ما بعد "الربيع العربي": قراءة نقدية ومحاولة في فهم التغيير الذي لم يكتمل
فئة : قراءات في كتب
كان "الربيع العربي" وسيظل بكل زخمه ومفارقاته، ذلك الحدث المدوي الذي عقدنا عليه آمالا عريضة، وفتح أمامنا آفاقا واعدة للتغيير وتوطين الحداثة في أفق أنفسنا المعاصرة، أفق لم تنقطع آثاره ولم تتبدّد طموحاته ما دامت نفس الشروط التي أوجدته ما تزال قائمة إلى اليوم، على الرغم من قصّ أجنحة هذا الحلم في التغيير، الذي اصطنعناه لأنفسنا ولمجتمعاتنا سريعا، بعدما دخلت عدد من الدول ظرفا حياتيا داميا، جعل شعلة الربيع وأنواره تخفت أمام ظلام وخريف الاستبداد العربي.
صاحب هذا الحدث منذ انطلاق شرارته الأولى من تونس كتابات ودراسات لا حصر لها، بيد أنّ المتأمل في ما كتب حول "الربيع العربي" يلاحظ أنّ جلّها ذهب إلى تسليط الأضواء على الحدث في آنيته ورصد تجلياته المباشرة، في إهمال كلي أو شبه كلي لأسبابه المركّبة وطابعه التاريخي المعقّد، ربما لأن الحكمة تأتي دوما متأخرة مثل بومة منيرفا، التي لا تبدأ الطيران إلا عند الغسق.
على هذا النحو، يأتي كتاب: "ما بعد الربيع العربي: أسئلة المستقبل"([1]) للمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز، الصادر عن المركز الثقافي للكتاب بالبيضاء، في طبعته الأولى، 2017. والكتاب عمل مرجعي وإضافة بحثية فائقة الأهمية في فهم هذا الحدث المدوّي الذي ملأ الساحات والميادين العربية وشغل الشاشات والرأي العالمي.
عطفا على ما مرّ وما سيأتي، سيكون من المفيد أن نبدي بعض الملاحظات الخاطفة والإلماحات البرقية حول ظاهر الكتاب، قبل التوقف عند مضامينه.
- أولا: نحن إزاء قلم مغربي يشق طريقه باقتدار في عالم التراث، وواحد من أهم من تناول بالدرس جدلية السياسة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي، وحاور مشاريع المفكرين العرب المعاصرين، وأعاد الوصل بين النهضة ومشاريع الإصلاح والتحديث... وكل هذا يؤشّر على أنّ تناول بلقزيز بالدرس للمواضيع والإشكاليات الحارقة التي تطرحها علينا اللحظة التاريخية، ومن ضمنها الربيع العربي كمحطة من المحطات المفصلية في تاريخنا الراهن، يشكل إضافة نوعية، إذ له من سعة الثقافة ما يمكّنه من توظيف معطيات نظرية ومنهجية ومعرفية للقيام بتشريح دقيق لفهم ما جرى.
- ثانيا: يرنو بلقزيز من خلال هذا الكتاب استكمال ما بدأه في عمله السابق "ثورات وخيبات"([2])، لكن وفق منهج تحليلي يتخطى مقاربة الحدث في آنيته، نحو اعتماد "المدى البعيد" وفق المؤرخ فيرناند بروديل، أو "العوامل المتراكمة" وفق المفكر السوري عزيز العظمة، وهو إذ يفعل ذلك يجعل من الربيع العربي نقطة تحوّل وليس نقطة بدء.
- ثالثا: اتبع المؤلف منحى التركيب، محاولا أن يطل على حصيلة حقبة كاملة لفهم ما جرى، ولأجل ذلك استند في تحليله إلى مقاربة شمولية تتجاوز القراءة الكلاسيكية إلى قراءة تركيبية تتجاسر فيها التخصصات وتتشابك (تاريخ، سوسيولوجيا المعرفة، سيكولوجيا، والفكر السياسي الحديث).
