لا نهائية التأويل المعاصر
فئة : مقالات
يؤكد ميشيل فوكو "أننا ابتداء من القرن التاسع عشر عدنا إلى الاعتقاد، بأنّ الحركات الخرساء والأمراض وكلّ الأشياء التي تضجّ من حولنا يمكنها أن تتكلم. ونحن نصغي أكثر من أيّ وقت مضى إلى هذه اللغة الممكنة، محاولين أن نعثر من وراء الكلمات على حديث أكثر أهمية"، بل إننا ربما ذهبنا في ذلك مدى أبعد، فغدونا نرى الأهمية الكبرى بالضبط فيما يبدو بعيداً عن الأهمية وعن المعنى. إلا أننا لم نعد نقصد بهذه العودة إضفاء معانٍ جديدة على أشياء لم يكن لها معنى، مثلما كانت عليه الأمور فيما سبق. وإنما عدنا إلى التأويل لنغيّر طبيعة الدليل، ونبدّل الكيفية التي كان يُؤَوَّل بها. فلم يعد الأمر يتعلق بالبحث عن التناغمات والتشابهات التي كانت تستقطب الإبيستيمي الكلاسيكي. والأهم من ذلك، أنّ التأويل لم يعد "تفسيراً" وبحثاً عن معنى خفيّ، لم يعد كشفاً عن باطن، وتقصّياً لمعنى أول، واستقصاء لأصول، بالمعنى الشرَفي والكرونولوجي، وإنما صار يعني إعطاء أولويات وأسبقيات لمعنى على آخر. فعوض مبدأ التشابه وسيادة التطابق، حلّ التفاوت والاختلاف. وهذا ما يعبّر عنه فوكو عندما يقول إنّ العلامات لم تعد تتوزع بكيفية متجانسة، وإنما أصبحت "تندرج في مكان متفاوت الأجزاء، وحسب بُعد يمكننا أن نطلق عليه بُعد الأعماق، شريطة ألا نفهم من هذا، البعد الباطني وإنما بُعد العمق الخارجي". هذا السطح العميق، أو العمق السطحي على حدّ تعبير نيتشه، يجعل التأويل المعاصر يبتعد عن كلّ تأويل ينحلّ إلى شرح وتفسير وكشف عن البواطن، وينفصل ثانياً عن أحادية المعنى وأوَّليته وواحديته، وينفتح ثالثاً على آفاق لا حصر لها، ممّا يجعله تأويلاً لا نهائياً. غير أننا لا ينبغي أن نفهم هذه اللانهائية وذلك الانفتاح في اتجاه المستقبل فحسب، وإنما حتى في الاتجاه المعاكس؛ ذلك أنّ الفكر المعاصر عندما يجزم بلا نهائية التأويل، فليس ليثبت تعدديته فحسب، وإنما أساساً عدم انطلاقه من لحظة صفر للمعنى، عدم انطلاقه من محو للمعاني، من "درجة صفر للدلالة"، إذ أننا مهما تراجعنا القهقرى فلن نجد إلا تأويلاً أعيد تأويله، ولن نقف أبداً على الكائن في عرائه، ولا على أيّ "معطى أول"، أو معطى خام كما يقال عادة.
ما يميّز التأويل المعاصر عن التأويل الميتافيزيقي إذاً، هو أنّ الأول لا يخوض عملية التأويل، لأنّ هناك علامات أولية غامضة، وإنما لأنّ هناك تأويلات سابقة. فلا تعود اللانهائية إذاً لكون التأويل ينصب على "مادة" صعبة المنال، عسيرة الفهم، وإنما، بالأوْلى، لأنه لا ينصب على "شيء". إذا لم يكن في استطاعة التأويل أن يكتمل فذلك لعدم وجود ما يُؤَوَّل. فليست هناك درجة صفر للتأويل و"كلّ علامة لا تشكّل في ذاتها الشيء الذي يعرض نفسه للتأويل"، لا وجود للمُحَال إليه Le referent. كلّ محال إليه يُحيل هو بدوره؛ أي أنه يدل ويعني signifie.
ثم إنّ التأويل لا نهائي، لأنه لا ينصبّ على علامة عزلاء تعطي نفسها بشكل انفعالي، وإنما على تأويل آخر متعنت، يحاول أن يفرض نفسه بشكل فعَّال؛ ذلك أنّ التأويل لا يجد أمامه معطى خاما، لا يلفي المجال خالياً، وإنما عليه أن يخلي المكان ليفرض ذاته، عليه أن يكتسح المجال؛ أي أن يعلن الحرب على ما سبقه ومن سبقه، هناك "نضال طبقي" في مستوى العلامة. فالعلامة لا تتحدّد منطقياً، ولا يكفي لتعريفها حدّها المنطقي؛ لا تكفيها "وداعة" المنطق ولا برودته. فبما أنها تنطوي على فائض معنى، "فائض سيميولوجي"، فهي لا تُعطى حتى لنفسها، وبالأحرى لغيرها. كلّ هذا يجعل علاقة التأويل بغيره دوماً علاقة عنف وغزو واكتساح.
وهذا العنف يمارس في أكثر من اتجاه، إنه قوة ومقاومة، قوة تسلط على ما قبله، ومقاومة توجّه إلى ما بعده. و"الما قبل" هنا، كما "الما بعد:، ليس زمانياً ولا مكانياً، وإنما جنيالوجي، إنه يشير إلى القوة الكامنة خلف كلّ تأويل؛ فحرب التأويلات تجعل التأويل لا ينصبّ على تأويل آخر، وإنما على "المجهول الذي قام بالتأويل". التأويل، كما يقول نيتشه، ليس هو البحث عن الذي يعطي للأشياء قيمتها ومعانيها، بل عن الذي يسعى لأن يفرض على الأشياء معانيها و "طبائعها"، عـن "من" يسمي الأشياء. ولا داعي إلى التأكيد أنّ هذا الـ"من" ليس ذاتاً فاعلة، وإنما هو نموذج، عنصر في نموذج.
هذه اللانهائية التي يتّسم بها التأويل المعاصر، تنعكس على المكان الذي يحيا عليه، وعلى الزمان الذي يعيش فيه. فالعلامات في التأويل المعاصر لا تتوزع بكيفية متجانسة. إنها كما قلنا لا تخضع لمنطق التشابه والتجانس والهارمونيا، بل تتدرّج في مكان متفاوت الأجزاء. كما أنّ هذا التدرّج لا يتمّ حسب جميع اتجاهات المكان، بل حسب ما يطلق عليه نيتشه بُعْدَ "العمق الخارجي". من هنا يستمد مفهوم "الظاهر" كلّ "عمقه" في التأويل المعاصر. ومن هنا تعتبر الأعماق ثنايا سطوح plis. ثم إنّ اللانهائية تمنع عن زمن التأويل المعاصر أن يكون زمن الأجل المحدود. لكن لا يعني ذلك أنه زمن الجدل الذي هو زمن خطي تقدمي. إنّ زمن التأويل المعاصر زمن دائري، زمن التكرار والعود الأبدي الذي لا يعني عودة المطابق.
هذا الصراع بين التأويلات، وهذا التكرار اللامتناهي، وذاك التدرّج في المكان المنثني، وذلك التراجع الذي لا يتوقف عند "شيء" يُؤَوَّل، كلّ ذلك يجعل التأويل المعاصر لا نهائياً لا ينطلق من درجة صفر المعنى، ولا ينتهي عند اكتمال.