لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟
فئة : مقالات
لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟([1])
6- الإسلامويّة.. هل هي رد فعل على الغزو الثقافيّ الغربيّ؟
د. وائل صالح
لم تكن حركات الإسلام السياسيّ وحدَها في معركة الحفاظ على الخصوصيّة الثقافيّة للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة في مواجهة الغزو الثقافيّ الغربيّ، بل كانت التيّارات القوميّة والليبراليّة واليساريّة تخوض المعركة ذاتها. الأكثر أهميّة - وهو ما يحاول هذا المقال توضيحه - أن “الآخر” بالنسبة إلى الإسلامويّة لم يكن هو الغرب - كما يروّجون - بل كان - ولا يزال - هو أصحاب اتجّاهات التنوير والعقلانيّة الذين أكدّوا على الاستقلال الثقافيّ والحضاريّ مع تأكيدهم على الفصل بين الدّين والدولة في الوقت ذاته.
منذ تأسيسها عام 1928 والإسلامويّة تدّعي أن الإسلام في خطر، وأنّ دورها هو حماية هذا الدّين المهدّد، لذا فمن الباحثين الغربيّين المتعاطفين مع الإسلامويّة من يرى أن الإسلام السياسيّ هو هويّة مجتمعيّة معارضة للاستعمار، وأنها رد فعل مشروع على محاولة استلاب الهويّة الحضاريّة-الثقافيّة من قِبَل المستعمر الغربيّ السّابق، لذا فجُلّ الدّراسات الغربيّة تنشغل بتحليل خطاب الإسلامويّين - دون غيرهم - حول الغرب.
نستطيع القول إن قضيّة تمثّلات المسلمين من غير المنتمين لفكر الإسلام السياسيّ نادرًا ما يتمّ تناولها في الأدبيّات الغربيّة، فكما أن هناك تيّارا يطابق بين الإسلام كدِين، وبين الجماعات الإسلامويّة، ويعتبر الأخيرة هي الممثل الوحيد للإسلام، متجاهلا تيّارات أخرى مهمّة على الساحة الإسلاميّة، كتيّار التصوّف وتيّار التجديد العقلي …إلخ. لذا، فهذا التيّار لا ينشغل بتحليل خطاب الإسلامويّين حول الآخر المسلم غير الإسلامويّ مروّجاً أنها رد فعل هويّاتي إسلاميّ مشروعٍ ومتفهّم تجاه محاولة استلاب الهويّة الحضاريّة-الثقافيّة الإسلاميّة من قبَل المستعمر الغربيّ السّابق.
يتجاهل هذا التيّار أنه بتحليل النصوص المؤسّسة للإسلامويّة يتبيّن دون الكثير من الجهد أن ”الآخر الكبير ”The big Other، بمفهوم المحلّل النفسيّ الفرنسيّ جاك لاكان، والذي يعني ”الغيريّة الراديكاليّة التي لا تختزل إلى أي تماه خياليّ أو ذاتيّ”، هو المسلم العاديّ غير المنتمي لفكر الإسلام السياسيّ وليس المستعمر الغربي السابق. وكما يوضّح لنا الكاتب والمفكّر المصري صلاح سالم في كتابه “الأساطير المؤسّسة للإسلام السياسيّ” إن الهويّة المغلقة للإسلامويّة التي تقوم على افتراض أن نقاء الإسلام يتطلب نقاء الهوية الحضارية، لا يؤدي فقط إلى اعتبار أن كل تفاعل ثقافيّ أو حضاريّ بين الحضارة الإسلاميّة والحضارات الأخرى هو تشويه للإسلام، ولكن أيضا يؤدّي لمنع أيّ تفاعل مع الأشكال الفكريّة الأخرى للإسلام الموجودة داخل هذه الحضارة نفسها، ويؤدّي ذلك إلى عزلة شبه كاملة، سواء مع الحضارة البشريّة أو مع المسلمين الآخرين.
