليّة، إذا ما توصَّلت إلى تحديد النّسبة، فحينئذٍ من الممكن أنْ تتعرّف على سقراط وسيمياس دون أنْ يكونا متماثلين من حيث اللّون.
فلقد استطاع الله خلق كون يضمّ سقراط وسيمياس دون أنْ يكونا في الحال هذه متماثليْن غاية التماثل من جهة اللّون.
فسقراط وسيمياس، مع ذلك، في هذه الحال التي هي تحت محكّ التدبّر، يمتلكان النّسبة اشتقاقيّاً فحسب.
إذا كان سقراط وسيمياس يتماثلان غاية التماثل في اللون، فإنّ ذلك يعود إلى أنَّ سقراط ملوّن بطريقة معينة وسيمياس ملون بطريقة معينة، وهاتان الطريقتان متشابهتان. وإذا كان الله قد خلق كائنات ملوّنة على هذه الأنحاء، فإن الله بذلك يكون قد خلق كائنات متشابهة من حيث اللون.
إنّ هذه الفكرة، التي تتماشى وأوجه التّماثل الخالصة القويّة هي من الناحية الأنطولوجيَّة أمر مضلّل.
وما ينطبق على صفة التماثل ينطبق أيضاً على صفة الاختلاف؛ فالاختلاف يجب أنْ يكون «صارخاً»، حيث إن الله، لمّا يخلق الجواهر ويزوّدها بالخصائص، فإنه، تبعاً لذلك، يخلق جميع أوجه التشابه والاختلاف. فالتَّشابه والاختلاف، على حدّ السَّواء، ليسا على درجة عالية من التّعقيد، من الناحية الأنطولوجيّة.
5. التكاليف والفوائد:
تقع دراسة الأطروحات الأنطولوجيّة، ليس عن طريق مطابقتها مباشرة مع الواقع؛ بل باعتبار قوتها النسبيّة. فبإمكان أطروحة ما أنْ تتفوق على أطروحة أخرى إذا تضمنتها أنطولوجيا أخرى شاملة، تقوم بدور أكثر فاعليَّة لإسباغ معنى على التجارب التي نخوضها في العالم، بالنظر إلى أنجع نظريّاتنا العلميّة.
ولكن ماذا عن «أطروحة» الاقتصاد، أوْ بالأحرى عن نصل أوكام؟ تقوم «الأطروحة» المقتصدة بدور قوّة التّعديل: في حال تساوت الأشياء الأخرى، تكون النظريّة المقتصدة المرشّحة الأكثر لتكون المفضّلة. لكن الأمور ليست متساوية بتاتاً؛ فالنظريّة المقتصدة تظهر في نهاية اللّعبة، وليس في بداية التنظير.
تمثل النظريّة المقتصدة، التي وقع التّعامل معها على كونها قيداً نظريّاً، عائقاً. ولسائل أنْ يسأل إذا ما كان في استطاعة أنطولوجيا الخصائص (وقد تضمّ المجازات فحسب، أو الجواهر والأنماط) أنْ تحقّق ما يمكن لأنطولوجيا الخصائص والكليّات تحقيقه.
بإمكانك أنْ ترتاب في قدرتها على فعل ذلك، ولكن الرأي القائل إنّ العلوم تلتزم بمشروع لبيان الكليّات قد يبدو قولاً واعداً، حيث يبدو أنّ الكليّات ستوفّر تفسيراً متزناً لقوانين الطبيعة ولمظاهر الانتظام الموجودة في الكون[9].
لقد تساءل هيوم عن مدى منطقيّة توقّعاتنا بأنّ تتصرّف الكائنات المتشابهة بطريقة متشابهة.
يقدّم، هاهنا، أحد مناصري نظريّة الكليّات جواباً جاهزاً: تتصرّف الكائنات المتشابهة، أوْ، بالأحرى، قد تتصرّف بشكل متشابه، لأنّها تضمُّ عناصر متطابقة.
ولنفترضْ، مع ذلك، أنّ هذه الكرة تتدحرج بحُكم شكلها المكوّر، ولنفترضْ أنَّ كروية هذه الكرة تختلف عن كرويّة تلك الكرة. فما الذي يجعلنا نتخيل أنَّ شكل تلك الكرة الكرويّ سيمكّنها من التدحرج؛ فلو كان الشكل الكرويّ شكلاً كليّاً، لما فسح المجال لطرح هذا السؤال: فكرويّة تلك الكرة هي نفسها كرويّة هذه الكرة.
وإذا كانت كرويّة هذه الكرة، بأيّ حال من الأحوال، مسؤولة عن تدحرجها، وإذا كان لتلك الكرة الشَّكل الكرويّ ذاته، فلا عجب في أنّها تتدحرج، أوْ في أنَّ أيّ كرة تتدحرج، أوْ قد تتدحرج.
إنّ هذا الحلَّ الأنيق لمشكل هيوم لا يُمكن أنْ يُتاح لفيلسوف يرى أن الخصائص جزئيّات. فكرويّة هذه الكرة، وكرويّة تلك الكرة، يمثلان شكليْن مختلفيْن تماماً عمّا يمكن أنْ تكون عليه الأشياء المختلفة. وينطبق الشيء ذاته على شحنة وكتلة الإلكترونات المنفردة.
لكن، كيف يمكن لهذه الخصوصيّة الدقيقة أنْ تُؤتي مثل هذه النتائج العامّة التي تميز النظريَّات العلميّة.
لنفكِّرْ في كيفية تصوّر أنصار نظريّة الكليّات للعلاقة بين الكليّات المجسَّدة في الأشياء، وفي قوانين الطبيعة. ففي هذا السياق، بوسعك أنْ تساند أرمسترونغ (1978،1989أ،1997ب)، وتتبنّى تصوّراً خارجيّاً للقوانين.
ذلك أنّ القوانين، حسب أرمسترونغ، كليّات من الدرجة الثانية. ولنفترضْ أنّ (ف وج) خاصيتان كليّتان، فمن الممكن وجود قانون ن (ف وج)؛ حيث تتطلب الكليّات من صنف (ف) الكليّات من صنف (ج).
(في حقيقة الأمر، قد تصبح الأمور على درجة بالغة من التّعقيد، فقد نحتاج إلى جميع أنواع العوامل الإضافيّة لتوفير متطلبات (ج وف)؟ وقد تتدخل جميع أنواع العوامل لمنع، أوْ لصدّ، توفير متطلبات (ف) عبر (ج)؟
ومع ذلك، فلنزعمْ أنّ مثل هذه الأمور تعقّد المشهد دون أنْ تغيّر طبيعته الأساسيّة.
