كيف يمنحنا التدين القدرة على الـتأمل والفهم الإيجابي للذات؟
فئة : مقالات
نشعر في كثير من الأحيان، أننا على موعد مع كتاب، وأنه هو ما نبحث عنه، كأنه ينتظرنا. كنت أبحث وأحاول أن أجد شيئا في الحوار الذاتي والتأمل، وأفكر كثيرا كيف يصل أحدنا إلى أفكار وملاحظات مهمة وجميلة بالتأمل العميق، وكأنه يجمع الحكمة من الكون والفضاء! فوجدت كتاب إريك فروم "فن الإصغاء"، ثم عدت إليه مرة أخرى مستعينا به، ومحاولا إعادة تنظيم نفسي وأفكاري، ووجدته مفيدا جدا.
عندما اخترت الكتاب لأجل قراءته وتقديمه، كنت أظن أني أتعامل مع أحد الكتب التي انتشرت انتشارا واسعا، عن السعادة والحوار والتفوق؛ ذلك النوع من الكتب الذي يوهم القراء بإمكانية النجاح بسهولة، وعلى نحو يغنيهم عن قسوة العلم والتدريب وملله. ولكني وجدت كتابا عميقا متخصصا في التحليل النفسي، يعرض تجربة أستاذ جامعي مهم في تدريس علم النفس، وزادت قناعتي بضرورة أن يتوجه المثقف إلى القراءة المتخصصة؛ ففي هذه المرحلة من تقدم المعرفة وتحولها إلى أساس للعمل والمهن، والمصالح والموارد، انتهت مرحلة القراءة المسلية، ولم يعد الكتاب مصدرا للتسلية وتزجية الوقت في أثناء الفراغ، ولكنه جزء من العمل اليومي والحياة، يمارس على نحو جدي ومتخصص لأجل التعليم الذاتي والتعليم المستمر، لأجل مواجهة التحولات الكبرى في المعرفة، والذي يجعل الإنسان مغيبا تماما حتى في مجال عمله واختصاصه، إن لم يمارس عملية تعليم وتثقيف قاسية ومملة.
بالطبع، فإن مفاهيم ومهارات من قبيل الحوار والتحليل النفسي وفهم الذات ليست جديدة، ولكنها اليوم تأخذ طابعا ثقافيا وعاما، لأجل التأهيل الجماعي الواسع، للمشاركة في مرحلة المعرفة الجديدة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. ويمكن النظر على سبيل المثال، إلى جملة من الظواهر الجديدة التي تشكل المجتمعات وتوجهاتها اليوم؛ فالرواية لم تعد حكاية سردية مسلية، ولكنها بحث معرفي ومصدر للفهم العميق المسكون بالفلسفة؛ والفلسفة نفسها، لم تعد اليوم تخصصا صعبا ومعقدا يُشغل به نخبة قليلة من الناس، ولكنها تتحول إلى ثقافة عامة. حتى إن صحيفة فرنسية بدأت تصدر ملحقا فلسفيا أسبوعيا، ويمكن ملاحظة كيف أن روايات، مثل "عالم صوفي" لجوستانين غاردر، والتي لا تعدو كونها استيعابا لمقررات الفلسفة في المدراس الثانوية، أو "شيفرة دافنشي" لداني براون، أو "اسم الوردة" لإمبرتو إيكو، وغيرها من الروايات القائمة على المعرفة والفلسفة، لاقت إقبالا كبيرا، وبيع منها عشرات الملايين من النسخ.
في هذه المرحلة من مسار البشرية، والتي لا تقل في عمق أثرها وتحولاتها عن الثورة الصناعية؛ فإننا في مواجهة الانقراض وفقدان الجدوى، على مختلف تخصصاتنا ومهننا وأعمالنا ووظائفنا، أساتذة وأطباء ومحامين، وكتابا وصحفيين ومهندسين، وعلى مستوى مؤسساتنا أيضا من وزارات ومدراس وجامعات وأسواق.