هندسة الكتاب:
جاء الكتاب في 237 صفحة من الحجم المتوسط، تتوزعها ثلاثة أقسام، وهي على التوالي: "في الربيع العربي ونتائجه"، ثم "من التفكيك الكولونيالي إلى التفكير في المستقبل"، وأخيرا "قراءة أولية في أزمة المعارضات العربية".
أطروحة الكتاب:
تقوم أطروحة الكتاب على محاولة الإجابة عن سؤال: هل كنّ فعلا إزاء "ثورات" بالمعنى النظري؟ أم إن ما جرى لا يعدو أن يكون مجرّد انتفاضات أو هبّات؟
ومن رحم هذه السؤال المركزي، تتناسل الأسئلة التي تفتح الموضوع على المستقبل، لعبور مساحة الفراغ، من قبيل: ما العمل بعد سقوط بعض الأنظمة؟ هل امتلكت الشعوب العربية العدة اللازمة لتوديع الاستبداد والانخراط في معمعة الديمقراطية؟ هل أخلفنا الموعد مع التغيير؟ أم إن ربيعا جديدا قد يزهر من تحت الأنقاض؟ وإلى أيّ حد يمكن استئناف المسير (التغيير المجهض) مع درء السيناريوهات التراجيدية؟
بالعودة إلى الكتاب، كشفت المقدمة أن الربيع العربي في صعوده العاصف وتمدّد السريع ونجاحه النسبي في إزاحة بعض الأنظمة التي عمرت لعشرات السنين، قد أثار اهتمام الصحافة والإعلام والساسة في العالم بأسره، كما شكل لحظة مفصلية في تاريخنا الراهن، على أنّ هذا لا ينهض دليلا كافيا للقول بأننا كنّا إزاء ثورات بالمعنى النظري. ها هنا يطفو السؤال: هل نستطيع تصنيف ما جرى في إطار نظريات الثورات، كما رتبت سماتها وخصائصها في التاريخ السياسي المعاصر؟
يقتضي التفكير في هذا السؤال والاقتراب من أحوازه، مطالعة نماذج الثورات الكبرى التي صنعت التحولات السياسية المعاصرة، وفي مقدمتها: (الثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية)، وذلك قصد التحقق بين ما حققته هذه الأخيرة، وبين ما تحقق في الوطن العربي، وإن كان القياس مع وجود الفارق ليس بالهيّن البتة.
في هذا الصدد، يطالعنا عمل حنة أرندت "في الثورة"([3])، الذي حاولت من خلاله استقراء ظاهرة الثورات بالانطلاق من الثورات السياسية الكبرى في التاريخ، وفي مقدمتها الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية. ترى أرندت أنّ طبيعة الثورات ووظيفتها تتجلى أساسا في ترجمة لحظة الحماسة الثورية إلى نظام تعددي للمشاركة السياسية والديمقراطية المدنية، وذلك عبر محطتين أساسيتين: التحرر "Liberation" والحرية "Freedom"، حيث تبدأ الثورات بالتحرر أي الخروج من قبضة الاستبداد، لتصل إلى التأسيس للحرية التي تشكّل الهدف النهائي للثورة، وتجسيده عبر صياغة دساتير تسمح للحرية بالظهور وتمكينها في الحياة العامة والحياة السياسية، مما يتطلب كثيرا من اليقظة حتى لا يتم تهريب مكاسب الثورة.
في سياق هذا المنجز التحليلي، نفى بلقزيز أن تكون تلك الأحداث ثورات، وله في هذا الصدد من الأسباب والتقديرات ما يحمله على ذلك؛ أولها: أنّ إسقاط رأس النظام لم يؤدي إلى إحداث قطيعة مع الاستبداد، الذي عاد متّخذا أشكالا جديدة، باعتباره نسقا معقدا، فالسلطة في جوهرها هي: شبكة من العلاقات المتشعبة وفق البراديغم الذي بلوره فوكو([4])، ثانيها: كون ما جرى لم يغير واقعنا ولم يحدث تحولا جذريا شاملا للبنى والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية وأشكال السلطة بما يعزّز مسارات التقدم. ثالثها أنّ الربيع نجح في هدم القديم (سقوط بعض الأنظمة) لكن الجديد لم يولد بعد، كما كان يقول غرامشي. رابعها أنّ ما جرى عاد بنا إلى "وراء الوراء" وأتى على مرحلة بعجرها وبجرها، وأخرج من جوف البنى الاجتماعية أسوأ ما فيها - قيام داعش - التي نقلتنا من عصر الدولة إلى "ما قبل الدولة".