لذا نلاحظ أن الخطاب الإسلاموي يقوم ببناء صورة ذهنيّة للمسلم غير المنتمي للإسلام السياسيّ، باعتباره “آخر مُعاد ومرفوض”؛ وذلك من خلال عمليّة عقليّة تصل إلى حد تنميط المسلم غير الإسلامويّ؛ فالإسلامويّة - كبقيّة الطوائف الدينيّة - تقوم على تأسيس “تماسك بنيويّ” بين المنتمين إليها من أجل فرض منظورها للدّين على أعضائها أوّلا، ثم على الآخرين من المسلمين العاديّين ثانيا، قبل أن تفكّر في الغرب وخطابه، حيث يجري من جهة إظهار تميّزها واختلافها وأحقيّتها، كما يجري من جهة أخرى وبالتوازي تشويه الآخر المسلم غير الإسلاموي، وبالتأكيد يجري استغلال الموروث من أجل ذلك.
هنا يتحوّل التمايز والاختلاف إلى عداء وجوديّ ومعرفيّ ينعكس في صورة تعاملات استعلائيّة تصل إلى حد العنصريّة تجاه الآخر المسلم.
فعلى سبيل المثال، يصنّف مؤسّس الجماعة حسن البنا المسلمين على حسب ردود فعلهم الأوليّة تجاه الجماعة إلى أربع فئات: مؤمن ومتردّد ونفعيّ ومتحامل، ثم ينتهي بالجزم أن من يظلّ منهم يعادي الإخوان فهو عدو لله، فيوسف القرضاوي - ولفيف كبير من منظّري الإسلامويّة - يقسّمون المسلمين من غير الإخوان إلى ستة أنواع: ”أولئك الذين يعارضون “دعوة” الإخوان، إمّا يتجاهلون حقيقتها؛ أو أنهم عملاء لقوى معادية للإسلام وأمته، إما أنهم عبيد الفكر الغربيّ أو أسرى فلسفته، أو أنهم وجدوا في دعوتنا عائقا أمام سرقاتهم وامتيازاتهم، وإما أنهم وجدوا في دعوتنا عائقا لرغباتهم المحرّمة.
أولئك الذين يعارضون دعوتنا يعارضون الإسلام، لكنهم أذكياء جدًّا أو جبناء جدًا لعدم قول ذلك بشكل صريح، خوفًا من الكشف عن حقيقتهم، فهم يدّعون أنهم مسلمون بحملهم أسماء مسلمين، لكنهم معادون للإسلام، إنهم لا يريدون أن يحكم الإسلام، وأن تحكم الأمّة العالم، وأن تعود الدولة الإسلاميّة من جديد، أما من يعارض تلك الدعوة من العلماء المسلمين من غير الإخوان فهم “علماء السلطة أو وكلاء الشرطة”.
وترسّخ وتعزز النصوص المؤسّسة للإسلامويّة صورة ذهنيّة سلبيّة للمسلم غير الإسلامويّ في الذهنيّة العامّة للإسلامويّ؛ فهو على مستوي علاقته بالغرب (خائن، وكيل الغرب، يسيطر عليه الغرب، غربي الهوية، عبد للغرب وأفكاره، أداة للمؤامرة الغربيّة) وعلى مستوى أخلاقيّاته (فاسد ومنحل)، وعلى مستوى علاقته بالدّين الإسلاميّ (ملحد، معادي للدين، ضدّ الإسلام، معاد للمشروع الإسلامي، ضدّ القيم الإسلاميّة، لا مرجعية إسلاميّة لديه، علمانيّ وعلماني راديكاليّ).
هذا “التماسك البنيوي” في خطاب الإسلامويّة حول المسلم العادي يقوم على موروث الإسلامويّة كطائفة لها تفسيرها الخاص للدّين الإسلامي الذي يصرّ على ربط الدّين بالمشروع السياسيّ، يستهدف فرضه بوصفه سلطة سياسيّة بعد أن يكون قد حوّله إلى سلطة أيديولوجيّة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بالشحن ضد الآخر المسلم غير الإسلاموي، الذي هو أكبر عقبة في طريق تسيّده ومصادرته للدّين بالكليّة بتحويل رؤيتهم له إلى مطلق يحلّ محلّ الدّين.
