لماذا لا يتنازلون عن كراسيهم؟
فئة : مقالات
لماذا لا يتنازلون عن كراسيهم؟
آلان دو بوتون مفكّكا حرص الإنسان على المكانة الاجتماعية
يوسف هريمة
في بعض الأحيان أو الكثير منها، ونحن نحاول أن نفكك سعي الإنسان إلى المكانة نصطدم بحرصه الشديد على أن يخلد نفسه في المنصب، أو المسؤولية، أو المهمة الموكولة إليه، دون أن يفسح المجال للآخرين، أو يمنح لنفسه التزحزح من مناطق الأمان، والوفرة، والغنى إذا كانت هذه المسؤوليات من الصنف الذي يتيح لصاحبه المكانة المرموقة، والجاه المرتقب. ليس الحرص وحده من يثير فينا التساؤل إلى حد الاستغراب، فهذا الأمر لا مناص من إنكاره، ونحن ضحايا هذه العقلية التي تؤمن بأن المكانة الاجتماعية لا يمكن أن يتبوأها الإنسان دون أن تكون له القابلية للتمسك بكل ما يضمن له هذه الحظوة، والمعبر عنها اجتماعيا بـ "الكرسي". لكن ما يثير الاستغراب حقا، وربما ما يثير فينا الرغبة في الفهم أكثر لهذه الظاهرة هو هذا القلق الذي يعتري أي واحد منا في سعيه الدؤوب إلى المكانة الاجتماعية، أو لنقل بتعبير أدق خوفه الدؤوب من الفشل في مجاراة قيم النجاح التي يضع لها المجتمع قوالب جاهزة، وأنماطا ثابتة في تعريف الحظوة الاجتماعية؛ أي الخوف من أن ننحدر إلى حيث نكون في أسفل سلم الترتيب الاجتماعي وأدناه، فتدهسنا عيون الآخرين ووقاحتهم.
تذكرنا هذه المعضلة الاجتماعية بما تحدث عنه علي حرب في كتابه الإنسان الأدنى، حين قال إن مشكلة البنية الفكرية للإنسان هي أنّها تستبدل أشياء بأشياء. فبالرغم من أنّ المشكلة ليست في أنْ نزيح الله لكي نقدِّس الإنسان، أو أنْ نتاجر بالحقيقة بدلاً من الشّريعة، أو نؤلّه الليبرالية بدلاً من الاشتراكية، أو نتعبّد بالديمقراطية في مواجهة الأنظمة الديكتاتورية. المشكلة بالأساس تتلخّص في منطق التّقديس والتّبجيل للأشياء والذّوات؛ فهو الذي يولِّد فينا كلّ هذا الاستبداد والاستلاب، والخراب الذي نعيشه. غالبًا ما ندخل نفق القلق والحزن بإرادتنا، حينما نسلم أنفسنا لأحكام وآراء الآخرين. لكن السؤال الملحّ هو لماذا نسمح لآراء الآخرين أن تحول بيننا وبين تقديرنا لذواتنا؟ هل من المعقول أن يسلم المرء نفسه لتقديرات غالبا ما تكون ممن لا يستحق أن يصدر فيك حكما؟. ولمعرفة حجم هذا المأزق النفسي والفكري صاغ شوبنهاور هذا السؤال: أيمكن لعازف الموسيقى أن يشعر بالإطراء أمام تصفيق جمهوره واستحسانه إذا ما كان يعلم أن كل جمهوره باستثناء واحد أو اثنين من الطرش؟.
القلقُ هو الشّيء الوحيد الذي قد يحيل حياتك إلى جحيم، إلى عذابات تُنهي وجودك النَّفسي. فما الحلّ؟ أو بالأحرى كيف نقلِّل من حدّة هذا الألم؟. في فبراير عام 63 أقيمت دعوى قضائية على صديق لسينيكا كادت تنهي حياته العملية وتشوه اسمه بالمطلق، فأرسل إلى صديقه سينيكا يطلب العون، ويتحرَّى الحكمة، فردّ عليه الفيلسوف: "قد تتوقّع أنّني سأنصحك بتخيّل نتيجة سعيدة، وأنْ تستسلم لإغراءات الأمل. ولكنّي سأدلُّك على راحة بالٍ عبر طريق آخر: لو أردتَ نفضَ كلَّ القلق، تخيَّل أنّ ما تخشى وقوعه سيقع فعلاً.". قلقنا ونحن نسعى إلى المكانة، والموقع، والرتبة الاجتماعية نابع من الخوف ألا نكون ناجحين في نظر الآخرين، ألا نحظى بإعجابهم، أو تحتضننا ابتساماتهم وكلماتهم. إنه قلق على ما نعتبره إنجازات لنا، وإحساس مبالغ فيه على أهمية ودقة مشاريعنا، واهتماماتنا، وربما خصوصياتنا. المشكلة هي أننا نشعر بأن كل شيء سيتبدد ويزول، ولكن مع كل ذلك يتحول هذا الشعور بالأهمية إلى مساحة نتعذب فيها كل حين، وكأن أفكارنا المثالية، أو إدراكنا السامي لجدية أعمالنا هي مجرد عقوبة لزيف توقعاتنا.
