لماذا نبكي؟ أو في تخليـد الهشاشـة الإنسانيـة
فئة : مقالات
يبكي الإنسان -الإنسان على إطلاقه- ثلاث مرّات في حياته:
1- مرةً يوم ولادته أسىً ومرارةً على انتقاله من العَدَم على الوجود. [بكاء البصر]
2- مرةً ثانية يوم مماته، فرحا وسعادةً بانتقاله من الوجود إلى العَدَم. [بكاء البصر]
3- الثالثة تستمرُ من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت. [بكاء البصيرة أو البكاء الفلسفي]
البكاء الأوّل ذاتي واقعي، يمكن تحسّس مائه الدّافق من عينين مُسبلتين لوليدٍ جديد لا زال غضّ الإهاب، فأول شقشقة له خارج رَحِم أمه يقترن بالبكاء، فالانتقالة التي ينتقلها من الداخل الآمن إلى الخارج القاسي، تستلزم بكاءً حقيقياً في الواقع العيني. لكن سيقترن هذا البكاء الذاتي بنوعٍ من الضحك الغيري، ففي الوقت الذي يبكي فيه وليد جديد، انتقل من عَدَم جزئي، ومعه بكى كل من أتى لهذا العالَم، احتجاجاً على العَدَم الجزئي الذي انتقلوا منه إلى هذا العالَم؛ ثمة من يضحك على هذا البكاء. فبإزاء قسوة هذا العالَم وإحداثياته التي تقهر الإنسان المرة تلو الأخرى، يستلذّ الإنسان الموجود بولادة طفل صغير، وهو ما يمكنني الاصطلاح عليه بـ (مرحلة البحث عن شريك في الألم).
البكاء الثاني بكاء غيري واقعي، يمكن تحسّسه والقبض عليه ساعة يموت ميت، إذ يشرع أحبته أو أصدقاؤه بالبكاء عليه، نظراً لانتهاء دوره في هذا العالَم. وإذا كان من ميزة لهذا البكاء فهو بكاء مُخاتل، غير صادق في أعماقه، لأنه لا يُراعي ألم الإنسان المُطْلَق، بقدر ما يُراعي ألم الإنسان الفردي. فالباكي في تلك اللحظات يبكي، لأنه فقد إنساناً كان يُعاني معه ضنك هذه الحياة، فهو يبكي ذاته بالأحرى، نظراً لبقائها هُنا والآن، بكل تبعات البقاء هذا، وهو ما يمكنني الاصطلاح عليه بـ (مرحلة خسارة الشريك في الألم).
البكاء الثالث غير مرئي، عصيٌ على الإمساك، ينزح ناحية الداخل فيجرح عضلة القلب، لذا يكون أكثر حزنًا وفظاعة، فالإنسان يكون شاهدًا -رغمًا عنه- على مأساة وجوده في هذا العالَم. فهو إذ يبكي -البكاء يتجلّى بالوجود في الزمن والمكان، فطالما هو على قيد الحياة فهو في بكاء دائم- فإنه يبكي الإنسان المُطْلَق، لذا يأخذ هذا البكاء طابعاً ملحمياً، لأنه يطال البشرية جمعاء. وإذا كان لي أن اصطلح على هذا النوع من البكاء، فإني اصطلح عليه بـ (مرحلة الكَبَد في الألم).
وعليه، فالبكاء الأول والثاني هو من اختصاص (البصر)، في حين أن البكاء الثالث من اختصاص (البصيرة).
بلغة أخرى، ثلاث مراتب للبكاء الإنساني، تؤكّد الطابع الحزين لوجود الإنسان في هذا العالَم:
- مرتبة البحث عن شريك في الألم.
- مرتبة خسارة الشريك في الألم.
- مرتبة الكَبَد في الألم.
