مآلات الحزب الواحد وتداعياته الأخيرة: مشروعيّة "ثوريّة" أجهضت مشروعيّة "الدولة"
فئة : مقالات
يقدّم لنا المسرح السياسي العربي الراهن مشاهده وفصوله النهائيّة لآخر مآلات الحزبيّة السياسيّة الأحاديّة المستندة على الفكرة الانقلابيّة "الثوريّة" التي مثّلتها التجارب البعثيّة والناصريّة و"اليسارويّة الطفوليّة"؛ بما لديها من طروحات في التحرّر والنضال القومي وأفكار النهضة العربيّة، بعد أن دانت لها السيطرة على موارد ومقدرات لدول غنية امتلكت مواقعَ استراتيجية دعّمت ورسخت - في العمق السياسي والعملي - وضعها الجيوستراتيجي على صعيد الدور والمكانة وإدارة علاقات الصراع وتكافؤ القوى وتوازنها، ومختلف تأثيراتها الجاذبة والدافعة مع الآخر العربي أو الإقليمي أو الدولي...
وكانت مشروعيّة الحزب الواحد (وما كان يسمّى بحزب الطليعة أو حزب النخبة) قد قامت على قاعدة بناء دولة تقدّميّة قويّة حصينة ومنيعة وقادرة على تحقيق ثنائية التحرّر والتحرير. التحرّر من قيود التخلف الفكري، وتحرير الأراضي المغتصبة...
وعلى قاعدة هذه الرؤية السياسيّة الشموليّة العامة، أقامت تلك النظم الثوريّة مشروعيّتها، وتمكّنت من بناء حاضنة مجتمعيّة واسعة لها نسبياً في ظل هيمنتها وغياب منافس حقيقي لها، وفي ظل استخدامها للأيديولوجيا "التحرّريّة" أداةً سلطوية للتحكم والسيطرة على الجماهير التوّاقة إلى العيش في ربيع الحرّيّة والتحرّر والاستقلال الحقيقي...خصوصاً وأنّ تلك الجماهير خرجت للتوّ من سجون دول الانتداب والاستعمار الخارجي ووصايتها بعد عقود مظلمة طويلة من الهيمنة والتخلف والثورات الاستقلالية المكلفة...
لكن ما حدث فعلياً - في واقع الحال - أنّ تلك الشعارات والتطلّعات التحرّريّة والنهضويّة، بقيت مجرد أمان وطروحات ضبابيّة غائمة مكلفة للفرد المؤمن بها، وللدولة التي تبنّتها فكرًا ونهجًا للممارسة السياسيّة والاجتماعيّة...، بل أكثر من ذلك، فقد أفضت بمجملها إلى أجواء ومناخات سياسية واجتماعيّة تناقض الأسس التي قامت عليها، وما يعاكس توجّهاتها على الأرض، فلا دولة حرّيّة أو قانون أو عدل تحقّقت على الصورة المثاليّة التي عاشت في المخيّلة الشعبيّة الحاضنة، ولا مشاريع تنمويّة فرديّة أو مجتمعيّة ناجحة أُنجزت، ولا دولة مواطنة واستقلال ناجز تحققت.. وما حدث فقط على الأرض، لم يكن أكثر من بناء دول وأحزاب وفئات ومواقع خاصة لمراكز قوى الأمر الواقع التي قبضت على ناصية الإنسان والفرد العربي، من خلال تحكمها في سبل معيشته ومنافذها، عبر قوة الأمر وموارد الثروة والحق الأزلي المزعوم في احتكار صناعة القرار السيادي ومنظومة العنف. ولهذا قامت ببناء القوة العسكريّة والأمنيّة على الصورة والشكل الخاص الذي يحافظ على مصالح الحكم والبقاء في السلطة، والسيطرة النهائيّة على كافة مفاصل (ومواقع) الدولة التي ركّزتها تلك السلطات على "قانون الغلبة"، لتصادر أهمّ ما في الدولة، وهو الحقّ في القرار السياسي للدولة، جاعلةً من الحزب الحاكم الأوحد، والمالك المتفرّد بقيادة دفة سفينة الدولة والمجتمع بلا مشاركة من أحد، ومن دون حتى استشارة أيّ حزب آخر من تلك الأحزاب "الهامشية" المنضوية تحت قيادته.
