كيف تعامل سلفنا الحضاري مع القضية الجنسية
فئة : مقالات
كيف تعامل سلفنا الحضاري مع القضية الجنسية
عرفت الحضارة العربية الإسلامية نهوضا معرفيا وثقافيا واسعا، فأبدع وأنتج أبناؤها في صعد شتى شملت الفكر والعلم والأدب والفن وغيرها من مجالات الحياة، وكان للجانب الجنسي في هذه الحضارة حظه الوافر من الاهتمام، الذي تناسب مع أجواء النهضة العلمية والمعرفية والانفتاح الذهني والأخلاقي الذين وفرتهما هذه الحضارة، التي لم تتعامل مع الجنس كتابو ومحرم يجب إبقاؤه في الظل وطي الكتمان، بل تعاملت معه كجانب جوهري من حياة الإنسان، فامتد هذا التعامل من الفقه إلى الأدب والطب وسواها محافظا في عموميته على سوية من رقي التعاطي والبعد عن الإسفاف والابتذال.
هذا النجاح الحضاري في التعامل مع المسألة الجنسية، لعب فيه الإسلام دورا مزدوجا، فهو بشكل عام من فتح السبيل لقيام هذه الحضارة، وبشكل خاص هو أيضا من وضع أسس التعامل الصحيح مع القضية الجنسية، الذي يمكن توكيده بأكثر من مثال من صدر الإسلام، فبما أن الجنس في الإسلام لا يقترن بالنجاسة والعيب، وهو نشاط معترف به بحد ذاته، ومشروع في الدنيا والآخرة وفقا لضوابط ونواظم شرعية محددة، فقد كانت النساء - مثلا- يلجأن إلى النبي والخلفاء لحل إشكاليات جنسية بشكل مباشر.
ومن الأمثلة التي يمكن إيرادها على تلك الحالة من الانفتاح والأريحية في التعامل مع القضايا الجنسية، حادثة زوجة صفوان بن المعطل، التي اشتكت إلى الرسول من أن زوجها يعاشرها عندما تصوم في غير رمضان فيفطرها، فسأله الرسول عن ذلك، فأجاب: "أنا رجل شاب لا أصبر"، فما كان من الرسول إلا أن قال: "لا تصوم المرأة إلا بإذن زوجها"، والمقصود هنا الصوم في غير رمضان.
كما يمكن ذكر سؤال أم سليم امرأة أبي طلحة للرسول بحضور أمّ سلمة في بعض الروايات وعائشة في سواها عن وجوب اغتسال المرأة إذا احتلمت، وإجابته لها بالإيجاب.
وأيضا أول حالة خُلْع في الإسلام لحبيبة بنت سَهل الأنصاري زوجة ثابت بن قيس بن شماس، التي حكم لها الرسول بالطلاق من زوجها، لا لعيب فيه، بل لأنها لا تحتمل العيش معه وحسب.
وكذلك حادثة المرأة التي اشتكت إلى عمر زوجَها الذي ينصرف عنها في الفراش بسبب العبادة الدائمة بحضور كعب بن سور، الذي قضى لها بتفويض من عمر بأن يبيت زوجها معها ليلة من كل أربع.
وما هذه إلا بعض من الروايات التي تبين أن السؤال والشكاية في قضايا الجنس لم يكونا أمرين محظورين أو مخجلين، وأن التعامل معهما من قبل النبي والخلفاء كان يتم بموضوعية واعتدال ينمان عن الاعتراف بالجنس كحق إنساني دون أي استهانة به أو إهانة له.
وهذا يتوافق مع نظرة الإسلام المعتدلة إلى الجسد الإنساني، فالقرآن يقول:( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، فيما يقول النبي: "إن لجسدك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، صم وأفطر، وصلّ ونم، وائتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه"، و"النكاح من سنّتي، ومن لم يعمل سنّتي فليس منّي"، و"في بُضع أحدكم صدقة"، وهذه أمثلة تدل على النظرة الطبيعية التي ينظرها الإسلام إلى كل من الجسد البشري والنشاط الجنسي، فهنا لا يعتبر الجسد مصدرا للشرور والآثام، ولا تفضّل الرهبانية على الزواج، ولا يحلل الزواج تجنبا للزنا، كما يُرى في أديان أخرى، فالجنس في الإسلام يعتبر وظيفة طبيعية، وهو ينسجم مع الطبيعة البشرية التي فطر الله الإنسان عليها.
