كيف يشتغل العلم، والاجتماعي خاصة
فئة : مقالات
كيف يشتغل العلم، والاجتماعي خاصة
على سبيل التبرير
هذه المساهمة تأملية وتجريبية، هي حصيلة القراءات الفكرية والإبستمولوجية والأبحاث الميدانية والتدريس؛ الغاية منها تبيان منطق علم الاجتماع انطلاقا من قواعد شبه قارة ليست منطقا ولا نحوا، ولا مناهج أكاديمية، رغم كونه يستوحي الكثير من أفكاره من تلك الفنون. تبيان علم الاجتماع من فعل الاجتماع نفسه هو غاية هذا المقال.
لا يتعلق الأمر هنا بإنجاز أكاديمي بالمعنى الدوغمائي للأكاديمية، وإنما هو تواصل يريد أن يكون مفيدا للمبتدئ والمتخصص على حد سواء. أما مراجعه ومرجعياته، فهي مبثوثة هنا وهناك، وعلى القارئ أن يجتهد ليتواصل معها هو أيضا.
لا نعيد هنا طرح المبادئ والقواعد العلمية للسوسيولوجيا كما هي في المناهج الجامعية، إنما نطمح إلى أن نرتبط بآخر الأفكار حول علم الاجتماع نظريات ومفاهيم ووقائع اجتماعية، دون التخلص الساذج من القديم منها.
روح العلم ومنطقه
العلم صيرورة، والتفكير فيه صيرورة. إنه نوع من التفكير في تحسين جودة الحقيقة باستمرار.
وضع الإنسان منذ البدايات قواعد للمعارف التي تخلق المسافة مع الأشياء والآخر، وهو يكرر العودة بالمراجعة والتنقيح، بالهدم والبناء.
صحيح أن منطق العلم يستوجب القطائع أحيانا مع الجوار والسابق من المعارف غير العلمية، وكذلك مع النظريات الفاسدة، والمفاهيم غير الملائمة، والقواعد المتهالكة المعيقة للتقدم، غير أن هناك دوما نزوعا نحو الأفضل بالقطع الكلي أو الجزئي، أو بالتحسين فحسب.
العلم إذا إنجاز وتفكير في الإنجاز وتأمل. ويصعب أن نحسم من يسبق من؟ الإنجاز أم التأمل؟ إذ هناك لحظات نشتغل فيها من دون تبصر كافي، نصيب ونخطئ ثم نصحح، وهناك أخرى نتكئ فيها بعضنا على بعض، وأخرى ثالثة نتكئ فيها على معالم وأدوات قد نصنعها لأنفسنا بالقراءات وبالميدان، وبمنهجية لنسير قدما نختصر فيها المسافات.
البعد المتغير والمتحول للعلم أساسي للاشتغال عليه وحوله، من أجل إجرائية أكثر جودة. والصيرورة هنا لا تعني السيولة والميوعة وعدم قبض الهويات، بل تعني انفتاحها وقابليتها للإغناء والاغتناء والتفاعل، وحتى وضع النهاية. هذا التأمل في الهويات المتفاعلة، تفاعلا قريبا أو بعيدا، قويا أو ضعيفا. والبحث في شروط وجودها واشتغالها، ومحاولة رصد منطقها، هو من صميم حرفة الباحث في معنى العلم ودلالاته.
البحث في التغير والتفاعل يحيلنا إلى رصد ثقافة الحقبة والمجال، ثقافة العالم وغير العالم، وكذلك المصالح والرهانات. والقوانين والمساطر المنظمة للمؤسسات، وكذلك الأعراف والعادات المنظمة للاشتغال العلمي بشكل معلن مسطري أم بشكل ضمني، ثم تتبع كيفية اشتغال الثقافة ماديا ورمزيا وتواصليا وانتشارا.
