لَحْن فاصل


فئة :  ترجمات

لَحْن فاصل

لَحْن فاصل

«يصنع وقتنا […] المعجزات، لكنّه لم يعد يشعر بها. إنه وقت الإنجاز، والإنجازات هي دائماً خيبات الأمل. إنه يفتقر إلى الشوق، إلى شيء لا يستطيع فعله بعد، وهو (أي وقت الإنجازات: إضافة المترجم) يقضم قلبه.»([1])

روبيرت موسيل Robert Musil

 

في عام 1979، عشر سنوات قبل سقوط جدار برلين، وصياغة الأيديولوجيات المحددة للغرب، نشر الفيلسوف الفرنسي (جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) Jean-Francois Lyotard) كتاباً عن الوضع الفكري في ذلك الوقت، وهو كتاب طبع المناقشات الفلسفية والأيديولوجية في السنوات الموالية، ولا يزال له تأثير حتى اليوم: «الشرط ما بعد الحداثي La condition postmoderne» (بالألمانية «معرفة ما بعد الحداثة das postmoderne Wissen»)([2]): يأخذ ليوتار المعارف من المنطق (غودل Gödel) ومن فلسفة اللغة (فيتغنشتاين Wittgenstein)، ويختصرها في الأطروحة القائلة إن السرديات الكبرى -الأيديولوجيات وتمثلات العالم وأنظمة المعتقدات- قد أصبحت خارج الخدمة (بمعنى تُجووِزت: إضافة المترجم)؛ أي إنها لم تعد قادرة على طرح ادعاء شامل أو كلّي أو شمولي لتفسير العالم. كان ليوتار ماركسياً لوقت طويل، وكانت الاشتراكية آخر الأيديولوجيات الرئيسة التي فقدت مصداقيتها بالنسبة إليه.

انتشرت فكرة نهاية السرديات الكبرى في العالم، واعتبرت علامة على شرط ما بعد الحداثة([3]). نشأ ارتباك معين من كون الحديث عمَّا بعد الحداثة كان من جهة وصفياً في الأصل، حاول وصف ظواهر في الفن والعلم والمجتمع، لم تعد فئة «الحديث» مناسبة لها على ما يبدو. ومن جهة أخرى، كانت هناك عواقب معيارية، يمكن فهمها على أنها دعوة إلى موقف معين. وهكذا أصبح مفهوم ما بعد الحداثة عالقاً في مسائل الإيمان، التي وقفت كحاجز في طريق مناقشة موضوعية حتى يومنا هذا.

إذا افترض المرء، مثل ليوتار، نهاية السرديات والأيديولوجيات العظيمة، فإن هذا يفتح حريات كبيرة، ولكنه يعني أيضاً الافتقار إلى القواعد والنسبية، والتي يمكن للمرء، لسبب وجيه، اعتبارها إشكالية، والذي أصبح يضرب به المثل في الحديث عن تعسف ما بعد الحداثة، حيث إن كل شيء مقبول anything goes. وهذا الأخير من صياغة الفيلسوف بول فايرابند Paul Feyerabend. ويعتبر فايرابند (1924-1994) ممثلاً للفوضوية المعرفية، ويفترض تعددية راديكالية، يقول: «من الواضح إذن أن فكرة الأسلوب الثابت أو النظرية الثابتة للمعقولية تستند على نظرة ساذجة للغاية للإنسان وعلاقاته الاجتماعية. يجدر الرجوع إلى المادة الغنية التي يوفرها التاريخ وعدم نية تمييعها لإرضاء غرائزه الأساسية؛ أي البحث عن اليقين المعرفي في شكل وضوح ودقة و"موضوعية" و"حقيقة"، سيرى أنه يعطي مبدأ واحداً فقط يمكن الدفاع عنه في جميع الظروف وفي جميع مراحل التطور الإنساني. إنه مبدأ: كل شيء مباح»([4]).

إلى يومنا هذا، فإن أصحاب الثقافة النقدية يلومون ما بعد الحداثة على تراجع الأخلاق والنسبية الثقافية والتسامح غير المحدود([5]). وفي وقت مبكر، تآمر أنصار ما بعد الحداثة أيضاً مع دعاة الحداثة، والتي سيكون من الأفضل الإعلان عن اكتمالها، عوض إعلان فشلها ونهايتها. وبهذا المعنى، عارض يورغن هابرماس، كممثل لمدرسة فرانكفورت، أطروحة ليوتار والتيارات الفكرية لما بعد البنيوية الجديدة، والتي نشأت أيضاً في فرنسا([6]).

بطريقة أو بأخرى، يمكن القول إن ما تعنيه ما بعد الحداثة يمكن تجربته بشكل مباشر، ليس في مجال الفلسفة (السياسية)، بل في مجال النقد الفني والفني، حيث تمت صياغة المصطلح في الأصل: منذ الستينيات كحد أقصى، يمكن تفسير الفن (ملاحظة: الغربي) بالكاد من حيث الأنماط الراسخة وخطط التطور، مثل التطور من الواقعية إلى التجريد. في الفن الذي يعتبر بأنه ما بعد حداثي، لم تعد الحقيقة والجمال والعمق والموقف السياسي والنقد الاجتماعي تلعب دوراً رئيساً، بل فقط دور يعمق المعنى. فاللعب بالقشور والسخرية يطابقان التوجهات القديمة و«الحديثة» فقط. وغالباً ما يتعذّر التمييز بين ما يُقصد بجدية، وما هو مرح، وما هو حاسم، وما هو إيجابي. يجسد ما يسمى بفن البوب، على سبيل المثال من قبل آندي وارهول Andy Warhol أو كلايس أولدنبورغ، Claes Oldenburg هذا الاتجاه بوضوح.

يتم حالياً تصور الحديث عمّا بعد الحداثة في بعض الأحيان على أنها شكل من أشكال السرد الكبير، أو السرد النموذجي، أو حتى أيديولوجيا. وهذا ما يعنيه فريدريك جيمسون Frederic Jameson، وهو منظّر آخر معروف لما بعد الحداثة، عندما يتحدث عن «عودة غير متوقعة للسرد كسرد من نهاية السرد»، «عودة التاريخ في خضم التكهنات بتنازل التاريخ الهادف»([7]). صحيح أن ما بعد الحداثة تريد أن تكون نظرية أو معرفة تعارض الآخرين، وتضعف ادعاءاتهم من خلال إنكار صحتها ومصداقيتها، لكنها تختلف عن هذه الأطروحات من حيث إنها لا تقدم بنفسها أي مطالبة بالنظام، ولا مطالبة بالحقيقة، بمعنى الرغبة في تحديد ما هو موجود وما ينبغي أن يكون. إنها تشير دائماً فقط إلى ما لا يوجد أو لا ينطبق؛ أي الحكايات (السرد) أو الأيديولوجيات أو ادعاءات الحقيقة التي تتجاوز الإطار الضيق لسياق محدد بوضوح.