إنّ مثل هذا التَّصوّر يفسح المجال لاحتمال أنْ تكون القوانين محض مصادفة إلى حدٍّ بعيد، فنحن نكتشف أنّ الكليّات من صنف (ف) تقتضي الكليّات من صنف (ج)، ولكنّنا نعترف بفرضيّة أنْ يكون هذا المعطى مختلفاً؛ إذْ توجد في المعاجم الاصطلاحيّة للعوالم الممكنة بعض العوالم التي تتضمّن كليّات من صنف (ف) وأخرى من صنف (ج)، ولكن الأخيرة تعجز عن أنْ تتطلّب الأولى. لذا، ستكون هذه العوالم مفتقرة إلى نظام كونيّ رفيع يصل بين (ف وج).
وتقوم مقاربة مختلفة نسبيّاً تتعلّق بالقوانين، أوْ بعبارة أخرى بواضعي الحقائق من أجل سنّ القوانين، بصياغتها، مصنّفين إيّاها إلى قوانين كليّة من الدرجة الأولى: إنّها درجة من طبيعة (ف qua ف) يستلزم (ج) والطبيعة من (ج qua ج) يستلزمها (ف) (على سبيل المثال انظر إيليس 2001، وبيرد 2007).
ومن هذا المنطلق، تُعدُّ الخصائص قوّة. ولذا ترتبط هويَّة الخاصيّة بالمساهمة التي تقدّمها الخاصيّة لما يقوم به حاملوها، أو لما سيقومون به (لاحقاً).
وتتدنّى «الضرورة الاسميّة» إلى أنْ تغدو «ضرورة ميتافيزيقيّة». وتستمرّ المصادفة، إذا سمح المجال بذلك، من خلال احتمال أنْ تشمل العوالم المختلفة خصائص مختلفة.
وتخلق التَّصوّرات الخارجيّة للقوانين هذه القوانين لتكون فاعلة، ولتكون كيانات في العالم؛ أي كليّات من الدرجة الثانية، فضلاً عن الأشياء ذات الخصائص. فعند خلقه للعالم، يتحتم على الله أن يتعدى خلق الكائنات والكليّات من الدرجة الأولى ليصنع القوانين بتضمينه للكليّات من الدّرجة الثانية.
وتشجّع، على خلاف ذلك، النظريات الدّاخليّة؛ أي تلك التي تنظر إلى الخصائص بوصفها قوى، الفكر القائل إنّه من الأجدر اعتبار القوانين عناصر لغوية؛ أيْ تعميمات تسجل المساهمات التي تبذلها الخصائص المحدّدة لتحقيق التركيبة المزاجيّة لماليكها[10].
فعلى سبيل المثال، كان من الوارد اعتبار قانون الجاذبيّة الكلّي لنيوتن تعبيراً عن مساهمة الكتلة فيما تقوم به الأشياء، أوْ فيما ستقوم به لاحقاً؛ بمعنى ما تقوم به في كيفيّة تأثير الأشياء في بعضها البعض؛ بمعنى الكيف في الكتلة.
ويظنّ مؤيّدو النظرية الخارجيّة أنّ القوانين أدوات للحكم، وأنّها تعمل في ظروف مثالية. أمّا أصحاب المذهب الدّاخلي، فينظرون إلى الأشياء على كونها متمتّعة بحكم ذاتيّ، وإلى فصول القوانين على أنّها محاولات لتهذيب المساهمة التي تبذلها أصناف معيّنة من الخصائص في تطوير قدرات الكائنات.
لكن ما الذي سيحدث للقوانين إذا كانت الخصائص في حدّ ذاتها جزئيّات؟ في تلك الحالة، يكون من الصعب علينا أنْ نتبيّن كيف يمكن لنظريّة خارجيّة للقوانين؛ أيْ قوانين باعتبارها خصائص من الدرجة الأولى، أنْ تبقى متماسكة[11].
وأمّا إذا كانت الخصائص أنماطاً، فإنّه من الطبيعيّ جدّاً أن ننظر إلى الخصائص، في حدّ ذاتها، على كونها قُوى[12]. ولكن ما الذي سيحدث للقوانين تبعاً لذلك؟
وإذا كانت الخصائص أنماطاً لا كليّات، فإنّ التّشابه بين الخصائص والأنماط، على الرغم من ذلك، سيكون بديلاً من مقياس الهوية. وأمّا إذا كانت الخصائص لا تعدو أنْ تكون قوى، فإنّ الكائنات التي تتحلّى بخصائص ستكتسب القدر نفسه من القوة. وفي هذه الحالة لنْ يستطيع مقياس الهويّة أنْ يتجاوز ما يحققه مقياس التشابه من نتائج، من أجل إثبات تلك القواعد العامّة المهمّة المتعلّقة بالنظريّات العلميّة والقوانين المعروفة التي تحكم الكون. وكما سأبيّن لاحقاً، إنّ هذا التصوّر يتناسب تناسباً جيّداً مع التصوّر الذي قدّمه ديفيد وليمز للكليّات، وهذا التصوّر الذي يكشف أنّ الأنماط والمجازات غنيّة بالتّعميم. وفي الحقيقة يبدو كما لوْ أنّ أيّة مزايا يُعتقد أنّها قد مُنحت عبر الكليّات سوف تتوافق مع أنطولوجيا الأنماط. فهذا الرأي يتقاطع مع فرضيّة لوليمز القائلة إنّ الآراء المتعلّقة بالكليّات يجب أنْ تفهم على أنّها حقيقة مثبتة، لا بوساطة «الكيانات العامّة»، والكليّات المتعالية، أوْ المحايثة؛ بلْ بوساطة الجزئيات، وهذا الأمر يوفّر جميع المدعمات اللازمة التي تجعلك تعرض عن أنطولوجيا الكليّات.
لقد كان لوك مصيباً فيما يخص قواعد الخصوصية: تتلخص القصة المعبرة المتعلّقة بالمجال الزمانيّ والمكانيّ في أنّ جميع الموجودات لا تعدو أنْ تكون جزئيّات.
6. الكليّات حسب وليمز:
يفرّق ديفيد وليمز وهو مصدر اهتمام بارز ومستمر فيما يتعلق بالخصائص المحددة بين تصور الخصائص باعتبارها كليات وتصور الخصائص بوصفها أنماطاً أوْ مجازات، معتمداً على مبدأ هويَّة الأشياء غير المميّزة[13]. فهويَّة الأشياء تقوم على المبدأ الآتي حيثما كانت الكليّات محلّ اهتمام: إذا كانت (ف وج) غير مميزة، فإنّ (ف) تكون هي (ج). وخلاف ذلك، فالمجازات غير المميزة والمتشابهة تماماً، يمكن أنْ تُميَّز.