لا يقتصر فهم الفعل العلمي على البحث في الثقافة السائدة، بل يجب أن يبحث في الثقافة العالمة السائدة، والأفكار المركزية التي تتحكم في العادات العلمية. كل ذلك في أفق تتبع منطق اشتغال العلماء، وهم يحاولون التحسين الحثيث للحقيقة بعدة طرق وبعدة كيفيات وأساليب.
إن البحث في اشتغال العلم علم قائم الذات، له قواعده وأسسه وشروط اشتغاله هو أيضا، رغم أن الفلسفة تشارك هذا العلم في الموضوع. ومن هنا أهمية الحوار مع فلاسفة العلم في وضع الأسئلة، وفي بناء المفاهيم.
الاشتغال العلمي بالعلم له حيثيات تربطه بالاجتماعي والثقافي والعلمي نفسه، على أساس اختلاف العلوم في منطقها، رغم ما يجمع بينها من خصائص تساعد على الفهم الشمولي الذي يعتبر تمرينا ضروريا نعود إليه في ذهاب وإياب في إطار مناقشة علاقة الخاص بالعام.
العلم بناء اجتماعي له ما يحفزه كما له ما يعيق نموه، ولا يجب التوهم بكون العلم يقطع بما ليس علما من معرفة قبعلمية انفعالية وعاطفية ومصلحية. مع الوعي في الآن نفسه، على أن العلم هو ذلك المجهود الإنساني المستمر من أجل تجاوز التفسيرات الأخرى كأبعاد إنسانية هي نفسها تعتبر موضوعا للتفسير والفهم العلميين.
غالبا ما نتجه صوب موضوع العلم رأسا، وكأن الأمر بديهيا. إن الذات العالمة لا تغيب في الاشتغال العلمي، وفحص هذه الذات مهمة علمية.
الانعكاس الفكري والتأمل والعودة إلى مكان إنتاج العلم؛ وزمانه؛ ومنطقه، يعتبر من مهام العلم نفسها، بل وهو عملية محايثة أفصح عنها أم لم يفصح.
كيفية انبثاق الفكرة الأولى، ولماذا؟ وكيف استلهمت؟ ومصدر الإلهام ومساره؟ والاقتباسات؟ والمناقشات المباشرة وغير المباشرة؟ محاورة من سبق إلى المسألة؟ ثم المسار نفسه؟ والأخطاء؟ والعوائق؟ وكيفية معالجتها؟
هي كلها أسئلة ضرورية لتفسير وفهم منطق العلم، ويمكن لنظريات المعرفة والإدراك الفلسفية والنفسية والسوسيولوجية أن تكون مفيدة للعلماء في كل التخصصات. فهم الحس؛ والصورة؛ والانفعال؛ والعاطفة؛ والتذكر؛ والخيال، ثم علاقة ذلك بالتعريف؛ وبالحكم؛ وكيف يتم؛ وكذلك التقييم والاستدلال، كل ذلك وفق الارتباط بموضوع معين يحدد ويعرف ويدقق.
إن الممارسة العلمية صيرورة، هذه الحقيقة يجب الوقوف عندها؛ لأن عدم استيعابها يفقد الممارسة روحها ومنطقها، يفقد الروح لنخلط ما هو علمي بما ليس كذلك أو في الجوار، ويفقد المنطق لأن القواعد نفسها ليست ثابتة ولا قارة، بل متحولة تحولا غير أحادي الدلالة والتوجه. فكل القواعد توضع وفق منطق العلم الراصد نفسه، وكذلك أسلوب العالم، وهذا ما ينتج المدارس المختلفة حد التعارض والتناقض أحيانا.
الملاحظة والتتبع والتصنيف والتعريف ووضع المعايير، كلها من أجل الفهم والإفهام والتعلم. في كل لحظة رصد من أجل المعيرة وعي كاف أو غير كافي بالبعد التعلمي للعلم، وأحيانا لا ندري من الذي اشتق من الآخر العلم أم التعلم.
وعلى الرغم من ذلك ففي كل معيرة استثناء، ولكل قاعدة إمكانية الخرق تفيد مرونة الاشتغال المنطقي والعملي، كما تفيد فتح الأقواس من أجل التصويب، وربما القطيعة والتجاوز من أجل التقدم.