على الرغم من أن ليوتار وصف تنوع ما بعد الحداثة («عدم التجانس l'hétérogénéité») بأنه «العقبة الوحيدة، التي تواجهها هيمنة الاقتصاد، والتي لا يمكن التغلب عليها»([8])، فإن التخلي عن ادعائها الخاص بالحقيقة، فُسّر على أنه نوع من الاستسلام: «لا يمكن أن يكون هناك إلا الرأسمالية. أصدرت ما بعد الحداثة حكماً على جميع الأوهام الأخرى»([9]). وبما أن ما بعد الحداثة لا توجه أفكارها الخاصة عن النظام، فهي في الواقع تعارض فكرة النظام بشكل عام. ونتيجة لذلك، فإن الفروق بين الرأسمالية والاشتراكية، بين تصورات العالم القائمة على المساواة، وتلك القائمة على عدم المساواة، تكون غير واضحة بسبب هذا. ظلت الإمكانات الطوباوية أو وجهات النظر التي أراد بعض منظري ما بعد الحداثة، أو ما بعد البنيوية، رؤيتها غامضة ومجردة للغاية لتطوير تأثيرات عميقة وقبولها على نطاق أوسع. ونتيجة هذا، فإن مفهوم ما بعد الحداثة، غالباً ما يرتبط بالتعسف فقط، وليس بالنقد الأساسي للأيديولوجيات والسرديات وعلاقات القوة.

وعلى الرغم من ذلك، فقد انتشر الوعي بنهاية السرديات الكبرى وأنظمة التوجيه على نطاق واسع، بغض النظر عما يشعر به المرء حيال ذلك، والتعسف الناتج عن ذلك. وحتى من يرفض هذا ربما يقر بأنه لم يعد هناك سرد رئيس واضح لا جدال فيه، وبأنه لا يوجد إلا اتجاه فقط نحو «الاتفاقات المؤقتة في كل مجال من مجالات الوجود البشري»: «روابط مهنية وعاطفية وجنسية وسياسية – أكثر اقتصادية ومرونة وأكثر إبداعاً من قيود الحداثة»([10]).

من الجدير بالذكر أن هذا الوعي بالتحديد هو الذي ساعد لكي تصبح الحدود شائعة مرة أخرى. ولأنه لم يعد هناك أي وجهات نظر عامة وعالمية، فمن المأمول أن يكون ممكناً، ضمن حدود معينة مفروضة ذاتياً، إنشاء نظام توجيه متواضع كنظام صالح. لذلك يمكن التوفيق بين الحاجة إلى رسم الحدود وأطروحة ما بعد الحداثة. نفس الشيء ينطبق على النسبية الثقافية والمفهوم الهووي (من الهوية: إضافة المترجم) للمجتمع، مهما كان القليل من هذا قد يتوافق مع النوايا الأصلية لمنظريها([11]). إذا فهم المرء ما بعد الحداثة بطريقة تجعل كل فرد (كل فرد أو كل ثقافة) سعيداً بطريقته الخاصة، ولا يمكن إلا أن يكون سعيداً بهذه الطريقة، فإن رسم الحدود أمر لا مفرّ منه -وهذه نقطة لا يتعب المدافعون عن الحداثة من الإشارة إليها، بحق، ضد ما بعد الحداثة.

حاول الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي (1931-2007) Richard Rorty، بطريقة براغماتية غير متحمسة، الجمع بين الاقتناع بنهاية أنظمة الفكر الكُبرى والصورة الذاتية للديمقراطية التعددية والمفتوحة، التي تكون مع ذلك متأكدة من قيمها، والإعلان عنها كأحد شروطها الأساسية المحتملة. إنها محاولة لترجمة تصورات ما بعد الحداثة إلى لغة الأفكار السائدة عن الغرب. وإنها مهمّة أيضاً لأهدافنا لأنها، على عكس ليوتار، تنتمي إلى ما بعد البنيويين، وأيضاً مدرسة فرانكفورت، وتحمل في جانب من جوانبها التنوع الثقافي([12]). وطبقاً لرورتي تنشأ الحاجة إلى حقيقة عابرة للثقافات، وعابرة للزمن، من مشكلة الاختلاف الثقافي، ونلتقي بها لأول مرة في اليونان القديمة. ونورد هنا المقطع حيث ذكر هذا بالتفصيل؛ لأن برهنته ستشغلنا فيما بعد: «ربما كان تطوير هذا النموذج [للحقيقة] مدفوعاً بوعي الإغريق المتزايد بالتنوع المطلق للمجتمعات البشرية. الخوف من ضيق الأفق -حدود أفق المجموعة التي يولد المرء فيها- وحاجة معينة لرؤية الأشياء من خلال عيون الغريب، تساهم في تطوير النغمة المتشككة والمثيرة للسخرية، التي يتميز بها أوروبيديس وسقراط. ربما يكون استعداد هيرودوت لأخذ البرابرة على محمل الجد بما يكفي، لوصف عاداتهم بالتفصيل، مقدمة ضرورية لأطروحة أفلاطون القائلة إن طريقة التغلب على الشكوك تكمن في تخيل هدف إنساني مشترك، لا تحدده الثقافة اليونانية ولكن الطبيعة البشرية. إن ربط الاغتراب (Alienation) السقراطي بالأمل الأفلاطوني، يؤدي إلى ظهور فكرة المثقف في شكل شخص على اتصال بجوهر الأشياء ليس بحكم رأي مجتمعه، بل بطريقة مباشرة»([13]).

يضع رورتي Rorty الشخصية البراغماتية ضد هذا المفهوم فوق الثقافي، وربما أيضاً الخالد للحقيقة. إن البراغماتي ليس مجرد من يعتبر نسبية الثقافة، بافتراض أن كون كل حقيقة نسبية، يعترف لكل واحد بثقافته، لكنه شخص يتخذ موقفاً عرقياً، مدركاً تماماً نسبية وجهة نظره. إنه يقبلها، رغم أنه يعلم أنه يمكن إنكارها لسبب وجيه، لكنه يعلم أيضاً -نحن هنا مع ليوتار- بأنه لا توجد حقيقة شاملة، أو على الأقل أنه لا يستطيع الوصول إليها.

