لماذا ندرس ظاهرة الإرهاب؟
فئة : مقالات
اليوم؛ وفي الحقبة المعاصرة من العولمة هناك تخمة من الرطانة والكليشيهات حول الإرهاب بشكله المشوش المختلط دون تميز بين الإرهاب كظاهرة إنسانية، ومكافحة الإرهاب.
وإذا كانت وسائل الإعلام المعولمة قد شوّهت حقيقة هذه الظاهرة بشكل عام من خلال ضخها المستمر في ساحة هذا الفضاء المشوش، تحليلات وتعليقات سطحية وإيديولوجية وانطباعات شخصية؛ فإن الأكثر غرابة في المشهد هو حجم التزييف والخداع الذي يمارسه بعض المعلقين والأدعياء من الخبراء والمحللين الذين يدّعون "معرفة بليلى"! وأنهم خبراء وباحثون وأكاديميون في مجال الإرهاب، حتى أصبح هذا الحقل الحديث من المعرفة الإنسانية نهبا ومشاعا للجميع؛ يتحدث وينظر فيه الجميع: أفرادا وجماعات ومؤسسات دون علم ولا معرفة ولا ضوابط.
من أهم جوانب تعقيد وشواش دراسة الإرهاب المعولم يعود في الأساس إلى ماهية الإرهاب ذاته جهة اختلاطه بالكثير من المعارف الإنسانية والتخصصات العلمية القارة في منظومتنا المعرفية
ونحن هنا لا نقصد أن يكون هذا الحقل من الدراسة حكراً على فئة دون غيرها؛ فالمعرفة الإنسانية يجب أن تكون محايدة ومشاعٌ للإنسانية، لكننا ندعو إلى أن يسهم في هذه المعرفة المختصين فقط، وأن يُحترم هذا الحقل من المعرفة كغيره من حقول المعرفة الإنسانية.
ومن المؤكد اليوم بأن حقل دراسة الإرهاب في كافة دول العالم يخضع لسيطرة الدولة - حتى لا نغالي ونقول مملوكا للدولة - بمعنى أن الدولة كصاحبة القوة القهرية التي تسن القوانين وتسيطر على الفضائين الخاص والعام هي التي تسيير عملية الدراسة والاهتمام بالظاهرة من خلال امتلاكها على آليات المراقبة والمعاقبة والسلطة التأديبية، و"حاضرة في أكثر الأشياء هامشية" حسب ميشيل فوكو([1]).
إن الدولة المعاصرة في كل دول العالم؛ تراقب وتسيطر على حقل الإرهاب (كظاهرة ومكافحة) بشكلٍ حثيث، كما لو أنها تراقب أبحاثها السرية في المختبرات البيولوجية والجرثومية والمفاعلات النووية. وتمارس أقصى درجات السرية في التعامل مع الجانب العملي من مكافحة الإرهاب بعدم كشف أية معلومات تهمّ القضايا الإرهابية وملفات الإرهابيين والجماعات الإرهابية، وتعتبره من أسرار الدولة والأمن الوطني، خاصة الدول التي ابتُليت بشرور الإرهاب وهي كثيرة جدّاً، ذلك أن "مؤشر الإرهاب العالمي" (GTI) لعام 2018 م الذي يصدره "معهد الاقتصاد والسلام" The Institute for Economics & Peace (IEP)، أشار إلى تعرض (77) دولة من أصل (163) دولة يشملها المؤشر في العالم للإرهاب([2](.
وأعتقد بأن هذا السلوك من الدولة ما زال عائقاً أمام تقدم البحث والدراسة في مجال الظاهرة بشكل عام، وهو يساعد في نشر الشواش والفوضى الموجودة على الساحة حالياً، وسهل على مُدّعي الخبرة والدراية بالتسلل إلى قلب الظاهرة والعبث بها كما نشاهده عبر وسائل الإعلام المختلفة.
جانبٌ من أهم جوانب تعقيد وشواش دراسة الإرهاب المعولم يعود في الأساس إلى ماهية الإرهاب ذاته جهة اختلاطه بالكثير من المعارف الإنسانية والتخصصات العلمية القارة في منظومتنا المعرفية من الاقتصاد إلى الذكاء الاصطناعي. يضاف إلى ذلك عدم الاتفاق بين المتابعين والدارسين على تعريف محدد للإرهاب. وهناك اتفاق كبير بين منظري وباحثي ظاهرة الإرهاب على أن التعريف المتفق عليه يبدو مهمة مستحيلة، ومن غير المناسب الانشغال بمسألة التعريف الآن، وبخاصة أن من يعتبر إرهابيا، قد يعتبره آخرون مقاتلا من أجل الحرية.
