لا إله إلا الله.. مقاربة معرفية
فئة : مقالات
الأُطُر الإبيمستولوجية لـِ "لا إله إلا الله" بين فكرة الاستسلام والتمحيص العقلي
الإشكال الذي تطرحه القاعدة البديعة (لا إله إلا الله) إشكال إبيمستولوجي بامتياز، يضع الإنسان أمام اختبار صعب لناحية جسّ نبض معارفه بإزاء الله كخلاصةٍ لِمَا يُمْكِن أنْ يفضي إليه من بحث دؤوب عن مصيره النهائي. ولا أعتقد ـ حتى وإنْ كانت هذه القاعدة هي قاعدة التوحيد الإسلامي الرئيسة- أنَّ مسألة الإيمان بها إيماناً تسليمياً يُمكن أن تخدم الغرض النهائي للوجود الإنساني في هذا العالم، على اعتبار لا نهائية علم الله، والارتقاء الإنساني يتجلّى أكثر ما يتجلّى في محاكاة نموذج المعرفة الإلهية، لناحية إحكام السيطرة على مجريات الكون كاملاً بالمعرفة. وبرأيي أن مسألة الوصول إلى الله ـ اقتضاء لواقع قاعدة لا إله إلا الله- هو وصول معرفي بالدرجة الأولى، وليس وصولاً استسلامياً؛ فكلما زادت معارف الإنسان زادَ قربه من الحقيقة، وإذا كانت (لا إله إلا الله) تُمثّل حقيقة نهائية، فأعتقد أن الوصول إليها عبر عملية هدم (سآتي على شرحها بعد قليل من خلال ضرب مثال تطبيقي على نبي الله إبراهيم) معرفي من الأهمية بمكان، لناحية احترام الوجود الإنساني في إطاره العاقل؛ فالتنامي اللانهائي للمعرفة بإزاء البحث عن حقيقةٍ نهائية سيخلق انوجاداً لا نهائيا لهذه الحقيقة في العقل البشري. أما في حال أُخْذِت أخذاً استسلامياً (وأعتقد أن الاستسلام في حال تنامى معرفياً هو نوع من الانوجاد العقلي اللانهائي لله في العقل البشري، بحيث يصبح الله وجوداً لا نهائيا بصفته حقيقة تطبع الوجود الإنساني بطابع الخلاص النهائي)، في حال أخذت أخذاً استسلامياً، فإنَّ التمثّل العقلي لله سيبقى في إطار العادي والمُسلَّم بوجوده ضمناً لا عن تمحيص ـ كما أراد الله بمقتضى القاعدة الكبيرة لا إله إلا الله-، فالتمحيص يقتضي هدماً إبيمستولوجياً لكلّ الآلهة للوصول إلى حالة الخلاص النهائي؛ حالة الله اللامتناهي.
وفي الحالة الإسلامية، قد يتأتَّى التسليم بوحدانية الله في واحدةٍ من تجلياته العنيفة، كنوعٍ من المجاملة اللاهوتية للسياق العام، لا عن تدبّر وتفحّص واستجلاء، لذا -والحال هكذا- حالَ الله في كثير من الأحيان إلى وجود عادي. وأعتقد أن تجلّيات هذا الوجود العادي مُنسجمة مع السياق المعرفي الإسلامي من حيث هو سياق عند مستوياته الدنيا، وبرأيي أن عامود الانبناء الحضاري هو عامود مُتداعٍ منذ ما ينيف عن الألف عام، إذ تمّ وضع الكائن اللامتناهي ضمن أُطر مُتناهية، وبالتقادم تقلصت هذه اللاتناهيات، حتى حالت إلى أحداث صغيرة وغير إدهاشية ومعها تصاغر المُتناهي، وصار مطمحه محصوراً ضمن سياق عادي، لذا تعطلّت الدفقات الثقافية الكبيرة التي أمكنها ـ في حال تواجدت- الدفع بالسياق الحضاري إلى مرحلة تتجاوز تناهيات الإنسان الأرضية، من خلال تطلّعه ـ على أساس أنه يتمثّل لا مُتناهٍ عظيم- إلى ما هو أكبر مما هو عليه، بما يعني التجاوز الأرضي والقفز باتجاه الكون الكبير.