يمكّن الوعي بفقدان الحقيقة التي لا يمكن تعويضها البراغماتي من تقدير معتقداته الخاصة والتعامل معها بجدية، وكذلك احترام الآخرين. إنه يجبره على قبول نوع معين من ضيق الأفق المتمحور حول العرق، والذي، وفقاً له، لا يمكننا أبداً التخلّي عنه تماماً، دون إنكار تبرير «الاغتراب السقراطي»، وإدراك فقدان الحقيقة المطلقة. ويتم التخلي عن الادعاء المطلق بعالمية الحقيقة، دون إنكار حدود الفرد ومعها قيود الآخرين([14]). ومن المستغرب أن هذا بالضبط هو حجة للمجتمع الليبرالي: «إن الساخر هو المثقف الحديث النموذجي، والمجتمعات الوحيدة التي تسمح له أو لها بحرية التعبير عن اغترابها هي مجتمعات ليبرالية»([15]).

لأن المرء لا يدّعي الحقيقة المطلقة، فلا يمكن فرض أي شيء باسم هذه الحقيقة. ويستعمل رورتي Rorty مفهوم التضامن لمواجهة كل لامبالاة قد تنجم عن ذلك. والهدف هو تجنب أو تقليل إذلال («humiliation») الآخرين في التفاعلات الاجتماعية قدر الإمكان. وبهذا الموقف، نحن في عالم ما بعد الحداثة للحقائق النسبية التي تحتاج باستمرار إلى مراجعة -ما يسميه رورتي «إعادة الوصف redescriptions»-، لكن لا يعني التعامل مع هذه النسبية اللامبالاة تجاه الآخرين، بل وفي غياب ضرورات أخرى يلزمنا بإظهار التضامن([16]).

تبدو «نهاية التاريخ» هنا، التي أعلنها فوكوياما وكأنها صدى لنهاية السرديات الكبرى([17])، في نظرية ما بعد الحداثة، فضلاً عن «نهاية التاريخ» المزعومة، كتب رورتي هذا قبل سنوات قليلة من فوكوياما (1984). تماماً مثلما انتهى الأمر بالنسبة إلى ليوتار مع أزمة مصداقية الاشتراكية، فقد جاءت نهاية التاريخ بالنسبة إلى فوكوياما بانهيار الكتلة الشيوعية، وبزوغ فجر عصر ما بعد الأيديولوجية([18]). فحتى وإن كان نظام سياسي واحد هو الذي فاز، وهو الديمقراطية الليبرالية الموجهة نحو السوق، في منافسة الأيديولوجيات، فقط، كما يذهب الاعتقاد؛ لأن هذا النظام (هذه «السردية») يتوافق بشكل وثيق مع الطبيعة البشرية والتطور التاريخي، وبالتالي يمكنه ادعاء الموضوعية بنجاح([19]). تُنهي نهاية التاريخ أيضاً التعسف الأيديولوجي، حيث يبدو أنه تم العثور على الحقيقة. لذلك كان من الممكن أن يكون تاريخ العالم تعبيراً عن ارتباك مشابه لما بعد الحداثة، وهو المكان الذي لم تَسُدْ فيه النظرة الغربية، ويستمر التاريخ في شكل حروب ونزاعات أيديولوجية، وفقاً لهذه القراءة حتى الآن.

كان من الممكن أن تنجح الأيديولوجية المُحددة للغرب إلى حدٍّ كبير في مواجهة فرط التعددية ما بعد الحداثية من خلال رؤيتها المتسقة للعالم، وسرديات رئيسة، وبالتالي تكذب ادعاء نهاية السرديات الكبرى. إن «المجتمعات الأكثر تطوراً»، والتي أراد ليوتار أن ترتبط بها أطروحته، ملتزمة بفكرة القطار العظيم للرأسمالية التقدمية الليبرالية المتجه نحو مستقبل أفضل. ومع الصلاحية التي نادراً ما يتم التنازع عليها في الغرب -باستثناء ثقافات فرعية محددة وأوساط أكاديمية-، والقوة التقنية والمالية والإعلامية غير المسبوقة لهذه السردية الرئيسة، فإن الوضع الحالي ربما يتوافق مع أسوأ مخاوف ليوتار.

وفقاً لليوتار، فالاختلاف فقط وعدم التجانس والصراع بين تصورات العالم المختلفة كان من الممكن أن يمنع رؤية معينة للعالم([20])؛ أي النظرة الاقتصادية، من تأمين الأولوية في جميع الأوقات بمساعدة التقنيات التي روجت لها، خاصة عندما تكون مرتدية «فلسفة تاريخ التحرر»، وبقيامنا بذلك يمكننا أن نضيف أنه يبدو بأنها تفي بوعود الحداثة والعلمانية: «المزيد من الثروة، المزيد من الأمن، المزيد من المغامرة، إلخ.»([21]).

في الوقت الحاضر، تبدو هذه الهيمنة حقيقة، وقد سقط ليوتار، طفل ما بعد الحداثة، في بئر التاريخ بشكل نهائي. ويعبر أكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم سنتي 2016/17، عن هذا الموقف على النحو التالي: «في بداية القرن الحادي والعشرين، انطلق قطار التقدم من المحطة مرة أخرى - ومن المحتمل أن يكون هذه المرة آخر قطار يغادر الوضع الذي يسمى الإنسان العاقل Homo sapiens. وكل من فَوَّتَ هذا القطار لن يحصل على فرصة ثانية. يتطلب الفوز بمقعد فيه، فهم تقنية القرن الحادي والعشرين، وعلى وجه الخصوص قوة التكنولوجيا الحيوية وخوارزميات الكمبيوتر. في القرن الحادي والعشرين، سيحقق أولئك الذين يجلسون في قطار التقدم القدرات الإلهية للخلق والدمار، في حين أن الباقين مهددون بالانقراض»([22]).

تحول قطار فوكوياما إلى سفينة نوح على مدار ربع قرن من انطلاقه من واشنطن عام 1992. والجديد في سفينة نوح الجديدة هذه، هو أنه سيتم إنقاذ أولئك الذين يتبنون النظام الأيديولوجي للغرب؛ أي الذين يقفزون في القطار. والاختلاف عن أسطورة الكتاب المقدس واضح: في سفينة الأساطير، تم حفظ عينات من كل كائن حي، في العمق من العالم كله دون تمييز. أما قطار التقدم([23])، فإنه يترك أولئك الذين لا يتأقلمون ويهددهم بالانقراض. فعوض التنوع والتعددية، لا يوجد سوى نظام أحادي الثقافة، يتكاثر ذاتياً، حيث «تَعْرِفُنا خوارزميات عالية الذكاء أفضل مما نعرف أنفسنا»([24]). إذا كان المرء يريد حقّاً هذا المستقبل، والذي أصبح حاضرنا في العديد من المجالات، عليه أن يقفز في العربة! وإذا لم يفعل، فعليه أن يفكر بسرعة في عمل شيء أفضل([25]).