العلم معرفة تتقدم، يثبت العلم من أجل حصول التعرف والمعرفة، ويتغير من أجل الاستمرار والتقدم. العلم إيقاف للزمن ومسايرته في الآن نفسه.
روح العلم ومنطقه متواضعين ضرورة، فالعلم وهو مشتغل على الحقيقة والملائمة فليس يتصرف بالوهم من أجل إرضاء نزوة أو تعب جسدي أو نفسي، أو بتصرف معتقد وصل إلى نهاية ميل وتشبث به كلوح غريق، كما أنه ليس بحثا في جواهر الأشياء والأمور وماهيتها، بل هو بحث في حقيقة مسألة ما في زمن ما ومكان ما ومختبر ما. الحقيقة العلمية حقيقة بصيغة المفرد، وليست بصيغة الجمع. بصيغة حلقة وليس بصيغة سلسلة، دون نسيان العودة إلى المشترك الشامل للاشتغال العلمي.
العلم والوهم
علاقة العلم بالوهم يجب أن تفحص، فالعالم إنسان، فرد أو في جماعة، وقد يتخيل ما ليس واقعا ليبني ميلا وجدانيا أو يرد على ميل وجداني، أو ليزكي موقفا، أو يجني منفعة. الوهم حاجة ومعرفة، هو استجابة فورية وقد تكون مستدامة لإيجاد حلول وأجوبة لسؤال قد تكون عن جهل أو نسيان أو تناسي أو ظنا، وقد يكون التفاعل فيه حاسما.
الوهم فعل معرفي اجتماعي في زمن وسياق معينين وعادة معينة؛ فالعالم لا يتعلم العلم فحسب، بل والعادة أيضا وطريقة وأسلوب فعل العلم. ومن هنا أهمية فحص أوهام المؤسسة وعلى مدد قصيرة ومتوسطة وطويلة.
الوهم في الاشتقاق اللاتيني مرتبط باللعب والتلاعب، هو إذا نوع من الخداع الذي تمارسه الذات العارفة لترضية ما، حتى يحصل الجواب المستدل عليه، لكنه حاجة قد تتلبس السؤال المركزي والفرضيات وحتى الفحوص العملية والنظرية برمتها.
من أجل الحذر من الوهم والتلاعب والغلط وجب التمرن على وضع المسافة بمجاهدة النفس ضد التلبية السحرية للحاجات، من فزع وخوف وانفعال وعاطفة، نحو الرؤية "الباردة" للأشياء والوقائع والأفعال والظواهر.
العالم يجب أن يجمع بين شد الانتباه وتدريب الأعصاب على الهدوء من أجل التفكير والفعل الملائم دون انخراط ودون خندقة، ودون اللامبالاة وعدم الاهتمام أيضا.
فك السحر عن العالم يعني تجاوز النظرتين السحرية والدينية للعالم نحو العقلانية، فإذا كان السحر والأسطورة والفلسفة والأدب يساعد على الانخراط ورد الحاجات النفسية والانفعالية، فإن العلم وحده يستطيع وضع المسافة الضرورية نحو فك الارتباط منهجيا مع الأوهام.
غير أن فك الارتباط مع السحر يستدعي نفسه الوعي بكون اللحظة العلمية لحظة مؤقتة بين لحظات علمية وحياتية أخرى. من هنا ضرورة التأمل من أجل إعادة التركيب الشمولي من أجل إعادة الرابط بين جميع مكونات الحياة والمعرفة، حتى لا يتقهقر العلم إلى حالة السحر.
مسألة أخرى تهم كيفية التعامل مع النظريات والمفاهيم التي يجب أن يسائلها الباحث دون وضعها في خانات. وفحص النظرية يستوجب فحص كل ما تعنيه في سياقات مختلفة.
لا يشتغل العلم دفعة واحدة، ولا بطريقة واحدة، العلم يكون معرفة ثم تقعد، ثم يتعلم، وحتى يتم ذلك يجب أن يكون هناك من يعلمه ومن يتعلمه.
