كم ترك الأول للآخر: عبارة شجعت الأمة للبحث والتنقيب
فئة : مقالات
كم ترك الأول للآخر: عبارة شجعت الأمة للبحث والتنقيب
"إن الأول لم يدع للآخر شيئا" عبارة دعت إلى غلق الفكر الإسلامي عوض جعله حيويا وقابلا للتجدد باستمرار، وسدت طرائق الفهم ومسالك الإدراك التي تزدهر بها أذهان الطلبة والراغبين في الأمور الإسلامية، وكما أدت هي إلى منع اتخاذ إستراتيجية جديدة تبحث فيها عن الدين عبر الطرائق المعرفية المعهودة وإمكان أن يقدم من جديد بهذا الصدد.
تشبث بعض العلماء بهذه المقولة ولم يحدوا عنها بطريقة، وقالوا "ما ترك الأول للآخر شيئا"، لكن جمهور العلماء اختاروا عكس هذا الكلام فقالوا: "كم ترك الأول للآخر"، وسارت هذه العبارة مسير الأمثال، وصارت هي أصلا عظيما يفتح أبواب البحث والرد والتصحيح، التي هي في الأصل تعد من أهم أدوات الإبداع والتجديد.
فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة أبواب التجديد في الدين إجمالا، وقال: "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، فهذا يدل على أن النبي له توقع من المسلمين التفكير والإتيان بسنة جديدة؛ وذلك يحتاج إلى إعمال الفكر لتكون صوابا، فهذا الحديث يفتح أبواب الإبداع في مجالات الحياة عامة، ويفتح أبواب التجديد في أمور الدين بما لا يتعارض مع النصوص والقواعد.
فلولا نظر أئمة كل عصر ما وصل إلينا هذا العلم الآن، ولكن هل انتهى هذا العلم وسدت أبواب التأليف فيه والتجديد فيه؟ الجواب قطعا لا، وهذا ما نود أن ننبه إليه، فقد تجد أحيانا بعض العلماء يغلقون الباب أمام الطلبة، ولكن يخطئ الإنسان إذا ظن أن هذا الإغلاق متعد مطرد في جميع المراحل؛ فالطالب في بدايته غايته التسليم، وواجبه الاستماع والاشتغال بحفظ ما يشغل به الأستاذ؛ لأن الطالب في بدايته إذا نحا هذا المنحى في البحث والتحقيق يضيع عليه العلم، ثم في مرحلة الوسط وظيفة المدرس أن يفتح فكره وآفاقه – أي الطالب – للنظر والبحث.
ويجب علينا قبل أن نخوض في هذا الكلام أن نقدم قول الله تعالى: "ولا تنسوا الفضل بينكم"، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، فلا شك أن للمتقدم فضل السبق على المتأخر، سواء أحسن في كل ما جاء به، أم أحسن في أكثره وأخطأ في بعضه. فالعبارة كم ترك الأول للآخر تؤكد أن ما تركه المتقدمون من أبواب العلم مفتوح للمتأخرين بشكل واسع.
وقد وردت عدة عبارات تخبر ما للعلماء المتقدمين زمنا من الفضل والشرف، منها ما روي عن الإمام المقرئ اللغوي أبي عمرو بن العلاء أنه قال: إنما نحن بالإضافة إلى من كان قبلنا كبقل في أصول رقل، أي نخل طوال، وما ذكر ياقوت الحموي في إرشاد الأديب المعروف بمعجم الأدباء أن ابن السراج النحوي ذكر في حضرته كتاب "الأصول في النحو"، فقال قائل هو أحسن من المقتضب لأستاذه أبي العباس المبرد، فأجابه ابن السراج: لا تقل هذا، وأنشد البيتين الشهيرين...
فلو قبل مبكاها بكيت صبابة /// بليلى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهاج لي البكا /// بكاها فقلت الفضل للمتقدم
فالبحث والتنقيب يمثلان الحل الأساسي للعقم الفكري الذي في زماننا، وإلى هذه الحقيقة تشير مقولة إمام العربية «الجاحظ»: «إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح» وأنه ليس مما يستعمل الناس كلمة أضر بالعلم والعلماء، ولا أضر بالخاصة والعامة من قولهم "ما ترك الأول للآخر شيئا"، ولو استعمل الناس معنى هذا الكلام فتركوا جميع التكلف، ولم يتعاطوا إلا مقدار ما كان في أيديهم لفقدوا علما جما ومرافق لا تحصى، ولكن أبى الله تعالى إلا أن يقسم نعمه بين طبقات جميع عباده قسمة عدل يعطي كل قرن وكل أمة حصتها ونصيبها على تمام مراشد الدين وكمال مصالح الدنيا.