ويستبعد وليمز الفكرة القائلة إنَّ الكليّات يمكن أنْ تحتلّ حيّزاً أفلاطونياً منفصلاً عن البعدين الزمانيّ والمكانيّ. وإذا كانت الخصائص عبارة عن كليّات، وإذا كانت الخصائص تحدث اختلافاً ملموساً بالنسبة إلى الأشياء المرتبطة بالبعدين الزماني والمكاني، فكيف يمكن أنْ تفشل في أنْ تتمركز حيثما تتمركز الكائنات؟
في الواقع، إذا فصلنا الكليّات عن بقية الكائنات، فستحتاج إلى ممثّلين عن تلك الكليّات صلب الكائنات، وهي بالنسبة إلى أفلاطون، «المثل المتحرّكة».
ومع ذلك، فالفلاسفة الذين ينظرون عموماً إلى الخصائص باعتبارها كليّات تعاملوا مع أمثلة من الخصائص المحددة بازدراء[14]، ممّا يدعّم التّصور القائل إنّ الكليّات محايثة، وإنّ الكليّات موجودة في الأشياء التي تمثّلها. فشحوب سقراط وشحوب سيمياس يمثلان الشحوب الكليّ ذاته.
ذلك أنّ صفة الشحوب ليست كياناً مبعثراً، على الرغم من أنَّ الشَّحوبين المذكورين ليسا جزأيْن من الكليّ؛ بل إنّ كلّاً منهما هو الكلّي في مجمله. وهنا نتعرض إلى وجهة النظر التي دافع عنها ديفيد أرمسترونغ حديثاً، ومفادها أنّ الكليّ «موجود برمّته» في كلّ مثال (1979، a1989،1978،1975) من أمثلته. انظر أرمسترونغ «الكليّات كائنة في الأشياء».
وتتمثّل الصعوبة التي يلاقيها أغلبنا عندما يواجه هذه الفكرة في مدى قدرتنا على تلقي معانيها المتاحة. فنحن نفهم الكلمات، ونفهم أنها ترسم صورة للكائنات الزمانية المكانية التي يمكنها أنْ توجد بصفة كاملة، في أماكن مختلفة، وفي الآن نفسه. ولكن، ما الذي ترمي هذه الصورة إلى تقديمه؟
يقترح وليمز إمكانيّة واحدة. فلنبدأْ بالمجازات، ولننظرْ في بعض الأقسام أو المجموعات المتشابهة تماماً من المجازات.
ستكون هذه الأقسام، أو المجموعات، متناظرة بشكل دقيق مع مثيلات الكليّ المناسب؛ حيث لا يدلّ «المثيل» على الكائن الذَّي «يحاكي» الكليّ؛ بل يدلّ على الكليّ الماثل في الكائن.
ذلك أنّ العديد من الأشياء تتّخذ شكلاً كرويّاً. وتشكّل الأشياء الكرويّة المفردة أنماطاً أوْ مجازات.
ولننظرْ، الآن، في طاقم، أوْ مجموعة هذه الأشياء الكرويّة المفردة؛ ستكون هذه المجموعة الطرف الوظيفيّ المعادل للشكل الكروي الكلي.
إنّ القول بأنّ هذا الشّكل الكرويّ وذاك الشّكل الكروي واحد، وبأنّهما يمثّلان الشّكل الكروي نفسه، يعني، بناء على هذا الرأي، القول إنّ الشَكليْن الكرويين ينتميان إلى التعدّدية، أو إلى المجموعة، أو إلى طاقم من الأشكال الكرويّة المتشابهة كليّاً؛ حيث يكون كلّ شكل منهما، مكوّراً كليّاً بلا ريب.
إنّ مثل هذه «الأقسام من التشابه» هي ذاتها ما يسمّيه أرمسترونغ (1989أ:122) «كليّات بديلة». إذاً، فالحديث عن الأشكال الكرويّة العامّة يمكن أنْ يُفهم على كونه طريقة محرّفة للحديث عن القسم، أو المجموعة، أو عن الوحدة المشتركة المعيّنة من الأشكال الكرويّة.
ومأتى الاضطراب في ذلك أنّ هذا الأمر، كما يبدو، لا يعبّر بصفة ضافية عمّا يعنيه مؤيّدو نظريّة الكليّات بحديثهم عن الأشكال الكرويّة العامّة، باعتبارها موجودة بصفة كاملة في كلّ مثال يحتفظون بشيء ما يجسّدها. فمن الواضح أنّ المعتقدين في الكليّات المحايثة يحتفظون في أذهانهم بشيء ما أكثر وجاهة، وهو ما يقدّم له وليمز تشخيصاً دقيقاً.
فلتفترضْ أنطولوجيا المجاز، وافترض أنك تقوم بفحص كرتين، وعلى وجه الخصوص، أنك تتمعن في الشكل الكرويّ لكل كرة. فبإدراك لكرويّة الكرة الأولى، ستصف ما ستدركه بقولك «هذا شكل كروي». ثمّ بالانتقال إلى الكرة الثانية، يمكنك أنْ تظن أنّ «هذا الشكل[كرويّ] أيضاً»...فالكيان كلّه «يُبنى» من جديد (Williams 1959:8).
وعلى هذا، تلفت هذه الأفكار الانتباه إلى وجود كيان مجرد؛ أيْ إلى السّمة المحدّدة لكلّ كرة من الكرات، بدلاً من الكرتين في حدّ ذاتهما.
ولما نتدبّر كيانات من نوع معيّن، على سبيل المثال الكرتين، فإنّنا نقبل بالمبدأ القائل إنّ «أ» يتطابق مع «ب» إذا كان كلّ جزء من «أ» هو جزء من «ب»، والأمر منعكس (Williams 1959:8). وفي هذا المعنى، «تستدعي الهوية، وبالأحرى الهوية الصارمة، التشابه التام، ولكنّها لا تنجرّ عنه»، وتنطبق على كرات معيّنة. لكن عندما تقوم بـ «تجريد» شكل كرة ما؛ أي عندما تخوض في مبدأ «الاعتبار الجزئي» للوك، وتلاحظ أن كرات مختلفة تتقاسم الشكل نفسه، فإنّك تستعمل مفهوم «الهويّة»، التي هي، بكل بساطة، «التّشابه التّام» (Williams 1959:8). وهذا هو المعنى المقصود للهوية لمّا تتصوّر أباً وابنه لهما الأنف نفسه؛ فالأنفان متطابقان، بمعنى أنّهما متشابهان تماماً.
