لماذا تتظاهر الشعوب؟ (2): مواطنون بلا مضمون
فئة : مقالات
إنّ تاريخ "لا" (ضد كل أنواع السلطة) لم يُكتب بعد في هذه الثقافة. ولذلك، لا أحد يمتلك اليوم تفسيرا مناسبا يبيّن لنا لماذا على وجه الدقة تتظاهر "الشعوب" في هذا العصر ما بعد الدكتاتوري؟ - ربما، أيضا، لأنّ سردية أنفسنا التي نحتمي بها من أجل أن "نتهوّى" (حسب تعبير قديم للكندي) هذه الهوية أو تلك هي نفسها متورطة بشكل أو بآخر في ما يحصل لنا. ولكنّ فوكو قد بيّن أنّ خطاب السلطة التي تُخضعنا هو نفسه الجهاز الذي يتمّ داخله تذوّتنا. إنّ جلد الذات إذن، ليس طريقا مأمونة في حالتنا؛ ربما هو يكرّس فقط الصيغة المخفّفة من آلامنا، لكنّه لا يفلت من هويتنا السردية إلاّ عرضا. ثمّة عنصر "كولونيالي" في كل هوية، ولذلك هي لا تتردّد في اتّهام أيّة ذات داخلها بالخيانة حتى تدافع عن نفسها. لكنّ تطوير هوية متمردة، أو "ناكثة" للانتماء قد كان دوما تجربة متاحة لتخفيف أعباء العالم على كاهل جيل ما. علينا أن نفترض بأنّ شبح "الصعلوك" قد كان يخيّم دوما على كل فرادات الحرية في تقاليد التمرد في ثقافتنا إلى حدّ الآن. من الشنفرى إلى "المحتجّ" المعاصر علينا أن نرسم دوما سردية "لا" بكل عنفوانها، ولنحترس في كل مرة من الوطأة الهووية لأيّة سردية متعبة أخذت تفضّل اتساقها التداولي على كرامتنا أو بشريّتنا الهشة في كل مرة.
تتظاهر "الشعوب" لأنّها تشعر أنّها لم تعد معنيّة بكلّ السرديات العميقة التي كانت تحتكم لها عند ابتكار معنى السكن في العالم الخاص بها
ربما "يتظاهر" الأوروبيون داخل سردية "احتجاج" تجد جذورها القديمة منذ القرن السادس عشر في التقاليد "البروتستانتية"، حيث انتشر مصطلح "Protestant" في ألمانيا سنة 1529، عندما عمد أعداء حركة "الإصلاح" إلى وصف ستّة أمراء، ممّن اتّبعوا تعاليم مارتن لوثر بأنّهم "أمراء بروتستانت"، حيث إنّ التسمية قد كانت في أوّل الأمر "تهمة" للأمراء قبِل بها المتّهمون وحوّلوها إلى "فضيلة" سياسية. كانت اللفظة تعني في أوّل الأمر معنى "الاحتجاج" السياسي على السلطة الكاثوليكية والتمرّد عليها، فتحوّلت عند المتهمين أنفسهم إلى "شهادة" دينية منهم على أنّهم لا يخضعون إلاّ إلى سلطة "الكتاب المقدس" وسلطة "الضمير" الفردي، وهو ما أعلن عنه لوثر سنة 1521 أمام المجلس الإمبراطوري في المدينة الحرة وورمز (Worms)، رافضا للسلطة الكنسية، ممّا أدّى إلى تكفيره (excommunication). كان "المحتجّ" اللوثري يتميّز إذن بالمناداة بجملة من المبادئ التي وضعت سلطة الإمبراطورية المقدسة الرومانية في خطر محدق: رفض الوسائط والعلاقة المباشرة بالله من خلال الحرية الدينية أو الضمير الفردي، وفتح معنى الكتاب المقدس أمام العموم في ترجمة عمومية إلى اللغة الشعبية، والمساواة بين البشر كافة. وهذا يعني أنّ ما كان يرنو إليه لوثر هو بلورة نمط جديد من الحكم يمرّ عبر نوع جديد من "مرايا الملوك" تعبّر عنه حسب تعبير ماكس فيبر "دعوى" (Beruf) أو رسالة "الأمير المحتج"[1] و"الكنيسة المحتجة" (حيث تكون "المهنة" عبارة عن "واجب" ديني). لكنّ ما يثير انتباه المؤرّخ هو أنّ "المحتج" اللوثري الذي اكتسح الثقافة الأوروبية، يبدو وكأنّه قد تقلّص بسرعة مربكة في صورة مصطلح "ديني" تمّ تجريده من طاقته "الاحتجاجية" الأصلية، وتجمّد في التصنيف اللاهوتي لحركة "الإصلاح البروتستانتي"، حتى إنّ لفظة "protestant" قد اختُزلت بلا رجعة في دلالة دينية صرفة تشير إلى نوع جديد من "المسيحيين". لقد تحوّل الاحتجاج من "تهمة" (وجّهها الكاثوليك ضد المنادين بالحرية الدينية) إلى شهادة (على مبادئ حرية الضمير) وأخيرا إلى معتقد مغلق (ضمن تصنيف ثلاثي يضم الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذوكس).