هذه الأريحية قي التعامل مع الجنس مهدت الطريق لاحقا لفقهاء وعلماء ومفكري وأدباء العالم الإسلامي ليكتبوا في الجنس وعنه بشكل إيجابي وبلا حرج، ولم يكونوا يتهمون بالفسق والمجون ولا يرمون بالمعصية والإثم، وكان من بين الكتبة أئمة كبار، منهم أبي حامد الغزالي واضع كتاب "آداب النكاح وكسر الشهوتين"، وجلال الدين السيوطي الذي يعرف له 11 كتابا في الجنس منها "الوشاح في فوائد النكاح؛ نواضر الأيك في معرفة النيك؛ رشف الزلال من السحر الحلال؛ شقائق الأترج في رقائق الغنج؛ وغيرها.. "، ومحمد بن أحمد التجاني مؤلف كتاب "تحفة العروس ومتعة النفوس"، ومحمد النفراوي مؤلف كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر"، وأحمد بن سليمان بن كمال باشا صاحب كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه"، وبعضهم كتب بتشجيع من السلاطين، حيث يقال أن التجاني كتب "تحفة العروس" لأحد الأمراء الحفصيين في أوائل القرن الثامن الهجري، وأن كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه" كتبه أحمد بن سليمان بأمر من السلطان سليم الأول. أما النفراوي الذي ألف كتيّب "تنوير الوقاع في أسرار الجماع"، فقد أتبعه بطلب من سلطان تونس عبد العزيز الحفصي إغناءً للموضوع بكتاب "الروض العاطر"، الذي يستهله بحمد الله على متعة الجنس الكبرى.
وقد تناولت الكتابات في الجنس جوانبه الشتى، فجمعت بين الشرع والصحة والتعليم والنوادر والحكايا وسواها، وتنوعت بين العلم والأدب، وهدفت المعرفة الدينية والصحية والجنسية والتسلية والترويح، وكان الحديث فيها يتم بصراحة وشفافية ودون مواربة، وبلغة ستبدو وفق تقاليد عصرنا خارجة عن أطر الحشمة والحياء، ولكنها بالطبع لم تكن قطعا كذلك بمعايير عصرها، فكل من الأريحية والشفافية فـُقدتا لاحقا تحت وطأة التزمت والكبت اللذين سادا في عصور الانحطاط، الذي طغى على كل جوانب الحياة ومن بينها العلاقات الجنسية.
في دراسة له بعنوان "الجنس في التراث العربي" يذكر الباحث داود سلمان الشويلي أكثر من 195 كتاباً متنوعاً تناولت الجنس، مكتوبة في عصور إسلامية مختلفة، منها ما اختصت به تماما ومنها ما تطرقت إليه باهتمام، ويرجح الشويلي أن ما كتب في هذا المجال أكثر من ذلك بكثير، ومن أشهر هذه الكتب إضافة إلى بعض ما سبق ذكره: "الأغاني" للأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، و"الأذكياء" لابن الجوزي، و"الفهرست" لابن النديم، و"عيون الأخبار" لا بن قتيبة الدينوري، و"كشف" لحاجي خليفة، و"ألف ليلة وليلة"، و"طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي، و"نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين أحمد التيفاشي، و"تزيين الأسواق في أخبار العشاق" لداود الإنطاكي، و"ديوان أبي حُكيمة راشد بن اسحق"، وسواها...
هذه الروح السليمة في التعامل مع الجنس فقدت لاحقا عند دخول المجتمع العربي الإسلامي في مرحلة الانحطاط، وبما أن هذه المرحلة لم تنه بعد، فلم تُستعد بعد تلك الروح الجنسية الصحية، وما يزال الواقع الجنسي لدينا مأزوما، ومحاصرا بالكبت والحظر، وحتى تلك الكتابات ما تزال بالنسبة لكثير من المتدينين تشكل حرجا، ما يدفعهم في غالب الأحيان لمحاولة تجاهلها والتعتيم عليها، وحتى بالنسبة للعديد من العلمانيين الأمر ليس أفضل، فمنهم من يذم هذه الكتابات؛ لأنه في علمانيته السطحية لم يتحرر من عقدة الجنس بعد، ومنهم من يتعمّد ذمّها بشكل مغرض؛ لأنه يرى فيها في إطار ثقافة العيب والتحريم التي ما تزال غالبة فرصةً مناسبة للنيل من الإسلاميين، وهو بذلك لا يتصرف بنزاهة، ويتقصّد عدم الفصل بين البراغماتية السياسية والموضوعية الحضارية.
أما الواجب علينا والمطلوب منا اليوم في قضية الجنس، فهو الاقتداء العقلاني بتجربة هذا السلف الحضاري والاستفادة منها بما يتناسب مع ظروف حاضرنا ومعطيات عصرنا، لتطوير ثقافة جنسية سليمة وصحية حديثة تضع الجنس في موقع الإنساني الضروري الصحيح.