ما التأويل؟ ملاحظات في علم التأويل


فئة :  مقالات

ما التأويل؟ ملاحظات في علم التأويل

ما التأويل؟

ملاحظات في علم التأويل

"ما لا نستطيع فهمه بالكامل لا نستطيع السيطرة عليه"

غوته

ملخص البحث

الهرمينوطيقا أو علم التأويل أحد المفردات التي كان ومازال يقوم حولها اختلاف كبير من حيث أصلها ونشأتها وتطورها، إذ نجدها تأخذ معان ودلالات متعددة قد تصل حد التباين أحيانا. ولعل السبب الرئيس في ذلك، يرجع إلى انتشار أطروحة الفصل على حساب أطروحة الوصل؛ بمعنى النظر إلى الفكر الإغريقي على أنه معجزة منقطعة عما كان سائدا قبلها من حضارات، أو حتى تلك الحضارات التي كانت مجاورة لها، في محاولة لتكريس السبق الغربي المسيحي، وتأكيد تفوقه على غيره. وربما هذا ما فوت علينا داخل فكرنا الإسلامي تحديدا فرصة تدبر دلالات التأويل كما ورد في القرآن الكريم.

فتم بذلك إرجاع أصل الهرمينوطيقا إلى أسطورة هرمس في الفكر الإغريقي، في حين تشير الدلائل إلى أنها ذات جذور شرقية، إذ تنحدر من الحكمة المصرية القديمة، التي نجد فيها أن لقب هرمس مثلث العظمة قد أطلق على "تحوت" رسول المصريين القدماء الذي مكنهم من الكتابة الهيروغليفية، فضلا عن فتح باب الهندسة والعمارة والطب والإلهيات.

انطلاقا من هذا المعطى، وكما تشهد بذلك متون هرمس المثلث العظمة نفسه، يتضح أن الهرمينوطيقا لم تكن قط حكرًا على ما هو ديني، وأن ارتباطها بالنصوص المقدسة تحديدا كان نتيجة هيمنة سلطة الكنيسة خصوصا في العصور الوسطى، حين أصبح العلم والمعرفة محتكرين من طرفها، ولا يسمح بهما خارج الأديرة، خصوصا مع انتشار المدرسة السكولائية.

يمكن القول إذن، إن عودة العلوم الإنسانية إلى دائرة الهرمينوطيقا هي بمثابة عودة المياه إلى مجراها الطبيعي، حيث تعتبر الهرمينوطيقا علما لتأويل النصوص كيف ما كان نوعها وطبيعتها؛ لأن غايتها الأساسية هي الكشف عن المعنى، هذا الأخير الذي لا يمكن أن يتحقق بشكل سليم إلا إذا تمكنت الهرمينوطيقا من خلق علاقات متبادلة ومنسجمة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا والابستيمولوجيا والفينومينولوجيا، وهذا ما يستدعي التأكيد على أهمية مبدأ التطبيق الذي يعني الانتقال من النص إلى الفعل عبر أو بواسطة العقل؛ بمعنى استحضار الواقع بكل أحداثه ومعطياته في عملية التأويل؛ فالواقع إذن يصبح هو دليل التأويل وبرهانه.

تقديم:

يظهر علم التأويل في الفكر العربي كمطابق أو مرادف لمفهوم الهرمينوطيقا الغربي، إذ يبرز كأحد المصطلحات المقترحة لترجمة لفظة هرمينوطيقا التي نجد لها اقتراحات أخرى كالتأويلية وفن التأويل وعلم التفسير والفهم وفهم الفهم وفن الفهم... طالما أن لفظة هرمينوطيقا تعني ترجمتها المباشرة "أن تعبر أو تقول أو تشرح أو تفسر أو تترجم."[1] لا غرو إذن أن تقاطع مفهوم علم التأويل (الهرمينوطيقا) مع مفاهيم أخرى قريبة أو مجاورة - لعل أهمها الفهم والتفسير- سيجعلنا نقف على عتبة القضية الأولى لعلم التأويل، وهي تلك المتعلقة بتحديد المفهوم وضبطه.

إن اختلاف المصطلحات المقدمة لترجمة الهرمينوطيقا يحيلنا على قضية تحديد المفهوم التي مازالت محط خلاف بين الدارسين والباحثين ليس فقط العرب، بل الغربيين كذلك. وهذا أمر طبيعي مادامت الهرمينوطيقا تنفتح بشكل كبير على الظاهراتية والوجودية كفلسفة. أما كمنهج، فهي تلتقي أساسا مع البنيوية والسيمائيات والتفكيكية ونظرية التلقي كنظريات ومناهج تهتم بالمعنى. فكل باحث ينطلق إذن في تحديده لمفهوم الهرمينوطيقا من الأرضية التي يقف عليها، وبالتالي يكون الاختلاف في تحديد المفهوم أمرا حتميا لاختلاف الخلفيات الفلسفية والنظرية كم المنهج الذي ينطلق منه كل باحث. وهذا ما يضعنا في صلب قضية أخرى من قضايا التأويلية، وهي علم التأويل (الهرمينوطيقا) بين الفلسفة والمنهج.

كما أن كل قضية من القضيتين المشار إليهما تحمل في طياتها العديد من المسائل، فحين نتحدث عن مفهوم التأويل بمعناه الواسع، فهذا يستدعي منا الانتباه إلى المسائل التالية: حدود وعلاقة علم التأويل بالسياق والثقافة السائدة، دون إغفال علاقته بالمرسل والمتلقي...في حين أننا عندما نتحدث عن قضية التأويل بين الفلسفة والمنهج، فينبغي أن ننتبه إلى علاقة التأويل بالعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أيضا، وعلاقة علم التأويل بالواقع والخيال في عملية الفهم وإعادة إنتاج المعنى...