إذا كانت العلوم قد عرفت نوعا من تنمية وعيها بنفسها، من انطلاقها كاندهاش يريد أن يجيب عن كل شيء بمقاربة ما زالت فيها آثار الأسطورة والسحر، نحو محاولة الكشف عن طبيعة الطبيعة بالملاحظة الكمية، ثم نحو التواضع أكثر في صياغة لعب صغيرة توضع لها قواعد في المختبر الفعلي أو الذهني. إذا كان ذلك هو تاريخ وصيرورة العلم، فهو تاريخ وصيرورة الحذر والحذر من مزالق الحذر نفسه.
إن العلم أسلوب أيضا، ولهذا يختلف العلماء ولو في تخصص واحد، ولو بتتبع نفس التعلمات، وحتى بالوصول إلى نفس النتائج. العلم، سواء بلغة اصطلاحية كما في الرياضيات والمنطق، أم باللغة الطبيعية كما في العلوم الاجتماعية، حس وذوق أيضا. يبدأ وينمو ويخطئ ويصحح الأخطاء، ينفتح على المعارف غير علمية كثيرا أو قليلا، وقلما يذهب رأسا نحو الإبداع والابتكار. أو يراجع ويتأمل. ليس هناك تفاحة واحدة تسقط، وليس هناك عالم واحد تسقط عليه.
من كل ما سبق، يحتاج العلم إلى المؤسسة وإلى القوانين التي تنظمه، والمساطر التي تصرفه، وكذلك الجماعة العلمية التي تنتج وتقوم. يمكن للفلسفة والأدب والفن أن تزدهر خارج المؤسسة، غير أن العلم، والمعاصر خاصة، بحاجة إلى فضاء شبه مغلق يتنفس فيه بأقل تلوث ممكن من الناحية السياسية والمعتقد وغيره.
الاشتغال العلمي بالعلم له حيثيات تربطه بالاجتماعي والثقافي والعلمي نفسه، على أساس اختلاف العلوم في منطقها، رغم ما يجمع بينها من خصائص تساعد على الفهم الشمولي الذي يعتبر تمرينا ضروريا نعود إليه في ذهاب وإياب في إطار مناقشة علاقة الخاص بالعام. وعلى مدد قصيرة ومتوسطة وطويلة.
أخيرا وليس آخرا النظرية الوحيدة للعلم هي أن ليس هناك نظرية مهيمنة بالإطلاق، بل هي نظريات تتصارع ويحاول بعضها اكتساب بعض القوة لحين.
الباحث السوسيولوجي
الباحث السوسيولوجي مركب الوعي ضرورة، ينبغي له الإلمام بالمعارف الفلسفية والتمرن على صياغة الأفكار المجردة التي تساعد على الفهم الأولي والافتراضي، والقبض على مستويات الأهميات الأولى الدالة.
كما عليه أن يمتلك معرفة تاريخية تعتبر مختبر الأحداث والمعلومات من أجل تتبع السيرورات والصيرورات، وكيفية اشتغالها وفق العادات؛ والأعراف؛ والقوانين؛ والرهانات، والثقافات المحلية.
كل ذلك دون إغفال البعد الإنسي الكوني للفعل الاجتماعي، ثم عليه التمرن المستمر على قواعد حرفته: من اختيار الموضوع وشروط ذلك الاختيار؛ وكذلك القدرة على الأشكلة ووضع الموضوع في سياق نظري دقيق؛ مع طرح أسئلة ملاءمة وإجرائية تقود البحث كله؛ الأسئلة القادرة على مده بالمعلومات والمعطيات الكافية لتتبع الأفعال التي يريد فحصها وإدراك تفاصيلها.