لقد اشتغل رموز الحزب العربي الواحد وقادته (القائد لكلّ ما في الدولة من بشر وحجر وشجر) في كل شيء إلا بجوهر قضيّتهم الأساسيّة "المركزيّة" التي اجتمعوا حولها، وانتظموا في هياكلها، وتشكّلوا من أجل تحقيقها وهي قضايا التحرّر والتحرير وبناء الدولة التقدّميّة القويّة.
وبالنتيجة، فقد بنت تلك الأحزاب الشموليّة مواقع سياسيّة قويّة متقدّمة ومكاسب اجتماعيّة ومنافع اقتصاديّة ذاتيّة وشخصيّة لقادتها ورموزها ونخبها، وحتّى للمدافعين عنها، من غير المنظمّين فيها، على حساب إضعاف مؤسّسات الدولة الوطنيّة ذاتها، والتي كانت تقدّم نفسها للشعب على خلفيّة أنّها "دولة اجتماعيّة" مركزيّة، وريعيّة بالتعبير الاقتصادي، تشرف مباشرة على تأمين احتياجات أفراد مجتمعاتها ومتطلباتهم من الخبز إلى أعلى الهرم المعيشي، ومنع الإضرار بـ"الفرد-المواطن!" كما كانوا يزعمون...
وهكذا وبصورة فجائية، (ولكنّها في العمق تراكميّة غير منظورة تكّدست عبر عقود من سوء الممارسة وفساد الإدارة وهيمنة العقليّة الفرديّة) وجدت هذه الدولة "الريعيّة" نفسها عاجزة تقريباً عن ممارسة دورها الرعويّ الوصائي، وغير قادرة على القيام بواجبها (ووظيفتها الاجتماعية) الرئيسة التي بنيت عليها تجاه مواطنيها (رعاياها) (القاصرين!) بعد أن تعهّدت بحمايتهم والاهتمام الكامل بشؤونهم وتأمين متطلبات وجودهم وعيشهم البشري الأساسي؛ أي بعد أن قدّمت نفسها لهم كالأمّ الحنون، كما كانت تفعل في السابق، وتلك نتيجة طبيعيّة لسوء إدارة الموارد والثروات، واستنزافها الجائر على غير صعيد، وتفشّي الفساد والنهب الواسع المنظّم، ووضع استراتيجيّات تنمويّة فاشلة مكلفة بلا غايات ولا مستقبل مأمون، واستقطاب استثمارات بذخيّة ادخاريّة استهلاكيّة طفيليّة، ساهمت بدفع عجلة الاقتصاد الوطني قدماً إلى الوراء على طريقة الصعود إلى الهاوية...
بهذا المعنى، يمكن أن نعتبر أنّ الأحزاب العربيّة التي استفردت لوحدها بسدّة القيادة العليا للدولة والمجتمع وموقعها، هي المسؤولة الأولى والرئيسة عن مجمل هذه الحصيلة الرثّة والمكلفة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة العامة التي لحقت بتلك المجتمعات العربية، خاصة وأنّ كل شيء حدث وتحرّك، وتمّ تحت نظرها وإشرافها ورعايتها، وبناءً على أوامرها وتوصياتها وأفكارها ورؤيتها وخططها وبرامجها التي تبنّاها رموزها ووقعوا عليها، حتى أنّه لم يعيّن مدير عام أو رئيس دائرة أو مسؤول صغير أو كبير كانت توجد تحت إشرافه ميزانيّة صغيرة أو كبيرة، إلاّ بمعرفة (وموافقة ومصادقة وإمضاء) رموز تلك العقليّة الحزبيّة، طيلة عقود من الزمان.