وزاد في تعقيد الأمر، أن الإرهاب يُنظر إليه عادة، من زاوية الكره والرفض له؛ بمعنى غياب النظرة العلمية في الدراسة، والإغراق بعيداً باتجاه الجوانب الإيديولوجية والأخلاقية للظاهرة.
حتى وإن كان معظم الباحثين في أدبيات الإرهاب العالمي يؤكدون بأن الإرهاب هو شكل من أشكال العنف السياسي، ويعود ذلك إلى الجذور التاريخية للمفهوم التي تعود إلى "فترة الرعب" التي رافقت الثورة الفرنسية. كما أنه أسلوب من أساليب الصراع، ويمكن أن يشكل استراتيجية خاصة للقائمين به. وهذا ما يمكن أن نلاحظه حالياً من سلوك وممارسات جماعات الإرهاب المعاصر، سواء القاعدة أو داعش أو جماعات اليمين المتطرف في الغرب، حيث تجذّر الإرهاب، ليكون الأداة والوسيلة الوحيدة للدعاية والتجنيد ونشر الأفكار والإيديولوجيا لدى القائمين عليه من هذه الجماعات.
في نفس الوقت؛ نلاحظ بأن باحثين مهمين للظاهرة، مثل المؤرخ والمنظر الأمريكي المعروف في أدبيات الإرهاب والعنف السياسي / ولتر زئيف لاكوير (Walter Ze'ev Laqueur) يجادلون بأنه مهما كان تعريف الباحثين للمفهوم، فإنه سيُرفض من بعضهم لأسباب أيديولوجية "وبأن الصفة الرئيسة للإرهاب هي اشتماله على العنف، والتهديد باستخدام هذا العنف"([3]).
لقد كانت دراسة ظواهر الصراع، ومنها الإرهاب مشكلة تواجه الباحثين في علم الاجتماع والعلاقات الدولية والعالمية، كما أن قِصَر عمر الدراسات في هذا المجال "بخاصة استخدام المناهج النقدية والكمّية حال دون قدرة الباحثين على إعطاء إجابة شافية" وتبقى المشكلة هنا متمثلة في صعوبة جمع المعلومات عن الظواهر الصراعية كالإرهاب، وهي صعوبة أكبر مما يحاول بعض الباحثين أن يصوّرها([4]).
ولذلك، فليس من السهل على الباحثين استعراض الأدبيات التي تبحث حقل الإرهاب، لأنه حقل يتميز بتداخل كثير من حقول المعرفة معه، مثل: علم الاجتماع، الدين، علم النفس، العلوم السياسية، الاقتصاد، والتكنولوجيا، الأمر الذي عقد من دراسته، ثم زاد من هذا التعقيد قلة الدراسات المتخصصة بالظاهرة.
كذلك فإن الإرهاب؛ كغيره من المفاهيم مثل الحضارة، والعولمة والثقافة، والعنصرية، والقومية، والجنس والعرق، ومعاداة السامية، والإسلاموفوبيا كلها مفاهيم من نتاج الحداثة (الأوروبية) بعد عصر التنوير والثورة الصناعية وما تبعها من تطورات وتداعيات متسارعة شكلت المنظومة المعرفية لأوروبا والغرب المعاصر.
وأقصد بذلك القول بأن هناك فصلا واختلافا كليا في معنى مصطلح الإرهاب في السابق، والمراد به ومآلاته، والإرهاب الذي نعالجه ونعاني منه في الحقبة الحالية من العولمة.
ومن هنا يأتي الاختلاف الدائم في تعريف الإرهاب ومحاولة تفسيره، لأن المنظومات المعرفية وشبكة الأفكار تختلف بين الناس على العموم، وهو ما ينعكس على الخبراء والدارسين بأشكالٍ مختلفة ومتعددة، وأحياناً متضاربة.
ولذلك يقول عالم النفس الإنمائي التطوري الأمريكي (جيروم كيغان) - وهو محق في ذلك - "إنّ معنى أية جملة بالنسبة إلى المتحدث والسامع يتحدد وفقاً للأمور الفعلية التي يتحدثان عنها، في ضوء شبكة الأفكار التي تصدر عنها الجملة"([5]).
ومن هنا تبدو مسألة الاتفاق على تعريفٍ محدّدٍ لمفهوم الإرهاب من المستحيلات. ولذلك، فإن أهم الباحثين في أدبيات الظاهرة دعوا للخروج من هذا المأزق المعرفي والسياسي بصراحة إلى التركيز ليس على مسألة التعريف؛ بل على التفريق بين الإرهاب وغيره من أشكال العنف السياسي.