«إنّ الكليّات لا تُصنع ولا تُكتشف، وإنّما 'يقع الاعتراف بها' مثلما هو معروف من خلال حلّ متطلبّات هويّة الفكر واللّغة» (Williams 1959:8). ويقوم وليمز بموازاة ذلك مع الأجزاء الزّمنيّة المتعلّقة بالجزئيات الملموسة على نحو ما يظهر في كلامه هذا:
«إنّ مظاهر الارتياح المشابهة تحدث مع أسماء العلم العادية للجزئيّات الملموسة، وبصفة خاصة، مع المصطلحات الشائعة التي تجد بكلّ حياد حيال مفهوم الأجزاء الزمنية الكائن الباقي برمّته، سواء كان رجلاً أوْ حجارة، في كلّ مرحلة من مراحله التاريخيّة؟ وها أنا ذا أقولها الآن، ومن هذا الموقع، هل المدعو 'جون' يعني الشخص برمّته، وليس جزءاً منه فقط. ثم لنعدْ إلى هذه المسألة، هل 'جون' نفسه حاضر بصفة كاملة، وفي آونة أخرى، على الرّغم من أنّ 'جون' اليوم مزيج من كائن منفصل عن 'جون' الأمس بمقدار ما هو منفصل عن القمر.
ولكن حالات الارتياح التي تعترف بمبدأ الكليّات، مرسّخة في وقائع حقيقة اللّغة ومواضيعها، بصفة أعمق من أيّ شيء آخر أنا أعلمه». (Williams 1959: 8-9).
وليس المقصود هنا أنّ الكليَات هي إنجازات لغويّة، بل المقصود هو أنّنا نستخدم الإنجاز اللغويّ 'أداة' تعميم لتمييز الأنواع، أيْ أنواع الكائنات وأنواع الخصائص. ولا تمثّل هذه الأنواع كائنات شائعة وغريبة، وإنّما تمثّل الموجودات الفرديّة التي نرى فيها الأشكال الّتي تكون عليها، أوْ التي يمكن أنْ تكون عليها عديد الكائنات[15]. وهذا ما يوضحه نصّ وليمز الآتي:
«فأنْ يتمَّ تحديد الكليَّات وفْقاً لوضع هويّة الأضعف مقارنة بالجزئيات، لا يعني أنَّ واقعها أقلّ منزلة، أو أهمية. فتصنيف الكليات لا يعدو أنْ يكون طريقة للعدّ، حيث، كما هو الحال، إنّ الكون نفسه يقع جرده بطريقة مباحة ومختلفة وأكثر تمييزاً، عن طريق تصنيف الجزئيات» (Williams 1959: 9).
وتتمثل إحدى الطّرق الممكنة لتأويل مقصد وليمز في القول إنّ ما أكّده صانعو الحقيقة من أجل الإثباتات المعنيّة بالأنواع، أو الكليّات، يمثّل حالات؛ أيْ جزئيات بعضها مندرج في بعضها[16]، وهو ما ينتج ما يطلق عليه وليمز «نظريّة المجاز والصنف» فيما يأتي من كلامه:
«وبما أنّه لا يمكن، إطلاقاً، تصنيف شيء في أيّ شيء، عدا أنْ يكون مجازاً أو مندرجاً في خانة المجاز، فإنّ كلّ مجاز، ومهما بلغت درجة التعقيد التي يكون عليها، يبرز مصدره الكلي، والنوع الموصول به. وفضلاً عن ذلك، فالتّعميم لا يمكن أنْ يغدو مفرغاً من المحسوسيّة، وبالتالي هو، على الأقل، لا يعتمد على التَّشابه الفعليّ، أو على تواتر الأنواع؛ أي أنَّ إظهار استعداد عامّ للتفكير، اعتماداً على القدر المناسب من الاهتمام، أوْ من الوصف، إمّا في وضع ما، وإمّا في نوع أيّ مناسبة معطاة، وليس بإمكاننا تعريف كليّ ما تعريفاً جامعاً مانعاً في مثال واحد/ مفرد إلّا عبر إدراكنا لقدرته -في حقيقة الأمر- على 'إنتاج' أمثلته الأخرى؟» Williams 1959:10).
تَعتبِرُ ملاحظة وليامز نظريّة تصنيف المجاز بمنزلة الواقعيّة الصّريحة، وإنْ كانت نظريّة متواضعة حول الكليّات على نحو ما يظهر في كلامه هذا:
«بقدر ما ترى أنّ الكليّات كيانات حقيقيّة، وأنّها واقعيّة محايثة، ترى ما يجعلها موجودة في حالة ريب؟ أيْ أنْ تكون ماثلة حاضرة في نظائرها وأنْ تشكل، في الواقع، مكوّناً من مكونات هذه النّظائر». فمن أجل أنْ نوضح السياق الذي يجعلنا نعدّ كلياً مجرداً موجوداً في تضاعيف جزء ملموس، فنحن نحتاج فقط إلى القيام بتحليل وسائل الإسناد والتمييز والتّمثيل تحليلاً صريحاً، بعد أنْ كان هذا التحليل، هاهنا، إلى حدّ الآن، ضمنيّاً.
فكون سقراط رجلاً حكيماً؛ أيْ كونه مثالاً للحكمة، فهذا الأمر هو بأتمّ معنى للكلمة تمثيل أوْ تمييز، وقع التوسّع فيه بما يكفي في الصّيغة التي تبيّن أنّ سقراط، بوصفه جزءاً ملموساً، 'يضمّ' جزءاً مجرّداً (مجاز) يبرز الحكمة». (Williams 1959:10)
7. الواقعيّة غير المؤلمة؟
هل يمكن أنْ يكون تفكيرنا في محلّه؟ هل يمكن لنظريّة المجاز والنوع أنْ تنتج واقعيّة متعلّقة بالكليّات. الحقّ أنّ هذا «المسعى» سيتوقّف على ما ستطلّع إليه «الواقعيّة المتعلّقة بالكليّات». فإذا كانت الواقعيّة تتطلّب تفعيل المصطلحات المستعمَلة لتحديد الخصائص، أو الأنواع، عن طريق الوجود في عالم الكيانات العامّة أو الكليّة، متداخلةً مع الجزئيّات، فإنّ وليمز لنْ يكون واقعيّاً. أمّا إذا لم تتطلب الواقعية سوى أنْ تكون الأفكار الموصولة بالكليّات صحيحة بشكل موضوعي ومباشر، أمكن، مع ذلك، اعتبار وليمز واقعيّاً بالعودة إلى هذا المقطع المقتطف من بعض أعماله:
«وإذا ما كان الواقعيّون السابقون المحايثون سيدركون وجهة نظرهم حول هذا الرأي الذي يرى أنّ الكليّات جوهرية لأنّها، إنْ جاز التعبير، تؤدّي دور التشابه (أوْ هويَّات وصفيّة) بالنسبة إلى الحوادث المجرّدة، فإنّ في نفسي شيء من الشكّ في هذا الأمر.