ألا نكون تحت أنظار الآخرين وعيونهم شعورا لا يقاوم، يحبط أكثر الرغبات احتداما للطبيعة الإنسانية. لكن لماذا؟. يجيبنا آلان دوبوتون في كتابه "قلق السعي إلى المكانة" بأننا مبتلون بانعدام اليقين والثقة تجاه قيمنا الخاصة. فمثلا إذا أضحكت الناس نكاتنا زادت ثقتنا في القدرة على الإضحاك، وإذا امتدحونا تولد لدينا الانطباع بكفاءتنا، وإذا ما تحاشوا النظر إلينا أحسسنا بالمهانة والضجر. فماذا يعني كل ذلك؟. إنه ببساطة يعني أن فكرتنا وتصورنا على أنفسنا مثل بالون يسرِّب، فنحن بحاجة دوما إلى هيليوم المحبة الخارجية كي يبقى منتفخا.
لكن ما الذي يثير فينا هذا القلق؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يمكننا الاعتماد على مجموعة من الفرضيات التي اعتمدها آلان دو بوتون موضحا مثيرات هذا القلق، وصعوبته، وربما خطورته إذا لم يتعايش الإنسان بشكل إيجابي مع وضعه الاجتماعي:
- من بين المثيرات الأساسية للقلق على المكانة الاجتماعية هو نجاح الآخرين، أو فشلهم، وحركة الترقيات بين الأقران داخل الوظيفة الواحدة، التقاعد، واختلاف المهمات، وأحاديث الزملاء فيما بينهم مع قدرة كل واحد منهم على إثبات أحقيته وجدارته بمهمة ما، أو منصب ما. كما أن الإعلام يلعب دورا حاسما في تقديم النماذج الناجحة التي تثير في الإنسان الغيرة والحسد، فيسعى كل واحد للبحث في نفسه عن النموذج، أو المثال. وهذا كله يجعل الإنسان يعيش دراما داخلية رهيبة تمنحه الرغبة في البحث عن ابتسامة هشة، أو وقفة في الحديث إلى فلان أو علان علها تلفت إليه أنظار الآخرين، أو تقربها منه.
- مصدر الهم في تطلعنا إلى فقدان موقعنا الاجتماعي نابع من أننا نعتمد في تقييم أنفسنا على ما يراه الآخرون لا ما ينبع من دواخلنا، وباستثناء أفراد نادرين مثل سقراط وغيره، فإننا نستند إلى علامات الاحترام الصادرة من الناس لكي نتقبل ذواتنا.
- مشكلة المكانة الاجتماعية هي معضلة مركبة؛ لأنها تتوقف على ما نستطيع تحقيقه، وهذا الأمر يبدو صعبا، فقد تصادفنا في هذه الحياة مجموعة من العراقيل التي تفشل حركتنا، إما بسبب ظروفنا الاجتماعية والاقتصادية، أو بسبب مكائد الآخرين وحسدهم وحقدهم.
- ومن كل هذا القلق والحنق، تتولد المهانة؛ أي نظرتنا الدونية إلى ذواتنا؛ أي إننا نصبح ضحايا ذلك الوعي الحارق بعجزنا عن إقناع الآخرين بقيمتنا، ومن تمة يحكم علينا بالنظر إلى الناجحين في هذا المجال أو ذاك دون رأفة أو شفقة.