لا شك أن هذا المزج بين الفلسفات والنظريات والمناهج التي تهتم بالمعنى إن كان يؤكد لنا في المقام الأول جوهر الهرمينوطيقا المتمثل في طلب المعنى وتحقق الفهم، إلا أنه يقودنا في المقام الثاني للإجابة عن السؤالين المحوريين اللذين يفرضهما علينا موضوع التأويل، وهما: ما التأويل؟ وكيف نؤوّل؟ وهما سؤالان تندرج تحتهما أسئلة أخرى مثل: ماذا نؤوّل؟ ولماذا نؤوّل؟ ومن هو الشخص المؤول؟ وما هي حدود التأويل؟ وأسئلة أخرى مرتبطة بعلاقة التأويل بالواقع وبالعلوم الإنسانية والطبيعية على حد سواء. كما أن البحث في علم التأويل لا يستقيم إلا إذا ارتبط بحدوث المعنى في الذهن وتحقق الفهم. لهذا فالقضية الأساسية التي يجب على علم التأويل الانطلاق منها هي قضية كيفية حدوث الفهم عند الإنسان وإدراكه للمعنى؛ لأن التأويل يأخذ صفته كعلم بناء على فهم الواقع بما فيه من تباين وتناقض.

لهذا، سنحاول تسليط الضوء على القضيتين الكبيرتين اللتين يطرحهما علم التأويل، وما ينجم عنهما من مسائل أخرى من خلال صلتهما بسؤال كيفية حدوث الفهم وإدراك المعنى عند الإنسان؟ في محاولة لربط الكل بالأجزاء؛ لأن التأويل بطبيعته مفهوم لا يقبل التعضية. هذا بالانفتاح من جهة على سيرورة مفهوم التأويل في الفكر العربي الإسلامي، خصوصا بمعرفتنا أن التأويل هو كلمة قرآنية وردت في كتاب الله عز وجل سبع عشرة مرة. أما من جهة ثانية، فلن نغفل تطور مفهوم الهرمينوطيقا الغربي وانتقاله من المجال الديني إلى مجالات أخرى، إن لم نقل إلى كل مجالات الحياة الإنسانية اليومية.

1. الهرمينوطيقا وأسطورة الأصل

يعود أصل الهرمينوطيقا في الفكر الغربي إلى أسطورة الآلهة هرمس التي تشير الدلائل إلى "أنها انحدرت مباشرة من الحكمة المصرية القديمة"[2]، حيث نجد التأكيد أن «تحوت» أو هرمس مثلث العظمة هو رسول الآلهة إلى البشر، فكانت بذلك مهمة هرمس الأساسية تتجلى في نقل الرسائل من عالم غيبي هو عالم الآلهة إلى عالم البشر الذي هو عالم الحضور والواقع. وكأن مهمة هرمس رسول الآلهة تقوم على الربط بين عالمين، أحدهما عالم غيبي غامض لا يمكن فهمه وإدراكه بالنسبة للبشر، والآخر عالم مشهود يمكن إدراكه وفهمه. لهذا نجد «ريشارد بالمر» يؤكد أن الهرمينوطيقا في جذورها اليونانية القديمة تشير إلى "مراحل إحضار شيء ما أو موقف ما من الغموض وعدم الفهم إلى مرحلة الفهم."[3]

كانت رسائل الآلهة إلى البشر تأتي على شكل لغة عن طريق الرسول هرمس، ولم يكن على البشر فهم معاني هذه الرسائل فقط، بل كان عليهم العمل بها وتجسيدها ممارسة فعلية في سلوكياتهم اليومية على شكل شعائر وطقوس. فالرسائل اللغوية القادمة من الآلهة، إنما هي إرشادات وتعليمات قصد اتباعها والعمل بها. وهنا يمكن القول إن رسائل الآلهة إنما هي في الواقع تأويل لمعاني على البشر فهمها أولا، ثم العمل على تطبيقها ممارسة وسلوكا. وعليه، فإن أهم ما يميز الهرمينوطيقا باعتبارها تأويلا للنصوص المقدسة هو:

  • ربطها بين عالمي الغيب والواقع.
  • ربطها بين الفهم والتطبيق.

هذا الربط بين عالمين هو ما نجد صداه عند العديد من الباحثين؛ وذلك بجعل "المفسر في قراءته لنص ما يدرك بأنه يشكل وسيطا يشيد جسرا للتفاهم بين عالمين: أحدهما عالم النص الغامض المبهم، وثانيهما عالمنا الذي نعيش فيه ونألفه وما يتميز به من وضوح."[4]

2. علم التأويل في القرآن الكريم

إن دلالة علم التأويل كما تم طرحه في القرآن الكريم لا تختلف كثيرا عن دلالة الهرمينوطيقا المرتبطة بالنصوص المقدسة في الفكر الغربي، حيث جاء علم التأويل في قصة سيدنا يوسف مثلا تحققا للرؤيا كواقع ملموس وحدث فعلي، ﴿ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم﴾. (سورة يوسف، الآية 100) كانت كل تأويلات سيدنا يوسف عليه السلام تحول النبأ في عالم الغيب إلى خبر وواقع ملموس في عالم الشهادة؛ أي إن التأويل هو ربط لعالمين مختلفين هما عالم الواقع وعالم الغيب. فكانت الرؤيا تمثل هنا عالم الغيب الذي هو خيال الإنسان، ثم يتم التعبير عنها لغة لتتحول بذلك إلى عالم الواقع كحدث لغوي. هذا الأخير الذي يتم تشفيره والتعبير عنه بلغة واضحة ومفهومة في مرحلة أولى قبل أن يتحقق فعليا على أرض الواقع في المستقبل. فنلاحظ هنا أن علم التأويل:

  • هو انتقال من عالم الأحلام الذي هو عالم غيبي إلى عالم الواقع كحد لغوي، قبل أن يتحقق في عالم الغيب باعتبار المستقبل علم غيبي.
  • لم يقف عند حدود الفهم، بل تعداه إلى مرحلة التطبيق التي هي عبارة عن حدث مستقبلي.