لفهم كيف كان من الممكن وضع البندقية على صدر الإنسانية، مع الإفلات من العقاب وتقديم بديل لها: تَغَرَّب أو تَهلك westernize or perish! التحق بالقطار الغربي أو مُتْ! ومن أجل مواجهة هذا الابتزاز الصارخ ببديل قوي، يتعين علينا العودة بالزمن إلى الوراء وتصحيح المسار المحدد منذ مائة عام. علينا تحويل سكة في اتجاه الحداثة بشموليتها وخيالات الثقافة الأحادية للتقدم نحو سكة ما بعد الحداثة. ليس لكي يبقى هناك إلى الأبد، بل لنتمكن من التفكير في المكان الذي نريد بالفعل الذهاب إليه مرة أخرى.

في سنة 1922، أشار روبرت موسيل Robert Musil (1942-1880)، بشكل أكثر سلاسة منه بشكل منهجي، إلى ظاهرة مشابهة لما فعله ليوتار أو رورتي لاحقاً. لقد ولّى زمن الحكايات الكبيرة والأيديولوجيات. «لن تأتي أبداً أيديولوجية وثقافة موحدتين من تلقاء أنفسهما في مجتمعنا الأبيض»([26]). والتبرير الذي قدمه موسيل لنهاية القصص العظيمة في الغرب، لن يكون شيئاً آخر من غير: كون «مجتمعنا الأبيض»([27]) - لا يزال بإمكانه الادعاء بصلاحيته: «يجد المجتمع المزدهر نفسه عقلياً في عملية متقدمة من التحلل الذاتي. يشارك المزيد والمزيد من الأشخاص والآراء في تكوين الأفكار العامة، ويتم فتح مصادر جديدة للأفكار من خلال اختراق الأزمنة السابقة وربط أماكن المنشأ البعيدة. [...] ونظراً لأنه يصعب إنكار كون كل فكرة من الأفكار التي تتقاطع هنا وهناك قيمة معينة في الحياة، فإن هذا القمع يعد خسارة والقبول فقط هو مكسب، لذلك تكمن مشكلة تنظيمية هائلة في كون مناقشة العناصر الأيديولوجية وربطها لا تترك للصدفة، بل يتم تشجيعها»([28]).

أشار ليوتار نفسه إلى أن ما بعد الحداثة في الفن والفكر والفلسفة كانت موجودة بالفعل في حداثة فيينا، عندما أشار إلى أسلاف موسيلMusil، هوفمانستالHofmannsthal، ماخ Mach، فيتغنشتاين Wittgenstein، شونبيرغ Schönberg، بروخ Broch، كراوس ([29])Kraus. ونذكر في هذا الإطار بول فايرابند (1924-1994) Paul Feyerabend، أصله من فيينا وكان تلميذاً لفيتغنشتاين وكارل بوبر، والذي (أي فايرابند: إضافة المترجم) نادى إلى «المجتمع المفتوح»، وبعدما ترجم كتاب بوبر إلى الألمانية([30])، تحول بطريقة واضحة ومبالغ فيها لكل شيء مقبول([31]) anything goes.

هناك مبرر آخر لـ «المشكلة التنظيمية الهائلة» لموسيل؛ أي العجز الأيديولوجي وانعدام المصداقية في عصره، وهو صياغة لا تُنسى، مفادها أن «حجم الجسم الاجتماعي لم يعد يتحدث عن توصيل التأثيرات»([32]). وعلى الرغم من «السكك الحديدية والتلغراف والهاتف والطائرة والصحف وتجارة الكتب والمدارس ونظام التكوين المستمر، والتجنيد الإجباري»([33])، فإن «قدرة التوصيل التحفيزية للجسم الاجتماعي»([34]) لا تزال غير كافية. وقد تمت في الوقت الحاضر استعادة القدرة الجماعية على التوصيل التحفيزي، من خلال الراديو والتلفزيون وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت والشبكات الكاملة عبر الهواتف الذكية والمعرفة الناتجة عن البيانات مع تأثيرات ردود الفعل بطريقة غير مسبوقة.

ومع ذلك، في مجتمع يشعر بنفسه كتصور فوضوي للعالم، أعتقد أن هذا لم يكن كافياً لخلق «مجتمع مفتوح» إلى حدّ ما في الغرب بمعنى بوبر (وأيضاً لكون ما بعد الحداثة جعلت هذا الانفتاح راديكالياً)، وكما بينا في الجزء السابق، يتم تطويرها فقط إلى أيديولوجيا خاصة؛ لأنه كلما كانت أكثر انفتاحاً، زاد عزمها على استبعاد كل ما هو غير تعسفي وحر ومنفتح وما إلى ذلك. إن التناقض الغربي المذكور سابقاً هو الذي جعل من الممكن تصور الغرب ككيان متماسك. ويمكن للمرء أن يقول: إن ما بعد الحداثة نفسها هي التي تنقذ الغرب من معاناة مصير ما بعد الحداثة نفسها؛ أي العجز الإيديولوجي.

إن الإغلاق الأيديولوجي، إنشاء سرد مغلق إلى حد كبير تحت علامة الانفتاح؛ أي المفارقة الغربية، لم يكن ممكناً إلا من خلال ظرف، لم يكن من الممكن أن يتخيله موسيل Musil، ومن الواضح أن ليوتار لم يكن يتخيله بالشكل الذي نواجهه به اليوم. إن استحالة سرد أو أيديولوجية في مجتمع مفتوح -«مجتمع بلا خصائص» -وهو ما تأسّف عليه موسيل كثيراً-، يمكن أن يحول نفسه عندئذ إلى سرد أو أيديولوجية، ويصبح خاصةً «مجتمعاً بلا خصائص»، عندما واجه الغرب «بقية» العالم بثقة، بسردياته الخاصة ووضع حدوداً بينه وبينهم بادعاء حقه في الهيمنة، تقريباً داخل الحدود التي لا يزال الغرب يرسمها اليوم. بدأ هذا التطور في أوائل القرن العشرين في الشرق الأقصى، وكان رمزياً في شكل انتصار اليابان على مجتمع يحكمه «البيض»؛ أي الإمبراطورية الروسية عام 1905، واستمر في حرب الاستقلال التركية في أوائل العشرينيات من القرن الماضي، وبلغ ذروته في حركات الأربعينيات والخمسينيات والستينيات المناهضة للاستعمار. ونتج عن ذلك حركة مزدوجة: ازداد الضغط على الغرب من الخارج، بمعنى الإقصاء والدفاع. ومع ذلك، وحتى وإن كان في الاتجاه المعاكس تماماً، فقد صعد أيضاً من الداخل نحو مزيد من الانفتاح والحرية والتحرر.