وكما أسلفت، فقد اقترنت المرتبتان: الأولى والثانية من مراتب البكاء الإنساني، ببكاء العيون. فثمة قدرة على ضبط الإنسان مُتلبساً، وهو يبكي ساعة الولادة أو وهو يبكي بالإنابة ساعة الموت. وثمة قدرة أيضا على معاينة هذا النوع من البكاء عبر رؤيته أو لمسه أو سماعه أو تذوقه حتى.
ففي البكاء الأول، يتجلّى الإنسان على المستوى الذاتي تجليه الأول في هذا العالَم وهو يبكي، فهو يفقد بكارة عَدَمه الجزئي، وإن كان متموضعاً في العالَم من قبل على المستوى الإمكاني. فأمّه التي تحمله بين أحشائها موجودة في العالَم؛ أي أنها خارج العَدَم، فهو موجود بالإمكان طالما أنه سيولد لاحقاً. والأمر ذاته ينطبق على أمّه وأبيه وجدّه وجدّته، ووالد جدّه ووالدته جدته، وصولاً -بالتقدّم ناحية الخلف- إلى الخليـة الأولـى، والتحقّق في العَدَم الكُلّي، إذ لا أحد موجود، وبالتالي لا وجود لبكاءٍ على الإطلاق.
لكن الأمر، ليس كذلك الآن، في لحظة الولادة. فالإنسان موجود فعلاً في الواقع العياني، لذا يبدأ بالبكاء، وهذا البكاء بحدّ ذاته سيكون مثار ضحك من قبل من يشاهدون أو بالأحرى يعاينون حادثة الولادة، لأنهم حصلوا على شريك جديد، سيشاركهم رحلة الألم. ففي الظاهر يبدو ضحك الناس على ولادة مولود جديد، نوعاً من الفرح والسرور، وهذا ما هو قارّ إلى حدّ كبير في أمزجة الناس. لكن في الحقيقة، يتأتّى هذا الضحك كنوعٍ من التسلّي بمأساة المولود الجديد وقدومه إلى العالَم. فحجم الألم الذي تعانيه الذات الضاحكة، وهي ترى مولوداً يبكي ساعة قدومه إلى الحياة، يجعلها تُمْعِن في الضحك، لأنها حصلت على شريكٍ في رحلة الألم. فلسان حال الضاحك على بكاء المولود: دعنا نتشارك عناء الحياة وقسوتها، فَبَدَل أن أبقى لوحدي في هذا العراء، دعنا نتشارك تفاصيل معاناة الوجود في الحياة.
البكاء الفلسفي غير مرئي، عصيٌ على الإمساك، ينزح ناحية الداخل فيجرح عضلة القلب، لذا يكون أكثر حزنًا وفظاعة، فالإنسان يكون شاهدًا على مأساة وجوده في هذا العالَم.
وفي البكاء الثاني، يتجلّى الإنسان على المستوى الغيري تجلّيه الأخير في هذا العالَم وهو يبكي، نظراً لأنه فَقَدَ شريكاً كان يُعينه على ضنك هذه الحياة. فالإنسان إذ يبكي لحظة الموت - بطبيعة الحال سيتأتى بكاؤه هَهُنا عبر ذاتٍ أخرى تبكي نيابة عنه- فإنه يبكي تأكيداً لأنانيته التي فقدت شيئاً كان يُحقّق لها جزءاً من مصالحها طالما هو على قيد الحياة، والآن إذ يموت فإن هذه الذات الأنانية تبكي مصالحها المفقودة، لا مصلحة الميت من حيث هو كذلك.