أما في قصة سيدنا موسى عليه السلام والعبد الصالح، فانطلق التأويل من الرؤية لينتقل بذلك إلى التفسير والتوضيح قصد الفهم وحصول المعنى في الذهن، عن طريق كشف أنباء الغيب المستقبلية لسيدنا موسى من طرف العبد الصالح؛ أي إن التأويل هنا بدأ من رؤية أحداث واقعية، وليست كلاما، تم تفسيرها وشرحها من طرف العبد الصالح لسيدنا موسى، قبل أن تتحقق هي الأخرى إلى أحداث في المستقبل، والذي هو عالم غيبي.

يتضح جليا أن علم التأويل في القرآن الكريم ينطلق من أحداث واقعية أو خيالية يتم فك تشفيرها أو تفسيرها وتوضيحها، ثم يأتي بعد ذلك تجسيدها كأحداث في المستقبل، بل إن التأويل في القرآن الكريم هو اقتران الفهم والتطبيق وهو ما نستخلصه من قوله تعالى: ﴿هذا تأويل رؤياي من قبل﴾. لعل الفرق بين التأويل والفهم كما تم طرحهما في القرآن الكريم يتضح لنا أكثر عندما نقف عند قوله سبحانه وتعالى: ﴿ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين﴾ (سورة الأنبياء، الآية 79)، إذ يتضح أن فهم سيدنا سليمان عليه السلام للواقعة أو الحدث لم يكن ذاتيا، بل كان بتدخل إلهي، فهو أشبه بالاستبصار الجشطلتي؛ لأنه لم يكن بناء على تفسير أو شرح أو توضيح. وهذا عكس تماما الفهم الذاتي الذي "يتطلب تأويلا لنصوص أو بناءات شبيهة بالنص."[5] كما لم يرد ذكر الحكم الذي نطق به سيدنا سليمان عليه السلام ولو كحدث كلامي على الأقل؛ أي إنه لم يصل مرحلة التطبيق. لذلك قال سبحانه وتعالى ففهمناها سليمان، ولم يقل عنها إنها تأويل. إن أهم ما يمكن أن نسجله هنا إضافة إلى ربط عالم الغيب بعالم الواقع، وربط بالفهم بالتطبيق هو:

  • ابتداء التأويل بحدث وانتهاؤه بحدث، وهذا ينسجم تماما مع المعنى الذي نجده في الجذر (أ. و. ل) "الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر، وانتهاؤه."[6] بمعنى أن التأويل هو تأويل أحداث، وتأكيد ذلك يأتينا من قوله تعالى: "من تأويل الأحاديث" فالأحاديث في اللغة العربية ترد كجمع لحديث، كما ترد جمعا لأحدوثة. وسواء تعلق الأمر بحديث أو أحدوثة، فكلاهما يدوران­ حول معنى واحد مستمد من الجذر (ح. د. ث)، وهو كون الشيء لم يكن. (حسب معجم مقاييس اللغة لابن فارس).
  • التأويل هو نسق أي نظام يقوم على مجموعة من العمليات الذهنية كالترجمة وفك التشفير أو الترميز والتفسير والتوضيح التي تؤدي إلى الفهم وحصول المعنى في الذهن، ثم التطبيق العملي لهذا الفهم وتجسيده كحدث واقعي.
  • التأويل يسعى إلى الوصول إلى المعاني المختفية أو هي المغزى، ولا يقتصر على ظاهر النص، لذلك "قال ابن الأثير: هو من آل الشيء يؤول إلى كذا أي رجع وصار إليه، والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ.".[7]

3. الهرمينوطيقا والعلوم الإنسانية

يؤكد جل الباحثين على الدور الكبير الذي لعبه «شلايرماخر» في توسيع دائرة الهرمينوطيقا لتعم كل النصوص الأدبية والفنية، بل لتشمل جميع العلوم والمعارف التي اهتم بها الإنسان، بعد أن كانت مقتصرة على دراسة النصوص المقدسة فقط؛ لأن العلوم الإنسانية كما تعامل معها بعض الباحثين- وأخص بالذكر هنا دلتاي- "لا يمكن تفسيرها في رأيه بمناهج العلوم الطبيعية، إذ تتناول ظواهر من إبداع البشر، ولهذا استخدم الفهم كمنهج يتناول الخبرة الحية، عكس العلوم الطبيعية التي تأخذ الأسباب الموضوعية."[8]

لا شك أن انتقال أو بالأحرى عودة الهرمينوطيقا (علم التأويل) إلى العلوم الإنسانية سيشكل منعطفا في التطور الدلالي للمفهوم، ونقول عودة؛ لأن «تحوت» حسب النصوص المصرية القدية هو من "كشف للمصريين علوم الفلك، والعمارة، والهندسة، والطب، والإلهيات."[9] بل يتضح لنا أيضا من خلال متون هرمس مثلث العظمة التي يطلق عليها Hermtica، أنها نصوص لا تهتم فقط بما هو مقدس، وإنما تهتم كذلك بالإنسان والطبيعة وما وراء الطبيعة...

يظهر إذن من خلال هذا الطرح أن ما يعيق الدراسات الإنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية هو اختلاف منهجيهما لاختلاف طبيعتيهما، حيث إن العلوم الطبيعية تقوم على التفسير المنطقي والموضوعي للظواهر الطبيعية المرصودة "أما الفهم في العلوم الإنسانية، فهو يتناول الواقع الذي يبنيه الإنسان بنفسه؛ أي إن الاهتمام الذي يدور هنا هو فهم تعامل العقل مع إبداعات العقل نفسه."[10]

وهنا يبرز لنا المنعطف الهرمينوطيقي المتمثل في الانتقال أو الرجوع من الظاهراتية والأنطولوجيا إلى الابستيمولوجيا، حيث أصبحت الهرمينوطيقا مقتصرة على الفهم وإدراك المعنى، مع إغفال جانب التطبيق والواقع. وهذا ما يتأكد من خلال ما أورده عادل مصطفى حين قال: "تومئ بنية تاريخية الفهم إلى أهمية عامل طالما أغفلته الهرمينوطيقا التاريخية والأدبية، ألا وهو "التطبيق" application؛ أي ربط النص بمجريات الحاضر."[11] يظهر التأكيد هنا على أهمية التطبيق في ربط الواقع بعملية التأويل، حيث يغدو "التأويل هو طريقنا إلى الحياة"[12] قصد فهمها فهما لا يتناقض فيه ما نحصله من معاني في أذهاننا مع مجريات ووقائع الحياة نفسها.