نحتاج إلى إعادة تشكيل وتعليم متواصل ودؤوب، وعملية استماع وإصغاء طويلة وعميقة، تعلمنا من جديد كل شيء، وتجدد وتراجع كل ما تراكم لدينا من خبرات، وعلوم، وثقافة، وقصص، ومواقف، وأفكار، وممارسات وعادات. نحتاج إلى إصغاء يلتقط المعارف والأفكار الجديدة والملائمة، لأننا مقدمون على حياة ستكون بكل مفرداتها منقطعة عن الماضي، حيث لن تكون المدارس والجامعات هي نفسها، وسيكون الفرق بينها وبين القائمة اليوم، مثل الفرق بين هذه وبين الكتاتيب؛ والمهن والأعمال أيضا لن تكون هي نفسها؛ فسيكون الفرق بين الأطباء غدا وأطباء اليوم، مثل الفرق بين هؤلاء وبين الكهنة والحجامين والعطارين الذين كانوا يعالجون الناس ويداوونهم.
يقول الفيلسوف الألماني بولنوف، إن الشرط الأول للحوار هو القدرة على الإصغاء إلى الآخر، والإصغاء يعني أكثر من التقاط الإشارات الصوتية، كذلك أكثر من فهم ما يقوله الآخر؛ إنه يعنى أنه أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئا مهما بالنسبة إلي، شيئا عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة، على تغيير رأيي".
أما الشرط الثاني فهو الثقة بالآخر، وتعني أن يكون المرء مستعدًا للتصريح برأيه، ولا يخشى الأذى. يقول الفيلسوف الصيني "لاوتسه": "إذا لم تثق بما فيه الكفاية، فلا أحد سيثق بك". ولا شيء كالحوار يخلق أساسًا للثقة، يترسّخ على نحو متقدم.
عودة إلى إريك فروم؛ وهو عالم نفس مهم، وربما يكون أجمل ما في كتبه بالنسبة للمثقفين غير المتخصصين في علم النفس، أنه يملك لغة وثقافة جميلة وموسوعية، تخاطبهم ربما أكثر من المتخصصين.
يساعد كتاب "فن الإصغاء" قارئه في فهم نفسه وتحليلها، ثم شفائها من العلل والمشكلات والأزمات التي لا يكاد يخلو منها أحد من الناس، في مستويات ودرجات متفاوتة؛ فنحن جميعا نواجه ضغوطا، ومررنا بتجارب تؤثر فينا وتشكلنا، وفي كثير من الأحيان، نسلك ونفكر ونتذكر وننسى، على نحو مشحون بالأزمة والضغوط، بدون أن نعي أننا نضر بأنفسنا أو نستغرق فيها على نحو مَرَضي، ونغفل عما فينا، وعن العالم من حولنا وما فيه من فرص وجمال، يمكن أن تشفينا وتساعدنا.
يقدم فروم عشر خطوات للمعرفة والشفاء: التحليل أو معرفة الذات أو الوعي، وتغيير السلوك، وتنمية الاهتمام بالعالم، والقراءة، وتعلم التفكير النقدي، وأن يدرك المرء لاشعوره، ويدرك أيضا جسمه، ويدرك نرجسيته، ويحلل نفسه، والتركيز والتأمل.
يقول فروم: "إذا لم أفكر نقديًا، فأنا عرضة لكل التأثيرات، ولكل المقترحات، ولكل الأخطاء، ولكل الأكاذيب المنتشرة التي أتلقّنها من اليوم الأول فصاعدًا. ولا يمكن للمرء أن يكون حرًّا، ولا أن يكون ذاتَه، ولا أن يكون له مركز في ذاته، ما لم يكن قادرًا على التفكير نقديًا".
ربما تحتاج النرجسية إلى توقف طويل، لأنها برأي فروم أساس العلل. وربما نوافقه جميعا ونحن نلاحظ في مجتمعاتنا السلوك النرجسي اليومي، في العمل والعلاقات وشؤون الحياة اليومية. والنرجسي كما يعرفه فروم، هو: "الشخص الذي لا يكون الواقع عنده إلا الذي يجري ذاتيًا؛ فأفكاره وأحاسيسه وما إلى ذلك، يراها حقيقية، وتمثّل الواقع. لذلك، فالطفل الصغير يكون نرجسيًا إلى أبعد الحدود، لأنه في الأصل لا يوجد عنده واقع في الخارج بعد. والمريض الذُهاني نرجسي متطرف، لأن واقعه الوحيد تشكله تجاربه الداخلية. وجُلّنا نرجسيون إلى هذا الحد أو إلى ذلك؛ أي أننا منجذبون قليلًا أو كثيرًا إلى ألاّ نحسب حقيقيًا إلا ما هو في داخلنا، لا ما يشير إلى شخص آخر".