وفق هذه الإلماحات، من الأليق القول بأن ما حصل في الأوطان العربية، عبارة عن انتفاضات أو هبّات أو تمرّدات أو ما شابه ذلك، هاهنا حقّ لنا أن نتساءل عن الأسباب والعوامل التي حالت إلى فشل الانتفاضات العربية في تحويل فعل التمرّد على الاستبداد إلى ثورة؛ أي إلى فعل حقيقي يبدأ بالتحرّر لينتهي بالتأسيس للحرية؟
في النص، نعثر على عاملين كبيرين حالا دون ترجمة ما هو افتراضي إلى منجز حقيقي: أولهما يتّصل بالعامل السيكولوجي (حالة الإحباط الثوري)، بعد انتقال المزاج العام انتقالاته الفجائية - في بحر سنوات معدودات - من الحماسة للتغيير ومشاعر التفاؤل الزائد، إلى حالة النكوص واليأس من التغيير الممزوج بانكسارية نفسية عميقة، بعدما أبانت تلك "الثورات" عن تواضع إمكانياتها، وأنها كانت تعد بأكثر مما هو ممكن. أما ثانيهما، فيرتبط بالعامل الثقافي، خاصة الثقافة السياسية الموجهة لوعي الفاعلين في الأحداث، والتي اتسمت بكونها ثقافة قصووية غير واقعية، وعفوية غير منظمة، وشعاراتية غير برنامجية، وبين هذه السمات الثلاث اتصال وارتباط لا تنفصم عراه.
وفي سياق وضع الثقافي تحت مجهر التحليل النقدي، يتراءى لنا أن الأحداث الأخيرة أسقطت ورقة التوت عن المجتمعات العربية الإسلامية، كاشفة عن خصاص ثقافي وضعف في التنظيم، وهنا حقّ لنا أن نتساءل: هل يمكن إحداث ثورة من دون إطار نظري أو مرجعية فكرية (موجهة لتحركات الثوار)؟ هل امتلك "المتظاهرون" في الساحات والميادين ما يلزم من العدّة الفكرية والجاهزية لترجمة الشعارات والانتظارات الجماعية إلى أفعال وإنجازات محققة؟
على هذا النحو، يمكن القول إن المعارك المرتقبة في مجتمعاتنا من أجل توطين الحداثة السياسية والأفق الديمقراطي المأمول، لا يجب أن تنفصل عراه عن معركة الإصلاح الثقافي. وفي هذا الصدد، رأى المؤلف أن لا سبيل للخروج من هذا المأزق وتحصين مكتسبات الثورات، إلا بإطلاق مشاريع فكرية تهدف إلى القيام بمراجعات كبرى في جميع الميادين([5]).
ها هنا، يطالعنا الدرس التاريخي الكبير، لا سياسة ولا أفق سياسي من دون تنظيم. بعبارة أخرى، إنّ أية "ثورة" أو "إصلاح" يفتقر إلى برنامج سياسي، ولا يكون حاملا لمشروع مجتمعي، مآله الفشل والانتكاسة إن لم ينته إلى الفوضى، والفوضى لا تلد غير مزيد من الفوضى، ومن ثمة غياب الاستقرار والتطاحن، وهذا قدرنا الحزين الذي نصارع للانفكاك منه.