إن المجتمع «الغربي» الخاص، الذي تحدث عنه بوبر عام 1944، عند نشر كتابه لأول مرة، وعلى خلفية الشمولية في الثلاثينيات والأربعينيات، وسماه بضمير مرتاح «مفتوحاً»، والحقيقة غير المتنازع عليها اليوم، هو أنه كان مجتمعاً بعيداً كل البعد عن كونه منفتحاً ومتساهلاً بما فيه الكفاية([35])، وقد صاغ ووضح جيل الثمانية والستين سيئ السمعة بعد ذلك هذه الحقيقة، التي لا جدال فيها اليوم (لماذا إذن؟)، وهي حركة استمدت ديناميكيتها ومرونتها ونماذجها ومعاييرها من العالم غير الغربي على وجه التحديد.

قد نعترف اليوم مرة أخرى بالميول الشمولية (اليسارية) في العديد من هذه الاتجاهات المستبدة من المستوى العالمي والمتعلقة بالدول النامية (واضحة على سبيل المثال في الماوية في ذلك الوقت)، لذلك تبقى حقيقة الانفتاح الجديد، الذي يمكن أن يُطلق عليه الآن حقّاً ما بعد الحداثة، ويبقى تفكك الظروف الاجتماعية السياسية المقيدة حقيقة واقعية، وبالخصوص في الغرب نفسه. وتبقى حقيقة كون الصورة الذاتية لغرب اليوم، نصف قرن بعد 1968، وخاصة في المجال الاجتماعي والثقافي، تدين بالكامل تقريباً لهذا الجيل، بما في ذلك المساواة بين الجنسين باعتبارها الرائد، وإن كانت لا تزال غير مكتملة.

ونتيجة لذلك، في أعقاب عام 1968، تمت استعادة الوضع الذي فتن موسيل Musil جزئياً، وأقلقه جزئياً، وحاول بالفعل التعبير عنه بالكلمات في عشرينيات القرن الماضي، وهو الوضع الذي كتبه منظرو ما بعد الحداثة ويريدون ترسيخه من خلال التتبع، ومن خلال إثبات أنه، من وجهة نظر معرفية، لا يمكن إثبات صحة أي رؤى أو تصورات للعالم، ولا حتى نظام علمي منطقي؛ من خلال تخليهم عن ادعاء الحقيقة والموضوعية. ولم يستبعد هذا إمكانية وصول قوة أو قوى إلى السلطة، وإمكانية قيام خطابات مهيمنة، لكن ادعاءهم امتلاك الحقيقة فقد مصداقيته منذ البداية، مما شجع في نفس الوقت الجميع على تأكيد موقفهم (النسبي المناسب).

كانت المشكلة الوحيدة هي: إن الحركات المناهضة للإمبريالية في العالم الثالث، والتي ألهمت بشدة 1968، وقعت في فخ الميول الرجعية والشمولية. فجأة وجد دعاة الانفتاح الراديكالي والتحرر، وكل شيء مقبول anything goes بمفردهم. وصاغ ليوتار في وقت مبكر من عام 1983، هذه التجربة بشكل لا لبس فيه: «إن الكفاح الفخور من أجل الاستقلال أنتج دولاً رجعية شابة»([36]). بدأ الثمانية وستون (1968) مسيرتهم عبر المؤسسات، وفتحوا الغرب بطرائق غير مسبوقة. انجرف ما يسمى بالعالم الثالث إلى الأنظمة الشمولية والديكتاتوريات والمجالس العسكرية. ولا يهم أكانوا مُوَالين للغرب، مثل شاه إيران حتى عام 1979، أو مناهضين له، مثل الثورة الإسلامية التي أطاحت بالشاه. فلم تعد هذه الدول والمجتمعات (المقصود الغرب: إضافة المترجم) قادرة على العمل كنموذج يحتذى به.

وهكذا أصبح الانفتاح (الراديكالي، ما بعد الحداثي) السمة المميزة للغرب نفسه، وحصرياً من الغرب، كما تم إيصال ذلك إلى الدوائر الشعبية، منذ المواجهة مع الإسلام على أبعد تقدير، وهي دوائر لم تسمع من قبل عمّا بعد الحداثة، وتعتبر جيل الثمانية والستين رجالاً ونساءً عجزة ملعونين. وبهذه الطريقة، ظهر وعي أيديولوجي واضح للاختلاف بين المرء وحدوده الخاصة، والذي يشير في الوقت نفسه إلى حدود انفتاح الفرد وتسامحه. إذا كان أناس 1968، بمطالبهم بالانفتاح والحرية، التي أُثِيرت في مجتمعاتهم الخاصة، يشعرون بأنهم جزء من العالم، وكانوا مُسْتوحِين من العالم، فإنه لا يمكن قول هذا عن الانفتاح والحرية الغربيين اليوم. بدلاً من ذلك، غالباً ما يتم استخدام الحرية بالخصوص لاستبعاد الآخرين؛ أي العالم. لا تهمنا مؤقتاً مسألة تبرير أو معقولية هذا، ما يهمنا هو الظاهرة.

بالحديث عن الغرب («وقيمه»)، والذي يمكن تفسيره الآن على أنه سرد أو أيديولوجية مغلقة، فإن ما يحدث على المستوى العالمي حالياً هو ما وصفه موسيل Musil قبل مائة عام «في مجتمعاتنا البيضاء»)، مع العديد من الآراء والأيديولوجيات المتناقضة، التي كانت تدور في ذلك الوقت. أو للقيام بقفزة جريئة في الزمن، ربما ما حلّ باليونانيين القدماء قبل 2500 عام عندما بلغوا، على حد تعبير رورتي، «وعياً متزايداً بالتنوع المطلق للمجتمعات البشرية»؛ وما يمكن أن يُقال عن العديد من المجتمعات التي جرّبت فجأة ما كان يعتبر ذات يوم مفتوحاً وشاملاً بدرجة كافية ومحدوداً في التقائها بالآخرين: ويتم تحويل هذا الخاص، بغض النظر عن مدى انفتاحه، إلى نسبي، ويصبح قابلاً للمقارنة ويفقد موقعه الفريد، ولا يمكنه المطالبة بالمصداقية المطلقة إلا بصعوبة.

في الحالة الراهنة، يعتبر هذا الأمر أكثر ألماً؛ ذلك أن الغرب أقنع نفسه بأنه قد وصل بالفعل إلى قمم الانفتاح والحرية والموضوعية وما إلى ذلك - ليكون الكلمة الأخيرة في الحكمة التاريخية، إذا جاز التعبير، والسرد الشامل النهائي، الذي لا يمكن للآخرين إلا وجوب الخضوع له: تَغَرَّب أو تُهْلَك Westernize or perish! إن الذين يعيشون داخل سردية تسمى «الغرب»، والمُحاطون به، والمؤمنون به، ولا يعيشونه بأي حال من الأحوال بشكل خاطئ ومفرط، وربما حتى بشكل علني للغاية، يواجهون فجأة سرديات متنافسة على مستوى عالمي، (تريد) جعل السردية الغربية، على الرغم من أنها، أو لأنها على وجه التحديد منفتحة جداً، سردية فقط من بين العديد من السرديات الأخرى([37]).

