ما معنى المشروعية الإسلامية العليا؟
فئة : مقالات
يمكن تلخيص الخلاف بين دعاة تطبيق الشريعة الإسلاميّة أو "الدولة الإسلاميّة" وبين مخالفيهم في نقطة واحدة هي المشروعيّة الإسلاميّة العليا؛ بمعنى انسجام الأحكام والقوانين مع الشريعة الإسلامية أو ألاّ تتناقض معها، فهذا هو المفهوم الإجرائي الوحيد لتطبيق الشريعة أو الدولة الإسلاميّة، ولكنّها مسألة تثير سؤالين عمليّين محدّدين، كيف يحدّد الاختلاف مع الشريعة الإسلامية وكيف يحسم هذا الاختلاف؟ ذلك أنّها قضيّة موضع جدل وخلاف دائماً أو غالباً، حيث يمكن ببساطة أن يدّعي أصحاب كلّ رأي أو موقف أنّهم منسجمون مع الشريعة الإسلاميّة أو لا يتناقضون معها، ويمكن أيضا القول إنّنا مع إقرارنا المشروعيّة الإسلاميّة العليا، فإنّنا نؤيّد تطبيقاً ما مخالفاً للشريعة الإسلاميّة حتى مع إقرارنا أنّه مخالف، علما بأنّه يسعنا أن نصف كلّ موقف عقلانيّ بأنّه منسجم مع الشريعة ولا ينطبق عليها، ويملك كلّ اتّجاه المجادلة، والزعم بعدم مخالفة المشروعيّة الإسلاميّة العليا، ولكنّه قد يتخلى عن إيمانه بهذا المبدأ ويراه مناقضاً لضميره، ليقول صراحة إنّه لا يرى حرجا في هذا الاختلاف مع الشريعة، أو أنّه لا يرى ضرورة لهذه المشروعيّة، أو لا يقبل ضميره سواء كان مؤمناً أو غير مؤمن بفكرة الحق المطلق الذي ينظّم حياة الناس وشؤونهم، وقد يجد آخرون مبدأ المشروعيّة عبثيّا لا معنى أو لا لزوم له أو أنّه رمزيّ لا يغيّر شيئا، طالما أنّه يمكن تكييف المواقف والتشريعات لتتطابق مع الشريعة أو لتنسجم معها.
من يقرّر بشأن انسجام قانون أو حكم مع الشريعة الإسلاميّة؟ ما المرجعيّة التي يحتكم إليها لتقرير الشرعيّة أو عدمها؟ الإجابة في جميع الأحوال هي سلطة بشريّة، شخص أو مجموعة من الناس أو مؤسّسة تملك السلطة والتفويض لتقرّر ذلك، السلطة السياسيّة "المتغلّبة" أو السلطة التشريعيّة المنتخبة، أو سلطة دينية تستند إلى إمامة دينية متوارثة يزعم أصحابها أنّها منصوص عليها، ولكنّها إمامة دينيّة توقّفت منذ مئات السنين كما يعتقد معظم أتباع هذا المذهب، عدا فئة قليلة منهم يعتقدون بتواصل الأئمّة، ويعتقدون أنّ ثمّة إماماً قائماً (الإسماعيليون والزيديون)، وفي جميع الأحوال فإنّ البشر هم الذين يقرّرون ما هو حكم السماء! فالأئمّة الذين يحظون بالاتباع والقبول لدى فئة من الناس أو العلماء الذين يثق بهم آخرون ويتبعونهم هم بشر يخطئون ويصيبون، وتتأثّر أحكامهم بالضرورة وحتما بمستوى المعرفة والذكاء والنزاهة والهوى والخطأ والجهل والانحياز... وعند التطبيق العملي لهذه الأحكام، فإنّها تحتاج بطبيعة الحال إلى سلطة سياسيّة قاهرة وقادرة على تنفيذ الأحكام وتطبيقها، وهذه السلطة إمّا أنّها حازت السلطة بالغلبة والقوّة أو أنّها منتخبة من الشعب، وهكذا فإنّ من يحسم المشروعيّة إمّا سلطة سياسيّة عسكريّة متغلّبة أو سياسيّة منتخبة يحميها عقد اجتماعي يتوافق عليه جميع المواطنين أو أغلبهم! إذن ما معنى المشروعيّة الإسلاميّة العليا؟ إنّها ببساطة مشروعيّة السلطة بغضّ النظر عن طبيعة هذه السلطة وكفاءتها وبغضّ النظر عن مصدرها وشرعيّتها!