ومن المؤكّد، انطلاقاً من تجربتي الشخصيّة في التعامل مع ذاتي، أنّ الواقعيّ المحايث يشرع عبر التفكير فيما يعنيه أكثر من ذلك. ولكن يمكنه أنْ يجعل نفسه يرى، أوْ يعتقد في أنّه يرى، أنّه لا يستطيع أنْ يعني أكثر من ذلك، وأنّ كلّ محاولة لتقديم بديل ينتج عنها ما هو مختلف لفظيّاً لا معنوياً عن إعادة تعريف 'الهويّة' اعتماداً على التّشابه» (Williams 1959:10).
ويمكن أنْ تكون الأقوال التي تستحضر الكليّات صائبة، ولكن، على حدّ تعبير ديفيد أرمسترونغ؛ فالكليّات ليس لها «أيّ إضافة إلى الوجود»؟ (1977 ب: 112-13).
اعتماداً على شحوب سقراط، باعتباره حالة أوْ جزء، لدينا الشكل الذي يوجد عليه سقراط، والشكل الذي يمكن أنْ تكون عليه بقية الأشياء، بفضل كونها متجانسة من حيث اللون؛ حيث تشكّل كلّ حالة، نوعاً.
يطلق كايث كامبل (1990: 44) على هذا «الواقعيّة غير المؤلمة؟»، وهي إحدى أنواع الواقعيّة التي تبنّاها إ. ج. لوو.
لنفكّرْ، أوّلاً، في «الكيانات المجرّدة» على نحو ما يذكره، هاهنا، لوو:
«إنّ الكيانات المجردة ليست دخيلة على العوالم الأفلاطونية المنفصلة عن عالم الأشياء الموجودة في المجالين المكاني والزماني. ووفقاً لهذا الرأي، فإنّ القول إنّ الكيانات المجرّدة ليست موجودة 'في' المكان والزّمان لا يعني أّنّها موجودة بشكل ما في مكان ما، وهذا في كلّ الحالات رأي مشكوك في تماسكه؛ بل يعني، بكلّ بساطة، أنّنا لمّا نتحدث عن الكيانات المجرّدة يتحتَّم علينا أنْ «نتجرّد» من جميع التحديدات والفروق الزمانيّة والمكانيّة» (Lowe 2002ب: 66).
ولذا يلجأ لوو إلى المجموعات معتمداً على القياس على غرار ما يظهر في كلامه الآتي:
«على الرّغم من أنّ الكواكب أشياء ملموسة، يحتلّ كلّ منها، في كلّ مرّة أثناء فترة وجوده، موقعاً مكانياً معيناً، فإنّه لا يمكن أنْ نسند إلى المجموعة التي تكوّن الكواكب عناصرها موقعاً مكانيّاً، ولا يمكن القول إنّها ستبقى، أو إنّها ستتغير مع مرور الوقت. ويمكن أنْ توجد أيّة مجموعة من الكائنات خارج إطار الزمن، دون أنْ يكون لها موقعٌ مكاني، في أيّ عالم من العوالم الممكنة، فحسب، في حالة وجود تلك الكائنات في ذلك العالم. فالزّمان والمكان، وبكلّ بساطة، لا يتدخلان في وجود المجموعات وفي الظروف المحددة لهويتها؛ لذلك تُنعت بأنّها كائنات 'مجرَّدة'» (2002: 66).
وسيكون الأمر ذاته - في تصوّره- صحيحاً بالنسبة إلى:
«الخصائص التي تأخذ على أساس أنّها كليّات، مثل خاصية الحمرة، أوْ خاصية التّربيع. فحتّى إنْ كانت مثل هذه الخصائص، شأن تلك التي ذكرناها، مجسدة في أشياء ملموسة، كالأزهار والكتب، فإنّ الخصائص في حدّ ذاتها كائنات مجردة؛ ذلك أن الزّمان والمكان لا يتدخّلان في وجود المجموعات، وفي الظروف المحدّدة لهويّتها. فبالنظر إلى الواقعية الأرسطيّة المتعلقة بالكليّات، فإنّه من المتطلّبات الأساسيَّة للخاصيّة 'خ'، الموجودة في عالم 'ع'، أنْ يكون كائن ما 'خ'، ممثّلاً لها في 'ع'. وفي حال كون هذا الكائن ملموساً، فإنّ 'خ' ستكون ممثلة فيه في زمان ما، وفي مكان ما.
ولكن هذا لا يعني أنّ 'خ' في حد ذاتها موجودة في زمان ما وفي مكان ما. وتبعاً لذلك، فانّي أعبر، هنا، عن رفضي لهذا المذهب الذي من العجيب أنْ يحظى بشعبيّة في الوقت الرّاهن، والذي يقول إنّ الكليّات الممثلة بوساطة الكائنات الملموسة 'حاضرة بشكل كامل' في الحيّزين الزمانيّ والمكانيّ الراجعيْن بالنظر إلى تلك الكائنات، وهذه وجهة نظر كنت قد بيّنت، في موقع آخر، أنّها غير متماسكة» (Lowe 2002: 66؛ انظر أيضاً: Lowe 1998: 155-56).
ويمكنك أنْ تتأمّل في كائن ما، مثل حبّة الطماطم هذه بوصفها مادّة وحاملة للخصائص، أوْ يمكنك أنْ تتفكّر في أشكال وجود هذا الكائن، مثل شكله الكرويّ وحمرته. ويمكنك التّفكير في أشكال وجود حبّة الطماطم هذه، كما هي؛ أي حمرتها، وشكلها، ويمكنك النظر في تلك الأشكال باعتبارها أشكالاً خالصة؛ أيْ أشكالاً يمكن أنْ تكون عليها الكائنات الأخرى. ومن ثمّ تكون بصدد «التّعميم»؛ أيْ إنّك تنظر إليها باعتبارها كليّات. لذلك، فهي تُعدّ كليّات.