4. الهرمينوطيقا وتصحيح المسار

أ. الدازاين

بدأت مسيرة تصحيح المسار الهرمينوطيقي ورجوعه إلى سكته الصحيحة بشكل واضح مع «هايدغر» الذي رأى أن "الفهم ليس شيئا نمتلكه بل هو شيء نكونه!"[13] ليقترح مفهوم الدازاين Dasien المشتق من لفظة تعني الوجود هناك، والذي حرص هايدغر من خلاله على ربط الكينونة بالزمان، وهو مفهوم يؤكد على البعد الزمني في مسألة الفهم كما يؤكد على أهمية الحدث الناجم عن الفهم. فالفهم لا معنى له إذا لم يترجم إلى فعل وسلوك أي حدث؛ بمعنى أن الدازاين يأخذ قيمته من خلال توالي وتسلسل الأحداث في الزمان.

كأن هايدغر يحاول من خلال مفهوم الدازاين تبسيط وجهة نظر «نيتشه» الذي يقول: "لا وجود للأحداث، بل للتأويلات فقط."[14] وباختصار يمكن القول إن فهم وجود الانسان اليوم هو بمثابة فهم وتأويل لوجوده بالأمس، وكذلك فهم وجوده بالغد يبقى رهينا بتأويل وجوده اليوم. وهكذا نفهم كيف عبر «ريكور» من خلال كتابه (من النص إلى الفعل) عن التطعيم الهرمينوطيقي بإضفاء بعد أنطولوجي عليه، إذ تصبح وظيفة الهيرمينوطيقا بهذا المعنى لدى «ريكور» هي "تبيين الكيفية التي يتجلى بها الوجود من خلال فحص المعاني فحصا مستمرا، تلك المعاني التي تنبثق في أعمال الثقافة رمزيا".[15]

اتساقا وهذا المعنى يحاول «هايدغر» إعادة الهرمينوطيقا إلى موضعها الأصلي، حيث تلتقي الحقول الثلاثة، وأقصد هنا الابستيمولوجيا والظاهراتية والأنطولوجيا، حتى "يتضمن التأويل في هذه الحالة ثلاثة جوانب: الفهم والتبيان/الشرح/التفسير، والاستخدام أو التطبيق ليست هذه الجوانب ثلاثة مناهج منفصلة، وإنما تشير جميعا إلى قدرة واحدة تتطلب رهافة معينة للروح، وهي تشكل مجتمعة تحقق الفهم واكتماله."[16]

يتكون الإنسان من جزأين لا انفصام بينهما، أحدهما مادي هو الجسد، والآخر لا مادي وهو النفس. وأكبر قضية تحير الإنسان بشكل عام هي مشكلته الوجودية، وربما سبب ذلك هو التركيز على وجوده المادي وتهميش الجانب اللامادي في مسألة الوجود هذه. فالإنسان ينتصر لجزئه الفاني الذي هو الجسد على حساب الجزء الخالد المتمثل في النفس والروح تحديدا التي هي نفخة إلهية مدت الإنسان ببعض صفات الإله الخالق، وإن بشكل جزئي فقط. وهذا تحديدا ما يميزه على الحيوانات ويعطيه أفضلية عليها.

ب. الفهم والحدث

استمرت مسيرة تصحيح المسار الهرمينوطيقي مع «غادامير» الذي بتنا "نعلم اليوم أن العنوان الأول لمؤلف الحقيقة والمنهج كان من المفترض أن يكون الفهم والحدث."[17] هذا العنوان الأولي يوضح كيف أن «غادامير» جعل الفهم والحدث مقترنين معا. هذا الاقتران الذي يدل على أن الفهم هو فهم لحدث ما من جهة. أما من جهة أخرى فالفهم ذاته إن هو إلا حدث ضمن سيرورة نسقية من العمليات المترابطة، وهي ما يمكن أن نطلق عليها الحلقة التأويلية.

يرتبط الفن ارتباطا وثيقا بالهرمينوطيقا عند «غادامير»، وربما سبب ذلك هو كون لفظة هيرمينوطيقا (hermenntike) في اللغة الإغريقية "يمكن أن تشتق من كلمة tekne التي تحيل على الفن بالمعنى الاستعمالي التقني لآليات ووسائل لغوية ومنطقية وتصويرية واستعمالية ورمزية... والهدف الذي ترمي إليه هذه الوسائل والتقنيات هو الكشف عن حقيقة شيء ما"[18] لأنهما معا أي الفن والهرمينوطيقا يتألفان من عالمين أحدهما واقعي مادي ملموس، والآخر يتجاوز المادة؛ أي إنه عالم ميتافيزيقي.

وهذا ما يفسر كيف أن "غادامير" وقبله "هايدغر" لم يتحدثا عن الفن، وإنما عن الأثر أو العمل الفني؛ أي إنهما تطرقا للأعمال الفنية كأحداث ووقائع ملموسة خارج ذهن الفنان، وينجم عنه حدث آخر في ذهن المتلقي من خلال عملية التأويل التي يطبقها المتلقي على هذا الاثر أو العمل الفني؛ لأن التأويل كما سبقت الإشارة ينطلق من حدث وينتهي بحدث.

عندما يشير «غادامير» إلى أن "اللغة هي في الأصل إنسانية يعني في الوقت نفسه أن وجود الإنسان في العالم هو وجود لغوي"[19] فإنه لا يؤكد فقط ربط اللغة بالوجود، بل يتعامل مع اللغة على أنها حدث موجود فعلا، وهو ما يمكن فهمه وتأويله. واللغة هنا لا تعني فقط ذلك الفعل الكلامي، بل تؤخذ على عموميتها، فهي الكلمة والرمز واللون والضوء والأسطورة والحركة والفن...