كما ذكرنا، يؤدي هذا إلى حقيقة أننا نجد أنفسنا في وضع اجتماعي عالمي للمجتمعات «البيضاء» الأوروبية «المتطورة للغاية»، وصفه موسيل وليوتار. وبذلك تُحَيَّن مرة أخرى، على مستوى أعلى، المستوى العالمي، كل تلك الأطروحات والممارسات التجريبية والإمكانيات والمشكلات التي كانت مطروحة للتفاوض بالفعل منذ مائة وخمسين عاماً -لكننا للأسف نقلنا هذه المفاوضات، هذا التقليد، إلى متاجر لبيع الكتب وندوات كبيرة وثقافات فرعية، وببساطة غالباً ما نسيناها.

نريد أن نستكشف مرة أخرى، إما إمكانية العيش بدون سرد - على الأقل بدون سرديات رئيسة، أو إذا ثبت أن هذا غير مرضٍ، العثور على مثل هذا السرد الرئيس أو الشامل، الذي يضمن توازناً كافياً؛ أي مساحة متساوية للسرديات الفرعية التي يمكن رؤيتها وممارستها بشكل أو بآخر (على غرار رورتي Rorty). إذن، سرد شامل لا يميل في حد ذاته إلى الهيمنة، وبالتالي يفضل وجهة نظر واحدة، وجهة نظر واحدة عن الحقيقة، على سبيل المثال هيمنة الاقتصاد التي يخشاها ليوتار، أو هيمنة التكنولوجيا والمعلومات، والذي يحذر منه يوفال نوح هراري Yuval Noah Harari، وفي نفس الوقت يستخدمه للتنبؤ بالانقراض لأولئك الذين لا يركبون الجموح الغربي.

قد يسمي البعض مثل هذا المشروع بالطوباوية، ويرفضه باعتباره خيالاً. لكن يبقى ما نتحدث عنه غير مفهوم. وما يتم رفضه بالضبط على عجل، باعتباره يوتوبياً أو خيالياً، وباعتباره غير ذي أهمية، هو موجود في العديد من الميادين، وحتى وإن كان موجوداً على شكل منافذ، فإنه كان موجوداً منذ فترة طويلة، وهو قيد التفاوض والمناقشة. وحتى لو كان شخصياً فقط؛ فإنه طور تقاليده الخاصة لفترة طويلة، ليس فقط منذ ما بعد الحداثة، وليس فقط منذ حداثة فيينا. وحتى لو كانت تقاليد مضادة؛ فإنه يُمارس ويُعاش في عدد من جوانب الحياة، حتى وإن لم يكن ذلك بأي حال من الأحوال في «الغرب». ومع ذلك، لم يتم إعطاؤه شكلاً نظرياً سردياً شاملاً، ولهذا السبب لا يُنظر إليه كمشروع وممارسة، أو ينظر له فقط في أجزاء غير متماسكة؛ ولأسباب عديدة، لربما لا يجب رؤيته، لا ينضاف إلى صورة ما، وليس له برنامج سياسي. قد يكون له محامون هنا وهناك، ولكن نادراً ما يكونون أولئك الذين ينجحون في إقامة علاقات مهمة.

لا يتعلق الأمر إذن باختراع شيء لا يوجد بعد، بل بالتركيز على شيء موجود بالفعل، لكن لم تتم رؤيته وإدراكه بهذه الطريقة كصورة وسياق إلا نادراً. أما «الغرب»، فلا يتعلق الأمر بإلغاء أو تقليص أي من «إنجازاته» أو «قيمه» التي يتم التباهي بها، بل تجاوز الرضى على النفس الذي يتكوّن من الاقتناع العنيد بأنّ هذه الإنجازات والقيم تنتمي للغرب كمِلكه الخاص، وكانت في الحقيقة غربيةً من البداية، وفي أحسن الأحوال أُعِيرت أو أُهْدِيَت للآخرين رحمةً. ولكن إذا كانت القضية كذلك، فستكون هذه القيم نسبيةً ومحدودة، وبالتالي لا قيمة حقيقية لها بحتاً. وسيكون هذا أمراً مؤسفاً، لا سيّما من منظور غربي راضٍ على النفس.

ستصبح أيديولوجيات الغرب ومؤرخوه وعلماء السياسة والقضاة الدستوريون غُرباء علينا في غضون عقود قليلة، مثل الأيديولوجيات أحادية الجانب للإمبريالية أو الماركسية اللينينية اليوم، وإيديولوجيات المبشرين أو السياسة اليونانية الأجنبية، ومع ذلك يبقون مألوفين بطريقة خارقة، كما رأينا، ولا يمكننا ولا نريد التخلص منهم على الإطلاق. ويمكننا محاولة رؤية أنفسنا مديري ممتلكات الغرب، ولكن ليس بتفويض للحفاظ على هذا الإرث بأي ثمن، سواء تحت اسم الغرب أو تحت أي مُسَمَّى آخر.

يمكننا أن نقارن مهمة تفكيك الوحدة المفاهيمية والسردية «للغرب» (الاسم الذي يحمله هذا الإرث) بمهمة بائع أغراض قديمة الذي لا يعرف صاحبها السابق، ويختار منها ما يبدو له مفيداً، ويتخلص مما يبدو له عقيماَ. وأول شيء يجب البداية به هو مفهوم الغرب نفسه، والتخيل بأن ما أتى إلينا من هذا الإرث يشكل وحدة، وهو شيء واحد. وفقط عندما يتم فتح هذا القوس، أو هذا الصندوق الكبير -نأمل أن نكون قد كسرناه بالفعل، وفتحناه في الفصل الأول-، يمكننا تكريس أنفسنا للمحتوى بطريقة غير منحازة. وسنقوم بنفس الشيء، على الرغم من أنه لا يمكننا إلا أن نلمح إليه في هذا الإطار، مع تقاليد الآخرين، مع إرث وأسماء من الإسلام والهندوسية والبوذية والطاوية، وبالطبع العصور القديمة والشيوعية وما إلى ذلك. نقوم بشطب الأسماء التي في النهاية تفصل فقط - وتستبعد، ونفتح الصناديق التي تم تسليمها لنا تحت هذا الاسم، صواباً أو خطأً ونأخذ منها، كما فعل الناس دائماً مع ما وصل لهم، ما يبدو مفيداً وذا معنى بالنسبة لنا.