السوسيولجيا وعي بتعقد الفعل الاجتماعي وتفاعله الدائم مع أفعال أخرى وفي سياقات وسيرورات وصيرورات: السياقات المادية والرمزية؛ والسيرورات المتغيرة التي يجب فحصها بدقة؛ الظاهر والخفي؛ والمباشر والمراوغ؛ فحص الفئات ليس بالهين سواء بالنسبة إلى السن الذي قد لا يكون له تأثير؛ أو في الأجيال التي قد تتداخل أو يتبنى حديثها قيم الماضي عكس سابقها الذي كان حداثيا؛ وحتى الجنس الذي ليس بيولوجيا محضا، بل أفعال وأدوار وحتى اختيار وفي حيزات ومدد، الأمر نفسه فيما يطلق عليه الوضع الاجتماعي، والمرتبط بمحددات مثل الدخل والحراك وغيره.
وتتوقف جودة التعلم بجودة المعلم وبـ "انقياد" المتعلم النسبي واللحظي والمرحلي، ولا يتم ذلك من دون الثقة في المعلم وفي التعلمات. والمعلم لا يكون كذلك بحفظ القواعد فحسب، بل وباستيعاب فنون التعليم، وبخلق الحاجة والترغيب في التعلم والتمرين على صبر التتبع والمشاركة.
وفن التعليم ليس تقنيات تتعلم هي أيضا فحسب، بل هو قبل كل شيء ثقافة شغف وانصراف كلي للاشتغال المسترسل على ممارسة العلم بحثا وتخيلا وتكملة وفهما وتحليلا ونقدا.
في معنى الاجتماع
يعتبر البحث في كيفية اجتماع الناس، ليس من التجمع والتراكم، وإنما من الفعل والتفاعل، من الأمور التي يجب أن يهتم بها كل باحث اجتماعي.
كيف يلتقي الناس وتتشكل تلك التمظهرات العادية وغير العادية، اليومية غير الملفتة للانتباه، من سكن وغذاء وتبضع وملبس، إلى غير ذلك من الأفعال المعهودة التي نقوم بها حتى دون أن نفكر في فعلها. وكذلك غير المعتادة مثل الزواج وتكوين أسرة، أو الانتماء إلى جمعية أو كيفية اختيار وظيفة.
ثم تلك التي تراكمت بالتنشئة مثل الطقوس والمعتقدات، والتي تنتج قيما تحدد المواقف والسلوك والتصرفات، لنصل إلى التعاقدية المستدامة بالقوانين الملزمة والمساطير.
وأخيرا المنحرفة نحو الجنوح والجريمة.
هذه الأفعال التي تعد اجتماعية، حتى وإن تخللها الاقتصادي أو الديني أو السياسي هي ما يحاول علم الاجتماع البحث فيه بمقاربة علمية صارمة، وليس بالتأمل الفكري والفلسفي أو التلميح الفني والأدبي.
خمسة أفعال هي ما يجب الوعي السوسيولوجي استحضاره، عندما يريد فحص ظاهرة اجتماعية:
الحياة اليومية؛ لأنها المختبر الأول للأفعال الاجتماعية مهما بدت عادية ومكرورة وتافهة. كيف نلبس؛ وكيف نطبخ؛ وكيف نذهب إلى الأسواق؛ وكيف نحيي الناس؛ والأقوال في الشارع من تحية أو سباب أو غيره، كل ذلك ليس شيئا لا يجب الالتفات إليه، بل هو التفاعل العفوي الذي من جهة يملك صبغة الآنية واللحظية ليفيد اقتناص التلقائية، ومن جهة أخرى يملك قاعا تاريخيا نضج واستضمر ليوجه ممارساتنا دون وعي وبوعي.
الفعل الثاني على عكس ذلك هو اللحظات الإرادية، والتي تملك غاية وعقلانية مثل اختيار الشريك، أو الانتماء لحزب، أو المساومة في تبضع.
أما الثالث، فهو غير المعتاد والكثيف الدلالة، مثل الطقوس والعادات ولحظات المرور من حالة إلى أخرى من سن إلى آخر، هي لحظات تتكثف فيها الأفعال وتزدحم وتمتلئ بالرمز والإيحاء لتخبر عن الفروق والحدود والهويات، وما يكون بالتربية والتنشئة مثل المعتقد والتدين، والمعايير الأخلاقية والقيمية العامة.