ويؤكد هنا أنه بالنسبة إلى فهم الإنسان؛ أي إلى فهم أنفسنا، فإن فهم النرجسية من أهم الأمور، وأنها لم تجد الاهتمام حقًا.ويذكر فروم مثالا جميلا عن ملاحظة الإنسان لنفسه؛ كيف أننا نلاحظ في سياراتنا أي اختلاف يحدث فيها، وأدنى صوت أو ضجة غير مألوفة، وندرك على الفور أن ثمة مشكلة في السيارة تحتاج إلى حلّ. هذه الحساسية العالية نحتاجها أكثر لملاحظة أنفسنا، وأن نملك قدرا كافيا من التركيز والتأمل يساعدنا على الإدراك، أو يمنحنا القدرة على ذلك.
يذكرني هذا بقوله تعالى: "ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دسَّاها"؛ فالمشاعر والأفكار والذكريات التي نحملها أو نفقدها، هي طاقة منشئة لنا، ولموقفنا في الحياة ولعلاقتنا بالآخرين؛ نحن نشكل أنفسنا بهذه الطاقة التي نحلها فينا أو نمنعها أن تحل فينا.
فإن تركنا الحقد، والحسد، وحب الذات، والغرور، والرغبة في تدمير الآخرين وإيذائهم تملأنا، ثم أغلقنا أنفسنا أمام عواطف الحب، والتسامح، ونسيان الإساءات، والرغبة في الخير للآخرين، والتواضع؛ فإننا نشكل أنفسنا على نحو خطير على أنفسنا وعلى المجتمع،...نتحول إلى كائنات خطيرة ومؤذية، ويمكن أن تنفجر في أية لحظة...كيف نشكل أنفسنا؟
يسلك الناس أكثرهم في استحضار الطمأنينة، ودفع القلق والهموم، في الإغراق في الصلاة والذكر والتلاوة، وهم يحصلون على قدر من السعادة والطمأنينة. وهذا بالمناسبة يحدث لكل ممارسي الطقوس والشعائر الدينية، في جميع الأديان؛ ما يعني أن الشعور بالطمأنينة والراحة ليس مستمدا من صواب الفعل بالضرورة، إلا إذا اعتبرنا جميع الممارسات الدينية صائبة. والمرجح أن الطقوس والرموز الدينية تمنح الطمأنينة، ولكن هذه الطمأنينة ليست هي الشفاء؛ هذا ما يجب التذكير به، بالرغم من أنه يخالف الاتجاه الكاسح في التعبد والصيام والذكر.
وربما يحدث العكس؛ فقد يتشكل شعور زائف بالمعرفة والشفاء، يزيد المرض تمكنا واستفحالا؛ ففي مظنة الشفاء، مع استمرار المشاعر المرضية، والغرائزية التدميرية، والضارة البدائية، يغفل الإنسان عن علاج نفسه، ومحاسبتها، ومحاولة تغييرها، وقد ينظر إلى حالته معكوسة "زين له سوء عمله فرآه حسنا".
