لِقَاءَات بالإسْلَام
فئة : ترجمات
لِقَاءَات بالإسْلَام
ميشال دو سارتو – هنري لومان
ترجمة: محمد شوقي الزين
نص نادر عن الإسلام كتبه ميشال دو سارتو (Michel de Certeau) بالاشتراك مع هنري لومان (Henri Le Masne)، وكان وقتها قسَّا في الكنيسة الكاثوليكية. بحكم تخصصه في الكنان المسيحي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث خصَّص له أعمالًا كثيرةً، منها رائعته «حِكَايَةُ المكْنُون» في جزءين[1]، كان دو سارتو على اطلاع بالنصوص في التصوف الإسلامي، نصوص ابن عطاء الله السكندري وأبي منصور الحلاج، كما يُبرزه مقاله «الكِنان»[2] في الموسوعة الشاملة. يُعدُّ هذا النص القصير شاهدًا على الحوار الإسلامي-المسيحي. أشكر صديقي آندرس غابريال فريخوميل (Andrès G. Freijomil)، أستاذ الدراسات التاريخية بجامعة بوينس آيرس (الأرجنتين)، الذي تكرَّم بمشاركتي هذا النص. [المترجم]
***
الترجمة:
كان الأب جانو (Janot) يقول –في محادثة هي أصل التأمُّلات المجموعة هنا– أنَّ الموقف التبشيري عليه أن يكون مضيافًا، وهو كذلك. لقد شهد أحدنا نوعًا من جماعة تبشيرية مسلمة في الجنوب التونسي على يد الآباء البيض، حيث تكون عبادة الله هي قبل كل شيء عبادة «الروح». وعلى الصَّعيد الفكري، يُدرّس هؤلاء القساوسة اللغة العربية، وهي لغة دينية، في الكليَّات الكاثوليكية! ولكن، كما قال الأب فْوَالُوم (Voillaume) في السنة الفارطة، فإنَّ الهدف من المهمَّة هو تشكيل جماعة مسيحية عربية في أفريقيا قادرة على تكريم الثالوث المقدَّس وإجلاله، وكل ما تحمله من إنسانية. لا يحقُّ لنا أن نبقى بمعزلٍ عمَّا في الإسلام هو «حجر الزَّاوية» في المسيحية. إنَّ تاريخ العرب وحضارتهم يجب أن يقودهم إلى الله الذي وضعهم هنالك لخدمته؛ وهذا لا يعني أنَّ البنية الدينية الإسلامية تؤدّي من النَّاحية الشكلية إلى التجلّي الكامل لله: هناك فقط تاريخ يهيئ «مِلْء المعرفة»: تاريخ العهد القديم، والتاريخ المقدَّس. وبما أنَّ جميع المسيحيين هم مُبشِّرون و«سيكون حسَّهم الكاثوليكي ناقصًا إن لم يجعلهم يدركون واجبهم تُجاه العالم أجمع»[3]، وإنَّه لمن دواعي سرورنا أن نسعى مع الإسلام إلى وحدة روحية ولقاءات تتشكَّل بفعل النّعمة (la Grâce)، وتُشكِّل بدورها «كنيسة الله». يشترك معنا العرب في عددٍ من العقائد: وجود الله الخالق، والأنبياء، وعيسى، والملائكة، والعذراء، والسماء، إلخ..، لكن لا يوجد «لقاء» إلَّا في الصَّلاة: فالغرض منها وما تنطوي عليه من مواقف يُعلّمنا أكثر حول ما يُقرّبنا من العرب.