إن ربط اللغة بالتأويل أو الهرمينوطيقا يجد تبريره في كون «تحوت» أو هرمس المثلث العظمة هو كلمة الآلهة وسيد الكلمة، فهو "من اخترع الهيروغليفية المقدسة التي تتكون من كلمتينhyro بمعنى ما ينتمي إلى ملوك مصر، وglyphبمعنى الشكل ذو الدلالة الكلية".[20]

لا شك أن ربط اللغة بالفهم والوجود عند «غادامير» يضفي على الكلمات معنى خاصا، إذ "يجب على الكلمة ألا تعود كلمة (أي شيئا بصريا وتصوريا) وأن تصبح حدثا."[21] إن اهتمام «غادامير» بالأعمال الفنية يرجع بالأساس إلى حرصه على حضور التطبيق إلى جانب الفهم في الهرمينوطيقا. فإذا كانت الهرمينوطيقا كما رأينا تعمل على ربط عالمي الغيب والواقع، فإن عالم الغيب والتنبؤ بأحداث المستقبل سيتحول إلى ضرب من الكهانة والتنجيم. لذلك تم تعويض ذلك العالم بعالم الخيال الذي ينتمي إليه الفن، حيث "تتيح الرموز والأساطير، بفضل تنظيمها، الوسيلة الضرورية للإنسان من أجل التفاعل مع محيطه وإمكان إضفاء معنى على معطيات الذاكرة والإدراك."[22]

أما من جهة أخرى، فإن الهرمينوطيقا العالمية/الكونية كما أرادها "«غادامير» كان يجب أن تقترب من علم التأويل كما هو معمول به في علم المستقبليات أو في الأعمال الفنية التي تسعى إلى طرح تنبؤات مستقبلية، طالما أن العمل الفني كثيرا ما نظر إليه على أنه ذلك العمل الخيالي الذي يعاد ربطه بالواقع، "ذلك أن العالم الفني ليس عالما غريبا ننتقل من خلاله سحريا إلى فترة معينة من الزمان بل العكس، في الفن نفهم أنفسنا ونتعرف إليها من خلاله."[23] وربما خير مثال نقدمه على ذلك هو ذلك العمل الفني "عالم جديد شجاع" الذي قدمه «ألدوس هكسلي» سنة 1932، واستطاع من خلاله الاقتراب كثيرا من واقعنا اليوم.

5. الهرمينوطيقا والملكات الذهنية

تمد الحواس الإنسان بالمادة الأساسية التي تمكنه من التفكير ومن إدراك الواقع أو العالم الخارجي من حوله. فبناء المعرفة انطلاقا من الواقع الملموس تتم على مستوى الدماغ الذي يشتغل على تلك المعلومات، انطلاقا من الإشارات الملتقطة من الحواس، وهذه الملكة أو الوظيفة الذهنية هي ما دفعت «دلتاي» لاعتبار الفهم "عملية إدراك جوانية للمعاني من خلال مؤشراتها الخارجية"[24]. هذه القدرة الذهنية التي جاءت في القرآن الكريم تحت اسم الفؤاد، بدليل قوله تعالى: ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عليه مسئولا﴾ (الآية 36، سورة الاسراء).

إذن، فإن أول قدرة ذهنية هي الفؤاد، وهي قدرة يشترك فيها الإنسان والحيوان. لكن ما يمتاز به الإنسان عن الحيوان هو قدرته على تحويل هذه المعرفة إلى صور ذهنية؛ ذلك أن الإنسان لا يستطيع بناء كل معارفه اعتمادا على الفؤاد أو بالأحرى انطلاقا من حواسه، فهناك معاني مجردة كالخير والشر، والسعادة والحب والفن وغيرها التي لا يمكن مصادفتها على أرض الواقع بشكل ملموس، فكيف يمكن إدراكها إذن؟

هنا تبرز قدرة الخيال وما يمكن أن يمدنا به من تصورات وتمثلات تساعدنا على التفكير، كملكة أو وظيفة ذهنية ثانية؛ فالإنسان يصعب عليه -إن لم نقل يستحيل- أن يفكر بدون صور عقلية، هذا على الأقل ما ينبهنا إليه «كوليريدج» حين يقول: "ربما أمكننا كتابة مقال كامل حول خطر التفكير بلا صور عقلية."[25]

أما الوظيفة الذهنية الثالثة، فتتجلى في ملكة الحفظ والتذكر التي تمنحها لنا الذاكرة من خلال قدرتها على تخزين المعلومات والصور واسترجاعها عند الحاجة.

في حين تأتي الوظيفة الذهنية الرابعة على شكل تلك العمليات التي يقوم بها العقل من خلال قدرته على التحليل والتركيب والاستنتاج والقياس وغيرها من العمليات، هذا دون إغفال عملية الربط بين كل هذه العمليات من جهة، والربط بين باقي الملكات الذهنية الأخرى، وربما هذا هو السبب الرئيس الذي جعل العقل يسمى عقلا؛ لأن معنى الجذر (ع. ق. ل) في اللغة العربية يحمل لنا معنى الربط. إذن هنا يمكن أن نقول إن القوى الذهنية تنقسم إلى أربع وظائف أو ملكات كبرى، هي:

  • وظيفة الفؤاد المسؤول عن عالم الواقع؛ أي تحويل إشارات الحواس إلى مدركات ذهنية.
  • وظيفة الخيال على مستوى المخيلة، وهي المسؤولة عن الصور الذهنية والتمثلات التي تنشأ عن الرمز والأسطورة والفن...
  • وظيفة التذكر والحفظ على مستوى الذاكرة أو الحافظة، وهي المسؤولة عن تخزين واسترجاع كل المعلومات والصور عند الحاجة.
  • وظيفة الربط بين الملكات السابقة، وكذلك العمليات المصاحبة له من استنتاج وتحليل وقياس وغيرها على مستوى العقل.
  • بعد التعرف على هذه الملكات الذهنية، يمكن أن نتساءل عن كيفية حدوث الفهم؟ وعن علاقة التأويل بكل ذلك؟

