ما هو معيار التطرّف؟
فئة : مقالات
ما هو معيار التطرّف؟([1])
في غياب تحديد معيار التطرف الديني، ستبقى النوايا والدعوات لمحاربته غير مؤكدة النتائج والمسارات، لذلك من الطبيعي طرح الاستفهامات حول نجاعة ومآلات الحرب على الإرهاب في منطقتنا، في ظل عدم الاكتراث الكافي بفكرة الحرية في تضاعيف هذه الحرب. عدم الاكتراث هذا مردّه إلى أنّ بعض من يقولون إنهم يقاومون الإرهاب لا ينظرون إليه إلا من الزاوية الأمنية والعسكرية، غافلين عن الجوانب السياسية والاجتماعية والفكرية التي ترفد التطرف والإرهاب في سبل العيش والحياة.
التطرف تفاصيل وليس معنى عائماً وشعاراً فضفاضاً. وفي سبيل ضبط معيار التطرف، من المهم تأكيد فكرة أنّ المتطرف شخص غير حرّ ولا يُقدّر الحرية، وأنّ الفكر المتطرف لا يتأسس على الحرية والحقوق والمساواة. التطرف ضِيقٌ بالعالم وتنوعه واختلافه.
إنّ ضبط معيار التطرف ضروري لأمرين: أولهما الوصول إلى نقد جذري غير تلفيقي لمنظومة واسعة من الأفكار والسياسات المحافظة التي تختبئ خلف حائط محاربة الإرهاب، للتهرب من مسؤوليتها عن إنشاء هذا التطرف أو تأييده ورعايته، أو غضّ الطرف عن مواجهته بوضوح وشفافية. وثانيهما أنّ الحديث عن التطرف الديني لا يكتمل من دون الحديث عن الاستبداد والتسلط السياسي، فالإرهاب يرضع من حليب التطرف الديني والاستبداد السياسي، ولمّا كان كلاهما لا يحتفل بالحرية ولا يتأسس عليها انطبق عليهما وصف التطرف.
غياب المعيار يصحّ عند نقد أفكار روّاد النهضة العربية كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحاولاتهما تجديد الفكر الديني، فالنسبية وعدم ضبط معيار الوسطية والاعتدال في هذه الأفكار قلّص من عمومية الجُرعة الإنسانية التنويرية لأفكارهما؛ بسبب تجنبهما المسّ بالمسلّمات الدينية والسياسية، وحتى اليوم فنادراً ما يقول من يوصفون بالدعاة المعتدلين إنّ هويّة المواطنة تتقدم على الهويّة الدينية، وإنّ إنسان هذا العصر يُعرّف بالأولى لا بالثانية، وإنّ فكرة الأمّة الإسلامية مجرد فكرة معنوية ليس لها إطار جغرافي أو سياسي. هذه بذرة لنقد جذري لا يمسّه "المعتدلون"، ممّا يسهم في تضخيم "المسكوت عنه"، بوصفه بئراً قديمة يمتح التشدد والانغلاق منها دون انقطاع، وقد آن أوان ضبط مفهوم الاعتدال والتطرف لمنع سكب مزيد من الماء في هذه البئر.
تعريف التطرف بغياب الحرية وبانتهاك حقوق الإنسان، يُسهّل إعادة تعريف الاعتدال والوسطية والتسامح بوصفها نقيض التطرف، وبغير التوافق على ذلك فسيظل من السهل التراجع عن خطوات تجديدية بسيطة في الفكر الديني هنا وهناك، في الماضي والحاضر والمستقبل.
صحيح ما يقوله باحثون ومتابعون إنّ "داعش" لم يأتِ من العدم، بل من صلب هذه المنطقة، ولا يكفي أن نقول إنهم لا يمثلون الإسلام لأنهم لم يأتوا من الفراغ.