وهل يمكن لهذا أنْ يمنحنا واقعيّة تتعلَّق بالكليّات؟ لنفكّرْ في الطاولات والأشجار. فهل تقتضي الواقعيّة المتعلقة بهذه الاشياء أنْ يشمل العالم، علاوةً على الجسيمات المنظّمة بكل دقّة (أو المجالين الزماني والمكاني المضخمين، أو المجال الكميّ الموجود في حالة تدفّق)، كالطاولات والأشجار، أوْ لعلّه يكفينا إمكاناً أنْ تكون تصوّراتنا للطاولات والأشجار حقيقيَة؛ بل أنْ تكون، فعلاً، في الكثير من الأحيان حقيقيّة. ويمكن لمثل هذه الأفكار أنْ تكون حقيقيّة، ولكن يمكن أنْ يكون صانعو الحقيقة عبارة عن تنظيمات من الجسيْمات، أوْ عبارة عن «أجسام» ديناميكيّة ضخمة للزّمان والمكان.
ويكمن الخطأ في أنْ نتخيّل أنَّ الفروق غير القابلة للاختزال في مجال اللّغة والفكر تدل على وجود فروق أنطولوجيّة غير قابلة للاختزال (Heil 2003،2005،2012).
وهكذا توازي المسائل المعروضة، هاهنا، النقاش المطوّل المعنيّ بوضعيّة العلاقات، الذي انطلق مع أرسطو وتواصل على امتداد فترة القرون الوسطى، وخلال القرن التاسع عشر.
وتتّسم العلاقات بصعوبة الاندماج في أنطولوجيا الجواهر والصفات؛ ذلك أنّ العلاقات تبدو غير مستحيلة إلى جواهر. فهل يمكن أنْ تكون صفات؟
يقع تثبيت الصفات في جواهر محدّدة. ومع ذلك من غير الواضح معرفة الطريقة التي تمكن الصفة المفردة من أنْ تكون مدينة لجواهر متمايزة (هي محمولاتها).
وتهدّد الفكرة التي ترى أنّ العلاقات تتمركز «بين» الجواهر بتحويل العلاقات «في حدّ ذاتها» إلى جواهر، وتبعاً لذلك تبدو فكرة غير واعدة[17].
فهل بمستطاعنا أنْ نتخلّى عن العلاقات؟ يبدو هذا الأمر ضرباً من الجنون، حيث إنه من الجليّ أنّ عمليات إسناد العلاقات لا يمكن الاستغناء عنها. فعمليّات الإسناد غير قابلة للنّقل، أو لِنَقُل بطريقة أخرى غير قابلة للتّحويل إلى توقعات لا تشير إلى العلاقات بتاتاً.
ثمّ إنّ محاولات استبدال «الخصائص العلائقيّة» الأحادية بعلاقات جمّة، محاولات تنبئ بالسفسطة؛ فمن البيّن أنّ الحديث عن الخصائص العلائقيّة لا يعدو أنْ يكون طريقة محرّفة للحديث عن العلاقات (Russell 1903؛ وMoore 1919).
ولكن، من المحتمل، مع ذلك، أنْ تُفعّل الحقائق العلائقيّة بوساطة سمات العالم غير العلائقية. ويكون الحال على هذا النّحو، إذا كانت بقيّة العلاقات «داخليَّة»، لا تتغيّر.
و«تنبني» العلاقة الداخليّة، على ما يبدو، على أنهّا سمات جوهرية داخليّة غير إشكاليّة المضمون القضوي.
فسيمياس أطول من سقراط بحُكم أنّ ارتفاع سيمياس يبلغ ستة أقدام، وأن ارتفاع سقراط يبلغ خمسة أقدام. فإذا صنع الله عالماً يكون فيه ارتفاع سيمياس ستّة أقدام، وارتفاع سقراط خمسة أقدام، فإنّ الله يكون، بذلك، قد خلق عالماً يكون فيه سيمياس أطول من سقراط. لذا، فعلاقة الأطول من «لا تشكّل إضافة إلى الوجود».
ولنفترضْ أنّه من الممكن إثبات أنّ العلاقات جميعها، كانت في هذا المعنى، داخليّة، فهل كنّا «سنلغي العلاقات»، أوْ هل كنّا سنتجه إلى معاداة الواقعيَّة المتعلقة بالعلاقات؟ هذا أمر ممكن. ولعلّه كان بإمكاننا أنْ نثبت أنّ صانعي الحقائق المتعلقة بالأحكام المتضمّنة لعلاقات هم مِن السمات غير العلائقيّة للعالم[18].
ولهذا، من المقترح أنه بإمكانك أنْ تكون «واقعيّاً بخصوص العلاقات»، دون أنْ تتصور أن العالم يحتوي، علاوةً على الأشياء وخصائصها «الأحاديَّة»، على كيانات علائقيّة متمايزة. وبالتوازي مع ذلك، يمكنك أن تكون «واقعياً إزاء الكليّات»، دون أنْ تفترض أنّ العالم يحتوي، علاوةً على الأشكال المخصوصة التي توجد عليها الأشياء، على كيانات عامّة، وغير محدَّدة.
8. في الختام: أنماط ومجازات:
لقد سبق أنْ وصفت الخصائص بأنّها الأشكال التي تكون عليها الجواهر، وأظهرت تفضيلاً لنظريّة «النّمط» التقليديّة على نظرية «المجاز» لوليمز.
ومن السّهل أنْ نفكّر في «النّمط» و«المجاز» باعتبارهما متساوييْن؛ أيْ مصطلحين مترادفيْن. وسيكون مقصدنا أنّه من الأفضل فهم «الأنماط» بالتناغم مع أنطولوجيا تتكوّن من مقولتيْن؛ أنطولوجيا الجوهر-الصفة. تمثّل «الأنماط» الأشكال المحدّدة التي تكون عليها الجواهر، فيما يتكوّن المجاز من الأنماط بعد طرح الجواهر. وإنّني أعتقد، الآن، أن هذا خطأ ذو طابع جوهريّ؛ إذْ لا يمكنك أنْ تفصل حبَّة الطماطم عن الشكل الذي توجد عليه حبة الطماطم. فهذا الأمر من طبيعة النمط لكيْ يكون نمطاً؛ أيْ تعديلاً لبعض الجواهر.
