لطفي حجلاوي: ليس أمام الأنظمة التعليمية العربية إلا أن تتحول آجلاً آم عاجلاً إلى أنظمة تربوية ديمقراطية
فئة : حوارات
لقاء مع الأكاديمي التونسي والباحث في مسائل الموهبة والإبداع:
الدكتور لطفي حجلاوي
ليس أمام الأنظمة التعليمية العربية إلا أن تتحول آجلاً آم عاجلاً إلى أنظمة تربوية ديمقراطية
مرحبًا بكم على منبر مؤسسة مؤمنون بلا حدود
ربوح البشير: بداية كلاسيكية، ولكنها ذات جدوى صحفية أكيدة، من هو الدكتور لطفي الحجلاوي لمن لا يعرفك؟
الحجلاوي: لطفي الحجلاوي هو باحث تونسي من مواليد 1971 أصيل مدينة سيدى بوزيد (التي صارت شهيرة بعد 2011)، متحصل على دكتوراه في فلسفة التربية، أستاذ باحث بالمعهد العالي لإطارات الطفولة بقرطاج، والآن متعاقد مع كلية التربية جامعة الملك خالد بالمملكة العربية السعودية.
أمتهن التعليم العالي كأغلب الأكادميين، ولكني أحاول أن لا أنقطع يومًا عن البحث العلمي. أكتب في أدب الطفل ومتوّج بجائزة عربية في رواية اليافعين سنة 2015. لي 12 عنوانًا منشورًا في أدب الطفولة الثالثة، ولي كتابان نظريان هما: "فلسفة التربية، الإشكاليات الراهنة"، دار التنوير 2009، و"التربية الديمقراطية"؛ ابن النديم ودار الروافد 2013.
أعدّ كتابًا للنشر قريبًا إن شاء الله حول تيمة الموهبة والإبداع.
ربوح البشير: تتحدث عن الموهبة والإبداع، هل يوجد اهتمام ثقافي وأكاديمي عربي بهذه القضايا؟
الحجلاوي: نعم، بالمشرق كثير، وبالمغرب قليل. وربما يعود هذا إلى ارتباط المشرق العربي بالثقافة الأنكليزية حيث تزدهر بشكل كبير بحوث الموهبة والموهوبين.
نحن نعلم أنّ موضوع دراسة المواهب ازدهر في العالم إبان الحرب الباردة، وتحديدًا لما أطلق السوفيات أول مركبة تدور حول الأرض في سنة 1957 وهي سبوتنك، وحينها شعر الأمريكان أنّهم في خطر، وأنّ السوفيات قد سبقوهم، فانطلقت منذ ذلك الحين مشاريع محمومة للبحث عن المواهب في مختلف أرجاء الولايات المتحدة والاعتناء بها لتكون عقول المستقبل القادرة على المنافسة والريادة في العالم. وبالفعل نجحت هذه الاستراتيجية أيّما نجاح، بدليل نتائج تاريخ الصراع والهيمنة على العالم منذ الحرب الباردة وإلى حدّ الآن.
استوعب العرب الدرس نظريًّا، وكان ذلك منذ الخمسينات مع علماء النفس المصريين مثل يوسف مراد ومصطفى سويف رائدي دراسات الإبداع في الوطن العربي. بعد ذلك توسّع الاهتمام بالموهوبين وطرق التعرف عليهم ومساعدتهم وتطوير مواهبهم وعمت الدراسات والمشاريع المشرق العربي. ومنذ نهاية القرن العشرين دخلت دول الخليج في مشاريع طموحة من أجل اكتشاف عقول أبنائها من الموهوبين ومتابعتها. وتأسست في جميع الدول الخليجية جمعيات يرعاها مكتب التربية لدول الخليج العربي، أو حكومات بلدانها مهمتها رعاية المواهب وتطويرها في جميع التخصصات، وأساسًا المواهب العلمية والتقنية تحديدًا.