وعلى الرغم من كل الشعارات الفكريّة العلمانيّة، والطروحات المفاهيميّة المدنيّة (التي رفعتها "أحزابنا النخبويّة الطليعيّة" على مدار عقود، والتي دفعت جماهير غفيرة من أبناء مجتمعاتنا للانضواء تحت جناحها، وتبنّي أهدافها ومنهجها وبرامجها وخططها)... أقول: على الرغم من كل هذا الزخم الفكري والتأييد الشعبي، لم تتخلّ تلك الأحزاب عن طبيعتها "الافتراسيّة" وعقليّتها "الاستفراديّة" "الاستحواذيّة"، وسلوكيّاتها المدمّرة بوصفها أحزاباً سلطويّة فئويّة ضيّقة لا تتّسع مقاعدها الأماميّة إلاّ لأشخاص محدّدين مسبقاً، يسعون دوماً إلى الوصول السريع والآمن إلى المواقع القياديّة العليا، بهدف السيطرة والاستئثار بالثروات والمنافع.
نعم، لقد بنت الأحزاب العقائديّة المشخصنة، دولاً عميقة قويّة داخل الدول الأمّ، هي عبارة عن مؤسّسات وهياكل إداريّة بيروقراطيّة واسعة وأنظمة صلبة متماسكة، ولكن على حساب تضعيف ما تبقّى من مؤسّسات الدولة الأمّ وهياكلها، ممّا أفقدها قدرتها على السير الطبيعي نحو أهدافها التنمويّة السياسيّة والاقتصاديّة كأيّة دولة أخرى، عبر الاشتغال اليومي الروتيني الطبيعي على تأمين مصالح الناس والمجتمع، خاصة وأنّها قدّمت نفسها، كما قلنا، على أساس أنّها "دولة- رعاية" و"دولة- أمّ"، اجتماعيّة واقتصاديّة.
وهذا النهج السياسي العام للأحزاب القوميّة العربيّة الذي لم تبدأ مرحلة انحساره الحقيقي الآن، بل منذ زمن الناصريّة وخروج حزبها من السلطة في مصر، مروراً بحركات التحرّر القوميّة في الجزائر واليمن، وأخيراً في ليبيا وسوريا... أقول: هذا النهج المكرِّس لعقليّة الحكم الشمولي هو الذي مهّد الطريق لإثارة نفوس الناس المحتقنة، وثورانها ضدّ أنظمتها ونخبها الحاكمة، وضدّ فواتيرها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة الباهظة التكاليف على كل المستويات والأصعدة... وأضحى الناس يتساءلون عن الحصيلة (أو جردة الحساب) الإنتاجيّة الوطنيّة والقوميّة لعقود طويلة من تطبيق استراتيجيّات السياسة والاقتصاد التي انتهجتها وطبقتها تلك الأحزاب المشخصنة... ماذا تحقق؟ وأين هي الإنجازات بالمقارنة مع جيران لنا سبقونا أشواطاً في البناء والتنمية؟ وهل استفدنا من ثرواتنا ومواردنا الهائلة في طريق الصالح العام المجتمعي أم في طريق الذات الفرديّة الممثّلة لإرادة الحاكم الأعلى؟
وبالنتيجة والمآل الأخير، فقد دفعت شعوبنا جميعاً - في تلك الدول التي رهنت لأحزاب الطليعة والنخبة - نقداً ومباشرةً الأثمان والتكاليف الماديّة والمعنويّة الناجمة عن التطبيق القسري لتلك السياسات الاجتماعية. دفعتها من حاضرها وستدفعها من مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي، وهي التي تحملت أيضاً عبء المعاناة الشديدة المتواصلة من هيمنة قوانين الطوارئ وسطوة المحاكم العرفيّة، وتعطيل العمل بالقوانين والدساتير المدنيّة، والقفز فوق العدالة، بعد الهيمنة على كافة مفاصل المجتمع، وإخراج الناس بالقوّة من فضاء السياسة العام الذي كان من المفترض أن يتحمّل أفراد المجتمع أنفسهم مسؤوليّة المشاركة في تحديد مسيرته واتجاهاته وبرامجه ومختلف سياساته، وذلك عبر مختلف أنواع الجسور والتوسّطات ما بين الدولة والمجتمع، حيث يمكن أن يكون لهم الدور الأهمّ والأبرز في بناء بلدهم ومجتمعهم.