6. الحلقة التأويلية

كما يتضح من التسمية، فالحلقة التأويلية ينبغي أن تنطلق من نقطة أولى تكون هي البداية ثم العودة إليها. فكيف يتحقق ذلك؟

عادة ما تطرح مسألة الدائرة أو الحلقة الهرمينوطيقية كربط بين الأجزاء والكل، والمراوحة بين هذه الأجزاء والكل بغية تحصيل المعنى، وهو ما يجعل هذا الأخير أي تحصيل المعنى يقترب كثيرا من مفهوم الاستبصار عند الجشطلت. وهنا نطرح السؤال ما هو الكل؟ وما هي الأجزاء؟ لا شك أن الكل هنا يتمثل في ماهية علم التأويل بما هو سيرورة وصيرورة في نفس الوقت. أما الأجزاء، فيمكن أن نعبر عنها بالأسئلة الرئيسة التي تؤطر عملية التأويل، وهي: أ. ماذا نؤول؟ ب. لماذا نؤول؟ ج. كيف نؤول؟

أ. ماذا نؤول؟

أولا، نسجل أن الانطلاق من نقطة معلومة يعني الخروج من دائرة العدم، فنحن نحاول فهم شيء ما فقط إذا كان دليلا؛ أي إنه دال ومدلول بمعنى الدليل في اللسانيات؛ أي إن الدليل لا بدأن يكون له على الأقل صورة سمعية وأخرى ذهنية مرتبطة به. كما يمكن أن يكون الدال رمزا أو لونا أو شكلا ... ويقابلها المدلول الذي يكون صورة ذهنية تحيل على ذلك الدال، وهنا ننتقل إلى مفهوم العلامة التي تحيل أيضا على الموضوع المادي؛ أي الوجود العيني في مجال السيميوطيقا.

إن كل عملية تأويلية ينبغي أن تنطلق من دليل له على الأقل صورة سمعية تقابلها صورة ذهنية، فإذا انتفى أو غاب أحد طرفي الدليل أصبحنا أمام عدم. وهذا المعنى يمكن أن نخلص إليه أيضا من خلال معنى الجذر (ع. د. م) الذي يأتي بمعنى فقدان الشيء، فنقول عدم الرجل الشيء إذا فقده. فبالرجوع إلى اللسانيات يمكن أن نقول إن لفظة العدم سواء كانت منطوقة أم مكتوبة هي دال، لكن ما هو مدلولها أي تلك الصورة الذهنية التي ترتسم في ذهن من يتلقاها؟ الجواب: لا شيء فذلك إذن هو مفهوم العدم.

يتضح هنا من خلال هذه التفرقة بين اللسانيات والسيميوطيقا السبب الذي دفع «رولان بارت» لاعتبار اللغة في البحث اللساني أعم وأشمل من العلامة في البحث السيميوطيقي مخالفا بذلك «فردناند دوسوسير»؛ وذلك راجع بالأساس لكون الكلام أكثر تجريدا من العلامة.

ب. لماذا نؤول؟

إن وظيفة التأويل لا تقتصر على فهم وإدراك المعنى المباشر لدليل أمامنا، بل يتعداه إلى ما قد يحمله هذا الدليل من دلائل أخرى من خلال اللغة المجازية والاستعارات التي يلجأ إليها المرسل، وفي هذا الصدد يقول «الكسندر بوب»: "أرضى بالقول: ربما يستطيع مؤلف المعجم معرفة معنى الكلمة وهي معزولة، ولكنني لا أقر بهذه المعرفة حين يتعلق الأمر بمعنى كلمتين مترابطتين."[26]

تظهر لنا إذن حاجتنا للتأويل من خلال امكانية أخذ الدليل لمعاني جديدة جراء تجاوره مع دلائل أخرى في المجال اللساني. أما بانتقالنا إلى الميدان السيميوطيقي، فإن الرموز والأيقونات والألوان... تأخذ دلالات مختلفة داخل الثقافة الواحدة، فما بالنا إذا اختلفت الثقافات وتنوعت؟ حين تستدعي كل علامة علامة أخرى أو أكثر فيما يعرف بالسيميوز؟

كما أن وظيفة التأويل تمتد إلى "إعادة انتاج لعملية انتاج أصيلة"[27]، وهنا يظهر لنا مفهوم انصهار الآفاق بين المرسل والمتلقي، حيث يصبح التأويل محاولة لإنتاج معنى جديد وفق المعرفة التي يمتلكها المؤول حول موضوع التأويل من سياق وثقافة وتمثلات ... شريطة أن ينسجم هذا التأويل مع الواقع، حتى لا نقع في دائرة التأويل الفاسد الذي يسقطنا في وهم الظفر بالمعنى، ونحن آنذاك أبعد ما نكون عنه. "فالفهم يعني إذا إقامة سياقات عامة وإعادة ترتيبها إلى حد ما وسط كل منتظم."[28]

إن مهمة التأويل بهذا المعنى تصبح خروج أو انفلات الفهم من دائرة الوهم. ولتقريب المعنى نسوق المثال التالي: عندما نتلفظ بكلمة تنين أو غول، فإنها صورة سمعية تقابلها صورة ذهنية في خيال المتلقي، وهي صورة ذهنية نابعة من تمثلات الفرد والجماعة، لهذا يعتبر "جيلبير دوران" "المخيال هو الظهور التمثيلي الذي لا مناص منه."[29]

إذن فنحن أمام دليل ما، يعني أننا خرجنا من دائرة العدم. لكن هل هناك وجود فعلي وعيني لكائن اسمه التنين أو الغول؟ الجواب المنتظر هو: لا، طالما أنه لا أحد منا سبق له أن شاهده أمامه. إذن نقول إن التنين ومعه الغول هما كائنان وهميان؛ أي إن لا حقيقة لهما في الوجود المادي. فكذلك التأويل لا يكتفي بحدوث الفهم وتحصيل المعنى لمجرد تحققهما كأحداث ذهنية، بل لا بد من تحققهما في الوجود المادي الملموس. إننا نؤول ببساطة لإقامة علاقة واضحة بين العالم المادي والعالم الميتافيزيقي.