ولكن أحلام الإنسان المسلم (والأحلام تجلّ لواقعٍ معرفي وسيكولوجي ما) أحلام بسيطة وعادية وساذجة قادته إلى تحويل الله إلى موظّف علاقات عامة عنده، فهو يستجيب لأية دعوة يدعو بها الإنسان المسلم رغم عطالته وبطالته عن تمثّل الله ككائنٍ عظيم؛ فالاستحقاق الذهني للإنسان المسلم (فيما يتعلّق بتصوّراته عن الله) منذ ما يقارب الألف عام هو استحقاق صغير، ولا يرقى إلى مستوى الفتوحات الذهنية اللانهائية، ففي الوقت الذي كانت أحلام الإنسان المسلم لا تتجاوز لقمة العيش (وهذا جعله يؤمن بنظمٍ سياسية عنيفة واستبدادية تحت شعار تمثيل هذه النظم لله والخروج عليها يعني الخروج على الله، وهذا قاد إلى ممارسة نوع من العنف المُستتر بحق الله، فالله لا يتجاوز مرحلة التموضع الأرضي الآني المُجسَّد بالحاكم الطاغية)، كانت أحلام غيره تتجاوز كوكب الأرض ناحية عوالِم أخرى، فهي أحلام امتدادية بصفتها تستمد شرعيتها من بنية معرفية وسيكولوجية داخلية لا نهائية؛ فالتمثّل الإنساني الذاتوي هو تمثّل لا نهائي، فهو يشعر أنه غير مُتناهٍ طرَّاً، لذا كانَ قادراً على تجاوز تعيّناته الأرضية وتمثّل قدراته الجسمانية ناحية اجتراح عوالِم جديدة من خلال العمل على سبر أغوار هذا الكون والبحث في منظومته اللانهائية.
السؤال [سؤال مزدوج] المطروح الآن، لا سيما فيما وصلنا إليه من تمثّلات لله في المخيال الإسلامي:
1-ما معنى القاعدة البديعة (لا إله إلا الله)؟.
2-أية انهدامات وانبناءات معرفية تحتملها قاعدة لا إله إلا الله؟.
اقتضاء للواقع البنائي لقاعدة (لا إله إلا الله)، فقد احتملت هذه القاعدة وجوداً مُضْمرَاً لآلهة أخرى ضمن سياقيتها؛ فالتصريح بواحدية الله وفردانيته تتأتَّى على مستويين: بشري وإلهي. فيما يتعلق بالإلهي، فالمسألة محسومة من قبل الله بالنسبة لذاته من حيث هو كذلك؛ كواحدٍ أحدٍ لا شريك له، وعلى هذا الأساس بتّ في هذه المسألة، فالله إذ يقول (لا إله إلا الله) (1) فإنّه يقطع قطعاً أنطولوجياً ومعرفياً بأنْ (لا إله إلا هو) في هذا الوجود، وأعتقد أن مسألة البتّ الإلهي معرفياً بهذه القاعدة الأنطولوجية مسألة خارج نطاق التصديق أو التكذيب البشري بصفتها ذاتوية إلهية صِرفة، ولكن وبما أنها صارت بين يدي البشر ووجهّت إليهم، فقد صار لزاماً مُقاربة تمثّلاتها من قبل بني البشر؛ فالمسألة (المستوى البشري) بحاجةٍ إلى تجلية من نوعٍ ما، ويمكن لسؤال بسيط أن يضعنا على أول الطريق: هل تعتبر اللحظة الزمنية التي أُقِرّت فيها هذه القاعدة الإسلامية لحظة إطلاقية، وبناء على دفقيتها ينبغي التسليم بها تسليماً نهائياً دونما تمحيص أو تدقيق، لا سيما أن الوجود الإلهي الصِرف من حيث هو كذلك هو وجود مُفارِق للوجود الإنساني المُتعيّن، المتموضع، المرئي؛ ومسألة التصديق به بحاجةٍ إلى رسوخ معرفي كبير؟
اعتماداً على سياقية قاعدة (لا إله إلا الله) ليس ثمة بتّ نهائي بشأن اللحظة الزمنية لهذه القاعدة؛ فهي قاعدة تُخاطب الذات الفردية بصفتها معنية بذلك، بعيداً عن أية ارتهانات جمعية. صحيح أن السياق الجمعي يضغط ـ بطريقة أو بأخرى- على الذات الفردية بشأن اتفاقات عامة يتوجب عدم خرقها أو التعقيب عليها، ولكن قاعدة (لا إله إلا الله) تتعالى على هذه الاتفاقات الجمعية، فالعلاقة بين الله والإنسان هي علاقة لا مُتناهي بـِ (متناهي) من حيث إن المتناهي يطمح إلى اللامتناهي خارقاً بذلك توضعاته وتناهياته؛ فالتاريخ الذاتوي للفرد الواحد هو تاريخ إطلاقي يبتدئ بميلاده وينتهي بموته، وبموجب هذه الصيغة الوجودية تتأطَّر طبيعة الإنسان بالله؛ قبولاً أو رفضاً. لذا يصير البحث عن الحقيقة بحثاً دءوباً ميزة كبرى تطبع الوجود الإنساني بطابعها الدفقي.