يمكن القول إنّ فشل وإفشال الثورات العربية كان محصلته "داعش" وأخواتها، ويمكن الاتفاق مع كلام راشد الغنوشي بأنّ من يزرع الاستبداد يحصد "داعش". هذا مدخل أساسي لقراءة وتفكيك هذه الظاهرة، لكنّ المشهد لا يكتمل إذا تمّ إغفال سؤال جوهري ملخصه: كيف تمكنت "داعش" من النبش في موارد التطرف والتشدد الفكري والاجتماعي القائمة أصلاً في مجتمعاتنا وثقافتنا؟
لقد أدرك الفيلسوف هيغل في تجربته أنّ الأفكار لا تستطيع تغيير العالم دفعة واحدة، مؤكداً أهمية التغيير من الداخل وبالتدريج المنطوي على قبول المساومة وتجزئة الأهداف وعدم حرق المراحل. الواقعية تحمي القيم والمثاليات ولا تطيح بها أو تفرّط فيها.
منذ سنوات قامت ما تُسمّى بـ"الثورات العربية"، من دون أن يسبقها حراك ثقافي واجتماعي يحرّر المجتمعات ويوعّيها بحقوقها وبقيمة الإنسان والمساواة والحريات، أيْ كان يُعوّل على الثورات أن تنتج ذلك، لكنّ الثورات لم تكن محصلة لتصاعد هذا الحراك الفكري والاجتماعي واكتماله وتراكمه ونضجه. لم تؤسس الثورات لبُنية مؤسسية ديمقراطية، ولو في السياق النظري، متفق عليها، تكون بديلة عن المؤسسات النظامية القائمة الموسومة بالفساد والاستبداد.
التساؤل الذي يتجاوز اليوم بلداناً مثل العراق وسورية وليبيا هو: كيف أمكن لتنظيم "الدولة الإسلامية" أن يقوّي في كثير من فئات مجتمعاتنا العربية والمسلمة (خاصة في الدول الغربية) ما أضعفته المدنية والتحضر والعلم والاختلاط وروح العصر فينا؟ أي التوحش والتشدد والافتقار إلى الجرأة في حسم كثير من المسائل التي تريد أن تؤبّد الماضي وتوقف التاريخ وتعطل حركة الحياة والاجتماع.
بغياب معايير التطرف تضطرب المسائل والأحكام، ويجوز وفقاً للفوضى التي يخلقها أن نطرح العديد من التساؤلات والاستفهامات من قبيل: هل من الممكن أن تكون الطريق إلى الجنّة متعاكسة ومتناقضة ويلغي بعضها بعضاً؟ هل من الممكن أن تكون هي ذاتها التي تدعونا إليها "داعش" أو "جبهة النصرة" و"القاعدة" و"بوكو حرام" أو يوسف القرضاوي أو حسن نصر الله؟ هل هؤلاء المتعاكسون، بدليل حروبهم مع بعضهم بعضاً، يتحدثون عن الجنّة ذاتها؟ ولمَ نراهم واثقين من أنهم لا يحدثوننا في حقيقة الأمر عن الجحيم، بدليل ما جرّوه علينا وعلى أوطاننا من استبداد ومآسٍ وحروب وعنف؟ لماذا يقول لنا بعضهم إنّ الطريق إليها يتوسل الرحمة والمحبة والتضامن والتسامح والحرية، فيما يقول لنا آخرون إننا سنأخذكم إليها ولو بالسوط والحديد والنار؟ أيّهما نصدّق؟ قول الفيلسوف العربي ابن رشد إنّ الطريق إلى الشريعة هو الطريق إلى العقل، وقول ابن عربي إنّ "الإله واحد والطرق إليه متعددة"؟ أم قول متطرفي السُنّة (من أمثال "القاعدة" و"داعش" وأخواتها..)، ومتطرفي الشيعة (مثل "حزب الله" و"كتائب أبو الفضل العباس" و"عصائب الحق"..) بأنّ طريقها تختصره الجهاديات والممانعة والعنف المذهبي والتطهير الطائفي؟
إنّ السلطات والمؤسسات والتنظيمات الدينية المتطرفة، ومن يظنون أنّ النطق بالحقيقة احتكار لهم وحدهم دون سواهم، يرون أنّ من واجبهم أن يأخذوا الناس إلى السعادة والجنّة حتى بالسوط والحديد والنار، فيما صوت الحرية والعقل والرحمة والديمقراطية يقول: "دعوهم يختاروا طريقهم".
([1]) نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون عدد 6