وبالنظر إلى غياب إمكانيّة نشوء تلك التوسّطات المجتمعيّة المدنيّة القادرة على تأمين مصالح المجموع العام في مواجهة سطوة تلك النظم الحزبيّة الواحديّة، وهيمنتها على كافة مواقع الدولة، حيث أصبحت الدولة القائمة دولة النخبة لا دولة الأمة، كان من الطبيعي أن يلجأ الناس إلى "ملاذاتهم" الآمنة التقليديّة، بمختلف تنوّعاتها ومكوناتها المجتمعيّة الأهليّة المحليّة المعروفة التي قد يشعر فيها الفرد ببعض القوة، وهو الضعيف والقاصر أمام تغوّل دولته العميقة، وبما يساعده على قضاء حوائجه، وكسب معاشه وقوّته، وتلبية الحدود الدنيا من متطلّبات عيشه الآدميّ البسيط.
إنّ انزياح الدولة عن مهمّتها الأساس في خدمة أبنائها وتنمية مواطنيها، وتحقيق درجة متقدّمة من التطوّر السياسي والتنمية الاقتصاديّة والإنسانيّة، وتمثّل قيم العدالة الاجتماعيّة، من دون تمييز ولا تفرقة، واتجاهها لتكون دولة "النخبة" الخاصة و"الطليعة الحزبيّة الثوريّة" العاجيّة، دفع بمعظم المكونات الإثنية والطائفية والأقواميّة والمذهبيّة للدولة، إلى السقوط في براثن الكراهية لها (أي للدولة) وتبنّي عداوتها بصورة عمياء، بل والرغبة العارمة في مواجهتها وإسقاطها؛ أي إصدار حكم إعدام حاسم ونهائي بحقها بوصفها دولة رعاية فاشلة وعقيمة.
وهذا ما كنّا نشهده بين وقت وآخر في تاريخنا السياسي العربي من حدوث أزمات مجتمعية بنيوية، واشتعال صراعات أهليّة واحترابات طائفيّة دمويّة مكلفة بين أهل البلد الواحد، في الدولة أو النظام، ومختلف مكونات الدولة المجتمعيّة.
وقد جاء انحسار الدولة أو المرحلة السابقة من السلطة في خضمّ تلك الصراعات الدمويّة، نتيجة طغيان عامل القسر والإكراه والضغط الذي مارسته تلك الأحزاب الشموليّة العقائديّة بحقّ أبنائها ومجتمعاتها الأهليّة، فلا هي خدمتهم، وأمّنت لهم عيشهم، ولا ساهمت في نهضتهم وعمرانهم السياسي الحديث، ولا سمحت لهم بالاستثمار الحقيقي في بلدانهم وأوطانهم الأمّ، بل بقيت تنظر إليهم نظرة الأعداء الألدّاء، والخصوم التاريخيّين.
من هنا يمكن القول إنّ التعايش الاضطراري (تعايش الأضداد) الذي فرض على مجمل المكوّنات السياسيّة والمجتمعيّة في تلك البلدان التي حكمها حزب واحد وفرد واحد ومنظومة عسكريّة وأمنيّة واحدة حديديّة صلبة، لم يستمرّ طويلاً حتى انكشف ما تحته من تصدّعات وشروخ واسعة، كانت محجوبة زمناً طويلاً بحجاب سميك من شعارات المصلحة القوميّة العليا، وحتميّة المواجهة التاريخيّة مع العدوّ، وغيرها... ولكن سرعان ما تبيّن أنّ حضور تلك المكوّنات القديمة المخفيّة في ذاتيّة الأفراد وسجلّ المجتمع أقوى وأرسخ وأكثر حضوراً من أيّة شعارات حديثة ومقاصد جديدة وأهداف سياسيّة عامة أو خاصّة بهذا الحزب أو ذاك.
وتبيَّن أنّ كلّ محاولات السيطرة على تلك المكوّنات أو تطويعها أو إلغائها طوعاً أو قسراً لن يكتب له النجاح أبداً... كما تبيّن أنّ اندماج تلك التنوّعات والمكوّنات المجتمعيّة في صلب المشروع الوطني العام، لم يحدث بصورة تلقائيّة، ولم يكتمل بصورة طبيعية، بمعنى لم يكن اندماج الراغب طوعيّاً، بسبب سياسات القهر والقسر والوصاية والهيمنة السلطويّة الفوقيّة التي طبّقتها عليه تلك النخب الفردّية المستأثرة بالسلطة والثروة والقوّة.