وبمقتضى هذه القاعدة يتوجب على الإنسان أن يبحث عن حقيقتها ضمن سياق معرفي كبير، ولربما احتاج هذا الأمر إلى رصد معرفي هائل يتجاوز إطار المُراد هَهُنا. ولكني سآتي عليه من بنية داخلية لقاعدة لا إله إلا الله، لكن قبل ذلك سأذكر ما جاء على موقع (طريق الإسلام ar.islamway.net) الإلكتروني حول لا إله إلا الله، ومن ثمّ سأعود إلى مقاربتي المعرفية للقاعدة ذاتها: "لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد الخالص، وهي أعظم فريضة فرضها الله على عباده، وهي من الدين بمنزلة الرأس من الجسد. وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهاة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وايتاء الزكاة والحج وصوم رمضان" [هكذا ورد على صفحة طريق الإسلام على الانترنت]. وما رواه الترمذي وحسنه الألباني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
... أما معناها، فقال العلماء: إنه لا معبود يستحق العبادة إلا الله، فهي تتكون من ركنين أساسيين الأول: نفي الألوهية الحقيقية عن غير الله سبحانه، والثاني إثبات الألوهية الحقيقية له سبحانه دون سواه. غير أنه ليس المقصود من دعوة الرسل مجرد التلفظ بالكلمة فحسب، بل لا بد من توفر شروطها حتى تكون نافعة عند الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر العلماء من شروط لا إله إلا الله:
العلم بمعناها، وذلك بأن يعلم الناطق بها معنى هذه الكلمة وما تضمنته من نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له سبحانه وتعالى، قال تعالى: (فاعْلَم أنَّهُ لا إله إلا الله) [محمد:19].
اليقين: بمعنى ألا يقع في قلب قائلها شك فيها أو فيما تضمنته، لقوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثمّ لَمْ يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [الحجرات: 15] وقال صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة/ رواه مسلم.
القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه والمراد بالقبول هنا هو المعنى المضاد للرد والاستكبار، ذلك أن الله أخبرنا عن أقوام رفضوا قول لا إله إلا الله فكان ذلك سبب عذابهم، قال تعالى {إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون} [الصافات: 34/35] ..." (2)
هذا يختصر قاعدة (لا إله إلا الله) كمُسلّمة إيمانية من وجهة نظر تفترضُ تسليماً بها. السؤال: احتمالية قاعدة (لا إله إلا الله) هل هي مقتصرة على مَنْ هُم على دين الإسلام بموجب العامل الاجتماعي والعقائدي، أم إنها قاعدة عابرة للأذهان الإنسانية، وهي برسم التأويل المعرفي لكلّ مَن تقع تحت نظره؟
إذا كانت مقتصرة على الفئة الأولى، فثمة إشكالان يمكن طرحهما هنا: أولهما مُتعلّق بعدم عالمية القاعدة؛ وثانيهما متعلق بما آلَ إليه وضع الإنسان المُسلم مع أنه مؤمن بأنْ لا إله إلا الله.
