ليلة القدر وسرّ الكمال في الزمـن
فئة : مقالات
"إنّا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (3) تنزّل الملآئكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (5)" [سورة القدر: ج 30]
ليلة يترقبها الناس في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، بوصفها الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم، ويُوصف رمضان بأنّه هو شهر التنزيل لقوله تعالى: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان" (البقرة ج 2/ من الآية 185). فإذا كان صريح القرآن قد حدّد الشهر، فقد أراد الناس تحديد اليوم، ليحدّدوا توقيت الليلة المباركة وليترقبوا قدرها.
قال بعضهم إنّه اليوم السابع من شهر رمضان، وقيل السابع عشر، وقيل الثامن عشر، ورجّح الشيخ (صفي الرحمن المباركفوري) في بحثه المعاصر والحائز على الجائزة الأولى لمسابقة السيرة النبوية التي نظمتها رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة أنه اليوم الحادي والعشرون من شهر رمضان ليلاً والموافق العاشر من آب/ أغسطس عام 610م، وكان عمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ آنذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر و12 يوماً.[1]
لدينا الشهر محدّداً برمضان، ولدينا الليلة محدّدة بالحادي والعشرين منه، وهي ليلة وترية، أحادية الترقيم، تأتي ضمن العشر الأواخر من شهر رمضان التي سنّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها سُنّة الاعتكاف في المسجد الحرام، حيث يأتي المحرم، فيطوف حول البيت المحرّم كالسموات سبعاً، ثم يودّع البيت طائفاً كالأرضين سبعاً، ويقبّل الحجر الأسود قبلة (عهد) ما بين السموات والأرض، حيث موقع الحجر الأسود في الركن.
هناك حيث يُسدل الإحرام على الجانب الأيمن، ليبقى الصدر مكشوفاً وفيه القلب، وحيث لا غطاء على حواس الرأس سمعاً وبصراً. وحيث لا نعل في القدمين. كلها تجليات الحواس والقلب مفتوحة للتلقي في المكان المبارك بانتظار الليلة المباركة، وهذه كتلك التي كانت لموسى عليه السلام في الوادي المقدّس، حيث خلع نعليه واستجاب لكلمات الله بحواسّه وقلبه: "فلما أتاها نودي يا موسى (11) إنّي أنا ربك فاخلع نعليك إنّك بالوادي المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى (13)" ( طه ج 16).
ليلة القدر يترقبها الكثيرون في الليلة الوترية، وجرى مألوف القول على إضمار النيات الطيبة، والآمال لعلًها تتحقق حين تكون الاستجابة، والسعداء هم من يستيقظون على تباشير الاستجابة، أولئك ينعم الله عليهم في ليلة القدر، ومنها جرى مألوف القول على كل ذي حظ عظيم، وأصبحت مضرب الأمثال.
في لسان العرب المحيط للعلامة ابن منظور (630 ـ 711 هـ)[2] يرد تفسير القدر بأنه الحكم مستمداً المعنى من سورة الدخان: "حم (1) والكتاب المبين (2) إنّا أنزلناه في ليلة مباركة إنّا كنا منذرين (3) فيها يفرق كلّ أمر حكيم (4)" (ج 25). فهي تشير لقضاء الأمر ثم فرقه أي الكشف عنه وتفصيله وإظهاره. وتربط الآية بين فرق الأمر الحكيم وهو التنزيل وليلة القدر المختصة به، فهنا إشارة واضحة إلى التوقيت المنضبط بقدرية زمانية ومكانية صارمة، فلا يتأخر حكم التوقيت للتنزيل ليلة ولا يتقدم ليلة، فما هو سرّ التوقيت في تلك الليلة القدرية؟
لا يكون التوقيت قدرياً إلاً في حال الكمال زماناً ومكاناً، هكذا من بعد سنوات، بدأت بمولد موسى ثم تربيته لدى آل فرعون، وصراعه مع شيعتهم، ونصره لشيعته، ثم هروبه إلى أرض مدين، ثم تائهاً مع أهله في الصحراء حتى آنس ناراً، فخوطب عندها: "إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقرّ عينها ولا تحزن وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى" (طه ج 16 ي 40). فمنذ يوم ولادته وسياق حياته وقدر موسى يرتبط بتلك الليلة المتوهّجة بنارها في طور سيناء، فالتوقيت محكوم زماناً ومكاناً (ثم جئت على قدر يا موسى).