على هدي ذلك، يتوقف المؤلف عند استجماع حصيلة ما جرى وفق مقياس مزدوج: النتائج المنظورة وتلك البعيدة الأثر. في هذا السياق، لا جدال أنّ كل ظاهرة في الغالب لها وجهان؛ أحدهما مشرق والآخر مظلم، وهذا حال "الربيع العربي". لنبدأ بمساوئه المنظورة إذ تطالعنا: أولا: الاختزال الرثّ للديمقراطية في صناديق الاقتراع، أو ما أسماه بـ "الداروينية السياسية" حيث البقاء للأقوى في لعبة (غالبية/ أقلية). ثانيا انزياح الفعل الاحتجاجي عن مساره السلمي وجنوحه إلى العمل المسلح. ثالثا: الخلط الحاصل بين إسقاط النظام وإسقاط الدولة في الاجتماع العربي الإسلامي. رابعا: تغلغل الإرهاب في الجسم العربي بفعل الثورة المضادة أو الفوضى الخلاقة. أما فيما يتعلق بتلك البعيدة الأثر، فنجد: أولا، مشاعر الإحباط النفسي الحاد وتأثيرها على العيش المشترك مستقبلا. ثانيا، الميراث الثقيل لتجهيل جيل بأكمله. ثالثا، التداخل والتماهي الحاصل بين الدين والسياسة، وتنامي مسلسل اختطاف الإسلام.
هذه المعضلات مجموعة، تشكّل مصدر تهديد يعتري جسد الدول العربية، وحجرة عثرة أمام تحقيق التغيير وتوطين الحداثة السياسية في مجتمعاتنا. لكنها في الوقت عينه، تحريض للنخب على إعادة التفكير في وحدة المصير واستشراف المستقبل بتروّي وحكمة ومسئولية تاريخية، بعيدا عن الخفة والداروينية السياسية.
عطفا على ما سبق، إنّ القول بأن هذا "الربيع العربي" شكل لحظة انكسار وغبار، لا يعني البتّة أنه خال وعار من الحسنات، إذ حمل في جوفه حركة مدهشة تعكس ديناميكية المجتمعات العربية ورغبتها في الخروج من كهفها المظلم الذي دخلته منذ أمد بعيد، وتتمثل أساسا في: يقظة القوى الشبابية وتنامي فاعليتها، رغم سياسات التجهيل والإقصاء، ثم انهيار حاجز الخوف الذي صنعته عقود الاستبداد، فضلا عن تنامي الوعي بأهمية الدولة الوطنية الحديثة للخروج من وضع التخلف والانحطاط إلى وضع التقدم والارتقاء.
هل بقى ثمة من مستقبل للتغيير في الوطن العربي بعد هذه التجربة المرة من المعاناة والدماء؟ كان جواب بلقزيز واضحا، بقوله: إن التغيير قادم لا محالة، فهذه سنة التاريخ أولا، وعلامات المرحلة ثانيا، لكن في أي اتجاه؟ وكيف لأي تغيير قادم أن يحدث مع تجنيب مجتمعاتنا الهزات الدراماتيكية والمسارات الدموية؟
في الواقع إنّ تجربتنا الخاصة المسيّجة بأسلاك "السياسة المقدسة"، لا وجود لفقه "الثورة" بل لتحذير من الثورات رابطة إياها بالفتن والمروق والخروج عن الطاعة، أما "الثوار" فغالبا ما كانت تنعتهم النصوص بالرعاع والسفلة والدهماء والغوغاء، وغيرها من النعوت التي تصنفهم في دائرة الجاهلين بمصلحة الأمة.
من هنا تأتي أهمية الحاجة إلى المثقف العضوي بتعبير غرامشي، لينير الطريق لأمته المفجوعة ويستلهم العبر والدروس، من خلال التاريخ السياسي المقارن، الذي بثبت العكس، إذ تظهر الثورة كوعد بالحرية والتقدم. في هذا الصدد، رسم بلقزيز خارطة طريق للخروج من دياجير هذا الليل المظلم، وراح يقدم الأدواء المناسبة لتضميد الجرح، وذلك عبر ثلاث محطات لا تقبل الإرجاء: أولها العمل على إعادة الاعتبار للعمل السياسي الذي تم ازدراؤه طويلا بسبب طغيان نزعة العفوية. ثانيها الحدّ من التداخل الماهوي بين الديني والسياسي، وما يتولد عنه من دينامكية انقسامية تنهك مناعة المجتمع والدولة في آن. ثم دعوة إلى تفكير حقيقي في تحقيق الاندماج الاجتماعي والانصهار الوطني، الذي عانى ولا يزال يعاني من عسر كبير.