والأسوأ من ذلك، ما يمنحه العطاء والتدين والتعبد من عيوب وأمراض وعلل جديدة؛ فمع ضعف التجربة، وقلة العلم، وهشاشة النفس وضحالتها، يرى المتدين نفسه أفضل من الآخرين، ويبيح لنفسه الاستعلاء عليهم وإلحاق الأذى بهم، وأسوأ من ذلك كله ما تحل فيه من مشاعر العجب والتكبر على الآخرين، ومظنة أنه أحسن منهم، ... وهذا أسوأ ما يمكن أن يصيب المتدينين، لأنه يحول التدين إلى مصدر إضافي جديد للعلل، أو يضيف للعلل الكامنة والأصلية عوامل وأسبابا جديدة، لتزيد شراسة وتمكنا من النفس؛ فإن كان فاشلا يزيده التدين شعورا بالنجاح الوهمي، وأنه لا ضرر من فشله طالما أنه جنى أكواما هائلة من الحسنات، وإن كان مقصرا في عمله، أو يغش الناس، أو يسرقهم، فإنه يرتاح من تأنيب الضمير، ولا يجد وازعا ذاتيا للتصحيح والمراجعة، وإن كان مليئا بمشاعر الحقد على الآخرين، وغياب التسامح، فإن التدين يطلق مشاعره على سجيتها، بلا حياء أو وازع لكبتها وتهذيبها، وقد يغلف مشاعره السلبية المرضية تجاه الآخرين، بتوهم أنهم أقل شأنا، ويستحقون الحقد والكراهية، لأنهم بعيدون عن الدين.
وقال تعالى: "لا أقسم بالنفس اللوامة"، وقال أيضا: "إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي". النفس الأولى جميلة ومطلوبة؛ ففي قلقها الدائم "اللوم" تسعى دائما إلى الأفضل، ولذلك فقد مدحها الله بقسمه بها. والأخرى بالطبع، هي التي يجب أن نسعى في مقاومتها وتهذيبها وكبحها،... وأجمل منهما بالطبع "النفس المطمئنة"، وأظنها حالة مثالية نسعى للوصول إليها، ولا نكاد نظفر بها إلا لحظات قليلة، ثم نعود إلى حالة اللوامة أو ننتكس إلى الأمارة بالسوء، فيبدو أن السعادة في حالتها المطلقة الدائمة ليست موجودة في هذه الدنيا، ولكنا يمكن أن نجد سعادة وجمالا في ذلك "اللوم"، أو في محاولة الارتقاء بالذات، ومقاومة العيوب والأخطاء والأهواء.
الأزمة النفسية هي، كما يقول إريك فروم مقتبسا من فرويد، عاطفة خبيثة، ومهما كان سببها، فإنها مرض يجب أن نتخلص منه. إننا يمكن أن نعالج أنفسنا بالمحاكمة العقلية لتجاربنا وتحليلها، ومساعدة أنفسنا على تجاوز التجربة/ الأزمة، كيف نجعل لحياتنا معنى وهدفا نعتز به ونسعى لتحقيقه؟ كيف نتخلص من الاكتئاب والقلق؟
بالطبع، فإن هذه الرياضة الروحية والعقلية لن تلغي أو توقف تجربة سيئة، ولا تجاوزات واعتداءات صادمة، منشئة للأزمات والعيوب والعلل، ولن تمنح المال إن كان سبب الأزمة نقص المال، ... هذا ما يجب إدراكه منذ البداية لدى كل الباحثين عن الشفاء، ولكن هذا الإصغاء والتأمل يساعدك على أن تكون أقوى من الأزمة، وقادرا على مواجهتها، ويساعدك على حمايتك من نفسك، ويرشدك لتوقف أنت ما تستطيع إيقافه، إن كنت الطرف المعتدي والمسبب لأزمة أو صدمة، ويمنحك "المناعة النفسية" والعزيمة لتصحح أخطاءك؛ إنه يضعك في مواجهة السؤال "ماذا يجب أن أفعل؟"
والنفس مثل خزان تحلّ أو توضع فيه الأشياء أو يكون مغلقا مهجورا، فنحن ما نُحِلّ في أنفسنا من أفكار وقيم وعزائم وذكريات ونسيان، ... لننظر فيما يحلّ فينا، ما يجب أن نستحضر أو نستبعد من أفكار ومواقف، وما نتذكر أو ننسى، فنحن ما نتذكر، ونحن ما ننسى.
لن يهبط الشفاء من السماء على غير موعد، لن يحلّ التدين والتعبد مشكلة الفقر والظلم، ولكنه يمنحنا أو يجب أن يمنحنا الطاقة التي تساعدنا في الحياة؛ فأنت إذن تستمد من التأمل والصلاة والصيام والعبادة الطاقة الإيجابية التي تمنحك البصيرة والإلهام، والاحتمال الذي يجعلك أقوى من الألم والصدمة، والإشراق الذي يجعلك أقوى مما أنت عليه.