أما الرابع، فهو التعاقدي الذي يشكل المستويات العليا من الوعي، ومن الدفاع عن المصالح المشتركة والفردية بالقوانين والمساطر المنظمة للأفعال، والتي يمكن الاحتكام إليها عند النزاع، هو عالم القوانين الذي يشكل مدخلا مهما لفهم وتحليل الفعل الاجتماعي الملائم.
أخيرا يأتي الفعل الذي يخرج عن المعتاد، والذي لا يأبه للقيم والمعايير، وقد يصبح لا اجتماعيا.
هذه المجالات تحيط بالفعل الاجتماعي وتساهم في صناعته، وللبحث فيها صنع علم هو علم الاجتماع يطمح ليتجاوز المقاربات قبل علمية ليشيد معارف صارمة تتوخى القطع النسبي مع الحس المشترك، ومع باقي الأشكال المعرفية التي تتخذ المجتمع لها موضوعا.
طرح على الدوام إشكال منهجي مركزي مفاده؛ من يفهم الفعل الاجتماعي؟ هل الذي يمارسه أم الذي يلاحظه؟ وخاصة عندما نكون بصدد فعل مبني على معايير نبعت من قيم اعتقاد.
الذين ينتصرون للفهم الذاتي غالبا ما يكونون من الممارسين الذين قد يقفلون الأبواب على البراني؛ لأنه بالنسبة إليهم ببساطة لا يمكنه إدراك روح الممارسات والمعتقدات سوى الذي يمارسها. أما بالنسبة إلى الملاحظ الخارجي، فبدعوى الموضوعية يرفض ما يقوله الذين في الداخل؛ لأن الذاتية تحجب عنهم الرؤية. في قطبي المعادلة المفارقة هذه أنتجت حوارات كثير منها عقيم، أو يمارس التقية حتى يتم التواصل، غير أن الأمر ليس بالسهولة التبسيطية وفق التقابل القطبي الذي يبدو مريحا، لكنه غير مثمر معرفيا وعلميا.
إن الفاعل أنواع وكذلك الملاحظ، ويختلف إدراكهما للظواهر والأفعال من حين إلى آخر ومن سياق إلى آخر.
من يستطيع أن يفهم وأن يحلل وأن يستشرف الفعل الاجتماعي، الممارس أم الملاحظ؟
الممارس أنواع:
فيه اليومي العادي الذي لا ينتبه لممارسته؛
وفيه الداعية الذي هو أيضا أنواع؛
اللغوي الذي يحاول الاقتراب من الدلالات؛
وكما الممارس أنواع الملاحظ أيضا أنواع:
فيه البراني خارج ما يصطلح عليه بـ "الملة" أو الأمة، وهو أيضا أنواع؛
المستشرق الذي استهوته فتنة الشرق وفوضاه؛
والرحالة الملتفت للغرائبية؛
ثم المبعوث للتمهيد للاستعمار باختلاف مناهجه الإثنوغرافية والأنثربولوجية والسوسيولوجية.
بعد هذين القطبين يأتي الباحث المنتمي جسديا على الأقل إلى "الملة"، وهو أيضا فيه أنواع:
الداعية إلى الحداثة؛
أو إلى العقلانية لفعل ما فعلته الأمم التي قطعت مع السحر وربما مع الدين؛
والاثنين غايتهما اللحاق بالركب.
ثم السوسيولوجي أو الأنثربولوجي المحلي في آخر المطاف، والذي يتميز عما سبق ليس لشيء، إنما لممارسة علم معياري يستطيع خلق المسافة مع الموضوع بالتخلص من الانفعال والعاطفة وبفحص الأوهام حسب تعبير نوربرت إلياس.