حول هذه الأخيرة - الاندماج الاجتماعي - تظهر الدراسات دور العامل الخارجي (الهجمة الكولونيالية)، وأثرها في تفاقم هذه الظاهرة عبر عمليات البلقنة وإذكاء النزاعات الهووية وتسخيرها لصالحها تحت شعار "فرق تسد". على أنّ هذا لا ينهض دليلا كافيا لفهم المعضلة، إذ إن الأثر الخارجي ذلك، يغدو عديم المفعول إن لم يجد البنية الداخلية الحاضنة له، وتطالعنا في هذا المعرض، ثلاثة عوامل: أولها الإرث التاريخي، حيث إن عامل الانقسام الحالي ليس وليد اللحظة بل له جذور تاريخية تعود للفترة الكلاسيكية/ المبكرة، فالتطابق بين الأمة والدولة لم يحصل إلا في القرنين الأولين للهجرة، بعد ذلك تعددت الدول والممالك والإمارات، ثانيها فشل سياسات الدولة الوطنية التي أعقبت جلاء الاحتلال، ثالثها العامل الديني، وإن كان قد لعب دورا إيجابيا كعنصر لحمة وتوحد من أجل التحرر الوطني في فترة معينة، فإنه أصبح اليوم عنصر تطاحن يضعف وينهك الدولة والمجتمع معا في آن، وهو ما سبق أن أثاره بإسهاب في دراسة سابقة تحمل عنوان "الدولة والدين".([6])
على هذا النحو، يتراءى لنا أن فعل التجزئة الكولونيالية للبلاد العربية الإسلامية، بمرحلتيه "السيكسبيكيوية" التي شرعت بموجبها فرنسا وبريطانيا في تنفيذ جراحة كولونيالية - للجسد العربي - استدامة لهيمنتها وحفاظا على مصالحها الإستراتيجية في المنطقة (اكتشاف النفط)([7]). أو المرحلة الثانية، التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، بدءا بالحرب على العراق، مرورا بالحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006، وصولا إلى أحداث "الربيع العربي". التي شكلت الفرصة الأمثل للذهاب بسياسة الفوضى الخلاقة إلى ذروتها، ليصبح معها التشتت والتفكك مآل البلدان العربية.
والملاحظ أن عمليات التجزئة والتفكيك هذه تختلف بين المحطتين، إذ جرى الانتقال من هندسة تنتج الدولة الوطنية (الهجمة الإمبريالية) إلى هندسة تنتج الدولة الطائفية (ما بعد انهيار جدار برلين وصولا إلى الربيع العربي).
وفي دروب القضايا المطروحة على بساط المراجعة، يصوب بلقزيز بوصلته شطر المعارضات العربية. هكذا، نجد أنفسنا أمام أزمة مركبة: السلطة والمعارضة: وجهان لعملة واحدة؛ أي، هشاشتان تقتات الواحدة على الأخرى.
وفي الحقيقة لم يكن موضوع أزمة المعارضات جديدا ولا مركزيا في هذا الكتاب، بل يبدو هدفا طويل الأمد كان قد بدأه في عمل سابق([8])، بما في ذلك اعتبار المعارضة من نوافل أبجديات السياسة الحديثة وأبْده حقائقها، إذ تتلخّص وظيفتها في "صون الحياة السياسية من أسباب الاضطراب واستتباب الاستقرار". وعليه، تصير المعارضة وسيلة لتعزيز الممارسة الديمقراطية وحفظ التوازنات السياسية والاجتماعية، إذ لا دولة ممكنة في التاريخ الحديث قائمة على رجل واحدة، إلا في الدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية والدول السلطانية.