هل بحث إنسان ـ أياً كان مُعتقده- عن الحقيقة اللانهائية، وإنْ بأدواتٍ غير لفظية، يعتبر مُتنافياً مع قاعدة (لا إله إلا الله) كمقولة أنطولوجية، وعند لحظة معينة هل يعتبر بحث هذا الإنسان (خارج نطاق ملفوظيتها اللغوية) مُتصادماً مع أساسات الاعتقاد الإسلامي؟.
هل يكفي التلّفظ بـِ (لا إله إلا الله) ضمن سياق كلامي، للدلالة على إيمانية الإنسان المُتـلفظ بها، وعدم إيمانية غير المُتلفظ بها؟ وضمن هذا الحقل الدلالي للكلام ومآلاته الإيمانية؛ هل يكفي التلفظ بهذه القاعدة لإصدار أحكام قطعية ونهائية بحقّ قُرْب هذا عن الله، وبعد ذاك؟. ومن ثمَّ: هل تحرّر الإنسان المسلم من تناهياته وضعفه الأنطولوجي بإزاء الموجودات الفانية، أم إنه لا زال يستشعر حالة من الانسحاق أمام هذه الكائنات؟ هل تمثّل الله كخلاصٍ نهائي، وجعل مآله الأخير تجاوز المُتعيّن واجتراح المعجزات، أم إنه لا زال خاضعاً لقوى متناهية كالحاكم وولي الأمر والطاغية، بصفتها تجسيداً حياً وفاعلاً لصورة الله على الأرض؟. هل استطاع الإنسان المسلم أن يتمثّل لا نهائيته بصفتها تجسيداً أنطولوجياً لـِ لا نهائية الله، وهو يُعاين وضعاً سياسياً قاهراً حوّله إلى عبدٍ لا حول له ولا قوة، إذ إنه ارتكن إلى ضعفٍ ساحق، وهو يتجشمّ عناء توضعاته في الزمن والمكان؟ هل تمثّل القوة الهائلة في داخله، وهو يُواجه العالَم أم إنه شعر بانسحاق كبير تحت عجلة إبداعات الآخرين؟ على مدار الألف سنة الأخيرة ما الذي أنجزه الإنسان المسلم (بما يحقّق مقولة اللاتناهي بين جنبيه) على المستوى الكوني، مع العلم أنه يُردّد مقولة لا إله إلا الله ليل نهار؟ هل لا إله إلا الله محض لفظ لساني ينطق به الإنسان المسلم، فقط لأنه مأمور بذلك، أم إنها قاعدة عابرة للأذهان بما يستلزم إسقاطاً (عبر هدم معرفي كبير) لكلّ الآلهة، والإبقاء (عبر عملية بناء معرفي تتزامن مع عملية الهدم) على الله، من حيث هو الخلاصة النهائية لحقيقة الكائن الإنساني بما يتجاوز تناهياته والانفتاح بالتالي على لا تناهياته؟.
سأحاول الآن أن أجتهد عبر مقاربة للحالة الإبراهيمية (كنتُ قد أشرت إلى ذلك في المتن أعلاه) كما وردت في القرآن الكريم، وأرى أية انهدامات وانبناءات في ذات الوقت تحتملها قاعدة لا إله إلا الله. وبالتقادم سأترك هذه المقاربة كما هي دونما زيادات أو استعادات لأيٍّ من الأسئلة التي سألتها سابقاً، لأني أرى أن إحدى تجليات المرحلة الفكرية القادمة، تتطلب مكاشفات صريحة لكثير من الأمور، وتعميق مساراتها بهدف الخروج برؤى جديدة تستوعب كمرحلةٍ أولى كافة الاجتهادات، وتنفتح في مرحلة متقدمة على أفقٍ غير نهائي، حيث يصار إلى تأويل جديد لمفاهيم تأسيسية في الانبناء الحضاري والإنساني، بعد أن مُورِس الغبن المعرفي بحقّها لألف ويزيد من السنين.