وهنا علينا أن نسأل بدورنا: في أيّ تقاليد "احتجاج" تأتي "شعوبنا" أو هذه الجموع الغفيرة راهناً نحو التمرّد على سلطة "دولة الاستقلال" المنهكة باستحقاقات العصر ما بعد الدكتاتوري في القرن الواحد والعشرين؟ هل ثمّة بوادر "أمراء محتجّين" من نوع شرقي؟ نعني: هل يمكن أن نقرأ مناداة المتظاهرين بالحريات الفردية وحرية الضمير والتمرّد على المؤسسات الدينية القائمة على أنّها شكل من "الإصلاح" من النمط "البروتستانتي"؟ ذاك الذي ينجح في تحويل "التهمة" القانونية بالخروج عن الحاكم إلى فضيلة "سياسية"، لتكوين إرادة حكم من نوع غير تقليدي؟ أم إنّ هذه "الجموع" (multitudes) لم تعد لا "جماعة" دينية يمكن صيدها لاهوتيًّا ولا "شعوبا" ما يزال يمكن تربيتها هوويًّا؟ ليست حيرة الحاكم أو رجل الدين بأقلّ حدّة من حيرة الباحث. قال فتغنشتاين مرة: "إنّ العالم هو كلّ ما يقع". لكنّ ما يقع ليس "الأشياء" التي نراها. ثمّة "وقائع" تكسّر الفضاء المنطقي لما نعرفه عن أنفسنا إلى حدّ الآن. وأوّل ضحايا هذا النوع من الوقائع هو الهوية السردية التي تعوّل عليها السلطة القائمة لمعاملة الناس وكأنّهم أشياء عمومية يمكن جمعها أو استهلاكها في أيّ موسم.
يمكن المجازفة بأنّ "ما يقع" من تمرّد علني ومفتوح هو حدث غير تقليدي، لكنّه يدعونا إلى فهمه في نطاق تاريخ مفهوم "التظاهر" المعاصر منذ نشأة الدولة/الأمة الحديثة. هو تمرّد لا يمكن إرجاعه إلى أيّة سردية غير حديثة؛ ذلك أنّ معارضة السلطة هو دوما توقيع سياسي محكم، لأنّه يعكس طبيعة السلطة التي يعارضها في كل مرة. ولذلك لا مناص من كتابة تاريخ مفهوم التظاهر في ثقافتنا الحديثة حتى نقارب قليلا معنى أن تتظاهر "الشعوب" في وقت لم يكن يمكن ترصّده بأيّة وسائل هووية قد تكون الدولة/الأمة قد نجحت في اختبار نجاعتها منذ الاستقلال. كان مفهوم "الشعب" اختراعا هوويا محكما للدولة/الأمة. لكنّ تظاهر "الشعوب" بهذا الشكل غير الهووي قد وضع هذا الاختراع القانوني في خطر محدق.
يشير المؤرّخون، مثلا، إلى أنّ فرنسا لم تعرف قاعدة قانونية تنظّم الحق في التظاهر في الطريق العام إلاّ سنة 1935. قبل ذلك، كانت النصوص نادرة ولا تمنح التظاهر صيغة قانونية؛ مثلا: إنّ إعلان حقوق الإنسان والمواطن إبان الثورة الفرنسية سنة 1789 لا يضمن حرية الرأي أو المعتقد، إلاّ إذا كان "إظهارها لا يعكّر النظام العام الذي يقرّه القانون". لم يكن "الثوريون" يتصوّرون حقا في التظاهر العمومي يمكن أن يتعارض مع النظام العام الذي يقرّه القانون.
ربما علينا أن نسأل: لماذا وصلت "شعوبنا" إلى مناقشة الحق في التظاهر في مرحلة هي بمعنى ما متأخّرة؟ يبدو أنّ معارك "التحرير" (من السلطة الاستعمارية) قد أجّلت معارك "التظاهر" (من أجل الحق في الحياة الكريمة) إلى أجيال أخرى. هذا يعني أنّ احتجاج الجموع ما بعد الدكتاتورية وما بعد الهووية هو لا يقبل الفهم بواسطة معجم كولونيالي، أكان داخليا (سردية الدولة/ الأمة/الوطن المستقلة/الرومانسية المؤسسة على زعيم هووي) أو خارجيا (سردية الدولة/الإمبراطورية التنويرية المؤسسة على التحديث العنيف الذي تحوّل إلى "استعمار لعالم الحياة" الخاص بالشعوب غير الغربية).