على ضوء ذلك، تنبهنا الأحداث الجارية إلى حقيقة مفادها: أنّ ما من نظام رافض للمعارضة المدنية ويغيّبها عبر سياسات القمع والإقصاء، إلا ويفتح الباب لمعارضات أخرى غير قابلة للضبط والاستيعاب، تجنح إلى توسّل أدوات جديدة في السياسة (العنف)، ثم يفرض على نفسه في نهاية المطاف أن يتنحّى لها تحت وطأة الأمر الواقع أو يتفاوض معها على الأقل.
ثمة نقطة أخرى، يجب أن نتفطن إليها وهي أن ما جرى، مزّق الحجاب عن الحقيقة وكشف سوءات المعارضات العربية التي تبدو لنا كما لو أنها الوجه الآخر للنظام، فإلى جانب وقوفها على هامش الانتفاضات في البداية، أو انتهازيتها السياسية، سواء بركوب الموجة أو المساومة مع فلول النظام. غير أنّ أظهر مظاهر هذه الأزمة تجلّى في جنوحها عن المسار السلمي، والانتقال من إسقاط النظام إلى إسقاط الدولة وتمزيق النسيج الوطني، عبر العمل المسلح (حروب أهلية لا تبقي ولا تذر)، أو التعاون مع الأجنبي (العمالة وتقديم السخرة له)، وحق لنا هنا أن نتساءل عن مسببات الأزمة؟
للمسألة في نظر بلقزيز أبعاد معقدة؛ أولها: افتقاد المعارضة للمشروع السياسي المستند إلى رؤية وبرنامج يخاطب مصلحة العامة، ثانيها: الجنوح إلى الطوباوية والافتقار إلى الواقعية السياسية، ثالثها: الافتقار إلى الديمقراطية الداخلية مما يجعل منها رديفة لاستبداد النظام السياسي مع اختلاف في المواقع فقط، رابعها: علاقتها بالجماهير ظلت موسمية ومناسباتية، خامسها: التكوين العصبوي المؤطر للمعارضات، سادسها: التوظيف الديني في المعارضة.
بيد أنّ علّة العلل، نعثر عليها في فشل بناء الدولة الوطنية / دولة الاستقلال، بصفتها البيئة الحاضنة لكل تلك الأزمات، نظرا لتكوينها الهجين الجامع بين الأصل والعصر، وما رافق ذلك من تحديث التقليد؛ أي تحديث تقني مفصول عن مقدماته الثقافية والاجتماعية، وهي المفارقة التي نبّهنا إليها منذ ما ينيف عن أربعة قرون صاحب التاريخانية([9]).
مجمل القول، نحن أمام أزمة مزدوجة مع اختلاف في المواقع فقط، وعليه، يمكن القول إنّ أزمة السلطة لا يضارعها في سلبيتها سوى نقيضها المقابل: المعارضة، التي تقيم الدليل على عجزها عن أن تشكّل البديل المنتظر، وأمام هشاشة الاثنين يدبّ في هذا الجسم الوهن. فما العمل؟ وما السبيل للخروج من هذا النفق الذي حشر فيه الاجتماع العربي الإسلامي؟
أمام هذا العجز والوهن، يرتفع الشعور والوعي بأن السياسة تخشى الفراغ مثل الطبيعة في المنظور الأرسطي، من هذا المنطلق لا محيد عن النقد والمراجعة الشاملة اليوم، من أجل التصحيح، وذلك في اتجاهين: سياسي (إعادة الاعتبار للتنظيم والعمل السياسي)، واجتماعي (تحسين شروط عيش الناس، وتطوير نظم التفكير لاستصلاح الذهنيات)، وهي مطالب لا يقبل التأجيل ولا التأخير.