لكن في المغرب العربي وفي تونس مازلنا لم نرس مثل هذه التقاليد بعد، ربما للطبيعة المُكلفة لهذه المشاريع، وربما أيضًا لخوفنا من تكريس النخبوية الحادة في مجتمعاتنا.
ربوح البشير: ما وضع التعليم الحالي في تونس؟ وهل ظل يحافظ على درجة الجودة المعروفة عنه عربيًّا وأفريقيًّا؟
الحجلاوي: للصدق، وضع التعليم في تونس غير مستقر. فقد عرف عدّة إصلاحات، وكانت أحيانًا مرتجلة وغير دقيقة على مستوى التنفيذ. وأقصد هنا إصلاحات 1991 و2002 و2008، وبعد أن شهدت المدرسة التونسية هذه التحولات (الضرورية أحيانًا) بدأت بعد الثورة تستعيد شيئًا من تألقها القديم، وبدأت عمليات ترميم جدّية لثغراتها تُنجز هنا وهناك، وشخصيًّا أشعر بتفاؤل كبير تجاه النقاش الاجتماعي العام في تونس حول التربية والتعليم، إذ على خلاف كامل أقطار الوطن العربي يشارك كامل المجتمع التونسي بشكل مباشر في الاستشارة الوطنية حول إصلاح المنظومة التربوية. وهو أمر يعكس حجم هذا القطاع في حياة التونسي وثقافته. فالكل مدرك لخطورة تراجع جودة التعليم، والكل مدرك لضرورة إصلاح المدرسة، والكل مدرك أنّ صلاح الحياة الاجتماعية يمر حتمًا عبر صلاح المنظومة التربوية. وهذا أمر محمود، لأنّه يجعل من العائلة وجميع مؤسسات الدولة الأخرى ومؤسسات المجتمع المدني تتحمّل مسؤوليتها التربوية، مما يكمّل دور المدرسة ويعاضده ويساعده.
نعلم جميعا أنّ الانتقال الثوري في تونس كان عبارة عن عملية جراحية صعبة، وأنّه ليس من السهل الشفاء منها، وأنّه لا بد من وقت وجهد حتى يتم بناء الجمهورية الثانية التي يحلم بها جميع التونسيين، وليست المدرسة إلا جزءًا من هذا الواقع يجري عليها قلق المؤسسات الاجتماعية الأخرى في الدولة وأوجاعها نفسها. ونأمل أن تكون المدرسة التونسية رافعة مستقبلية للتّنمية الاجتماعية والاقتصادية كما كانت في عهد مؤسسها ورائدها المرحوم الحبيب بورقيبة.
ربوح البشير: حينما نراجع ترتيب الجامعات في العالم نجد الجامعات العربية في أغلبها في مراتب (مخجلة)، ثم بالنسبة إلى الترتيب العربي نجد الجامعات المغاربية في أواخر الترتيب، بم تفسّر هذه الظاهرة؟
الحجلاوي: أولاً يجب أن نعلم أنّ هذه التصنيفات الدولية وأشهرها على الإطلاق تصنيف شنغهاي، يأخذ بخمسة معايير تقريبًا، هي على مقاس الجامعات الأمريكية والأنكليزية. ويجب أن نعرف أنّ غاية هذه المقاييس ليس بيان جودة التعليم وإنمّا نجاعته، والفرق بين الجودة والنجاعة كالفرق بين الديمقراطية والنخبوية.
لكن مع ذلك، فإنّ مقاييس شنغهاي وضعت في الأصل للجامعات الصينية حتى تطور نفسها وتنافس نظيراتها الأمريكية والأنقليزية، وقد نجحت الصين بهذه الطريقة، وبإمكاننا نحن العرب أيضًا أن ننجح في هذا الأمر. وقد بدأت فعلاً الجامعات السعودية في تطبيق هذه المعايير لذلك نجد بعضها في الخمس مئة الأولى في العالم، والأولى في الوطن العربي. لكن ليبقى واضحًا في الأذهان أنّ الأمر لا يتعلّق بجودة التعليم وإنّما بنجاعته.