علينا أن نتذكّر أنّ مفهوم "الشعب" اختراع حقوقي "حديث" بالأساس، رغم أنّ الرومان كانوا يتحدّثون عن "شعب" (populus) في معنى "جماعة المواطنين"؛ أي الذين يحقّ لهم المشاركة في الحياة السياسية داخل الإمبراطورية. ربما كان هوبز هو من دشّن التفكير الحديث حول هذا المفهوم، عندما ميّز أو افترض تمييزا بين الحالة الطبيعية، حيث لا توجد إلاّ "الجموع" (multitudes) والحالة المدنية، حيث يمكن أن يتمّ نقل القوة من الجموع إلى العاهل من أجل حماية مصالحهم الأنانية، فيتحوّلون من جموع إلى "شعب" (peuple) بناءً على عقد مع "التنّين" (الإله الفاني للسلطة التي تؤسس الدولة الحديثة). وبالتالي، لا يوجد "شعب" قبل العقد السياسي ولذلك هو مفهوم "تمثيلي" بالأساس. - لكنّ ما وقع طيلة القرون اللاحقة هو أنّ ما سمّي "شعبا" في معجم الدولة/ الأمة التي قادت الحداثة السياسية هو قد تحوّل دون علمه إلى مجرّد "سكّان" (population) خاضعة بشكل بيو-سياسي لا يمكن مقاومته. كأنّ كلّ خطة الدولة الحديثة قد كانت من أجل بناء "هويات" فردية أنانية، مغلقة ورقمية، للسيطرة على "السكّان" باسم فكرة "الشعب" الحقوقية التي هي بناء سياسي أو معياري وليس معطى هوويا جاهزا.
توهم فكرة "الشعب" الحقوقية الحديثة بأنّ الناس كافّة "مواطنون"، في علاقة قومية بأنفسهم، تحت مسمّى صلب هو الهوية الوطنية. ولذلك، تمّ انزلاق فكرة "الشعب" بسهولة مذهلة من معجم القانون إلى المفردات الرومانسية عن "الوطن". من هوبز إلى فيشته مثلا كان الطريق سالكا. وفجأة أخذت مقولة "الشعب" تحتوي ضمناً على تخوين مخيف للمواطنين الذين قد يرفضون الانخراط في تصوّر هوويّ لأنفسهم بناء على خارطة التماهي مع الدولة/"الأمة"، ويحرصون في مقابل ذلك، على الوقوف عند واقعة "السكّان" البيو-سياسية. إنّ الفرق بين "الساكن" و"المواطن" هو نفسه موضع ريبة.
ومن المفيد أن نلاحظ أنّ حالتنا الخاصة- حالة "الشعوب" التي أخذت تنتفض في كل مكان من البلدان العربية الراهنة- هي بمثابة ورشة اختبار لفرضية "الشعب" الحديثة، ومن ثمّ لدلالة التظاهر ضد سلطتها؛ بيد أنّه علينا ألاّ نتحاشى الخوض في السؤال البدائي هنا: كيف أصبح الناس عندنا "شعبا"؟ - قبل الحقبة الكولونيالية كان الناس الذين ننتمي إليهم يطلقون على أنفسهم أسماء سردية أخرى، كانوا "عامّة" من المؤمنين، "أمّة" من المسلمين، "جماعة" من "الطائعين"/"الدائنين" حيث الدين هو الطاعة أو البيعة، إلخ... وكان الإسلام (بمفرداته المختلفة) يؤدي دور السردية الكبرى التي التهمت كل السرديات الصغرى وحوّلتها إلى ألعاب هووية تحت الوصاية. لنقل: كان الناس جموعا من المؤمنين "المبايعين" للخليفة أو للأمير، الذين "يدينون" له بالطاعة، ولم يكن ثمّة حاجة واضحة لطرح مسألة التحوّل إلى "شعب". علينا إذن، أن نؤرّخ جيّدًا لتكوّن هذه الحاجة المعيارية الطارئة على ثقافة الملة.