وبسببٍ من استبعادها القسري، لم تشارك تلك المكوّنات في بناء الهيكل الوطني التاريخي العام، حتى مع بعض حالات الاختراق التي نجحت فيها السلطة في كسب ودّ بعض ممثّلي تلك المكوّنات القوميّة والدينيّة. ولكن بقيت الغالبيّة العظمى منها مستبعدة عن ساحة المشاركة الوطنيّة، ومقصيّة عن ساحة العمل الوطني العام التي يفترض أن تتّسع للجميع بحكم أنّ النتائج ستؤثّر في الجميع سلباً أو إيجاباً.
وبالمحصّلة النهائيّة، ما زرعته تلك النظم من قمع واستبداد واستنزاف لخيرات شعوبها، حصدناه جميعاً في مستقبلنا، وسيحصده أبناؤنا من بعدنا، تركةً ثقيلةً ومكلفة، وخسائرَ كبيرةً وصعبة التعويض في المدى الزمني الطويل... هذا ما قادتنا إليه - بكل أسى وأسف - الأيديولوجيّات الشموليّة والقناعات العقائديّة الشعبويّة الثابتة (دينيّة كانت أم علمانيّة) التي تبنّتها أحزاب العقائد الاصطفائيّة العربيّة على النمط الألماني والسوفييتي، والتي حكمت بلداننا بقوّة الحديد والنار وقهر الناس والمجتمعات، وفرضت رؤاها وقناعاتها وسياساتها الذاتيّة والموضوعيّة الفاشلة والعقيمة (بحكم التجربة التاريخيّة المريرة التي مررنا بها معها طيلة ستين سنة تقريباً) على الجميع (أقلّيّات وغير أقلّيّات)... فقد هدمت أكثر مما بنت، وأخّرت أكثر مما قدّمت... كما أنّ الأفكار الهويّاتيّة الخاصة المغلقة التي رفعتها، لم تقرّبنا من المدنية والحضارة والحداثة العقليّة والعلميّة في شيء...
وهذا ما قامت به تلك النخب الفوقيّة التي بنت دولاً عميقة قويّة كما ذكرنا، تضخّمت أجهزتها الإكراهيّة العسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة على حساب تقزيم مؤسّسات الدولة الأم وهياكلها التي كانت تلك النخب تعيش في كنفها وتستنزف خيراتها وتتطفّل على نسغها... والهمّ الأساسي لدى الموظّف الصغير أو الكبير، في ظلّ مثل هذه النظم التسلّطيّة ليس خدمة الدولة والمواطن، والعمل على تنمية بلده وتطويره والحفاظ على مقدراته وموارده، وإنّما كان بناء حلقات الارتزاق وشبكاتها وتقويتها من تحت الدولة ومن فوقها، وإبقاء الولاءات والانتماءات الضيّقة داخل جسم الدولة حالةً داعمةً لمصالح النخبة الحاكمة، ومن لفّ لفّها.
بهذا المعنى، يمكن الاستنتاج أنّ قاعدة المشروعيّة التي يبني عليها نظام الحزب الواحد وجوده وهيمنته وسلطته الجامحة، هي القوّة العارية والعصبيّة الحزبيّة والفئويّة، والسيطرة على الموارد والثروات، مفتقداً بذلك كلّ أنواع المشروعيّة الحقيقيّة السياسيّة الطوعيّة، والمشروعيّة الرمزيّة والأخلاقيّة، ومشروعيّة قيم الحق والحرّيّة والعدالة.
وبما أنّ القوّة العسكريّة والأمنيّة، وقوّة التلاعب المتواصل بأوراق تفاوضيّة تعاكس منطق الحق والعدل والحرّيّة وقيمها، وتتناقض جوهريّاً مع كلّ المشروعيّات الإنسانيّة والأخلاقيّة والسياسيّة اللازمة للبقاء في السلطة والتحكّم بكلّ مفردات آلة الحكم، فإنّ من جاء بها (أي بالقوّة والعنف المادي والرمزي) واستمر حاكماً من خلالها، لن يستمرّ طويلاً بها في مواجهة الشعب المقهور والمظلوم، والمنتهكة سيادته وحرماته وأعراضه الوطنيّة والمجتمعيّة، والمصادرة حريته وكرامته الإنسانيّة.