وأما بالنسبة إلى ترتيب الجامعات العربية وهو ترتيب مؤسسة أنقليزية تدعى رمزيًّا QI فإنّ من بين أهم المعايير نسب البحوث المنشورة، وعدد الإحالات إلى أصحابها من طرف الباحثين الآخرين في العالم. ونعلم أنّ اللغة الرئيسية للنشر في العالم هي الأنقليزية، وبينما للجامعات المشرقية خبرات طويلة للنشر بهذه اللغة في الدوريات المحكمة والمرقمة دوليًّا، فإنّ للمغاربة دربة جديدة بهذا المجال. لكني على شبه يقين بأنّه بعد عشر سنوات سوف نرى تغيرات كبيرة في هذا الترتيب. فضلاً على أنّ البحث العلمي يتطلب إنفاقًا وميزانيات وهو ما توفره الجامعات الخليجية بكرم، بينما لا تمتلك منه الجامعات المغاربية إلا النزر القليل.
ربوح البشير: كتبت في كتابك "التربية الديمقراطية" عن تشخيص عام لعلل التعليم العربي، فأين تكمن أهم عيوبه، وهل من سبيل لمعالجتها في مدى قريب؟
الحجلاوي: نعم، لمّا نعود إلى الدّراسات المقارنة أو ما يعرف بالأنظمة التربوية المقارنة، ونضع نظامنا التربوي العربي (وهو متشابه في معظمه) بالتساوي مع الأنظمة التربوية للدول المتصدرة لقائمة أحسن النظم في العالم كسنغافورة أو فنلندا أو كوريا الجنوبية أو ألمانيا، فّإننا نلاحظ بشكل مباشر أنّ مشكلات منظوماتنا هي:
ـ اهتمام القيم الاجتماعية بالتعليم وبالمدرسة لا يقارن بين ما لدى هذه الدول وبين ما لدينا.
ـ قيمة التعلّم وقيمة العلم ثقافيًّا مزدهرة في تلك المجتمعات ومتدنية جدًّا أو مفقودة عندنا تمامًا.
ـ قيمة المعلّم ومنزلته الاجتماعية تفرض احترامه وتمنحه الهيبة الضرورية كي يكون قدوة ويُسمع منه ويُتأثر به، على خلاف ما هو حاصل لدينا.
ـ مواكبة في مضامين البرامج للتطورات العلمية مفقودة عندنا، فبعض برامجنا أو موادها متقادمة وتلوك أفكارًا من الثمانينات.
ـ طرق التدريس ومناهجه مختلفة جذريًّا، فبينما لا نزال نلقن في الغالب عبر سلوكياتنا التربوية بشكل تقليدي أو متطور، يُعلمون هم طرق حل المشكلات، والتفكير الابتكاري، والمشاريع البحثية التعاونية.
هذه هي عيوب أنظمتنا التعليمية بكل دقّة واختصار، وكما تلاحظون هي عيوب مُركّبة: اجتماعية وثقافية وتنظيمية وبيداغوجية. ولذلك فحلّها يتطلب أكثر من جدّية القرارات السياسية وحدها وجرأتها، لأنّها تتطلب تغيرًا عميقًا في الوعي الاجتماعي. وقد تكون تونس بدأت تتلمس مثل هذا التغير الثقافي، ولكن ببطء وبصعوبة، وربما قد تكون البداية لتغيير عربي شامل في ثقافة التربية والتعليم وقيمتهما، وبالتالي المدخل للتطور الحقيقي لمنظوماتنا التعليمية العربية.
ربوح البشير: هناك لغط يحتد حينًا ويهتاج حينًا، ويتعلق بموقع الديمقراطية في أنظمتنا التعليمية العربية؟ وبإشكالية جدالية أخرى لا تقل عنها صعوبة هي العلمنة فكيف ترون المسألة؟
الحجلاوي: بداية ليس أمام الأنظمة التعليمية العربية إلا أن تتحول آجلاً أم عاجلاً إلى أنظمة تربوية ديمقراطية، رغمًا عن أنف من تتعارض مصالحه مع ذلك. ونقصد بالنظام التربوي الديمقراطي ذلك الشكل المبني في جوهره على احترام الحقوق الأساسية للإنسان، وأولها حق التعبير الحر، وحق التفكير الحر، وحق حرية الرأي السياسي والثقافي. ويكون النظام التربوي ديمقراطيًّا بقدر ما يدمج هذه الحقوق ضمن أهدافه وغايته في التنمية الشاملة لشخصية الخريج.