1. تعالي الله و«معنى العبادة»
الله هو غاية الصلاة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ والإنْسَ إلَّا ليَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]. وهذا الله هو الله الأكبر والخالق الأعظم: ﴿سَبِّح اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى والَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: 1-3]. إله صارم، يرفض عبادة اللحوم المحروقة والدماء المسفوكة ويحتقرها: ﴿مَا أرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ومَا أرِيدُ أنْ يُطْعِمُونِ﴾ [الذاريات: 57]. كما لو كُنَّا نقرأ [سِفْر] عاموس! ينبغي عبادة الله بالروح، وبالروح فقط: ﴿سُبْحَنَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [القصص: 68]. لذلك يرفض العربي التَّقيّ كل تمثُّل فظيع عن الله. التَّجسيم هو وثنيَّة. وعنده صار «الطريق السلبي» أو مدلول «عدم-كينونة» الله، العميق والدَّقيق عند الصوفية، عبارة عن غريزة، وبشكلٍ ما حاجة ماسَّة. لقد لاحظ الأب دَانْييلُو (Daniélou) هذا «الحسّ التعبُّدي»[4] الذي غالبًا ما ينقص التَّقوى المسيحية الشَّعبية. تُشير النصوص القرآنية أعلاه أنَّ هذه العبادة هي موجَّهة إلى الخالق: إنَّها إجلال من المخلوق إلى الخالق، ومن العبد إلى السيّد: ﴿قُلْ إنَّ صَلَاتي ونُسُكِي ومَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: 163]. هذا السيّد هو ديَّان صارم: سيأتي «الحدث المحتوم» يوم القيامة: ﴿إذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا﴾ [الواقعة: 1-5]. يتجرَّأ المؤمن في حالة الخوف على أن يطلب من الله ألَّا يكون من المغضوب عليهم [الفاتحة: 7]. لا نحب الله لأنَّه بلا رفقاء، ووحيد، ومنعزل في عظمته، لكن نجلُّه؛ لأنه يريد أن نجلَّه. الصلاة هي فعل الإيمان به؛ فهي ليست شعيرة فحسب، بل أيضًا فعل القلب: ﴿لَيْسَ البرُّ أنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشْرِقِ والمغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ ءَامَنَ باللهِ واليَوْم الآخِرِ والملَائِكَةِ والكِتَابِ والنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177]. من الصحراء إلى جبل حراء، لم يعرف النَّبي محمَّد إلَّا هذا الإله، ثلاثي القوَّة. ولم يرفض الأسرار إلَّا باعتبارها تعدٍّ على سرّ هذا الإله البعيد. تبع الإسلام ذلك، وآمن، وخشيَ، وأخذت صلاته الدروب القاحلة التي تؤدّي إلى إله الصَّحراء والنَّار هذا. وإن كانت هذه المعرفة غير كافية، فهي تبقى معرفة دينية عميقة. ليتنا نحصل على هذا الإحساس بتعالي الإله اللامتناهي!
2. التَّسليم والقَدَر
معنى «الإسلام» هو «التَّسليم». إنَّه تعريف الموقف الديني نفسه بشأن الله ﴿الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾ [الأعلى: 3]. يُطيع المؤمن الله في كل شيء: «لتكن النَّفس... ككرة البطل تحت مطرقة اللاعب»[5]؛ ﴿إنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ [النحل: 70]. فهو أعلم من النَّاس بما يحتاجون إليه وما يحيط بهم. كلمة «مكتوب» ليست قَدَرية: فهي تُميّز الفكرة العادلة الوحيدة للعالم الذي يفعل الله فيه ما يشاء. لا تؤثّر خطيئة الإنسان على الله أكثر ممَّا تؤثّر محبَّته: يفعل الإنسان الشَّر، ولكن يبقى الله غير مبالٍ: «ليس في قُدرة الإنسان أن يتجرَّأ على مشيئة الله ويُبطل عروض فدائه»[6]. لقد حكم الله على هذا العصيان وتوقَّعه: ﴿فيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 4]. الفكرة هنا صحيحة وجميلة منذ البداية؛ وسنجد صفحات مماثلة عند تُويْلَر (Tauler)،[7] حيث يُفجّر هذه القدرة الشاملة التي تُسيّرنا إلى غاية أنَّ خطايانا تصبح جزءً من مخطَّط العناية الإلهية. يريد الله كل شيء. يعرف العرب أنه يريد تاريخًا قوميًّا ودينيًّا لهم. للإسلام قَدَرُه: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ [إبراهيم: 48]. وكان النَّبي إبراهيم قد حصل على هذه الوعود المذكورة في عدَّة سُور (أنظر: سورة إبراهيم، وسورة يونس، وسورة القصص). تلج بنا عدَّة سور في قصة موسى، ويوسف، وعيسى (الخفيّ) الذي بشَّر بمجيء النَّبي محمَّد: «وَإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَبَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا برَسُولٍ يَأتي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أحْمَدُ» [الصَّف: 6]. وعلى منوال ذلك، جمع النَّبي محمَّد الأمم من حوله، وانتشرت الدَّعوة العربية على نطاقٍ واسع، في الماضي واليوم أيضًا، على الرُّغم من أنَّ السَّيف قد هُجر لهذا الغرض. لا حاجة لإثبات كم تُشبه هذه القصص المعنى المسيحي للتاريخ. ومع ذلك، لا ينبغي الظَّن أن الله «يُساعد» الإنسان. ليس للعربي مفهوم النّعمة. فهو يحمل هاتين النَّظريتين المتناقضتين: النظرية الأولى وهي أنَّ الله فعَّال لما يريد، والنظرية الثانية وهي أنَّ الإنسان يفعل أشياءً بمحض قواه الذاتية. فهو كمخلوقٍ يُسلّم أمره لله، منعزل ومستقلّ عن هذا المخطَّط. تجد الأخلاق هنا أساسها المبدئي، لكنها تسحق التصوُّف إلى حدّ أنَّ الصوفية في الإسلام ظهروا في التيَّارات المتأثّرة بالمسيحية، وأيُّ نَدَاوةٍ أخرى لا يُطيقونها.