"نحن" (وهذا نفسه معطى هووي يجب مناقشته) لم نعش إذن ذلك التحوّل الذي وصفه هوبز، وصار بمثابة البراديغم السياسي لبلورة مفهوم "الشعب" الحديث. ربما "غير الغربيين" بعامة لم يعرفوا هذا التحوّل "القانوني" في طبيعة السلطة إلاّ متأخرين، نعني في سياق سردية من نوع آخر؛ إذْ إنّ ما كان "حداثة" سياسية في الغرب هو قد وفد إليهم في شكل "كولونيالية" عنيفة لا يجوز أبدا الفخر بوقوعها عليهم، حيث كانوا "موضوع" هيمنة، وليس "ذاتا" سياسية. لذلك، فإنّ الخطاب "الحداثي" (بالوكالة أو بدرجة ثانية) هو تُشتمّ منه دوما رائحة كولونيالية لا يبدو أنّ الثقافة ما بعد الكولونيالية قد تحرّرت منها. إنّ اللغة- لغة التفكير وليس مجرد الاستعمال اللساني- هي لا تزال حاجزا مزعجا. ومن ثمّ، لا يمكن لمفهوم "الشعب" أن يفلت من تلك الرائحة. إنّ "الشعب" مفهوم نشأ في لغتنا السياسية أثناء الحقبة ما بعد الكولونيالية بشكل مستنسخ من معجم الحداثة السياسية منذ هوبز. ولذلك، لا يبدو أنّ "ثورات" الناس تحت شعار "إرادة الشعب" (الذي هو اختراع هووي حديث/كولونيالي) هي قادرة على تحرير الحرية في أفق حيواتنا الجديدة. إنّ تحرير الحرية (أو تحرير الاستقلال المعلن منذ عشرات السنين)، في الفضاء العمومي أو في دائرة الحياة الخاصة، لا يتطلب فقط إنهاء خدمات الحاكم الهووي دون المساس بجهاز الهوية الحديث نفسه، والذي صار يجد، مثلا، في عبارة "الشعب يريد" شعاره ما بعد الدكتاتوري. إنّ المطلوب أكثر من مجرّد تغيير "دستوري" أو "حقوقي" إجرائي فحسب، يعوّض "الحكام" دون تغيير طبيعة "الحكم". إنّ تحرير الحرية هو أكثر المعارك المعيارية تعقيدا مفهوميّا وكلفة ميتافيزيقية.
وحين يصبح مفهوم "الشعب" قيد المراجعة، فإنّ الدولة نفسها لن تتأخّر – إنّ الناس يتظاهرون رغم أنّهم طردوا الحاكم الهووي، وأخذوا يعيشون في حقبة ما بعد- دكتاتورية. تتظاهر "الشعوب" لأنّها تشعر أنّها لم تعد معنيّة بكلّ السرديات العميقة التي كانت تحتكم لها عند ابتكار معنى السكن في العالم الخاص بها. كل سرديات "التعالي" التقليدية (سردية الإله/الملك/الأب) قد تعطّلت أو فقدت شطرا غير يسير من قوتها الإنجازية. نحن نشهد أوّل جيل "محايث" في تاريخ أنفسنا، وهو ليس محايثا لنفسه، لأنّه "متمرّد" على قبيلته أو "كافر" بآلهة مدينته أو "خارجيّ" عن خلافته أو "آبق" عن سيّده أو حتى "مقاوم" لمستعمره، الخ... إنّه محايث في تاريخ غير مسبوق للحرية: تاريخ يدشّن نفسه بمطلب لم يُرفع سابقا، ألا وهو تحرير الحرية من هويّتها المتعالية عليها (هوية الإله/الملك/الأب التي بلغ النقاش حولها اليوم إلى قضايا الجندر بوصفها وقود الثورات في المستقبل). ولذلك، علينا أن نقرّ معنى جديدا للرفض أو لقول "لا" قد أخذ يرسم ملامحه. "لا" موجبة تجاوزت مرحلة التمرد والكفر والخروج على الحاكم أو حتى الاستقلال عن المستعمر.