في الحتمية الاجتماعية
هل هناك حتمية اجتماعية؟ هو سؤال يبدو الآن متجاوزا في النقاشات الإبستمولوجية النظرية، لكنه ليس كذلك في الممارسات البحثية التي تحاول دوما البحث في الأسباب أو التبعات، أو السيرورات، أو هي مجتمعة، سواء بالتفسير أم بالفهم والتأويل، سواء بالقياس أم بالبحث في التعريف والخصائص والتمثلات والسير والمتون، وغير ذلك باستعمال العمليات الذهنية الإنسانية التي يستعملها أي إنسان كما حددت ذلك الفلسفة الترابطية، البحث بالمقارنة في الجوار التعاقبي والتزامني، والبحث في علاقات الشبيه بالشبيه والمتلازم، والبحث في الأسباب، ثم بما يلائم من تقنيات منهجية مصطنعة أكاديميا، ومعادة الصياغة لتصلح لموضوع بعينه.
بكل ذلك حد أدنى من القدرية يفرض نفسه لقيام أي علم اجتماعي، القدرية هنا بمعنى قدرة المجتمع على التأثير في الأفعال وردود الأفعال والتفاعل، وليس بأي خلفية تيولوجية.
بالمتاح الطبيعي وبصناعة المجتمع يقدر المجتمع بعض مصائر الناس وبعض تصرفاتهم وأحيانا بتمامية مغلقة. فالترمل واليتم وعدد الأطفال، وتقسيم التركات والمرض وجمال الوجه وقوة الجسم، ومكان الميلاد، كلها عوامل تضع الإنسان إما في البحبوحة من العيش أو في البؤس الذي قد لا يفارق الحياة.
بكل ذلك، ومهما كانت حرية اختيار المصير، ومهما كان الكد والاجتهاد مفيدا أحيانا لا يمكن فهم بعض المصائر إلا بشروط خارجة عن الإرادة الفردية والجماعية، بل وفي جل الأبحاث الاجتماعية يكون المبتغى ليس تجاوز هذه القدرية، وإنما التدقيق في تفاصيلها من أجل وصفها بدقة أكثر، ومن أجل الفهم للسيرورات وتأويل التصرفات.
وهذا ما يجعل الغرباء عن العلوم الاجتماعية ينعتون الأبحاث الاجتماعية بكونها اجتهاد كبير ومنهجي للوصول إلى البداهات الشعبية واليومية. أو ما نعته ماكس فيبر بالشباب الدائم للعلوم الاجتماعية.
ونظرا لهذه القدرية النسبية، وجب فحص المتاح الطبيعي والاجتماعي والثقافي لفهم الأفعال والتفاعل الاجتماعي؛ دون إغفال استحضار الفرضية النافية، من كون إمكان الخروج من القدرية بنباهة "فطرية" أو باكتساب مهارات بحادث قد يغير "المكتوب" من حال إلى حال، أو العكس بإمكان فساد "الفطرة" وتآكل المهارات أن يسقط في قدرية بئيسة ولو بمتاح مريح.
النجاح لا يأتي بالرغبة في النجاح والعمل على تحقيقه. وكذلك الفشل، وحتى الجنوح والجريمة لا يأتيان من المسؤولية الجنائية الفردية. الفعل الاجتماعي، فرديا كان أم جماعيا، لا يمكن فهمه ولا تفسيره ولا تأويله دون دراسة دقيقة للمنبت والألفة والتعلمات والسياقات.
ولا يجب فحص ذلك بالحتميات الساذجة التي تفسر النتائج بمسببات مسبقة، بل بتتبع المصائر والأحداث، وكيف أمكن أن تحدث في سياق وليس في سياق آخر. إن العلم الاجتماعي علم بالتفاصيل والصيرورات وبالنفس الطويل.
الفاعل الاجتماعي، بوعي تام أو بوعي نسبي، يملك حيزا من الحرية مكانا وزمانا للفعل، من هنا يعتبر فحص المجال، الأماكن والحيزات والآنات لا يعتبر مضيعة للوقت. كل فعل يوجد في حيز وفي زمان وبإرادة، وعندما تتغير يتغير الفعل، لكن ليس كجزر بل في تواصل مرئي أو غير مرئي، معلن أو خفي.
