ما بعد الثورات العربية 2/2: نحو تجاوز ثنائية الداخل والخارج
فئة : مقالات
ابتكرت الدولة التسلطية العربية أساليب عديدة لترسيخ نفوذها واستمرارها؛ فقد وظفت في منتصف القرن الماضي، وبناءً على معطيات زمن القطبية الثنائية كما تبلور في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثنائية التنمية كمقابل للديمقراطية، ثم استخدم بعضها مفهوم الديمقراطية المركزية، وخيارات الشعوب الفقيرة، والأمية في التنمية والتقدم، فأصبحت المفاضلة المغلوطة بين الاقتصاد والسياسة تشكل قاعدة الاعتراض لمواجهة التدبير الديمقراطي في مجتمعاتنا. وتبنت مؤخرا في لقاءات القمة العربية بيانات في الإصلاح السياسي، لا علاقة بين توصياتها وبين ما يجري فعلا على أرض الواقع.
أما آخر مبتكرات الدولة التسلطية في مواجهة مشروع الإصلاح، فتتمثل في الجدل السياسي الموظِّف للزوج المفهومي المكاني، الداخل والخارج، حيث يصبح الإصلاح بناءً على نوعية استخدام الزوج المذكور مرفوضا، لأنه يحصل بفعل أوامر خارجية؛ أي بفعل إرادة أجنبية. وفي موضوع حدث الثورات يتم اليوم ترجمة الخارج بمفردة المؤامرة والتآمر والتبعية.
ولمواجهة هذه الثنائية الجديدة الرامية إلى محاصرة المبادرات الإصلاحية، نستحضر بكثير من الاختزال معطيات موصولة بظاهرتين لا نستطيع تجنب نتائجهما في حياتنا العامة وفي علاقاتنا بالعالم، يتعلق الأمر بظاهرتي العولمة وثورة المعلوميات؛ فقد ترتب عن ثورة المعلوميات ووسائط الاتصال الجديدة والمتطورة، تقليص المسافات بين المجتمعات في مختلف القارات، وأصبحت أساليب الحياة الجديدة المتشابهة في كثير من أبعادها المادية والرمزية قادرة على بناء ثقافات متشابهة، بفعل التأثير الذي يمارسه التداول المشترك للمنتوجات والقيم، وما ينتج عن ذلك من آليات في تركيب أمزجة الكائنات الحية بمختلف أصنافها، وعلى رأسها الإنسان.
وترتبط هذه المسألة بالاقتصاد والسياسة والثقافة، وعوالم إنتاج وإعادة إنتاج الرموز داخل المجتمع. فلم يعد بإمكان البشر تجنب آثار ما ذكرنا في حياتهم، بل إننا نستطيع القول إن الظواهر الجديدة تمارس اليوم في حياتنا تأثيرها الصانع للقيم وأنماط السلوك المختلفة؛ ومعنى هذا أن ما يقع خارج محيطنا الجغرافي، ويعد بالمعيار التقليدي خارجياً وخارجاً وتآمرياً، لم يعد كذلك بفعل الانقلاب الكبير الذي ترتب عن ثورة الإعلاميات ومقتضيات عمليات التعولم؛ فقد اختلط الداخل بالخارج، ولم يعد موقع الخارج هناك، بل أصبح هنا أمامنا وفي قلب ديارنا.
إن ما ينبغي أن نكون على بينة منه هنا، هو أن ما يحصل في العالم بفعل العولمة لا يحصل دائما بفعل خيارات إرادية حرة، بل إنه يتعلق أيضا بمعطيات أخرى موصولة ببنيات النظام الرأسمالي العالمي في تحولاته وطفراته وأزماته، وذلك بصورة تمنح بعض الظواهر صفة الفعل الذي لا يمكن مقاومته، مثلما أنه لا يمكن التكهن بمختلف نتائجه في المدى المتوسط والقريب. ولعل هذا حال مجتمعاتنا في كثير من المعطيات الصانعة لمصائرنا التاريخية، ذلك أن حتميات تاريخية جديدة تمارس اليوم تأثيرها داخل المجتمع الإنساني بآليات تفوق قدرة البشر على التدبير الإرادي لأفعالهم، دون أن يعني التأكيد عل هذه الحتمية انتفاء إمكانية المقاومة، أو إمكانية التكيف والتكييف الذي يمنح الذات دور المشارك فيما يحصل. كما أن ما ذكرنا لا يستبعد إمكانية بناء بدائل أكثر ملاءمة لمقتضيات تركيب عالم أكثر توازنا وأكثر عدلا.