بالنسبة إلى هذا الإجراء، الذي هو بالطبع خليط، إصلاح مرمّق bricolage، كولاج -وكل حياة، كل ثقافة، كل سرد هو كذلك- علينا؛ لأننا نحدث في الغرب وللقراء في الغرب، البدء بكسر سردية الغرب نفسه أولاً. علينا أولاً، بالإشارة إلى التقاليد الملائمة، أن نعيد مساحة الإمكانية والانفتاح والأفق الحر، الذي لا يمكن إنشاؤه إلا من خلال إزالة اسم «الغرب» والحدود المصاحبة له. وينطوي هذا على القطع مع الإيفاء المفترض الذي وعدت به الأيديولوجيا، وفضحه كمجرد وهم غير مرضٍ. وتتمثل الخطوة الأولى في مواجهة الشعور المزعج بالشبع الذي ينتج عن هذا «الإنجاز»، بالاغتراب من عدم الشعور بالرضا والحنين. إن: «الإنجازات هي دائما خيبات أمل»، كما قال موسيل Musil في المقطع المقتبس في بداية هذا الجزء. سيكون الهدف هو العثور على ما لا يمكننا تخيله بعد، أو في أفضل الأحوال يمكننا تخيله. لا ينبغي أن يسير في طريق ثابت وفقاً لجدول زمني محدد -فهذه هي الرؤية الأكثر مللاً، التي يمكن تخيلها-، بل عليه أن يجتهد في ما لا نعرفه ولا نستطيع فعله «وهو يقضم قلوبنا».

([1]) Robert Musil, Das hilflose Europa oder Reise vom Hundertsten ins Tausendste. In: Robert Musil, Prosa, Page 1088

([2]) Wien 1982. French edition, Paris 1979

([3]) إن برهنة ليوتار أكثر تعقيداً مما يمكن تقديمه هنا، ولا تنطلق في البداية من وجهات النظر السياسية للعالم، بل من السياقات العلمية للتبرير، وعلى عكس الصورة المنتشرة في المجتمع، فإن لها مطالبة نسبية بالصلاحية فقط، وبالتالي لا يمكن تبرير الفهم الذاتي الأيديولوجي السياسي لمجتمع حديث (ما بعد) بطريقة ملزمة بما فيه الكفاية. لم يخترع ليوتار مصطلح ما بعد الحداثة، ولكن يمكن إرجاعه إلى الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث تم استخدامه بطريقة مختلفة تماماً. عندما استقبله ليوتار، كان يتداول بشكل أساسي في نقد الفن والعمارة. حول مسيرة مصطلح «ما بعد الحداثة» انظر:

Perry Anderson, The Origins of Postmodernity, London (Verso) 1998

([4]) Paul Feyerabend, Wider den Methodenzwang. Skizze einer anarchistischen Erkenntnistheorie, Frankfurt (Suhrkamp) 1975. انظر أيضاً J. Lauenburg, Paul K. Feyerabend. In: Julian Nida-Rümelin (Hrsg.), Philosophie der Gegenwart, Stuttgart (Kröner) 1991, p. 153

([5]) لسبب وجيه يمكن للمرء أن يتأسف على التطور الذي يصف مفهوم عصر ما بعد الحداثة. بالطبع، يمكن للمرء أيضاً أن يدعي بأن هذا العصر غير موجود على الإطلاق، وأن السرديات العظيمة لا تزال صالحة. ويمكن للمرء أيضاً محاربة ما بعد الحداثة والتطورات المرتبطة بها -والتي ستؤكدها بالطبع، على الأقل من حيث الميل. وفي كل الأحوال لا يمكن للمرء، كما حدث مراراً وتكراراً، أن يجعل ما بعد الحداثة مسؤولة عما بعد الحداثة، أي إلقاء اللوم على تطورات ما بعد الحداثة في تطورات ما بعد الحداثة، سينتج عن ذلك ارتداد لانهائي. وبقدر ما يتأرجح ممثلو ما بعد الحداثة، وبالخصوص ليوتار كما ذكرنا، بين الأطروحة الوصفية والأطروحة المعيارية فيما يتعلق بأطروحتهم، فإن مثل هذه الانزعاج أمر لا مفر منه بالطبع.

([6]) انظر: Habermas, Der philosophische Diskurs der Moderne, Frankfurt (Suhrkamp) 1985. تم تلخيص موقف فرانكفورت جيداً من طرف Axel Honneth, Der Affekt gegen das Allgemeine. Zu Lyotards Konzept der Postmoderne. In: Merkur 38 (430), 1984, p. 893 ff. من المثير للاهتمام افتراض جيمسون (الذي نُشر لأول مرة في عام 1984) أن هابرماس يمكن أن يكون محقاً بشأن ما بعد الحداثة بقدر ما يتحدث من منظور ألمانيا الغربية بشكل قاطع وفي ما كان يُعرف آنذاك بجمهورية ألمانيا الفيدرالية. "the older forms of high modernism still may retain something of the subversive power they have Lost elsewhere". (Frederic Jameson, Postmodernism or the Cultural Logic of Late Capitalism, London [Duke University Press] 1991, p. 59 – ومع ذلك، بالتخريب، يتم وضع باراديغم تقييم لا يكاد ينكر أصله في النظريات اليسارية.

([7]) Jameson, Postmodernism, London (Verso) 1991, p. xii.

([8]) Lyotard, Le Différend, p. 260 (no. 263), Paris [Les Éditions de Minuit] 1983

([9]) Anderson, Origins, p. 46

([10]) Anderson, Origins, page 26, and Lyotard, p. 107, about "l’évolution des interactions sociales, où le contrat temporaire supplante de fait l’institution permanente …"

([11]) Lyotard, Le Différend, p. 260 (no 262).

([12]) يطور ليوتار أطروحته بشكل صريح على أساس «المجتمعات الأكثر تقدماً» («les sociétés les plus dévélopées»)، يعني فيما يتعلق بـ «الغرب». كما سنرى، فإن أطروحته تستعيد المعقولية فقط في الوقت الحاضر عندما يتم استقراءها للوضع العالمي.

([13]) Richard Rorty, Solidarität oder Objektivität, Stuttgart (Reclam) 1988, p. 12

فيما يتعلق باعتباراتنا التالية، يمكننا وصف مفهوم أفلاطون فوق الثقافي للحقيقة بأنه «سرد شامل». (بصرف النظر عن حقيقة كونه سرداً رئيساً بالطبع أيضاً)، كمحاولة لبلورة الحقيقة الصالحة عبر الزمن وعبر الثقافات من مفاهيم مختلفة للحقيقة. وبقدر ما نتحدث عن الحقيقة بمعنى القيم التي تعتبر جيدة وصحيحة -وليس الحقيقة العلمية أو المنطقية، والتي بالطبع لها أيضاً عيوبها، والتي يبني عليها ليوتار أطروحته-، فيمكننا المجازفة بفرضية كون الحقيقة تميل دائماً إلى أن تكون نوعاً من السرد الشامل، للعثور على الصيغ التي تحاول تجاوز ما هو ملموس فقط وما يتم تقديمه في وضع اجتماعي محدود يواجه أشياء أخرى وغيرها نحو شيء أكثر عمومية.