في المقابل تشبّع الإسلامويّة حاجة منتسبيها إلى إسلام قادر على تقديم إجابات بسيطة وفوريّة في عالم بالغ التعقيد وسريع التغيّر بتثبيت كل ما هو متغيّر بطبيعته، فتتألّف إسلامويّة الإخوان المسلمين على سبيل المثال من قائمة راسخة من القناعات العقائديّة غير القابلة للنقاش، والتي يلتزم بها مؤيّدوها بشكل حرفيّ فهم “أصحاب الإسلام الحقيقيّ”؛ لأنهم يتوافقون معه بل يجسدونه، لذا فالسلطة المعياريّة لهم دون غيرهم، فالإسلامويّة - من وجهة نظرهم - هي الإسلام والإسلام هو الإسلامويّة.
في هذا الإطار، تسعى الإسلامويّة حتى إلى القضاء على التعدديّة الفقهيّة المتوارثة في التاريخ الإسلامي، كما طالب سعيد رمضان في كتابه Islamic Law, Its Scope and Equit بدعوى أن المسلمين ليسوا في حاجة حقاً إلى التفرّق في مدارس فقهيّة مختلفة.
في أوساط هذه الجماعات الإسلامويّة القائمة على فكرة التمييز الديني لأعضائها عن المسلمين الآخرين، وفكرة الشعور بالتهديد من الداخل من قبل المسلمين “الزائفين”، كما يرونهم، يصبح كل إسلامويّ مناضل من أجل الإسلام، وهو الوصيّ والمسؤول الوحيد عن الإسلام الحقيقيّ، كما يصبح كل مسلم “غير إسلامويّ” هدفاً لكل أشكال العنف الرمزيّ والبدنيّ والازدراء والتعصّب والإقصاء، لذا يمكننا أن نؤكّد أن هذا الآخر المسلم “غير الإسلامويّ” هو نتاج عمليّة مزدوجة لبناء الأنا لدى الإسلامويّ واستبعاد الآخر المسلم “غير الإسلاموي” من الإسلام.
إن تحليل الخطاب الإسلامويّ حول الهويّة والأنا والآخر يُظهر لنا العديد من الانحرافات التي يمكن أن نصفها بأنها طائفيّة بامتياز:
1- تقديس المؤسّس لدرجة أن يأخذ مكان الرسول ولو بطريقة غير مباشرة.
2- لا إسلام خارج “الإسلاموية” (فكر الإسلام السياسي)؛ فالإسلاموية لا تقدم نفسها على أنها جزء مما هو موجود في الإسلام من تيّارات، لكنها ترى نفسها كتجسيد وحيد للإسلام. إنها تمثّل الإسلام بشكل حصريّ، فمن خلال الإسلامويّة وحدها يمرّ خلاص الإسلام والإنسانيّة اليوم، إنه إسلام مواز في الواقع.
3- تقدييس المعاناة، أو السعي الدائم “للكربلائية. ”
4- العزلة الشعوريّة، فلا يخرج الإخوان من مجتمعهم فكريّا إلا للدعوة أو لتجنيد المسلم العادي لصالح الإسلامويّة.
5- الحوار النقدي الجاد حول نمط تديّن الإسلاموي غير وارد.
6- الحرص على استخدام مفردات خاصة بهم والعمل على نشرها، إما بخلق كلمات جديدة، أو بتغيير معنى الكلمات الشائعة.
خلاصة الأمر، الهويّة الإسلامويّة قائمة قبل كل شيء على تعريف الآخر، المسلم غير الإسلاموي، وليس على تعريف المستعمر الغربيّ السابق كرد فعل مشروع لمحاولة استلاب الهويّة الحضاريّة-الثقافيّة كما يدّعي بعض المتعاطفين في الأكاديميّة الغربيّة مع الإسلامويّة.
وبما أن مفهوم الهويّة لا يمكن فصله عن مفهوم الآخر الذي تستمد الهويّة شرعيّتها منه (كما يُؤكّد لنا Patrick Coli في مقاله «Identité et altérité»)، فإننا نلاحظ أن أكثر أشكال الآخر تنظيرا لكراهيّته وشن الحرب عليه في الإيديولوجيّة الإسلامويّة هو المسلم “غير الإسلاموي” - وليس العرب - لأن وجوده في حد ذاته يشكّك في أن الإسلام هو الإسلامويّة.
[1] نشر هذا المقال أوّلا ضمن سلسلة المقالات الصادرة على موقع أصوات أونلاين.