نستطيع القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ضاعفا من آليات عنايتهما بمختلف ما يجري في العالم العربي في مطلع الألفية الثالثة لأسباب معروفة، وأنهما يفكران في الأوضاع العربية في إطار بنائهما لخياراتهما السياسية والإستراتيجية والعسكرية، إلا أن شعارات الميادين في الثورات العربية تخصنا، وهي مرتبطة بالمساعي الإصلاحية في بلداننا، إنها تعود إلى فترة سابقة على ملابسات وصيغ الصراع الحاصلة اليوم في العالم.
نتجه في مجموع البلدان العربية لاستكمال مهمات بدأتها أجيال قبلنا، وعلينا ألا نلتفت كثيرا للتقابلات الحدية التي تنشئها بعض التصورات في سياق حسابات سياسية آنية؛ فالإصلاح مطلب مستعجل، وهو شأن داخلي، ولا يمكننا في الوقت نفسه، وبالضرورة، أن نفكر فيه بمعزل عن كل ما يجري في العالم بجوارنا، وفي قلب جغرافيتنا.
يندرج الحدث بكل زخمه وأفعاله الصانعة للتحول السياسي في تونس ومصر، ثم في باقي البلدان التي اشتعلت فيها نيران الثورة العربية، بما في ذلك البلدان التي تتواصل فيها الانفجارات والمعارك؛ يندرج كل ما سبق ضمن أفق في الإصلاح السياسي العربي مبتورٍ، متقطعٍ ومترددٍ؛ أفق لم تنقطع آثاره، ولم تنقطع ممانعاته، ولم تنقطع نتائجه؛ أفق يصعب الإقرار فيه بالتآمر الذي يعفينا من موقع محدد في الوضع الراهن، موقع نرى أن الاكتفاء به بتغليب منطق التآمر، لا يعفينا من الإشارة إلى شرعية مغالبة الاستبداد والفساد.
ويمكن إدراجه في سياق التحقيب التاريخي، ضمن حزمة الجيل الثالث من أجيال الإصلاح السياسي، الناشئة في الفكر والممارسة السياسية العربية، في مطلع الألفية الثالثة.
تتجه مفاهيم الجيل الثالث وخطواته، من قبيل أفعال انتفاضات الميادين، تتجه لتخطي تركة الخطاب السياسي الإصلاحي العربي، وتركيب أفق جديد في الإصلاح، يتوخى توطين قيم التحديث السياسي في المجتمعات العربية، حيث تتم إعادة بناء مفاهيم الدستور والمواطنة والمؤسسات والشفافية والحكامة داخل الخطابات السائدة في مشاريع الإصلاح، سواء في المؤسسات السياسية (الأحزاب والتنظيمات)، أو في خطابات المثقفين والفاعلين السياسيين. صحيح أنه أفق محفوف بالمخاطر، لكن من يستطيع أن ينفي أن حالة الكساد السياسي العربي؛ أي مرحلة ما قبل الانفجارات، كانت بدورها محفوفة بالمخاطر؟
نغامر هنا بالقول، إن هدف الحدث واحدٌ في مختلف البلدان العربية؛ نقصد بذلك المنازلةَ المناهضةِ للأنظمة العربية في الميادين المختلفة. ولا بد هنا من الإشارة إلى الذهول الذي أصاب الأنظمة العربية، بفعل الرجة القوية للحدث، فلنتابع ونعاين ما جرى ويجري بعيون أخرى وأدوات أخرى.
إذا كانت المماثلة في التاريخ مؤكدة، فإنها مستحيلة أيضا؛ فانفجار تونس ومصر لا يماثلان في كثير من مكوناتهما، ما حصل ويحصل في اليمن وليبيا، ثم سوريا. سيظل الجامع المشترك هو طغيان الأنظمة، وتنوع مظاهر استبدادها، وستظل الاختلافات بين المجتمعات العربية عناوين كبرى في مفاصل الحدث، وتفاصيل فعله الرامي إلى إسقاط أنظمة الاستبداد، وفي الممانعة المتواصلة في اليمن وليبيا، رغم دخولهما معًا دروب ما يعرف بالفترات الانتقالية، المترتبة عن الثورات والانقلابات والتحولات التدريجية، المتوافق في موضوعها بين الأطراف المكونة والفاعلة في المشهد السياسي داخل المجتمع.
لمتابعة الجزء الأول المرجو الضعط هنا