الحالة الإبراهيمية: الآلهة والإله: تطبيق عملي لـِ قاعدة (لا إله إلا الله)
لقدَ كانَ نبي الله إبراهيم عليه السلام مِنْ أكبر المُتَألِّمين في العالَم ؛ قديمه وحديثه، وحادثة ابتلائه بذبحِ ابنه إسماعيل تَشِفُّ عن جزء من هذا الألم الكبير. وإذا كانت تلكَ ميزة كبيرة للنبي إبراهيم، فمأثرته الكُبرى في هذا العالَم هي الحالة المعرفية القَلِقَة التي أفضت بهِ إلى الواحدِ الأحد، والنص القرآني : {فَنَظَرَ نَظرةً في النجومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سقيم (89)} (سورة الصافات)، يضعُ الكون نُصب عيني إبراهيم؛ فالمدى المفتوح بحاجةٍ إلى ذهنية مُتفجّرة تتعامل مع مداه غير المنظور. ولقد أتى تعبير النجوم في النص أعلاه، ليدلَّ على الفضاء المثقوب الذي سيتعامل نبي الله إبراهيم معه بتقنياتٍ مُتطورةٍ جداً؛ إِنَّهُ يفتح ذهنه على أقصاه ليصلَ إلى نتيجةٍ ما، هي مُبتغاه الوجودي الكبير. فـَ الله الواحدُ الأحَدُ هو مُبتغى نبي الله إبراهيم، وليسَ نجوم السماء وكواكبها، لذا فتحَ ذهنيته إلى آخرِ مدى، ولقد جاءت صرخته الكُبرى: {إِنِّي سقيم (89)} (سورة الصافات)، للتدليل على هذا المسار العظيم.
وقد جاءَ في لسان العرب بشأن مادة (سُقم): "السُّقْمُ والسَّقَمُ: المَرَض مثل حُزْنٍ وحَزَنٍ، وقد سَقِمَ وسَقُمَ سُقْماً وسَقَماً وسَقاماً وسَقامَةً يَسْقُمُ فهو سَقِم وسَقيمٌ... وقال إِبراهيم، عليه السلام، فيما قصَّهُ الله في كتابه: إِني سَقِيمٌ؛ قال بعض المفسرين: معناه إِني طَعِينٌ؛ أَي أَصابه الطاعون، وقيل: معناه إِني سأسْقُمُ فيما أستقبل إذا حان الأجل". (3) ولكني أعتقدُ أن سُقْمَ إبراهيم عليه السلام لم يكن سُقماً جسمانياً؛ فالنص القُرآني يُحدّثنا عن سقيم آخر في سورة الصافات ذاتها:{فَنَبْذناهُ بالعَرَاءِ وَهُوَ سَقيم (145)} (سورة الصافات)، إنَّهُ سُقم يونس عليه السلام، وهو هَهُنا سُقمٌ جسماني، وليسَ سُقْمَاً روحياً، إذ كانَ الجسدُ قد تَعِبَ وَوَهِنَ بفعل بقائه داخل بطن الحوت لمدةٍ من الزمن، لذا أنبتَ الله شجرة من يقطين لكي يأكل منها فتعود العافية إلى جسده المُنْهَك.أما سُقْمُ نبي الله إبراهيم، فقد كانَ سُقماً روحياً إذا صَحَّ الأمر؛ فقد شُدَهَ عقله، وهو يتأمَّل آيات الكون بحثاً عن خلاصه الوجودي بالدرجة الأولى. ولقد أبانَ النص القُرآني في موضعٍ آخر عن محنةِ إبراهيم عليه السلام، وهو يبحث عن خلاصهِ الوجودي، مِنْ خلال سعيه الدؤوب عن الله.{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}. (سورة الأنعام).