أما المرتبة الثالثة من مراتب البكاء، فقد اقترنت ببكاء البصيرة أو بكاء العقل، فهو بكاء غير منظور، لذا هو أشدّ فتكاً وقهراً للإنسان، لأنه يصل إلى المنابع التي قامت عليها فكرة الحياة برمتها. فثمة صرخة في الداخل -رغم كل تمظهرات الحياة- صرخة هائلة تصدح بصوتٍ في رأس الإنسان: لماذا وُجدتُ على الإطلاق؟. فهو إذ يعاين من جهة ويعاني من جهة ثانية من كَبَد الحياة، فإنه يبكي -وجوده بحدّ ذاته بكاء- بكاءً مؤلماً، قاسياً، مؤذياً. وقد كان لشاعرٍ عظيم مثل المتنبي أن يُؤطّر هذا البكاء بإطار جمالي صادم ساعة قال في مطلع قصيدته:
بِمَ التعلّل؟ لا أهلٌ ولا وطن ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ
ثم أتبعها ببيتٍ هائل شفَّ عن عمق فلسفي كبير:
أريدُ مِنْ زمني ذا أن يُبلّغني ما ليس يبلغه من نفسه الزّمنُ
وقد كان لـ "أبي حيان التوحيدي" أن يُوظّف البيت الأول من قصيدة المتنبي في إشاراته الإلهية، ساعة تحدّث عن غربة الإنسان في هذا العالَم إذ قال:
"وقد قيل الغريب مَنْ جفاه الحبيب، وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغالف عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نُودِي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب. فإن كان هذا صحيحاً، فتعالَ حتى نبكي على حالِ أحدثت هذه الغفوة، وأورثت هذه الجفوة:
لعَّل انحدارَ الدَّمعِ يُعْقِبُ راحةً من الوَجْد أو يشفى نَجِيَّ البلابل
يا هذا! الغريبُ من غربت شمس جماله، واغترب عن حبيبته وعذّاله، وأغرب في أقواله وأفعاله، وغرّب في إدباره وإقباله، واستغرب في طِمِره وسِرباله. يا هذا! الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، ودلّ عنوانه على الفتنة عُقيب الفتنة، وبانت حقيقته فيه في الفينة حدَّ الفينة. الغريب من إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه. أما سمعت القائل حين قال:
بمَ التعلُّل؟ لا أهلٌ ولا زمن [وطن] ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ"[1]
ففاجعة الوجود هُنا والآن، وما يرافقها من ضنك وتعب وألم يمتدّ بين ميلاد وموت، تجعل الإنسان دائم البكاء على المستوى الداخلي. فهو في حيرة دائمة ليس من مقتضيات وجوده العياني وتمظهراته في الواقع، بل من وجوده بحدّ ذاته، سواء ما تعلّق منه بالسبب الأول الذي قام عليه وجوده، أو بتلك الغايات التي قام معمارها على ذلك السبب. فالإنسان يبكي، مُستخدماً أداة عقله، بكاءً فلسفياً. فعيون بصيرته -وإن كانت تنظر إلى الداخل أكثر من نظرها للخارج كما عيون البصر- تتلمّس فاجعة الوجود، وتمثلاتها المأساوية في هذا العالم، لذا هي دائمة البكاء؛ من المبتدأ إلى المُنتهى؛ من لحظة الميلاد إلى لحظة الموت. فالحرج الكبير الذي يضطلع به العقل لحظة معاينة الأنماط البدئية التي قام عليها الوجود عموماً، وما يرافق هذا الحرج من عجزٍ ليس في إدراك السبب الذي انبنى عليه العالَم فحسب -كما أسلفت- بل والغايات التي رسمت اقتضاء لواقع هذه السبب، يجعله في بكاءٍ دائم. فالحيرة التي تصيب العقل، عند لحظتي الوجود المُطلقتين: لحظة السبب الأول والغاية القصوى؛ تجعله حزيناً أبداً. فالدموع مهراقة من عيني عقله، لأنه عاجز عن الوصول إلى يقين أخير يحمي عقله من وجعه الأبدي، ويجعله يركن إلى هدوءٍ نهائي، يُوقف سيل الأسئلة التي تعصف بكلّ الإجابات التي اشتغلت عليها السرديات الكبرى، وحاولت تعميمها -طوعا/ كرها- في عقول الأتباع والمُريدين.