3. التَّكافُل الاجتماعي والديني
يقول الأب دانييلو: «في اليوم الذي يعتنق فيه الإسلام، يمكنك أن تتخيَّل حياةً دينية واجتماعية أكبر بكثير ممَّا هو موجود في بلادنا»[8]. يندهش الكاثوليكي «الحديث» من الطَّابع المؤسَّساتي للديانة المحمَّدية. الله حاضرٌ في المدينة: الفقه، ونظام الحكم، وقوانين العمل والحرب، والعلم نفسه. كل شيء ديني. يتواجد المؤمنون في الإطار الاجتماعي نفسه، الذي هو نتاج القرآن. ليس هناك نزعة لائكية. قيصر والله[9]، والقائد والبابا ينتميان إلى الملكوت نفسه. يُشدّد مجتمع الشَّعائر على هذا التَّكافُل في المجتمع: يتلو جميع المؤمنين كلَّ يوم الصَّلوات نفسها في الأوقات عينها. ثمَّة قوَّة جامعة لا يُقدّرها سوى الكهنة الذين يتلون أسفارهم الدينية. معًا ساجدين على الأرض، وفي كل البقاع، المؤمنون بالله، عندما يدعون الله المحبَّة، فهم يُدركون الروابط التي تجمع الإخوة في عائلة الثالوث المقدَّس ويُثرونها. للمسيحي نعمة الحكم؛ لأنَّه يمتلك الحق، لكن إذا أراد يكون صادقًا، عليه أن يحكم بالمحبَّة، ثمَّ إنَّه يُناهض مع السيّد غولدتسيهر (Goldziher) –وهو صديق قديم للإسلام– أولئك الذين لا يفتحون قلوبهم وعقولهم لما يقوله الله عن العرب وبهم: «قد نجد فكرة الله في الإسلام دُنيا لأنَّها تستبعد بوضوح فكرة المحايثة. وقد نُعلن أنَّ الأخلاق خطيرة؛ لأنَّها مأمورة بمبدأ الطَّاعة والخضوع الذي يكشف عنه اسم الإسلام نفسه. وكأنَّ الوعي القويّ لدى المسلم بأنَّه يخضع لقانونٍ إلهي صلب، وكأنَّ الاعتقاد في تعالي الذات الإلهية، هما عائقان يحولان دون تقرُّبه إلى الله بالإيمان والتَّقوى والعمل الصالح، وتشمله رحمته!»[10]، بل نعتقد أنَّ الله يرينا دلائل رحمته وعنايته بإعطائنا مثل هذه الدروس ودواعي الرَّجاء والأمل على يد المحمَّديين.
[1] Michel de Certeau, La Fable mystique, XVIe-XVIIe siècle, I, Paris, Gallimard, 1982 ; La Fable mystique II, Paris, Gallimard, 2013
[2] Michel de Certeau, « Mystique », Encyclopædia Universalis, 1978
حول السبب في اختيار المفردة العربية «كِنان» كمقابل للكلمة mystique؛ والفرق بينها وبين التصوف والعرفان، يمكن الرجوع إلى دراستنا: محمد شوقي الزين، الغسق والنسق: مقدمة في أفكار ميشال دو سارتو، منشورات مجد، دار مدارج والوسام العربي، بيروت-الجزائر، 2017
[3] خطاب على الراديو للبابا بيوس الثاني عاشر (Pie XII) وجهه إلى الكاثوليك الأمريكان يوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1946، بمناسبة المئوية الثالثة لوفاة القديس إسحق جوجز (Saint-Isaac Jogues).
[4] Jean Daniélou, Le Mystère du salut des nations, Paris, Editions du Seuil, 1946, p. 57
[5] Carra de Vaux, « La doctrine de l’Islam », Revue des études byzantines, n°83, 1910, p. 249
[6] Tor Andrae, Mahomet, sa vie, sa doctrine, Paris, Maisonneuve, 1979, p. 63
[7] جَانْ تُويْلَر 1300-1361م (Jean Tauler)، لاهوتي ومتصوف ألماني من رهبانية الدومينيكان، تلميذ الصوفي الألماني المعلّم إكهرت 1260-1328م (Maître Eckhart). [المترجم]
[8] J. Daniélou, Le Mystère du salut des nations, op. cit., p. 57
[9] إشارة إلى إنجيل مرقس [12: 17] الذي وردت فيه الآية التالية: ﴿فَأجَابَ اليَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: أعْطُوا مَا لقَيْصَرَ لقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ﴾ [المترجم].
[10] I. Goldziher, Le dogme et la loi de l’Islam. Histoire du développement dogmatique et juridique de la religion musulmane, trad. Félix Arin, Paris, Librairie Paul Geuthner, 1920, p. 13-14.