وليس التغير هو ما يجب فحصه فقط، بل والعوامل التي تقاوم التغير والتي تعمل على التخشب والجمود، أو حتى التقهقر.
وأحيانا تأتي المؤثرات بعيدة ومقنعة، وقد نعتبرها محلية أو العكس من دون الحذر الكافي، وتعد أفعال الاعتقاد جد مفيدة في ذلك. يظهر معتقد ما في بقعة ما وعند فئة اجتماعية ما، ويؤدي وظائف محلية مثل بناء الهوية وصناعة الحراك الاجتماعي والانصاف ورد الاعتبار للإنسان ووهب الطمأنينة من خلال الانتماء للأبدية.
ثم ينتشر ذلك المعتقد، يجد معتقدات سابقة فتحصل الملاءمة بطرق سلمية أو بعنف تخلق معتقدات فرعية قد تتنافى مع المصدر الأول، وقد تتقهقر نحو معتقدات أقدم إذا لم تجد حراس معبد الطقوس والشريعة.
إن فهم الفعل الاجتماعي ليس بالأمر الهين، ولا يتم بالتتبع والقياس الميداني الضيق، وإن كانت ضرورات الملاءمة والإجرائية تفرض ذلك. البحث الميداني إذا لم يسلح بتصور إبستمولوجي وبامتلاك ناصية متغيرات بعيدة وقريبة، مستقلة وتابعة، وفهم دقيق وملائم للمؤشرات، إذا لم يمتلك كل ذلك قد يسقط في الفهم السطحي للوقائع والأفعال.
الفاعل الاجتماعي سوسيولوجيا ليس هو الفاعل الجنائي، بل فاعل يمثل فئة اجتماعية في سياق وفي صيرورة.
الفعل الاجتماعي مرتبط بشكل أو بآخر بالمسؤولية التي يترتب عنها الجزاء الاجتماعي سلبا أو إيجابا، المسؤولية من بين أمور أخرى مثل نية الفعل وقصده وغايته هي التي تمكن الباحث من الفهم والتأويل كما في أي تواصل إنساني.
الباحث الاجتماعي والدلالة
بين الباحث والمبحوث توجد المعنى والدلالة، وفحصها المباشر كما في أي بحث جنائي قد يفيد جزئيا، لكن العمق الثقافي للأفعال هو الذي يجب أن يغوص فيه الباحث الذي يجب أن يتسلح بكل الأدوات التي بها يفك السنن، ويعطي للأفعال مدلولها الملائم وفق السياق الذي ليس لحظة فحسب، بل سيرورة يمكن أن يرجع بها إلى آماد طويلة ومجالات غنية وثرية.
لا يكفي إحصاء عدد الصلوات أو الصدقات لقياس التقوى، هي مساعدة ولا شك، لكن قد تحيل إلى نقص في الثقة في النفس، وحتى في معتقداتها لنسقط في كون الفعل المعلن أحيانا يغطي دلالات أعمق.
من هنا أهمية المعارف الجارة من جغرافيا وفلسفة وتاريخ، وحتى معارف تبدو بعيدة مثل الرياضيات والطب، وغيرها من المعارف العامة التي تفيد في الملاحظة والرصد وتتبع الدلالات.
دون القفز عن العوائد والقيم المسيرة لسلوك الأفعال.
خلاصة
إن الوعي الإبستمولوجي والخلفية النظرية والمعارف التاريخية والثقافية هي العدة التي تقي من مزالق أن تصبح السوسيولوجيا سوسيوغرافيا فحسب.
السوسيولوجيا علم يطمح أن يكون تقريريا ويبتعد عن المعيارية كما في الأخلاق أو القانون، لكن موضوعه معياري يتصرف وفق قيم ومعايير على أساسها تبنى الأفعال ليميز الملائم منها من المنحرف وفق تصور إنسانوي نبيل.