خاتمة:
في متمّ هذه القراءة، خيّل إلينا هذا الحدث الاحتجاجي الذي ملأ الميادين والساحات العربية، في البدء شبيها بحمامة نوح العائدة إلى السفينة حاملة غصن زيتون وطين برجليها، بشارة بأن الأرض قد جفت من الفساد وبأن طوفان الاستبداد قد بدأ يتقهقر، معلنة أن جغرافيات جديدة (الحرية، الكرامة، والمواطنة) قد بدأت تظهر، لكن ما أعقب ذلك الانفجار من سوء المآلات، ترتّب عنه نوع من الإحباط وشعور باستحالة التغيير. ومع ذلك، إذا أرادت مجتمعاتنا أن تحتفظ بسموها ووقارها، وأن تضمن لنفسها الانتماء إلى هذا العالم، وأن لا تلقي بها المكنسة الهائلة للتاريخ إلى حيث المزابل كما يقول هيجل، فعليها أن لا تفرط في حريتها وكرامتها، وأن لا تكفّ عن البحث في شروط التغيير، حتى تخرج من هذا الكهف الرتيب. هذا هو الدرس الذي يمكن أن نستفيده من وقائع "الربيع العربي"، رغم مرارته ولكن ما العملُ؟ إذا كان الدرس ذاك شرًّا لابد منه في تمرين الشعوب على الحرية.
بيبليوغرافيا:
- بلقزيز (عبد الإله)، المعارضة والسلطة في الوطن العربي: أزمة المعارضة السياسية العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001
- بلقزيز (عبد الإله(، "الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي"، بيروت، منتدى المعارف، ط.1، 2015
- بلقزيز (عبد الإله(، "ثورات وخيبات: في التغيير الذي لم يكتمل"، بيروت، منتدى المعارف، ط.1، 2012
- بلقزيز (عبد الإله(، "ما بعد الربيع العربي: أسئلة المستقبل"، الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، ط.1، 2017
- العروي (عبد الله)، العرب والفكر التاريخي، بيروت، دار الحكمة، 1973
- كمال عبد اللطيف، العرب في زمن المراجعات الكبرى: محاولات في تعقل تحولات الراهن العربي، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016
- Arendt Hannah, On Revolution, USA, Penguin Classics, 2006
- Deacon Roger, "Strategies of Governance Michel Focault on Power", within Theoria: A journal of Social and Political Theory, N: 92, December 1998, pp. 113-148
- EngdahL (William), "pétrole: une guerre d’un siècle", Paris, Jean Cyrille, 2015
[1]- بلقزيز (عبد الإله(، "ما بعد الربيع العربي: أسئلة المستقبل"، الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، ط.1، 2017
[2]- بلقزيز (عبد الإله(، "ثورات وخيبات: في التغيير الذي لم يكتمل"، بيروت، منتدى المعارف، ط.1، 2012
[3]- Arendt Hannah, On Revolution, USA, Penguin Classics, 2006
[4]- Deacon Roger, ˝Strategies of Governance Michel Focault on Power˝, within Theoria: A journal of Social and Political Theory, N: 92, December 1998, pp. 113-148
[5]- في هذه النقطة يتقاطع بلقزيز مع ما ذهب إليه كمال عبد اللطيف في كتابه: العرب في زمن المراجعات الكبرى: محاولات في تعقل تحولات الراهن العربي، منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016
[6]- بلقزيز (عبد الإله(، "الدولة والدين في الاجتماع العربي الإسلامي"، بيروت، منتدى المعارف، ط.1، 2015
[7]- لعب اكتشاف النفط ببلدان الخليج العربي دورا فعّالا في دخول المنطقة تحت المشاريع الإستعمارية، خاصة بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى حيث سيصبح النفط في قلب مشاغل القوى العظمى، ومن ثم شكل العامل الرئيسي المتحكم في تقسيمات "سايكس - بيكو"، للاطلاع على الموضوع أكثر انظر:
- EngdahL (William), "pétrole: une guerre d’un siècle", Paris, Jean Cyrille, 2015, P 5
[8]- بلقزيز (عبد الإله)، المعارضة والسلطة في الوطن العربي: أزمة المعارضة السياسية العربية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2001
[9]- حول تجربة التحديث في الوطن العربي التي أعقبت جلاء الاستعمار، أشار العروي إلى أنّ عملية تحديث البنى المادية ترافقت مع إعادة إنتاج التقليد في البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية. للاطلاع أكثر راجع:
- العروي (عبد الله)، العرب والفكر التاريخي، بيروت، دار الحكمة، 1973