هكذا قرآن أنزل في ليلة القدر، حكم فيها التوقيت والمكان، ليلة قدر جاءت على قدر، ولكنها (خير من ألف شهر). وهنا تحتار الحجى، إذ كيف تمضي من منطق الليلة إلى منطق الشهر؟ فقيل ليلة القدر خير من ألف شهر؛ أي ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولكن كيف بقول آخر، إنّ قدر الأمر سعته وما يحتويه فتكون "ألف شهر" هي ما يسع تلك الليلة، فهي في مقدارها سعة ألف شهر، وهكذا يتحدّد عمقها في الزمان والمكان... ليلة بألف شهر، تتحكم في قدر ألف شهر.
ولكن... أيّ ألف شهر؟ فالشهر يكون مباركاً من مثله، وليس بين شهور السنة شهر باركه الله أكثر من رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فسعة ذلك الشهر القدري الذي أنزل فيه القرآن يمضي لألف رمضان من بعده، أي ألف عام، فرمضان لا يأتي إلا مرة واحدة في العام، والأمر يماثل بمثله، فخير من ألف شهر، إنّما تشير إلى خير من ألف رمضان مماثلة لرمضان التنزيل، فتكون السعة القدرية خيراً من ألف عام.
ثم تكون الحيرة في مغزى ألف عام من ليلة التنزيل المباركة وعامها (610م)، ونهايتها (1610م)، وتلك سنوات شمسية، فإذا أخذ بالقمرية كان لنا حساب كحساب أهل الكهف: "و لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً"(الكهف /ج 15 / ي 25). ففي مائة (سنة) شمسية تكون الزيادة لمعادلة العام القمري (3) سنوات، وتنقص حين يرجع الحساب للشمسية. فالألف من الأعوام القمرية بداية بعام (610م)، إنما تنتهي في عام (1580م) وذلك هو التوقيت الألفي الذي فقد فيه العرب خلافتهم على المسلمين ومركزيتهم في المنطقة، وتولى الأتراك الأمر من دونهم، فكأنّ تلك اللحظة القدرية من ليلة التنزيل المبارك قد حطت هذه الأمّة على سعتها الزمانية والمكانية ألف عام قمري، ألف شهر من شهور رمضان المبارك حتى تحول الأمر لغيرهم، ثم دخل عليهم الإسرائيليون الباب المقدس في القدس في نهاية القرن الهجري الرابع عشر.
ليس في تقدير التوقيت بحكم الآيات القرآنية المكنونة كهانة أو لهو؛ فالرقم الوتري كليلة القدر يحمل حكم الكمال الزمني، من الواحد إلى العشرة إلى المائة إلى الألف. هكذا كان كمال الزمان لدى نوح عليه الصلاة والسلام: "ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان، وهم ظالمون" (العنكبوت / ج 20 / ي 14). إنها ألف (سنة) لبثها فيهم، والسنة من السنه التي تشير إلى ما يتسنه من طبائع الأشياء بحكم متغيرات الشمس وانعكاساتها، فهي دلالة السنة الشمسية، غير القمرية التي يشار إليها بالعام. فنوح لبث فيهم ألف سنة ثم جاء استثناء الخمسين عاماً، فالخمسون عاماً لم يلبثها فيهم داعياً لهم إلى الله لأنّ الله سبحانه قد أخبره بأنه لن يؤمن له إلا من قد آمن، فهي فترة صناعة الفلك والسخرية المتبادلة بينه وبين قومه، فكما سخروا منه كان عليه الصلاة والسلام يسخر منهم، حتى أكمل بناء الفلك وجاء الطوفان، فمتى كان توقيت الطوفان؟
هنا تحديد قرآني، الخمسون عاماً القمرية تنقص عن الخمسين عاماً شمسياً العام والنصف. فالطوفان قد حدث قبل إكمال الألف بعام ونصف فقط؛ أي أنّ الطوفان قد حدث في نهاية النصف الثاني من المائة الأخيرة من الألف سنة (998,5).