ولقد بدأت محنته الوجودية بالتدِّرج المعرفي، ولم يصل إلى حالة السُقم الروحي إلا بعدَ أن فَتَّ البحث في أرجاء الوجود، عن بغيته في عَضُدِ روحهِ. وهناك، هُناك فقط على تلكَ المساحة القلقة من وجودهِ كَكُلٍّ، صَدَحَ بينَ جنبيه عذابٌ إلهي جليل، فقال: {إِنِّي سقيم(89)}(سورة الصافات)!. لقد أفضى المنطوق الإبراهيمي إلى وجودٍ هائل، وإنْ شَفَّ في ظاهره عن عدَمٍ كبير؛ فالصرخة المُدوّية التي صرخها إبراهيم صرخة إبيمستولوجية كشفت عن إمكانٍ أنطولوجي لا نهائي، توضَّعَ بدءاً في الذهن الإبراهيمي، ومن ثمَّ انفجر ـ عند لحظة تنوير كبير- منطوقاً كلامياً تردّدت أصداؤه بين الموجودات كلها.
والمدلول القُرآني في سورة الأنعام، يؤهِّل القارئ أثناء الفعل القرائي لِمَا حدثَ لإبراهيم عليه السلام؛ فالسُقم الروحي لا يمكن أن يحدث دفعةً واحدةً لأنَّهُ سيتحوّل من ثمَّ إلى سُقمٍ تدميري أمْكَنَهُ الإطاحة بأعظم العقول والفتّ في عضد أكبر الحيوات، لذا لا بُدَّ لحدوثهِ مِنْ مُقدِّماتٍ منطقية وتراكمية. ولقد بدأ إبراهيم بتأمِّل موجودات الكون ، عبر طرح أسئلة إشكالية، لكي يصل إلى الحقيقة المطلقة: حقيقة وجود الله. وهو إذ يبدأ بشيءٍ صغير، فإِنَّهُ يُضمرُ ـ في الوقت ذاته - شيئاً كبيراً وكائناً مطلقاً في بنية بحثه الوجودي، فتناهياته لا تفتأ تبحث عن مَخرَجٍ أنطولوجي لكي لا تتناهى.
إِنَّه يبحث بالأساس عن رَبِّه؛ عن إلههِ المُطلق؛ الكائن اللامتناهي، وإنْ كانت البداية بتأمِّلِ كوكب؛ فالصيغة الدلالية للنص القُرآني تشي بحدثٍ جَلَل سيحدث بعد حين، فالمُبتغى هو الرب؛ الكائن المُطلق: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)} (سورة الأنعام).وهَهُنا توضيحٌ من الله للمسار الإبراهيمي ـ نسبة إلى نبي الله إبراهيم-؛ فإبراهيم وإن كان يتأمَّلُ كوكباً صغيراً، إلا أنَّ مُبتغاه كانَ شيئاً إطلاقياً، شيئاً يتجاوز العالَم الأرضي والعالَم السماوي أيضاً. ولقد كشفت البنى القُرآنية عمَّا أرادهُ الله بدءاً لنبيه إبراهيم:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} (سورة الأنعام).
فابتداءً، أراد الله هذا لنبيه وارتضاه له، لكي يصلَ إلى اليقين المُطلق، ولكن بالتدرّج. فهو إذ يبتدئ بكوكبٍ صغير ينتقل ـ في مرحلةٍ لاحقةٍ ـ إلى القمر [وقد كان القمر إلهاً يُعْبَد في الميثولوجيات القديمة] ليُناجْيِه، ولكنه يصطدم بعقبةٍ من نوعٍ ما تجاه هذا الإله الذي لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِ من جوعٍ، لذا ينتقل إلى الشمس [الشمس أيضاً كانت إلهاً يُعبَد، وفي هذا المجال نستحضر دائماً مساهمة الفرعون أخناتون وتأسيسه لديانةٍ توحيدية تتجّه ناحية الشمس] ، فهي أكبر وأوضح وأكثر حضوراً وسطوعاً في العالَم مِنْ كلِّ الآلهة التي تعامل معها نبي الله إبراهيم من قبل. ولكنهُ ـ نهاية المطاف ـ سيصطدم بعقبةٍ كُبرى في منحاه الوجودي العارم، فهذا الإله الذي كادَ أن يرتضيه لنفسه رَبَّاً يُخيِّب ظنّه؛ إنَّهُ إلهٌ يأفل، ينتهي، يتقهقر أمام عناصر الطبيعة الأخرى والأكبر!. وتلكَ عقبة كُبرى على المستوى الوجودي أمام ذاتٍ تبحثُ عن يقينٍ نهائي يستهدف العالَم الإطلاقي، العالَم اللامُتناهي، حيثُ الملاذُ الأخير للذات البشرية.