([14]) Contingency, Irony and Solidarity, p. 73: I shall define an "ironist". Cf. also p. 8

([15]) Ibid., p. 89. Cf. also: "Ironism […] results from a power of redescription. But most people do not want to be redescribed." (p. 90 ff.).

([16]) يقترب هذا من مفهوم التضامن من الشعور بالغرابة والاغتراب الذي ذكرناه بالفعل. يعد مفهوم رورتي Rorty عن التضامن أحد التكرارات القليلة جداً لمفهوم Fraternité (الأخوة) في الغرب المعاصر.

([17]) «في حالة ما بعد الحداثة، أعلن ليوتار كسوف جميع السرديات الكبرى. فالشخص الذي أراد أن يشهد بوفاته قبل كل شيء، كان بالطبع الاشتراكية الكلاسيكية» (أندرسون، أصول ما بعد الحداثة، ص 31). (Anderson, The Origins of Postmodernity, p. 31.).

([18]) يتحدث فوكوياما أيضاً عن «عالم ما بعد التاريخ».

([19]) على أولئك الذين يدعون الموضوعية، حسب رورتي: «التأكيد على وجود إجراءات لتبرير المعتقدات غير المحدودة، لكن التي تتوافق مع الطبيعة» ويضيف: «والذي يكون أصله من طبيعة الإنسان [...]». وانطلاقاً من هنا، فإن التركيز الملحوظ على «الطبيعة» في الأيديولوجية الغربية ليس مفاجئاً. انظر:

Rorty, Solidarität oder Objektivität, p. 13 f.

([20]) Paris 1983, p. 255 f., no. 253, 262, 263 and p. 260.

([21]) Le Différend, p. 255, No. 253

([22]) Yuval Noah Harari, Homo Deus, München (C.H. Beck) 2017, p. 370

([23]) كم هي قديمة، رثاء، هذه الرؤية في الواقع، لا نتعلم فقط من الأصل السخامي لاستعارة القطار في عصر السكك الحديدية، ولكن أيضاً من نص أرنولد توينبي «A Study of History»، المنشور عام1954 يستنتج فيه توينبي (ص 420) أنه في نهاية القرن التاسع عشر «اعتبرت الطبقة الوسطى الغربية الغنية والمريحة بشكل غير مسبوق أن نهاية عصر ما في تاريخ الحضارة هي نهاية التاريخ نفسه - على الأقل فيما يتعلق بنوعه. لقد تصوروا أنه تم الحفاظ بأعجوبة على الحياة العصرية الصحية والآمنة والمُرضية كهدية خالدة لمصلحتهم». إنه أمر مزعج، على أقل تقدير، أننا نشهد اليوم مواقف مشابهة لتلك التي رأيناها قبل الحرب العظمى من 1914 إلى 1918.

([24]) هراري، ص 537. بالطبع يمكن للمرء أن يقول إن غير المؤمنين في الكتاب المقدس لا يأتون إلى الفلك أيضاً. هذا صحيح. لكن سيكون النتيجة أسوأ: سيكون الغرب نفسه عقيدة دينية، وسيفترض بأنه يلعب دور الإله، ومصمم على هلاك من لا يؤمن به. وهو هلاك، بالمناسبة، يشمل الحيوانات أيضاً.

([25]) بالمناسبة، بالنسبة إلى مؤلف Harari هراري، فإن هذا أفضل شيء شرقي، أي تأمل Vipassana البوذي، الذي يدين به لمعلم بورمي هندي. وبهذه الطريقة أصبح من الممكن له «اعتبار الواقع كما هو» (ص 539)؛ وهذا، بالضبط في هذه الصيغة، هدف للماهايانا البوذية. والذين يأتون إلى هناك قد حصلوا على الحكمة، ويبدو أن هراري يدعيها هنا. انظر:

Michael von Brück, Einführung in den Buddhismus, Frankfurt [Suhrkamp] 2007, p. 302

([26]) Musil, Prosa und Stücke, p. 1091

([27]) تبدو صياغة موسيل Musil غريبة اليوم. ولكن منذ ذلك الحين، وحسب ألستير بونيت Alastair Bonnett (المرجع نفسه)، فإن التعيين الذاتي للغرب على أنه الغرب هو الوريث المباشر لمفهوم البياض whiteness، وعلى هذا النحو ظهر على مدار العشرينيات من القرن الماضي، وبهذا كان موسيل في ذروة المناقشات في عصره.

([28]) المرجع نفسه. في الواجهة، يميل المرء إلى الاتفاق مع كاتب سيرة موسيل كارل كورينو Karl Corino على أن موسيل كان مخطئاً في ذلك الوقت. وفقاً لكورينو، تمكنت الحركات الجماهيرية والاستبدادية في القرن العشرين من فرض الأيديولوجيات والتلاعب بالجماهير الكبيرة والزعماء. انظر:

Karl Corino, Robert Musil. Eine Biographie, Reinbek [Rowohlt] 2003, p. 613).

ربما كان موسيل سابقاً لعصره. لم يكن يتخيل -بالتأكيد لم يكن باستطاعة أي شخص أن يتخيله ذلك! - إلى أي حد كانت وجهات النظر الشمولية الناشئة في ذلك الوقت على استعداد لاستخدام العنف، لتشكيل المجتمع وفقا لأفكارها. ومع ذلك، نظراً لأن هذا لم يكن ممكناً إلا بالقوة القصوى، فقد يؤكد حتى أطروحة موسيل.

([29]) La condition postmoderne, p. 68

([30]) إنها ترجمة بوبر، التي لديّ أيضاً ولا تزال تنشرها UTB حتى الآن، في Francke في توبنغن.

([31]) انظر السيرة الذاتية فايرابند.

([32]) Musil, Prosa und Stücke, p. 1057

([33]) Musil, op.cit., p. 1058

([34]) Ibid.

([35]) يمكن ملاحظة هذا بسهولة أكبر في مسألة تحرير المرأة.

([36]) Le Différend, p. 260 ("Les fières luttes pour l’indépendance donnent issue à de jeunes états réactionaires.").

([37]) إنها واحدة من الأفكار الرئيسة في كتاب أليستر بونيت Alaister Bonnett حول: «فكرة الغرب The Idea of the West»، حيث إن الحديث عن الغرب ولد خارج هذا الغرب.