وتتصدّر هذه السمة من سمات الأنماط نقاشات القرون الوسطى بشأن ما إذا كانت الأنماط دقيقة، فأشكال وجود حبّة الطماطم هي دقيقة. وعلى الأقلّ، بمعنى أنْ كون حبّة الطماطم تتمثل في الأشكال التي توجد عليها يُحدث فرقاً نوعيّاً وترتيبياً يخصّ حبّة الطماطم.
هل تعتقد أنّ ابتسامك تشكّل كياناً؟ تمثّل ابتسامتك ميزة حقيقيّة لوجهك؛ أيْ شكلاً يجسّد وجهك، ولكن أنْ نطلق عليها كياناً يمكن أنْ يكون وصفاً مضلّلاً.
إنّ الأنماط، بلا شكّ، ليست كيانات، بالمفهوم نفسه الذي يجعل من أجزاء حبة الطماطم الأساسيّة؛ أيْ جذورها وقشرتها وبذورها كياناً؛ أيْ عناصر تكوّن حبة الطماطم، أوْ مكونات حبّة الطماطم؛ حيث يمكنك أنْ تشكّل حبة طماطم بتجميعك لأنواع الجسيمات المناسبة بالطريقة المناسبة. بيد أنّ حبة الطماطم لا تتشكّل عن طريق تجميع الأنماط دفعة واحدة مع الجوهر.
وإذا كانت المجازات تمثّل أنواعاً من الكيان التي يمكنها، مجتمعةً، أن تشكّل الكائنات، فالمجازات، إذاً، ستكون من وجهة النّظر الأنطولوجية مختلفةً اختلافاً جوهريّاً عن الأنماط.
فالخصائص منظوراً إليها مثل المجازات، هي على حدّ تعبير وليمز، أجزاء من الكائنات؛ بمعنى أنّها تشكل، أو تكوّن، هذه الكائنات. وهكذا لا تعدو الكائنات أنْ تكون مجموعة من المجازات، أوْ جملة من المجازات، أوْ «حزماً» من المجازات.
وعلى الرغم من أنّ مصطلح «الأنماط» ظلّ متداولاً منذ عصر أفلاطون، فإنّ مصطلح المجازات هو مصطلح مبتدع في القرن العشرين؛ حيث ظهرت نظرية المجاز بالتوازي مع ابتكار شهير آخر من ابتكارات القرن العشرين، وهو نظرية الحزمة[19]. وفي حقيقة الأمر، لم يقع منح أيّة أهميّة لنظريّة الحزم، وبصفة أقلّ، لم تحظَ بالكثير من النقاش والدعم بسبب اعتبار الخصائص، على نطاق واسع، أنماطاً.
وسيكون الأمر خلواً من المعنى إذا نظرنا إلى الأشياء بوصفها حزماً من الأنماط؛ ذلك أنّ الفلاسفة الأوائل قد اهتدوا إلى نظرية الحزم عند مناقشتهم لفكرة القربان المقدّس. فالإله يحوّل الخمر إلى دم المسيح بأعجوبة، بإزالة المادة والحفاظ على الخصائص. ومع ذلك، الخصائص المتبقية ليست أنماطاً. فحتّى الإله نفسه لم يتمكّن من إلغاء المادة، وأنْ يكون الحافظ للشكل الذي توجد عليه المادة؛ أيْ أنماطها.
أمَّا الخصائص التي تتمكن من الصمود أمام فصل العجيب للمادّة، فتمثّل أحد أنواع الحوادث المنفردة؛ أيْ ما يُطلق عليه الحوادث الحقيقيّة.
وعند مناقشته للحوادث الحقيقيّة يلاحظ ديكارت أنّ مثل هذه الكيانات ستكون كيانات ذات جواهر مخصَّصة؛ ذلك أن «العقل البشريّ لا يمكن أنْ يفكّر في حوادث المعاش على كونها حقيقية، وفي الآن ذاته، موجودة بصفة مستقلّة عن جوهرها، دون أنْ يستخدم مفهوم المادة لإدراكها» (ديكارت 1664: 176). فبياض الخبز المعدود كياناً قائماً بذاته، إنّما هو شيء أبيض؛ أيْ شيء «مصنوع» على شاكلة بيضاء.
ليس هذا المجال المناسب للاشتغال بالتاريخ المضطرب لميتافيزيقا الاستحالة؛ ميتافيزيقا سُخّرت في سبيل خدمة مذهب لاهوتي محدّد؛ إذْ إنّ المقصد المهم، هاهنا، هو أنَّ المجازات تمثّل أنواعاً خاصّةً للغاية من الكيانات، وهي مختلفة كلّ الاختلاف عن المفاهيم التقليديَّة للخصائص المحدّدة، باعتبارها أنماطاً. ولهذا السّبب، فأنا، الآن، أعتقد أنه ليس من التّفكير السّديد أنْ نضع الأنماط والمجازات في السلة نفسها؛ حيث يُعتقد أن نظريات المجاز المرتبطة بالصفة-الجوهر (Martin 1980،2008؛ Armstrong أ 1989 أ:136) تتخذ من الخصائص أنماطاً[20].
[1] - كُتب هذا الفصل بمناسبة النّدوة التي تناولت موضوع الكليّات بدار المعلمّين العليا بيزا في شهر تموز/يوليو 2010. وتظهر نسخة منه في الفصل الخامس لــــ(Heil) 2012. ويعبّر الكاتب عن امتنانه لــــ Jeffrey Brower وEleonore Stump من أجل الدّعم الذي قدَماه فيما يخصّ مفاهيم الخصائص في العصور الوسطى، ولــــ John Bigelow وDaniel Nolan وDavid Robb وDenis Robinson لمناقشتهم لــــ Lewis فيما يخص الجهة ولــــ Martin Coleman وJohn Lachs وHerman Saatkamp لما قدّموه من مساعدة مع Santayana.
[2] - بالنّسبة إلى مناقشة أفلاطون انظر: Demos (1948)، وMorrison (1977)، وفي شأن Aristotle انظر: Sellars (1957) وAlbritton (1957)، أمّا Mertz، فيتوجّه إليهما بالنقاش (1996: 83-117). وعلى الرغم من أنّني لا ينبغي أنْ أحاول وضعه، فثمّة حالة يمكن وضعها لمفهوم Aristotle المربك للكليّات هو قريب النّسب من المفهوم المحدّد هاهنا.