ولأبي حيان الأندلسي في البحر المحيط عبارة موجزة بديعة لخص فيها هذا المعنى عند تفسير قوله تعالى: "وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم" في قراءة عبد الله بن عامر وحمزة وحفص بتشديد ميم لما، قال: "والعلوم كنوز تحت مفاتيح الفهوم"، ففهمك له مفاتيح، إن كانت لديك الأدوات واجتمعت عندك الوسائل يوثق بفهمك؛ لأنه قد يكون تحته كنز من المعاني.
ومعنى كلام أبي حيان أن مفاتيح العلوم ليست مختصة بأحد دون أحد، وإنما هي مخبأة تحت خزائن العقول الواسعة، والأذهان المتقدة والبصائر النافذة، فمن حصل له الفهم الدقيق، فتحت له كنوز العلم أبوابها، وأدخلته مخادعها وأهدته جواهرها. ويستنبط من هذه العبارة على اختصارها أن أبواب العلم لم تغلق، وأن كنوزه لم تنفذ، وأن المتأخر قد يأتي بما لم يأت به المتقدم، ولا يعيبه التأخر كما لا يشفع التقدم للمخطئ.
يقول الإمام أحمد زروق: ولله در ابن مالك رحمه الله (صاحب الألفية)، حيث يقول: "إذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين، نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف"، ويقول الإمام زروق عن كلام ابن مالك، وهو عجيب لما فيه من الإشارة إلى أن العلوم هي مواهب ربانية وعطايا من المولى عز وجل، وباب العطاء مفتوح لم يخص به أحدا دون أحد.
قال السيد مرتضى الزبيدي شارحا له: "والمعنى أن تقدم الزمان وتأخره ليست له فضيلة في نفسه؛ لأن الأزمان كلها متساوية، وإنما المعتبر الرجال الموجودون في تلك الأزمان؛ فالمصيب في رأيه ونقله ونقده لا يضره تأخر زمانه الذي أظهره الله فيه والمخطئ الفاسد الرأي الفاسد الفهم لا ينفعه تقدم زمانه، والتقليد المحض وبال على صاحبه وعذاب.
وللإمام أحمد زروق قاعدة أخرى يفصل فيها موقفنا من التقدم والتأخر باعتبار الزمان، قال: النظر للأزمنة والأشخاص لا من حيث أصل شرعي أمر جاهلي، النظر للأزمنة والأشخاص لا باعتبار الإتقان والإحسان ولا باعتبار فضيلة شرعية، لمجرد الزمان ولمجرد أن قائل هذا القول أو صاحب هذا الرأي هو زيد وعمرو، هذا أمر جاهلي، حيث قال الكفار: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم". فرد الله عليهم بقوله: "أهم يقسمون رحمة ربك". وقالوا: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فرد الله تعالى عليهم بقوله: "قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم"، فلزم هذا النظر العام فضل الله تعالى من غير مبالاة بوقت ولا شخص، إلا من حيث ما خصه الله تعالى به.
وقال حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: اعلم أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد، وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في الوقت المقدر له، وليس لأحد أن يزاحمه فيه؛ لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر، والفيض الإلهي ليس له قطاع ولا آخر، والعلوم منح إلهية ومواهب ربانية.
وبهذه الأقوال المذكورة، تتضح أهمية البحث والنظر في داخل الشريعة الإسلامية، وكيف أن المثل لم يدع الأول للآخر شيئا لم يكن عائقا أمام الطلبة والراغبين في العلوم في تحقيق إسهاماتهم وتأثيرهم في المجتمع الإسلامي، وإن كان الأمر عكس ذاك لما استنبط العلماء الأحكام لقضايا المستجدات كالاستنساخ التي تقع في الزمان الحالي، ومن الجدير بالذكر أن الإسلام يشجع ويحث على تكريس الوقت والجهد للبحث والتنقيب كوسيلة للتغلب على العقم الفكري وتحقيق النجاح في مختلف المجالات.