ج. كيف نؤول؟

يتضح من خلال ما سبق، أن "الفهم في النهاية ليس مسألة تتعلق بالسيطرة والتدقيق، ولكنه واقعة وحدث يأخذنا معه."[30] لكن أين يأخذنا معه بالتحديد؟ لا مناص هنا من التذكير بأن الأول = الرجوع. آل الشيء يؤول أولا ومآلا: رجع. وأوّل إليه الشيء: رجعه.[31] والرجوع هنا يفهم على أنه العاقبة، كما قد يُحمل كما رأينا سابقا على أنه عودة إلى البدء ونقطة الانطلاق؛ أي الرجوع إلى حدث، فإن لم يكن حدثا ملموسا على شكل سلوك فعلي أو تصرف ناجم عن الفهم، فعلى الأقل فإنه يغدو حدثا ذهنيا يبرر رفض أو تقبل الأشياء، أو تعديلها حين يتعلق الأمر بمفاهيم أو تمثلات لا تكون مطابقة للواقع.

وباختصار، يمكن أن نوضح سيرورة وصيرورة التأويل (الحلقة الهرمينوطيقية) على شكل الخطاطة التالية:

تقوم عملية التأويل على الربط المنسجم بين حدثين أحدهما خارجي مستمد من معطيات وإشارات العالم الخارجي، التي يتم ملاءمتها مع ما هو مكتسب سلفا من معارف ومعتقدات وأفكار، وكذلك مع ما هو نفسي ووجداني قصد خلق حدث ذهني أو عقلي وهو الحدث الداخلي، هذا الأخير الذي يعاود الظهور على شكل حدث خارجي من خلال التصرفات والسلوكيات الناجمة عن الحدث الداخلي الذهني.

في حالة الرؤية البصرية: الواقع رؤية مادية ← رؤيا ذهنية ← الواقع

في حالة الرؤيا العقلية: يتم اختزال الواقع وتكثيفه ليتشكل مباشرة على شكل رؤيا ذهنية ← الواقع

إن الحلقة أو الدائرة التأويلية تظهر كنسق شمولي يتألف من عدة عمليات مترابطة بشكل آلي وتسلسلي وثيق يؤدي فيها السابق إلى اللاحق، حيث تصبح نهاية عملية ما تعلن بداية العملية الموالية لها، وهكذا دواليك. وهذا ينسجم تماما مع ما يخبرنا به "مارتن هايدغر" حين يقول: "ليس الحد ما يتوقف عنده شيء ما. الحد كما أدركه الإغريق، ما يبدأ منه شيء ما حضوره."[32]

خاتمة

تأتي أهمية الهرمينوطيقا من وظيفتها المتمثلة في إضفاء المعنى ليس فقط على الكلمات أو العلامات، بل على الأحداث أيضا، إذ يتضح وعبر تاريخ تطوره أن التأويل كان "سبيلا إلى التوافق مع وقائع الحياة المتغيرة."[33]

إذا كانت اللسانيات تهتم بدراسة الكلام الإنساني، والسيميوطيقا تهتم بدراسة العلامة التي يعد الكلام الإنساني جزءا منها، فإن الهيرمينوطيقا تهتم بدراسة الأحداث التي تعد السميوطيقا ومعها اللسانيات جزءا منها.

إن السؤال الذي ظل يرافقني طيلة فترة انشغالي بهذه الورقة – وما يزال حتى الآن- هو: ما السبب الذي جعل «غادامير» يغير اسم مؤلفه؟ من الفهم والحدث إلى الحقيقة والمنهج؟ هل هي تلك المدة الطويلة التي استغرقها في إنجازه؟ أم هي تلك الردود التي انشغل بها في الرد على منتقديه؟

لا مشاحة في أن النقد هو حركة ضرورية، بل ومساهمة فعالة في تطور أي حقل معرفي، خاصة إذا كان هذا الحقل المعرفي ينتمي إلى ميدان العلوم الإنسانية، بل إن الهيرمينوطيقا العالمية وكما أرادها غادامير هي محور وجوهر هذه العلوم الإنسانية. لكن هذا النقد لا يجب أن يتحول إلى معارك تجعلنا ندور في حلقة مفرغة، وبالتالي يعيق تقدمنا إلى الأمام، فنصبح بذلك أمام المعنى الحرفي لصراع التأويلات.

فمهما بلغت درجة الاختلاف حول تحديد مفهوم الهرمينوطيقا وتعيين ماهيتها، إلا أنه تقريبا لا اختلاف حول ضرورة انطلاقها من حدث لغوي، مع أخذ اللغة بمعناها الواسع الذي يشمل الحروف والكلمات والصور والرموز والألوان والحركات والإيماءات... سواء كانت مسموعة أو مرسومة، وسواء كانت رؤية مستمدة من الواقع، أو رؤيا تقع في الذهن.

إن التأويل السليم لهذه الأحداث التي هي في الأصل لغوية، وإن كان يقع تحت تأثير ما يحمله الإنسان من معارف ومعتقدات وتمثلات... لا يكون كذلك إلا بمقدار مطابقته للواقع المادي وأحداثه، حتى لا نقع في دائرة الوهم والسراب؛ لأن تأويلنا ذاك هو ما سيحدد بشكل كبير تصرفاتنا وسلوكياتنا المستقبلية. وهذا ما يذكرنا بقصة السراب، وهي قصة مسافر ضاع في الصحراء، وظل يقاوم العطش والجوع مدة طويلة، ويجر جسمه على الرمال لمسافات بعيدة. وبعد أن رأى أمامه واحة على بعد بضع أمتار منه، قال: لا بد أنها سراب، فما يظهر أمامي من ماء وبلح ليس إلا انعكاس رغباتي الباطنية، فعقلي يصور لي ما أفكر فيه لا أقل ولا أكثر، فمات المسكين عطشا وجوعا والماء يتدفق على مقربة منه، وكذلك البلح يكاد يسقط في فمه.