وساعة يصلُ نبي الله إبراهيم عليه السلام إلى ذُرى هذا المأزق الوجـودي، فإِنَّهُ يصرخُ صرخة كبرى في وجهِ محنته، وتتردد أصداء هذا الصراخ الإبيمستولوجي في الوجود كلّه: {إِنِّي سَقْيم (89)} (سورة الصافات).
[أمكنني أن أتخيل هَهُنا مشهداً سينمائياً يُحاكي هذا النص القرآني ويستنطق مدلولاته الأنطولوجية. إنسانٌ يقفُ على حافةِ الكوكب ويُمْسَك بجمجمته يُعاني آلاماً مُبرّحة؛ لحظة وتتناثر محتويات جمجمته بين الكواكب والنجوم والمجرات وتبقى هكذا في تناثر بديع (مثل حزمة من ألوان قوس قزح) إلى ما لا نهاية)]. (4) إنَّهُ يتأكد على المستوى الوجودي بإزاءِ هذا المُفترق العظيم في حياته. وإذا كانَ لنا أن نعودَ إلى النص القرآني ذاته في سورة الصافات: {فَنَظَرَ نَظرةً في النجومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سقيم(89)} (سورة الصافات).فإننا سَنُعَاين أساساتٍ كُبرى تعامل معها النص القرآني العظيم، أثناء تبيانه للحال التي كان عليها إبراهيم عليه السلام (ويمكن لأي ذات بشرية أن تتعرض لمثل هذا)، وإذا كانَ لي أن اختصر هذه الأساسات، فإني سأختصرها في ثلاثٍة:
أولاً: الذات.
ثانياً: العالَم.
ثالثاً: الله.
فالناظر هو إبراهيم (= الذات)، والمنظورُ فيه هو النجوم (= جزءٌ أو إحداثية من إحداثيات العالَم أو الوجود)، ولأنَّ العالَم أو الوجود عَجِزَ عن تحقيق مطلبه الوجودي، بعدَ أن كانَ قد تأمَّل موجوداته، فقد صرخَ صرختهُ الكُبرى: {إِنِّي سَقيم(89)} (سورة الصافات). ثمة ذات أخرى مُضْمَرة داخل بنية {إنِّي سَقْيِم}، فهو إذ ينظر إلى النجوم (كائنات غير عاقلة) لا يجد ثمة مفر إلى خطابِ ذاتٍ أخرى غير مرئية؛ مُتوارية، مُتخارجة، مُفارقة لهذا الوجود (= الله). ذات أخرى لكنها مُتعالية عن الذات المُخاطِبة (بكسر الطاء)، فهي مُخاطَبة (بفتح الطاء) لأنَّ ثمة عجز خارجي في استيعاب الدفقة الأنطولوجية الداخلية؛ دفقة اللامتناهي. ولكي تكتمل المشهدية البصرية في الملحمة الإبراهيمية، بصفتها مُتمخضةً عن عقله القَلِق لا بُدّ من استحضار ـ مرة أخرى- النص القرآني: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)}. (سورة الأنعام).