ü افتقاد الحب:
كلّ الذين تاهوا عن الحب جاعوا، هو اليد الذي تجرح، لكنه اليد الذي تشفي، ولكن أصحاب الكهوف لا يعلمون. ألم تسمع لجبران، يقول: "كلنا تهنا ولكن لم نر من تيهنا إلا القافلة ونسينا الطريق"؛ معنى ذلك أن كل ما يحدد حياة الفرد داخل مجتمعاتنا اليوم كما يؤكد آلان دو بوتون هناك قصتان كبيرتان منذ تفتق لحظة الوعي الأولى للكائن البشري خلال مسيرته الطويلة؛ القصة الأولى: هي قصة سعيه نحو الحب الجنسي، وهي قصة معروفة على مدار التاريخ الإنساني، ولأجل ذلك تأسست العلاقة الاجتماعية بما في ذلك الزواج. أما القصة الثانية، فهي قصة سعيه وراء حب الناس له، وتلك عقدتنا. بين القصة الأولى والثانية حكاية طويلة، ففي الأولى تتحقق ذواتنا. أما في الثانية، فتنتهي ذواتنا حينما تلتهمها أحكام الآخرين. غالبا ما نجهد أنفسنا كي نبدو للآخرين في أحسن صورة، وربما قد نتجاوز حدود طبيعتنا كي نغيظهم أيضا. نحن مسكونون بهذا الآخر حد الجنون. ما يهم في كل هذا هو أن ما نفعله ينبغي أن يكون في اتجاه معكوس أي اتجاه الذات. ولنا في الخراف مثال كما تؤكد الحكمة الرواقية، فهي لا تقيئ أكلها حتى ترى الرّعاة كم أكلتْ. فكلّ ما تأكلًه تحوّله إلى لبن أو صوف. كذلك نحن مطالبون بأنْ لا نظهر كلّ شيء، ومن أجل أيّ شيء. بل يجب أنْ تتحول هذه الأشياء إلى أفعالٍ بعد أن يتمّ هضمها.
ما يؤكد أننا ضحايا هذه النزعة التحقيرية لمكانتنا داخل المجتمع، والتي تجعل من كل واحد منا مستعدا أن يضحي بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ على امتيازاته، ومصالحه، ومكانته الاجتماعية هو أننا نريد أن نبقى تحت أنظار الآخرين، وموضع عنايتهم. فالرجل الغني يعتز بثروته؛ لأنها هي التي تجعله إنسانا محترما داخل نسقه الاجتماعي. أما الفقير فيكره فقره، لأنه لا يحقق له ذلك. يخرج الفقير ويدخل دون أن ينتبه إليه أحد، أو يكلمه أحد، أو يلتفت إليه أحد. وفي المقابل يحقق الغنى لصاحبه كل الحظوة والشهرة، والمحبة. ويزداد الأمر تعقيدا حينما نؤكد بأن الارتقاء الاجتماعي بالنسبة إلى إنسان غير مرتبط بما يحققه من امتلاك بعض السلع، أو بعض الأشياء المادية المتعارف عليها اجتماعيا من منازل فخمة وسيارات. ولكن الارتقاء الاجتماعي بشكل كبير نحققه حينما نفوز بقلوب الآخرين، وأن نكون محط إعجاب لعيونهم، أو أقلامهم، أو ابتساماتهم.
يعطينا هذا الانطباع بأننا أمام ظاهرة فريدة وربما وحيدة ينفرد بها الكائن الإنساني عن غيره من الموجودات، تجعله في طليعة الباحثين عن قلوب الآخرين ومحبتهم. فالمشهورون داخل المجتمع الذين يحظون بالمكانة الاجتماعية المرموقة، واللائقة غالبا ما يسمون بـ "الأعلام" وغالبا ما يكونون ممن يمارسون السياسة في أبعادها المختلفة، أو من ذوي السلطة والجاه والمنصب الرفيع. وفي مقابلهم يجلس "النكرات" ينعون حظهم العاثر. وبالرغم من أن الوجود الإنساني يجعل كل فرد منا ذاتا متميزة عن الآخر لها ما لها وعليها ما عليها، إلا أن سلطة المجتمع القهرية تجعل الأعلام والنكرات مجموعتين متصارعتين في صراع أبدي ينحو بالأعلام إلى التمسك بكل ما من شأنه أن يطيل ويديم هذه المكانة، وينحو بالنكرات إلى السعي الدائم والدؤوب نحو المكانة الاجتماعية. المشكلة أن النكرات في سعيهم إلى هذه المكانة يتولد لديهم الشعور بالنقص أو الحقد أو الحسد على الآخرين. شعور يلازمهم فيظنون من خلاله أنه لولا لعنة الظروف لكانوا أفضل مما هم عليه. لكنه يزداد كلما تعرضوا لمنجزات حققوها من هم مساوون لهم في الدرجة والرتبة والمكانة الاجتماعية. ولكي نفهم الأمر بشكل أوضح نورد مثالا أورده آلان دو بوتون مفاده أننا لو كنا قصار القامة مثلا، ولكننا نعيش بين أناس لهم نفس القامة، فهنا لن تشغلنا مسألة الحجم بشكل مطلق. ولكن إذا نما أحد أفراد مجموعتنا، حيث صار طويلا نسبيا منا فحينئذ نشعر بالضيق والحرج والنقص. فماذا يعني كل هذا الأمر؟ إنه يعني أننا ننجح في ألا نحسد جميع الناس، ولكننا نخفق في حسد أولئك الذين نعتبرهم أشباها لنا، أي أندادنا المزعومين، فنارهم لا تطاق.