هناك اختلافات كثيرة بين دراسة "الإرهاب كظاهرة إنسانية" رافقت الإنسان منذ بدء الحضارة، وبين "دراسة مكافحة الإرهاب" كأساليب وتكتيكات وإجراءات على المستويين الفكري والعملي
وأعتقد بأن فائدة هذه المقاربة في أدبيات الإرهاب هي أن كل تعريف يُعتمد من قبل أيّ باحث يُفترض أن يخرج بنتائج مختلفة تفيد البحث العلميّ للظاهرة، وما يقابلها أو يرتبط بها من ظواهر، أو اتجاهات راهنة، ومستقبلية وتساعدنا كمجتمع عالمي في مسألة فهم هذه الظاهرة وإيجاد الحلول المناسبة للحد من خطرها ومكافحتها.
ونؤكد بأن أهمية تعريف الظاهرة ليس بهدف معرفة الفعل الإرهابيّ وتحديده فقط، بل لمعرفة كيفية التعامل مع تبعات الظاهرة، وهذا ما يستدعي للتذكير بأنّ التعريفات الغربية، والأمريكية، تنظر إلى الإرهاب "كأسلوب من أساليب الحرب التقليدية، أو حرب العصابات، أو المتمردين".
ولذلك، يمكن ملاحظة أن الرد عليه تكون من خلال ممارسات "مكافحة الإرهاب"، والتي تتميز باعتمادها المقاربات الأمنية والعسكرية الخشنة، ابتداءً من التدخل العسكري إلى القصف الجوي إلى استخدام "الطائرات بدون طيار" حتى الاغتيالات والتصفيات الفردية.
على العموم؛ يمكن القول بأن هناك اتفاقا بين الدراسين على أن دراسة الإرهاب على أنه حقل مستقل للدراسة، لم تنل اهتماماً كبيراً في العالم، إلا بعد هجمات تنظيم القاعدة بتاريخ 11/أيلول/2001، ضد أمريكا، التي أدت إلى ثورة في حركة البحث والكتابة والتأليف والترجمة حوله، حتى وأن تميزت في غالبيتها بالسطحية وقلة اعتمادها على المصادر الأولية والدراسات الميدانية والكمية، والكثير منها كان موجهاً وتسيطر عليه وتموّله الدول؛ ولذلك يغلب عليها طابع السوق الرأسمالي و"تحليل المخاطر" ضمن تكتيكات مكافحة الإرهاب والرد السريع، وليس الدراسة العلمية لجذور وأسباب الإرهاب ودوافع الإرهابيين وأهدافهم الحقيقية والأيديولوجيات والمنظمات المعرفية التي تحركهم.
في النهاية؛ نؤكد أنّ هناك اختلافات كثيرة جدّاً بين دراسة "الإرهاب كظاهرة إنسانية" رافقت الإنسان منذ بدء الحضارة الإنسانية، وبين "دراسة مكافحة الإرهاب" كأساليب وتكتيكات وإجراءات على المستويين الفكري والعملي. نحن ندرس الإرهاب كظاهرة إنسانية كي نستطيع فهمه وتفسيره والوقوف على أسبابه وأهدافه والقائمين عليه وتأثيره المباشر وغير المباشر في الحاضر والمستقبل على الحياة ومستقبل الإنسانية.
[1]- محمد أمين بن جياللي (2016). ميشيل فوكو وسؤال السلطة من الاختزال إلى التشظي؛ نحو فينومينولوجيا تأويلية للسّلطة وإضافة المفكر به في السياسة. مؤمنون بلا حدود، https://www.mominoun.com/pdf1/2016-06/michelfokou.pdf
[2]- The Institute for Economics & Peace (IEP) http://visionofhumanity.org/app/uploads/2017/11/Global-Terrorism-Index-2017.pdf
[3]- Walter Laqueur, (1999) The New Terrorism: Fanaticism and the Arms of Mass Destruction, New York: Oxford University Press, p. 6
[4]- دورتي، جيمس وبالستغراف، روبرت، (1985)، النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية، ترجمة وليد عبدالحي، كاظمة للنشر والترجمة والتوزيع، الكويت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، ص ص 145-146
[5]- جيروم، كيغان (2014) لثقافات الثلاث: العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانيات. في القرن الحادي والعشرين ترجمة: د. صديق محمد جوهر، لمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت، سلسلة عالم المعرفة، ص14.