وفي تداعيات هذا البكاء، أمكن رصد جملة من الإشكالات لهذا النوع من البكاء أمكن تجسيدها في بؤرةِ القلق الإنساني بإزاءِ موجوداته الفيزيقية ووجوده الميتافيزيقي، وتشابكات واشتباكات هذا القلق بثلاثية:
1- الإله. 2- الإنسان. 3- العالَم.
فالإجابات التي أُنْجِزَت من قبل البشرية عن هذه الثلاثية العريقة، ليست مُقنعة -في لحظات البكاء الفلسفي العظيم- لعقلٍ فردي، حارَ واحتار مع موجوداته الفيزيقية ووجوده الميتافيزيقي. فدموع عقله القلق، تبحث عن مَخارج لهاتِهِ المداخل التأسيسية في الذهن البشري، لذا يبقى باحثاً عن ضوء بشكل دائم، علَّه يركن إلى هدوءٍ يُطفي ظمأ تساؤلاته، ويُهدّئ من روعه الأنطولوجي على المستوى الذهني. لكن أنَّى له ذلك؟ إذا ما عرفَ قدرة هاتِهِ الثلاثية على التحوّل الدائم والمستمر في عقله، اقتضاء لواقع تطوّره المعرفي، فما كان عليه في طفولته غير ما كان عليه في مراهقته، وما كان عليه في مراهقته غير ما سيكون عليه في شبابه، وما سيكون عليه في شبابه غير ما سيكون عليه في شيخوخته. لذا تبقى الدموع، دموع العقل، هطّالة أبد الدهر. فاللغز الكبير الذي يحيط بوجوده، يُوتّر المآقي الداخليـة ويجعلها مُتحفّزة للبكاء مع كلّ تساؤل ينطرح بإزاءِ البدايات الأولى والنهايات القصوى، وما حاف بهما من لحظاتٍ مُؤرّقة ومؤلمة.
ولربّما راودت الإنسان -واعياً بذلك أم غير واعٍ- لحظات يتمنّى فيها أن ينتهي بكاء عقله، ويُوقف سيل الأسئلة المُهلك. وقد يتحقّق له ذلك إذا ما اندمج في نسقٍ يقيني، يكون بمثابة الكابح لسيلِ الأسئلة التي تجعل العقل في حالة سيلانٍ دائم. وقد حدث للإنسان ذلك، فصارَ لزاماً عليه -اقتضاء لحيثيات تلك الأنساق اليقينية- أنْ يطمئن، ومع هذا الاطمئنان، جفّت دموع عقله، فتحوّل من حالة الحزن الوجودي إلى حالة الطمأنينة السيكولوجية. وعليه، فقد تآكلت عيون عقله إذ جفّت منابعها وتحوّلت إلى أنقاض، بعد أن كانت ضاجّة بالصخب والحياة. لكن هذا الحدوث الذي أوقف النبع العقلي من التجلّي عبر بكاءٍ فلسفي لا يفتأ يهطل مدراراً عبر طرح الأسئلة الجريئة والشائكة نظراً لانسجامه أساساً مع قلق إنساني عارم تجاه الوجود وموجوداته؛ لم يمنع الإنسان -حتى ذلك الذي تأبَّدَ في أنساق يقينية راسخة- من الحنين إلى حُزنه الوجودي، نظراً لانسجام هذا الحزن مع مقتضيات وجوده القَلِق والمُتوتّر ابتداءً، فهو في تنامٍ دائم، لا في ثبوتٍ راسخ. ولربما راودت أرسخ الموقنين صحوات استيقظت فيها عقولهم، أو شقشقت فيها بالأحرى عيون عقولهم، فنزلت الدموع مهراقة، وهي تسأل وتتساءل عن مدى جدوى تلك الأنساق اليقينية، التي حاصرت القدرة العقلية للإنسان -رغم منحه اليقين والقدرة للتوقّف عن البكاء حُزناً على وجوده هنا وهناك؛ فيزيقياً وميتافيزيقياً- وجعلته