ü الغطرسة:
في بداية نضجنا وتدرج نمونا تحديدا في طفولتنا لا أحد يكترث بما نفعل، أو نقول، أو نسلك، يمكننا أن نلفظ الطعام من أفواهنا، أو نمشي عراة في شوارع حينا، أو نصرخ بأعلى صوتنا، أو نضع فضلاتنا في أي مكان دون أن نشعر بأن هناك من يراقبنا أو يحاسبنا. بل على العكس هناك الكثير من الناس من سيتفهم سلوكياتنا، ويمسح على رؤوسنا، أو يبتسم لمشاكساتنا. لكن كل ذلك سينتهي في الوقت المحدد له؟ فمتى يتم ذلك؟. تنتهي هذه الحالة المثالية بمجرد أن ننهي تعليمنا، ونضطر أن نتخذ موقعا يسيطر عليه شخص مختلف عن أمهاتنا أو آبائنا أو أقاربنا، ومسلكه نحونا يقع في صميم قلقنا بشأن مكانتنا الاجتماعية. إنه الشخص المتغطرس؛ أي ذلك الشخص الممتعض من افتقار الآخرين إلى المكانة الاجتماعية، فهو يؤمن بالتوازن بين المكانة الاجتماعية وقيمة الفرد كإنسان. وكي نفهم جيدا موضوع الغطرسة يكفي أن نستدل على ذلك بمثال يتحدد من خلال المراد، فمن السهل تحديد لحظة دخولنا نطاق أحد المتغطرسين. فقد تواجه دوما بسؤال: ما عملك؟ وبناء على إجابتك تتحدد مكانتك الاجتماعية، وشكل سلوكه اتجاهك اهتماما أو إعراضا.
لكن ما مشكلة الغطرسة وما علاقتها بالمكانة الاجتماعية؟
إننا نعيش في عالم مليء بالمتغطرسين، عالم يقدس ويبجل المكانة الاجتماعية إلى حد يصعب فيه الانفصال، لهذا نتساءل دوما، وربما نستهجن سلوك سياسي أو مثقف أو موظف لا يريد أن ينفصل عن الكرسي الذي يحقق له المكانة، أو الانتباه، أو الحظوة. وبما أننا نعيش في عالم بهذا الشكل، فإن رفقتنا أو محاذاتنا واحتكاكنا مع المتغطرسين يشعرنا بالغضب والتوتر، أي شعورنا المضاعف بمقدار ضحالتنا ودونيتنا تجاه الآخرين. لهذا حتى أوقح المتملقين لن يصرح برغبته في تكوين صداقة بناء على الانجذاب لمسائل مثل الشهرة أو السلطة. لكن المشكلة ونحن نحاكي ونسعى إلى المكانة الاجتماعية قد نتحول أيضا إلى متغطرسين. فكلنا أو جلنا أو بعضنا حينما نشعر بأننا مهمَلون بوقاحة، يزداد تعطّشنا إلى أن نلفت أنظار من يهملوننا، أو نحظى بإعجابهم، أو مديحهم، أو حبهم... فنتحول بصورة درامتيكية إلى متغطرسين أصابتهم العدوى ليتسلّوا بتحقير الآخرين.
هذا المشهد الكاريكاتوري نقلته المجلة الفكاهية بنش سنة 1882، حيث تعلن الابنة لأمها وهما تسيران في الهايد بارك، قائلة: "ماما ها هم آل سبياسر ويلكسوس، سمعت أنهم يتحرقون لمخالطتنا. أليس من الأفضل أن نبادرهم بالحديث؟ فأجابتها الأم: بالطبع لا يا عزيزتي إذا كانوا يتحرقون لمخالطتنا فهم لا يستحقون ذلك، إن الأشخاص الذين يستحقون مخالطتنا هم من يعرضون عنا.".