ولا يصل النظام التربوي الديمقراطي إلى أهدافه وهي إنتاج فرد حر وسيّد فكره وإرادته، عبر تدريس مواد "حقوق الإنسان" نظريًّا، كما كان يفعل نظام الاستبداد في تونس، يتغنى بكونه يدرّس أفقيًّا مواد حقوق الإنسان لجميع المستويات، لكنه لا يحترم منها حقًّا واحداً، وإنّما يكون النظام التربوي ديمقراطيًّا انطلاقًا من أدنى تفاصيل العملية التربوية وحتى طرق التدريس ومضامين الدروس.
النظام التربوي العربي مازال يشكو كثيرًا من إسقاطيته ومن عموديته ومن تصلبه المركزى. وفي الغالب فإنّ النظام التربوي العربي ظِلٌّ للنظام السياسي الحاكم، يأتمَّ به ويفعل ما يفعله تمامًا. بينما حين نتأمل الأنظمة المتطورة نجد فلسفتها العامة قائمة على فكرة احترام حقوق الإنسان وصيانتها وتقديسها، في جميع تفاصيل العملية التربوية من التخطيط إلى التنفيذ إلى الإنتاج إلى التقييم.
ولا أرى شخصيًّا فرقًا كبيراً بين ديمقراطية النظام التربوي وتحييد المؤسسة التربوية عن الدخول في الصراعات الحزبية والدينية. لقد أنهكنا خلال كامل مراحل الدولة الوطنية، جعل المدرسة في خدمة السياسة، وآن الأوان أن نفك هذا الارتباط. ومعه نفك كل ارتباط للمدرسة بأي أطر ثقافية للتفكير خارجة عن المعرفة الموضوعية والمحايدة.
وهنا، وكرأي شخصي، أعتبر أنّ علمانية المدرسة شيء ضروري اليوم بالذات وسط استفحال الإسلام السياسي، احترامًا لديننا الحنيف الذي يظل له مكانه وموقعه، واحترامًا لعقول الناشئة الذين نربيهم في الحصص العلمية والفلسفية والأدبية على النقد والتفكير الحر، بينما ندخلهم بعدها إلى حصص العقيدة لنقول لهم لا تفكير بعد ما أنزل علينا الحق بيّنًا وجفّ القلم، كما يعتقد البعض حرفيًّا.
العلمانية هي حصن ضد تسيس المدرسة وضد أدلجتها. لكن لا تعني العلمانية التربوية في رأيي أن نقود تلامذتنا إلى جهل نهائي بالعقيدة، وإنّما أن نختار طرائق تدريس وأساليب، تقدّم الموضوع الديني تقديمًا محايدًا وعلميًّا يتناسب واعتدال شرعنا الحنيف وعقلانية حكمة ديننا العظيم وعمقها.
ومن جديد تخطو تونس خطوة إلى الأمام في الاتجاه الصحيح حينما خصص دستورها الجديد الصادر في 2014 فصلاً ينصّ بصريح العبارة على حيادية المؤسسة التربوية، وفصلاً آخر على صيانة الحرّية الأكاديمية وحمايتها.
أما قصة العلمانية نظامًا اجتماعيًّا، فإنّ غالبية الذين يرفضونها ويخاصمونها لا يعلمون شيئًا عن معناها وعن ولادتها التاريخية وعن المعتدلة منها. لأنّ الحكم بنظام ثيوقراطي لاهوتي يديره أصحاب العمائم بدعوى شرعيتهم الدينية ليس في رأيي من الإسلام في شيء.
ربوح البشير: شكرًا لكم على هذا الحوار الرائع