وكذلك يوم الحج، لا يكون الوقوف في عرفات إلا من بعد ظهر اليوم التاسع من ذي الحجة، ومن بعد الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وتشير هذه القرينة الزمنية؛ أي اكتمال ألفية نوح، واكتمال عشرية الحج، إلى مهبط فلك نوح نفسه، فقد مضى رائد الفضاء الأمريكي ( جيمس أيروين) يبحث عن مهبط نوح في جبل (أرارات Ararat) في أقصى تركيا على الحدود مع إيران والاتحاد السوفياتي، وتلك كانت محاولة (أيروين) الرابعة منذ عام 1982. وقد ساقه لفظ التوراة إلى ذلك المكان الموهوم (أرارات) والحقيقة أنّ جبل المهبط لنوح ليس سوى (عرفات)، ليس القول هنا ينبع من مظنة التشابه بين الأسماء، ولكنه ينبع من قرائن قرآنية دالة على ذلك، منها ما أجراه الله من دعاء على لسان نوح لينزله منزلاً مباركاً، فالإشارة هنا إلى منزلة مباركة: "وقل ربي أنزلني منزلاً مباركاً أنت خير المنزلين" (المؤمنون /ج 18 / ي 29). والمنزلة المباركة هي ما باركه الله، والإشارة تنصّ على النزل، حيث يتعين مكان البيت: "إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين"(آل عمران /ج 4 / ي 96). فنقول إنّ منزلة نوح المباركة كانت في عرفات، ثم يهبنا القرآن قرينة أكثر دلالة حين يوجه الأمر إلى الرسول الكريم، سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ليحتذي أثر من سبقه من الناس في الإفاضة من عرفات والمشعر الحرام: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم، وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيـم (199)" (البقرة ج2).
فليس سوى قوم نوح سبقوا بالمنزلة المباركة فوق عرفات ثم أفاضوا إلى المنزلة في المشعر الحرام حيث (المزدلفة)، ثم أمر رسولنا الكريم بأن يفيض مثلهم. ومن هنا تأتي قرائن التوقيت القدري، فماثل الله في وقفتنا عند (عرفات) في النصف الأخير من اليوم التاسع من ذي الحجة بالنصف الأخير من تاسع قرن لنوح، وكلها نهايات توقيت (وتري) لدى تمام الألف أو المائة أو العشرة، حيث يكتمل تقدير الزمان والمكان بحكمة إلهية.
وقرائن التوقيت نجدها كما أوضحناها في محاورة موسى مع والد البنتين، حيث طلب الأخير مهراُ لابنته (8) سنوات، ثم اتجه بالرجاء لموسى ليتممها (10) سنوات، رابطاً بين التمام والعشرة: "قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك"(القصص /ج 20 / من ي 27).
وكذلك نجد قرينة التمام الوتري في قصة الذي مرّ على قرية فاستغرب تسنهه؛ أي فعل السنين فيها: "أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنىّ يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه"(البقرة / ج 3 / من ي 259).
إنها تأملات في ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر كمثلها؛ أي خير من ألف عام، فكأنها استوعبت الزمان العربي الإسلامي كله إلى أن فقدنا أنفسنا ففقدنا خير ما تنزّلت الملائكة والروح بإذن ربهم، فخرج الأمر من أيدينا إلى غيرنا، ثم زحف الصهاينة إلى مركز القلب منا حيث الأرض (المقدّسة) في فلسطين أو شمال الأرض (المحرّمة)، غير أنّ صيرورة الخلق ـ كما قضاها اللـه ـ هي سياق بالضرورة نحو الحق، فالذي طفح من بعد ألف وأربعمائة من الأعوام الهجرية، مآله أن ينتهي بالسياق الحتمي إلى الزوال على يد الحق: "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين (38) ما خلقناهما إلاً بالحق ولكنّ أكثرهم لا يعلمون (39)"(الدخان ج 25).
[1] الرحيق المختوم، فضيلة الشيخ صفي الرحمن المباركفوري، إصدار المكتب التعليمي السعودي بالمغرب ـ الرباط، الطبعة الثانية 1404هـ/
[2] لسان العرب المحيط، للعلامة ابن منظور، ج 2 ـ ق/ي، ص 30