فهذا النوع من النظم القاهرة القائمة على العصب الطائفي العشائري وشوكة الغلبة العصبويّة العقيديّة (حتى لو تغطى بشعارات علمانية مزيّفة)، لا يستمرّ طويلاً (حتى وإن بقي ثابتاً وراسخاً لسنوات أو لعقود) بسبب أنّها تفتقر إلى الحاضنة الشعبيّة الطبيعيّة لا القسريّة؛ أي لأنّها تفتقر إلى عنصر الثبات والديمومة المجتمعيّة الطبيعيّة والتأييد الشعبي الجماهيري الطوعي.
وهذه تجاربنا السياسيّة العربيّة في كل مراحل التاريخ القديم والمعاصر منذ أيّام الأمويّين خير شاهد على ما قلناه؛ فمعظم النظم السياسيّة التي تشكّلت عندنا عجزت عن لمّ شمل الناس تحت ظلّها بصورة طبيعيّة، ممّا دفع الناس إلى مقابلة ذلك برفض الدخول في سياقات عمل مؤسّسات تلك الدول وإلزاماته وضوابطه إلاّ بالإكراه والقسر، بما جعلهم (أبناء تلك المجتمعات) يعيشون حالة التناقض بين عقيدتهم وشريعتهم وأفكارهم التاريخية التي يعتقدون بها ويوالونها بصورة عمياء، وبين ما يفرض عليهم بالقوّة من الخارج من قبل السلطة والحكام... هذا التناقض بين الذات الفرديّة الداخليّة وبين الذات السلطويّة الخارجيّة، كانت له نتيجة واحدة هي فشل الدولة في تحقيق الحدّ الأدنى من معايير الحكم الصالح القائم على بناء دولة مدنيّة حديثة، عادلة ومزدهرة ومتطوّرة... ولكن كان الفشل هو النتيجة، لأنّ إدارة دفّة الحكم لم تستند إلى أيّ من أسس المشروعية الأخلاقية والإنسانية الحقيقية وركائزها التي تتطلّبها صيغة الحكم السياسي التعاقدي التداولي، لكي تقوم الدولة بواجباتها في بناء مجتمعاتها وتطويرها، والدفع بها قدماً نحو مواقع أعلى وأحسن وأرقى سياسيّاً واجتماعيّاً وعلميّاً واقتصاديّاً.
إنّ ما يطوّر الشعوب والأمم، ويبني المجتمعات القويّة على أسس صحيحة من الحرّيّة والعدالة والقيم المحرّكة للعمل، هو إعطاء الفرد حقوقه الفرديّة الطبيعيّة في الحرّيّة والكرامة والقيمة الإنسانيّة الحقيقيّة وجودًا جوهريّا في حركة التطوّر المجتمعي...من خلال توفير مناخ ثقافي وسياسي تداولي سلمي عام، حيث يتمكّن هذا الفرد من العمل المثمر والإيجابي، والمشاركة الفاعلة في إعادة بناء الاجتماع السياسي على مواقع قويّة، من خلال تحريك أجمل ما فيه من طاقات العمل والإنتاج وإثارته.
وتلك الطموحات الكبرى - التي كان من المفترض العمل على تحقيقها بصورة سلميّة حضاريّة بعيداً عن لغة العنف والقتل ومنهج القسر والإلغاء - لابدّ أن تتشارك في تبنّيها ومحاولة الوصول إليها، السلطات العاقلة والمعارضات الواعية، إذا ما بقي للعقل والحوار والسلم مواقع وأمكنة لديهما.
وفي النهاية المطلوب إنجازه فوراً هو بناء "الإنسان- الفرد- المواطن" المنتج والفاعل والآمن والحرّ في عيشه وفكره ومعتقده السياسي وغير السياسي، والحاصل على كامل حقوقه السياسيّة وغير السياسيّة، من خلال إقامة مجتمعات تعدّديّة محكومة بسلطات سياسيّة ونظم ديمقراطيّة تداوليّة، تقوم على قيمة جوهريّة هي خدمة مصالح هذا "الفرد- المواطن"، وتأمين عيشه، والسعي في طريق سعادته وازدهاره.