هل يمكن أن تكون عملية ترويض الجسد ورغباته، كما يحدث في الصيام على سبيل المثال، فرصة لترويض النفس وتعزيز القيم الروحية العليا، في مواجهة الغرائز والرغبات والعيوب النفسية "الدنيا"؟
الشفاء النفسي لدى علماء النفس، هو القدرة على التحكم بالغرائز وترشيدها، أو كما يقول فروم مقتبسا عن فرويد: "تقوية الأنا في مواجهة الغريزة"، والعكس صحيح أيضا؛ فإن الأمراض النفسية ناشئة عن تغلب الغريزة على الأنا. وهكذا، فإن الشفاء في القوة والعوامل التكوينية للذات والغرائز، السلبية والإيجابية، يعتمد على اكتشاف العواطف المكبوتة، وتحويلها إلى شعور؛ يشبه ذلك خروج القيح من بقعة ملتهبة.
ثم يصوغ فروم نظريته في المرض والشفاء بالقول، إن الشفاء يعتمد على إدراك الواقع اللاشعوري، وكشف الواقع اللاشعوري لشخص من الأشخاص يمنحه فرصة التعافي، ولذلك يقترح بأن الشفاء يكون في محاربة نمط من العواطف بنمط آخر. هناك أهواء خبيثة، مثل الحسد والإيذاء والنرجسية، يمكن مواجهتها بالحب والتسامح والاهتمام بالعالم (الناس والطبيعة) والفنون والتفكير،...لذة التفكير؛ فالذات أو الأنا هي القوة المنفّذة للأهواء الخبيثة وغير الخبيثة. ولكن المهم في الإنسان، وما يحدد عمله، وما يصنع شخصيته، إنما هو أي نوع من الأهواء يحركه.
هذه الأفكار اقتبستها من إريك فروم في دراسته لمنهج فرويد في التحليل النفسي، أعدت صياغتها بالطبع، ووجدتها ببساطة تمرينا يمكن تطبيقه بنجاح في الصلاة والصيام،... التأمل الطويل والعميق في النفس والذات والحياة ومحاولة اكتشافها؛ فالحياة تفهم في إطار منظومة متكاملة ومتفاعلة من الأنظمة والمجالات والعلاقات، وعزل جزء من الظواهر والمشكلات، ومحاولة فهمها وتحليلها، مستقلة عن كونها جزءا من النظام يؤدي إلى فهم مضلل، والإنسان يفهم من علاقته بالمنظومة التي يحيا وينشط فيها. وربما يكون العالم كله، كما يرى غريغوري بيتسن، كائنا حيا أو نظاما حيا، وليس ميكانيكيا.
يقول إريك فروم: "الإنسان نظام، كالنظام البيئي أو السياسي، أو نظام الجسم أو الخلية؛ ولدى تحليل نظام "الإنسان" نفهم أننا نعالج نظام قوى، وليس بنية ميكانيكية لجُزيئات سلوكية. ولنظام الإنسان، كأي نظام، تماسك شديد في داخله، ويُبدي مقاومة كبيرة للتغيّر؛ وفضلاً عن ذلك، فإن تغيُّر مفردة فيه يُزعَم أنها "سبب" مفردة أخرى غير مرغوب فيها، لن يُحدِث أي تغيير في النظام في كليته."
ولذلك، فإن فروم يقترح دراسة التاريخ، والدين، والفلسفة، والأساطير، والرموز، والروايات، والأعمال الأدبية الجميلة والخالدة؛ فهذا يمنح الإنسان فرصة لفهم نفسه، والحصول على الانسجام مع الذات والكون أيضا؛ فهذا الارتقاء بالنفس يجعلها أقوى من القلق والعصاب وسائر الأمراض والعيوب.
لنجرب في ساعات النهار الطويلة عزلة مليئة بالقراءة، والتأمل في النفس وعيوبها، وأحلامها وآمالها.