كل سرديات "التعالي" التقليدية (سردية الإله/الملك/الأب) قد تعطّلت أو فقدت شطرا غير يسير من قوتها الإنجازية
إنّ "المتظاهر" ليس ثوريّا تقليديا ولا هو متمرّد أخلاقي أو وجودي، ولا هو معارض غير منظّم، وليس إرهابيّا نائما ولا عميلا لمؤامرة إمبراطورية...بل هو فقط "متظاهر"، وذلك يعني:
1° أنّه "يظهر"، أي يأخذ شكلا ظاهرا من التعبير عن نفسه أو رأيه. إنّه ليس شبحا سرديّا، لكنّ الظهور هنا ليس محايدا أبدا. وعلينا أن نسأل: كيف خرج معنى "الظهور" أو "الإظهار" السياسي من معنى "الظهر"، عضو الحيوان البشري الذي يعتبره وراءه أو خلاف بطنه؟ كيف أمكن الربط بين "الظهر" (أي ما غاب عنك من الشخص)، وبين "الظهور" (أي الانكشاف على مرأى ومسمع من عين الحاكم)؟ "الظهر" مؤخّر الكاهل إلى أدنى العجز: فهل "نؤخّر" شيئا ما عندما نتظاهر؟ كيف يتظاهر الغاضبون "بالمؤخّرات" البشرية، بالجوانب الغائبة، المتوارية أو الخلفية من أجسادهم أو من أنفسهم؟ من الذي صار بلا وجه هنا؟ المتظاهر أم الدولة الهووية؟
2° لذلك، ثمّة معنى ثان للتظاهر: فإنّ ما "يظهر" ينكشف أمره، "يُفتضح"، إذ يمكن للظهور أن يكون نوعا من الفضيحة. ولكن لا يمكن أن يفتضح إلاّ ما تمّ إخفاؤه أو تأجيله طويلا. لذلك، فإنّ ما يظهر هو دوما جزء خفي من نفسه، هو مشهد يخفي ظهره؛ لعبة إخفاء لا يمكن السيطرة عليها مسبقا، هي يمكن أن تنزلق وراء حضورنا الوجهي؛ فالسلطة لعبة وجهيّة تتعطّل هنا. إنّ الظهور يمكن أن يكون قناعا لا يخفي شيئا أو حفلة تنكّرية تعطّل هوية الحاضرين لعلّها تظفر بتذوّتٍ لا يتماهى مع أحد؛ يعني التظاهر عندئذ إظهار ما ليس موجودا، التنبيه إلى أنّ جبّة الهوية فارغة من أهلها منذ وقت طويل.
3° لا يمكن حصر التظاهر في الحضور المادي للكتل البشرية كأنّها جاءت، كي تؤثث المكان دون أن تمسّ بماهيته. التظاهر ليس تشيّؤا، بل هو استعمال للأجساد بوصفها قوة إنجازية. من يظهر في فضاء "عمومي" تحت سيطرة الدولة، يجعل من مجرّد الجسد أو الكتلة "اللحمية" شكلا من التعبير عن معنى ما لا يمكن قوله بشكل "إداري". التظاهر يعطّل المجتمع/الإدارة، ويفتح الطريق نحو الإفصاح عن سخط ظل صامتا، لأنّه ليس وثيقة يمكن تسليمها إلى المعني بالأمر. ولذلك، فإنّ المشاركة في مظاهرة هو عمل إنجازي دون أن يكون ذلك محصورا في فعل لغوي. إنّ المظاهرة مفاوضة تشكيلية بين "الخروج" و"المكان": من يخرج إلى الساحات الحرة، يستعمل المكان بوصفه وسيلة تعبير عمّا لا يُقال إلاّ بواسطة الأجساد. إنّ الأمر يتعلق باستعمال إنجازي للأجساد للتعبير عن فعل معياري يتخطى مجرد اللغة. إنّ التظاهر مفاوضة سائلة أو علاقة مبهمة ومخاتلة بين "الظهور" (في معنى الحضور العلني) و"الإظهار" (في معنى كشف الخفايا وفضح المسكوت عنه) من أجل المشاركة في "مظاهرة" من أجل إنجاح عمل إنجازي هو "المشهَدة" (enactment) أو الإخراج الركحي لأجساد ساخطة. لذلك، فإنّ التظاهر هو استعمال علني "للظهور" (جمع ظهر) بوصفه "وجوها" غاضبة على فضيحة ما آن أوان إظهارها.
إنّ المتظاهر الذي يجوب الساحات هو مواطن بلا مضمون؛ نعني بلا مضمون هووي، إذْ حين تفرغ الدولة/الأمة من مضمونها الهووي الذي وعدت به إعلانات الاستقلال والأناشيد الوطنية والدساتير هي تتحوّل فجأة إلى صدفة قانونية خالية، أو إلى ثقب أسود يمتصّ "السكان" ويلفظهم في شكل "شعب" بلا مواطنين. وحين يكون التظاهر ممارسة لمواطنة بلا مضمون، فإنّه يتحوّل إلى "حدث" تشكيلي، إلى "أثر فنّي" بواسطة الأجساد: مرح لا يرجو شيئا من أية جهة، إذْ لا معنى لتظاهر حزين.
[1]- Cf. Naïma Ghermani , «La vocation du prince protestant», in: Chrétiens et Sociétés, Numéro spécial II/ 2013, pp. 17-32