[3] - انظر: Mertz (1996: 83-162)، وBacon (2008). ثمّ إنّ وليامس باعتباره معدوداً من المشتغلين بالخصائص المحدّدة (1953: 91-189 و1966: 8-106) استشهد، علاوة على أفلاطون وأرسطو ولوكو وهيوم وديكارت واسبينوزا وجيمس ليبنتز وسانتانيا بواقعيي جامعة كمبريدج الآتي ذكرهم: realists, A. C. Benjamin, H. W. B. Joseph, Dickinson S. Miller (`R. E. Hobart'), William Savory, Wilfrid Sellars, and E. B. McGilvary.
[4] - هذه القائمة عائدة أكثر إلى أرمسترونغ (1989 أ: 113) وميرتز (1996) ولباكون (2008)، وهذا فهرس إضافي مطبوع.
[5] - أفضل نقاش مشهور لوليمز في شأن المجازات وقع تناوله في كتابه «عناصر الوجود»، الذي ظهر في الأصل على دفعتين من «المجلّة الدوريّة للميتافيزيقا سنة 1953، وقد وقع لاحقاً إعادة نشره في صيغة مراجعة متواضعة في كتاب وليمز «مبادئ الواقعيّة التجريبيّة» سنة 1966». والشواهد مستمدّة من كليهما.
[6] - لفت جوناتان بينت بهذه الإحالة انتباهي. ومصدري هو قاموس أكسفورد الإنجليزي موجود على موقع (www.oed.com/).
[7] - انظر للاطّلاع على أغلب هذه الأفكار لا كلّها: Martin (1980، 2008) وانظر أيضاً مساهمة صوفي غيب في هذا الكتاب «مشكل الكليّات في الفلسفة المعاصرة». ويحتجّ أرمسترونغ بأنّه «ينبغي أنْ نحسن التّعامل مع لوك ومارتان لإقامة وجهة نظر مجاز في خصوص الشّكل الجوهر- الصفة».
[8] - إنّ مفهوم الخصائص بوصفه أشكالاً مصنوعة، بشكل صريح، عبر الحديث عن الأنماط، قاسم مشترك بالنّسبة إلى الأغلبيّة. ولكن ليست كلّ مفاهيم الخصائص المحدَّدة وُجدت قبل القرن العشرين. ربّما يكون هيوم استثناءً؛ ففي السنوات الأخيرة وقع إحياء موضوع الأشكال بواسطة جيرولد ليفنسون (1978، 1980)، ودانيال سيرجن (1985)، ثمّ تمّ تأييده مؤقّتاً بوساطة أرمسترونغ (1989 أ: 96-98).
[9] - من ضمن المناصرين المتأخّرين لمثل هذا الضرب من المفاهيم ديفيد أرمسترونغ (1983، 1997ب)، وبيريان إيليس (2001)، وإ. ج. لوو (2006)، وألكسندربيرد (2007).
[10] - إنّ تصوّر هذا النّوع مرتبط بنانسي كارترايت. انظر أفكارها (1989) و(1999)، وانظر أيضاً شكرافرتي (2007)، وبيرد (2007). على الرغم من أنّ بيرد يتمسّك بأنّ هذه القوانين تشرف على الميول التي يراها كأنّها كليّات متعالية.
[11] - في الحقيقة إنّ فكرة أنماط أوْ مجازات من الدرجة الأولى أمر يصعب الاطمئنان إليه. فخصيصة الخصيصة المنظور إليها شكلاً مخصوصاً تكون عليه الخصيصة المحدّدة ستبدو أنّها لا تعدو أنْ تكون الخصيصة نفسها.
[12] - القول إنّ الخصيصة قوّة لا يعني أنّ هذا يستنفذ طبائعها، ولا يعني القول إنّ تلك الخصائص هي قوى خالصة. فأنا أعتقد بوجود أسباب وجيهة تجعلنا نفكّر في الخصائص باعتبارها ميزات قويّة. ينبغي أنْ أترك هذه المسألة في الخلفيّة، ومع ذلك انظر: هايل (2003، 2000، 2012).
[13] - انظر: Williams (1959) أفضّل على نحو ما وقعت الإشارة إليه سابقاً «الأنماط» على «المجازات» في مناقشة لوليمز. ومع ذلك ينبغي أنْ أختلف عن مصطلحي، وأتحدّث عن المجازات.
[14] - إنّ أفلاطون وإ. ج. لوو (2006) استثناءان ملحوظان. وربّما كان شأن أرسطو مثلهما. وليمز (1959: 6) يفترض أنّ منطق الفلسفة الهنديّة نايانا يمكن أنْ يؤيّد كلّاً من الكليّات وأمثلة الخصيصة المجزَّاة.
[15] - هذا مؤكداً رأي لوك في المقالة الثالثة. فالواقع هو بشكل موحّد محدّد؛ ذلك أنّ المفردات العامّة تعيّن، لا الكيانات العامّة، بل الكيانات الخاصّة تقع تحت طائلة المفرد. فالحقيقة العامّة تنبع من قدرتنا على التفكير تفكيراً مختلفاً في عناصر الأقسام لموجودات فرديّة متشابهة.
[16] - ماذا عن الأقسام والمجموعات؟ فهل يضمّ العالم، فضلاً عن الجزئيات، الأقسام والمجموعات؟ من جديد، فصنّاع الحقائق في خصوص الادعاءات حول الأقسام والمجموعات ليسوا سوى الجزئيات.
[17] - التفكير من هذا القبيل يمكن أنْ يوجد، على سبيل المثال، في أعمال Leibniz (1715 الورقة الخامسة ص 47). وانظر بالنّسبة إلى النقاش: Heil (2009، و2012: الفصل السابع). H
[18] - انظر: Heil (2009، 2012)، وانظر أيضاً بالنّسبة إلى مزيد من النقاش المفصَّل حول العلاقات وتاريخ الفلسفة المتعلّق بالتصوّرات في شأن العلاقات: Parsons (2009).
[19] - أعتقد أنّه من باب المفارقة أنْ نسمّي هيوم منظر حزمة؛ ذلك أنّ باركلي ينظر إلى الكائنات الماديّة مثل مجموعة من الأفكار. غير أنّ الأفكار أنماط عقليّة؛ بمعنى أنّ الأشكال هي صور ذهنيّة. H
[20] - الوضعيّة معقّدة من قِبل أنَّ حقيقة الأسلوب الذاتيّ لمنظّري المجاز ليس دائماً واضحاً وضوح تعاملهم، ربّما، مع طبيعة المجازات. انظر: مساهمة روبار غارسيا في هذا الكتاب الفصل السّادس (ص ص: 194-224) وهايل (2001).