وقال تعالى: "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره". لم نجرب -كثير منا- عمليات الحوار الذاتي والتعرف على أنفسنا، إننا نكاد نجهل أنفسنا. يمكن لكل واحد منا أن يجري تحليلا نفسيا ذاتيا، فتلك وظيفتنا الأساسية تجاه أنفسنا من غير معونة المحللين النفسيين، ولكن يبدو أن لدينا اتجاها ثقافيا اجتماعيا، للهروب من فهم مشكلاتنا ومحاولة التعرف عليها، وتجاهلها والتقليل من شأنها، وفي ذلك إيذاء للنفس، وطمس لطاقات المعرفة والتحليل والمواجهة، لنواجه أنفسنا في أثناء الصلاة والصيام والحج والتعبد، بالسؤال عن آلامنا وما يسعدنا، وأخطائنا وعيوبنا وحسناتنا، وما يغضبنا وما يفرحنا، وأحقادنا وتسامحنا وعفونا وظلمنا، وتقصيرنا وإنجازنا، وما أديناه من حقوق وواجبات وما لم نؤده، وإن كنا محقين في ذلك أم مخطئين.
يقول إريك فروم: إن شرط الوجود الاجتماعي هو الوجود في البيت، وشرط الإصغاء إلى الآخر هو الإصغاء إلى الذات،...إن إصغاء المرء إلى نفسه شديد الصعوبة، لأن هذا الفن يقتضي قدرة أخرى، نادرة في الإنسان الحديث: هي قدرة المرء على أن ينفرد بذاته. ونحن في الحقيقة قد أنشأنا رُهاب الانفراد، ونفضّل أتفه صحبة أو حتى أبغضها، وأكثر النشاطات خلوًا من المعنى، على أن ننفرد بأنفسنا، هل لأننا نعتقد أننا سنكون في صحبة بالغة السوء؟ أعتقد أن الخوف من أن نكون وحيدين مع أنفسنا، هو إلى حد ما شعور بالارتباك، يقارب الرعب من رؤية شخص معروف وغريب في وقت واحد، فنخاف ونولّي الأدبار، فنُضيع بذلك فرصة الاستماع إلى ذواتنا، ونستمر في جهلنا لأنفسنا.
ولكن لا مناص من معرفة النفس، فهي ضرورة لنا جميعا؛ كيف للمرء أن يعرف العالم؟ كيف للمرء أن يعيش ويستجيب كما ينبغي، إذا كانت تلك الأداة التي ستعمل، والتي ستقرر، مجهولة بالنسبة إلينا؟ يتساءل إريك فروم، ويؤكد: "نحن المرشد، والقائد لهذا الــــ "أنا" الذي يتصرف على نحو ما لنعيش في العالم، ونكوّن القرارات، ونولي الأولويات، وتكون لنا قيم. فإذا كان هذا الــ "أنا"، هذا الفاعل الأساسي الذي يقرر ويفعل، لا نعرفه كما ينبغي، فإنه ينجم عن ذلك أن كل أفعالنا، وكل قراراتنا قد تمت بحالة نصف عمياء أو بحالة نصف متيقّظة". ويقول أيضًا: "إن التحليل النفسي ليس مجرد علاج، بل هو وسيلة لفهم الذات؛ أي أنه وسيلة في فن العيش، وهي في رأي فروم أهم وظيفة يمكن أن تكون للتحليل النفسي".
وأخيرا، أحب، وبقدر من التحيز، أن أقدم فكرة فروم للعلاج بالقراءة. يقول فروم: "وبودي أن أقول، إن على المرء أن يبدأ بالقراءة، وبقراءة الكتب المهمة، وبقراءتها بجدية. ولديّ الانطباع بأن المنهج الحديث في القراءة، هو منهج توجّهه الفكرة القائلة بأن على المرء ألا يبذل الكثير من الجهد، فيجب أن تكون سهلة، ويجب أن تكون مختصرة، ويجب أن تكون ممتعة على الفور، وحتمًا هذه أوهام كلها. فما من شيء مفيد يمكن أن يعمله المرء أو يتعلمه من دون أي جهد، ومن دون بعض التضحية، ومن دون تدريب.