فالسؤال الأنطولوجي بإزاء الإله والبحث عن الخلاص النهائي أُشْكِلَ إبيمستولوجياً في ذهن إبراهيم أولاً، ومن ثمّ تجلّى بحثاً دؤوباً عن منبع هذا العالَم. وعبر هذا البحث مارس إبراهيم هدماً عقلانياً ـ غير استسلامي- باتجاه الآلهة (أعود هُنا على تأكيد ما قلته أعلاه بشأن الآلهة المُضمرة في بنية قاعدة لا إله إلا الله)، فعند لحظة معينة من بحثه قال عن الكوكب: هذا ربِّي، لكن هذا الإله لم يصمد أمام دفقة اللامتناهي في ذات إبراهيم، لذا صار البحث عن مخرج من الضرورة بمكان، فكانَ القمر أن صار إلهاً جديداً لإبراهيم، وهكذا مع بقية الآلهة، إلى أن اصطدمت الدفقة اللامتناهية في ذات إبراهيم بالجدار اليأجوجي إن جاز التعبير، لذا صرخ في واحدةٍ من أعظم الصرخات الوجودية في التاريخ البشري: "إنِّي سقيم"!. وإذا كان لي أن أُمارِس نوعاً من الانوجاد القَبْلي للتحقّق انصاتاً إلى هذه السيمفونية الكونية، لكنت شاهداً على رجّة كونية هائلة. لقد صارَ الإنسان وجهاً لوجه قبالة استحقاق أنطولوجي مُدمِّر، وعليه الآن أن يتخذ قراراً مصيرياً، فهو أمام عدّة خيارات منها: أن ينتحر انتحاراً فلسفياً فلا تعود ثمة قائمة لعقله، أو أنْ ينفذ إلى اللامتناهي وهناك يتجلّى خلاصه الفلسفي الكبير كأبدع ما يكون.
إِنَّهُ نداءُ ذات مكلومة، لم يعد من خيارٍ أمامها ـ بعدَ أن اصطدمت بالعالَم- إلا اللجوء للكائن اللامتناهي، إلى الواحد الأحد، فهناك الأمانُ والمأمَّنُ الوجودي على أكمل وجه، حيثُ (الذات) وقد وصلت إلى حقيقة وجودها في هذا (العالَم)؛ أي استدلت على العلي القدير.
وبإزاء هذا التمحيص الإبراهيمي، أولى بنا أن نعمل على البحث عن الله (وفقاً لقاعدة لا إله إلا الله)، خارج السياق الاستسلامي، فالإشكال الإبيمستولوجي الذي يمكن أن تطرحه علاقة الذات بـ الله يمكن أن يفضي إلى نتائج باهرة، ليس فقط فيما يتعلّق بالذات وصيرورة التناهي واللاتناهي التي تربطها بالله، بل بالقدرة ـ أيضاً- على تأمّل محتويات هذا الكون وسبر أغواره واكتشاف بديعاته، من حيث هو كون كبير، ولكي تتحقّق فيه الذات انوجاداً وإبداعاً ينبغي عليها أن تتمثّل القوة اللامتناهية بين جنبيها، من حيث هي ذات لا تفتأ تتوالد داخلياً إلى ما لا نهاية، بما يفضي إلى وضعٍ حدّ لتناهياتها والانتقال بالتالي إلى لا تناهيتها، وإذا ما شعرت بأيّ ضعفٍ أو انسحاق أمامه، فمن السهولة أن تندثر وتنطمس معالمها.
* معاذ بني عامر باحث أردني
هوامش
(1): الآيات القرآنية الدالّة على هذه المقاربة كثيرة في المتن القرآني؛ منها ما جاء في أواخر سورة الحشر: {هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم...}.
(2): عن موقع ar.islamway.net/article/1249
(3): عن موقع www.baheth.info/all.jsp?term، مادة (سقم).
(4): أرى فيما أرى أن النص القرآني مليء بما يمكنني تسميته بـِ (العبقريات السينمائية) والتي لم تُقارب بصرياً حتى الآن. ولا زالت الذهنية السينمائية العربية والإسلامية إلى حدّ كبير تعيش نوعاً من الجفاء مع النص القرآني ومقاربته سينمائياً، رغم أنه حقل بصري هائل وأمكنه أن يُحدث ثورة سينمائية على المستوى العالمي نظراً للإمكان الهائل الذي يتموضع بين جنبيه. لذا فإني أدعو المبدعين السينمائيين إلى الاستفادة من مكنون القرآن الكريم البصري والمعرفي في نِتاج سينمائي راقٍ.