يتقهقر وتتقهقر قوته الفاعلة في الوجود الزمكاني. فتلك الحاجة إلى بكاء العقل، وتعالقه الاشتباكي مع ثلاثية: (1- الإله/ 2- الإنسان/ 3- العالَم) عبر سؤالٍ مُتنامٍ؛ هي حاجة وجودية بالدرجة الأولى، وما تلك الأنساق الثابتة والراسخة، التي تتحايل على العقل عبر إيقاف منابعه الداخلية، إلا من باب ذرّ الرماد في العيون. فقديماً، حديثاً، ومستقبلاً، سيكون البكاء المعنوي، بكاء العقل، ميزة خاصة للإنسان في هذا العالَم، فهو إذ يبكي مثل هذا النوع من البكاء، فإنه يؤكد على طابعه الحزين في هذا العالَم، فوجوده مقترن ابتداءً بنقصٍ شديدٍ، أو بالأحرى بجفافٍ شديد، عند نقطتي الوجود المُطْلقتين: نقطة البدء الأولى/ السبب الأول/ العلّة الأولى/ العماء البدئي/ الهيولى الصفري/ الله/ الربّ/ يهوه...إلخ. ونقطة النهاية القصوى، الغايات الميتافيزيقية، المآلات المستقبلية. لذا، فهو دائم البكاء، فعيون العقل لا تفتأ تنظر إلى الوجود الإنساني نظرة حرّى، تتبعها بزفرةٍ كبرى تطال الوجود من ركنه إلى ركنه، ستتجلّى هذه الزفرة على هيئة بكاء فلسفي مدرار. إذ كان أسلم للإنسان أن لا يُوجَد على الإطلاق، فالعَدَم مأثرة كبرى، رَحِم هائل يمكن أن يُحتمَى به كنوعٍ من الحماية الذهنية من التواجد الحقيقي في هذا العالَم المؤلم.
البكاء الفلسفي أو بكاء البصيرة أكثر إنسانية من بكاء البصر، لأنه يبحث عن حلٍّ جذري لمشكلة الوجود الإنساني.
وعليه، فالبكاء الثالث، بكاء البصيرة أو البكاء الفلسفي، أكثر إنسانية من البكائيين: الأول والثاني، لأنه يبحث عن حلٍّ جذري لمشكلة الوجود الإنساني؛ أي أنه يتجاوز إحداثية الذات الأنانية التي تتجلّى في البكاء الأول والثاني بكاءً نرجسياً، سواء في لحظة الميلاد أو لحظة الموت، فالذات الباكية لحظة الميلاد بكاء ذاتياً، تبكي ذاتها في الأعماق ولا تبكي الإنسان المُطْلَق؛ أي أن ثمة ما يشوب هذا البكاء في تجليّه الأخلاقي. والذات -مرة أخرى- إذ يبكي بكاءً غيرياً لحظة الموت فإنها تبكي ذاتها في الأعماق ولا تبكي الإنسان المُطْلَق، أي ثمة ما يشوب هذا البكاء في تجليّه الأخلاقي أيضاً. أما البكاء الثالث، فهو بكاء الذات الملكومة على الإطلاق، لأنها تتجاوز إحداثية القهر الوجودي في تمظهراته العينية من ميلاد وموت، إلى ما قبل الميلاد على الإطلاق وإلى ما بعد الموت على الإطلاق. فالذات إذ تبكي بكاءً عقلياً، فإنها تتمثل المأساة في وجودها العميق، وتسعى إلى استنطاق صرخة: لماذا وجدنا على الإطلاق، أو لماذا وجدت على الإطلاق؟ استنطاقاً دائماً، يذكّر الإنسان بحزنه الأزلي الدائم.
[1] أبي حيان التوحيدي، الإشارات الإلهية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، مطبعة جامعة فؤاد الأول، القاهرة، 1950، ص ص 81- 82