ما القيمة العمليّة لمقولة المشروعية الإسلامية العليا؟ وما القيمة الدينيّة أو المعنويّة لها؟ الواقع أنّها ليست ديناً من السماء ولا تملك شرعيّة دينيّة إلا بمقدار ما يعطيها الناس هذه الشرعيّة! المشروعيّة العليا إذن هي الناس أو الغلبة، ولا معنى في الحقيقة للمشروعيّة الإسلاميّة العليا، إلاّ أنّها مبدأ تواضعت عليه السلطة المتغلّبة أو الأمّة في حالة كونها مصدر السلطات! وإذا رأت فئة من الناس أنّ الأحكام المطبّقة في دولة ما تتناقض مع الشريعة، وأنّها مخالفات توجب عزل السلطة السياسيّة والتنفيذيّة، لتستبدل بها سلطة سياسيّة تطبّق الشريعة الإسلاميّة؛ كيف تعزل هذه الحكومة؟ لن تعزل بطبيعة الحال إلّا بالغلبة (ثورة أو تمرد أو حرب وصراع أو انقلاب عسكري) أو بالعودة إلى السلطة التشريعيّة المنتخبة التي قد تحجب الثقة عن الحكومة لأنّها لم تطبّق قانوناً مقرّا، وأمّا إذا كان القانون نفسه مخالفاً للشريعة، فإنّها مسؤوليّة السلطة التشريعيّة، وليس ثمّة خروج من الاختلاف إلاّ باللجوء إلى المحكمة الدستوريّة أو بعزل السلطة التشريعيّة بالقوّة والغلبة، وفي جميع الأحوال فإنّ البشر هم أنفسهم ببشريتهم وعقولهم وأهوائهم وعصبيّاتهم ونفوذهم واتجاهاتهم وأفكارهم يقرّرون المشروعيّة الإسلاميّة، إمّا بالقوّة والقهر أو الانتخاب والتصويت،.. والحال أنّ الأمّة أو السلطة المتغلّبة هي المشروعيّة العليا، وليس من مشروعيّة سواهما! وهكذا فلا معنى عمليّاً أو قانونيّاً أو سياسيّا لمقولة المشروعيّة الإسلاميّة العليا.
ولكن يمكن للناس أفرادا أو جماعات أو مجتمعات أن يفهموا الدين ويطبّقوه ويتّبعوه وفق ما يتاح لهم من فرص وسلطات بعيدا عن الدولة، وهم بطبيعة الحال أحرار في فعل ذلك ما داموا لا يخالفون قوانين الدولة وسيادتها، سواء كانت دولة تقودها سلطة متغلّبة بالقوّة أو بالانتخاب! وهكذا، فإنّ فهم الدين وتطبيقه هو في الحقيقة شأن فرديّ أو مجتمعيّ، يمارسه الأفراد والمجتمعات ضمن نطاق ولايتهم وحرّيّاتهم وعلاقتهم بالدولة، ولا شأن للدولة بذلك ما داموا لا يخالفون القانون، وببساطة هذه هي العلمانيّة أو الاستقلال بين الدين والدولة، وهي أيضاً الحل الطبيعي والصحيح للعلاقة بين الدين والدولة والمجتمع.
فالدولة تضع القوانين والسياسات وفق ما تقرّره السلطة التشريعيّة المنتخبة أو المعينة، ولا تملك في الحقيقة سلطة دينيّة ولا يحقّ لها أن تؤدّي دوراً دينيّا، لأنّها لا تملك أن تصف حكماً أو قانونا أنّه نزل من السماء، وخير للمواطنين والمجتمعات المتديّنين منهم وغير المتديّنين والمؤمنين وغير المؤمنين أن تتّخذ الدولة موقفا محايداً؛ فالدولة تملك من السلطة والقوّة ما يكفي وزيادة، لديها السلطة التشريعيّة المنتخبة أو المعينة والقضاء والمحاكم والجيش والأجهزة الأمنيّة والموارد الماليّة التي تجمعها من الضرائب أو الأموال العامة، ولا تحتاج بعد ذلك إلى غطاء دينيّ، ولا يطيق المواطنون بعد كل هذه القوّة والموارد بيد السلطة أن تكون السماء أيضاً إلى جانبها!
وبذلك فإنّ الدين شأن فرديّ ومجتمعيّ، الممارسة والفهم والتعليم والتطبيق، يفترض ألاّ تتدخل الدولة به وأن تترك للمجتمعات إقامة المساجد والمعابد وتنظيمها والإنفاق عليها، وأن يلتزم الأفراد بأنفسهم وبدافعهم الإيماني بالدين وتعاليمه، وتحاول المجتمعات والمؤسسات المجتمعيّة والتيارات المتديّنة أن تؤثّر في السياسات والتشريعات وفق ما تراه انسجاماً بين الدين والتشريع.
سوف تحدث بالطبع تناقضات واختلافات بين التشريعات والأحكام والسياسات وبين الاتجاهات المتعددة في فهم الدين والدعوة إليه، وسوف تحدث تناقضات واختلافات بين أتباع الأديان المختلفة وغير المتديّنين في علاقتهم مع بعضهم وفي علاقتهم بالدولة، وهي مسألة فيها تفاصيل وأمثلة كثيرة ومتعددة ومتباينة في مستوى الاختلاف وحجمه وفي تعدد المفاهيم وقراءات الأحكام والمرجعيّات الدينيّة المختلفة أيضاً، سواء في الدين الواحد أو في الأديان المختلفة والمتعددة، وهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل في مقالة أخرى مستقلّة، ولكن يمكن الاختتام هنا بأنّ القانون المدنيّ العام الذي تضعه الدولة، سواء من خلال سلطتها التشريعيّة المنتخبة أو المعيّنة، يكون هو المرجعيّة العمليّة المتبعة، ويسمح بالاختلاف مع القانون بالحدود التي لا تناقضه؛ فالقانون يوضع على أنّه يصلح للتطبيق على جميع المواطنين، باعتبارهم كذلك وبغض النظر عن دينهم أو عن دين الأغلبيّة من الناس، وهو المظلّة الشاملة لجميع المواطنين، وإن شاءت فئة منهم أن تستظلّ بقانون فرعي إضافي لا يناقضه، فليس للدولة أن تمنعهم من ذلك أو أنّها تمنح استثناءات عادلة لا تتناقض مع المساواة.