 

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

  1. ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1979
  2. ابن منظور، لسان العرب، المجلد 11، دار صادر، بيروت.
  3. تزفيتان تودوروف، 1978، الرمزية والتأويل، ترجمة وتقديم اسماعيل الكفري، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، ط1، 2017
  4. تيموثي فريك وبيتر غاندي، متون هرمس حكمة الفراعنة المفقودة، 1997، ترجمة عمر الفاروق عمر، المشروع القومي للترجمة عدد 357، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002
  5. جان غراندان، 2003، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 2007
  6. جان غروندان، التأويلية، ترجمة جورج كتوره، الفكر الجديد، 2017
  7. عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، ط1، 2007، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة.
  8. فالنتينا غراسي، 2005، مدخل إلى علم اجتماع المخيال نحو فهم الحياة اليومية، ترجمة محمد عبد النور وسعود المولى ط1، 2018
  9. فرانز- بيتر بوركارد وأكسل فيس، 2008، أطلس علم التربية، ترجمة جورج كتورة، مكتبة الشرقية ط1، 2013، بيروت لبنان.
  10. محمد سعد شحاته، النظم والتأويل في الفكر البلاغي العربي، مشروع قراءة، ط1، كتاب تراث 11، نادي تراث الامارات، أبو ظبي، 2012
  11. مصطفى ناصف، نظرية التأويل، النادي الأدبي، ط1، 2000، جدة المملكة العربية السعودية.
  12. هانز جورج غادامير، 1960، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، مراجعة جورج كتوره، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، طرابلس، 2007.
  13. هشام معافة، التأويلية والفن عند هانس جيورج غادامير، ط1، سنة 2010، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت.
  14. هومي بابا، موقع الثقافة، 1994، ترجمة ثائر ديب، الطبعة 1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. 2006
  15. هيربرت ريد، 1943، التربية عن طريق الفن، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، مراجعة مصطفى طه حبيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1996، جمهورية مصر العربية.
  16. ياسين باهين التأويل وفلسفة التواصل، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2016

[1] محمد سعد شحاته، النظم والتأويل في الفكر البلاغي العربي، مشروع قراءة، ط1، كتاب تراث 11، نادي تراث الامارات، أبو ظبي، 2012. ص22.

[2] تيموثي فريك وبيتر غاندي، متون هرمس حكمة الفراعنة المفقودة، 1997، ترجمة عمر الفاروق عمر، المشروع القومي للترجمة عدد 357، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص 15

[3] محمد سعد شحاته، النظم والتأويل في الفكر البلاغي العربي، مشروع قراءة، مرجع سابق، ص 22

[4] هشام معافة، التأويلية والفن عند هانس جيورج غادامير، ط1، سنة 2010، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ص 20و21

[5] عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، ط1، 2007، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ص256

[6] ابن فارس، مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1979، سوريا، ص158

[7] ابن منظور، لسان العرب، المجلد 11، دار صادر، بيروت ص33

[8] هشام معافة، التأويلية والفن عند هانس جيورج غادامير، مرجع سابق، ص 25

[9] تيموثي فريك وبيتر غاندي، متون هرمس حكمة الفراعنة المفقودة، 1997، ترجمة عمر الفاروق عمر، مرجع سابق، ص 13

[10] فرانز- بيتر بوركارد وأكسل فيس، 2008، أطلس علم التربية، ترجمة جورج كتورة، مكتبة الشرقية ط1، 2013، بيروت لبنان، ص195

[11] عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، مرجع سابق، ص314

12 مصطفى ناصف، نظرية التأويل، النادي الأدبي، ط1، 2000، جدة المملكة العربية السعودية، ص5

13 عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، مرجع سابق، ص222

14 جان غروندان، التأويلية، ترجمة جورج كتوره، الفكر الجديد، 2017، ص8

[15] ياسين باهي، التأويل وفلسفة التواصل، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2016، ص6

[16] عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، مرجع سابق، ص314

[17] جان غراندان، 2003، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2007، ص 127

[18]ياسين باهي، التأويل وفلسفة التواصل، مرجع سابق، ص 5

19 هانز جورج غادامير، 1960، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، مراجعة جورج كتوره، دار أويا للطباعة والنشر والتوزيع والتنمية الثقافية، طرابلس، 2007، ص57

[20] تيموثي فريك وبيتر غاندي، متون هرمس حكمة الفراعنة المفقودة، 1997، ترجمة عمر الفاروق عمر، مرجع سابق، ص13

[21] عادل مصطفى، فهم الفهم، مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، مرجع سابق، ص40

[22] فالنتينا غراسي، 2005، مدخل إلى علم اجتماع المخيال نحو فهم الحياة اليومية، ترجمة محمد عبد النور وسعود المولى ط1، 2018، ص16

[23] هشام معافة، التأويلية والفن عند هانس جورج غادامير، مرجع سابق، ص 37             

[24] ياسن باهي، التأويل وفلسفة التواصل، مرجع سابق، ص28       

[25] هيربرت ريد، 1943، التربية عن طريق الفن، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، مراجعة مصطفى طه حبيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1996، جمهورية مصر العربية. ص51

[26] تزفيتان تودوروف، 1978، الرمزية والتأويل، ترجمة وتقديم اسماعيل الكفري، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، ط1، 2017، ص33

[27] هانز جورج غادامير، 1960، الحقيقة والمنهج، الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، مرجع سابق، ص274

[28] فرانز- بيتر بوكارد واكل فيس، أطلس علم التربية، ترجمة جورج كتورة، مرجع سابق، ص195

[29] فالنتينا غراسي، مدخل إلى علم اجتماع المخيال نحو فهم الحياة اليومية، ترجمة محمد عبد النور وسعود المولى، مرجع سابق، ص17

[30] جان غراندان، المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، مرجع سابق، ص 128

[31] ابن منظور، لسان العرب، المجلد 11، ص32

[32] هومي بابا، موقع الثقافة، 1994، ترجمة ثائر ديب، الطبعة 1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. 2006، ص37

[33] مصطفى ناصف، نظرية التأويل، مرجع سابق، ص5