ما هي أَخْلاقُ الإيمانِ؟
فئة : ترجمات
ما هي أَخْلاقُ الإيمانِ؟[1]
تقديم:
إنَّ أخلاقَ الإيمانِ تعبيرٌ حديثٌ، ظهرَ مع صدور مقالة وليام كنغدون كليفورد الَّتي عنوانها "أخلاق الإيمان"، والَّتي نشرنا نصَ ترجمَتها من قبل.[2] لكنَّ هذا لا يعني أنَّ موضوعَ أخلاقِ الإيمان لم يكنْ مطروقا في الفكر الغربي من قبل ظهور التَّسمية، وإنَّما أشار إليه كلٌّ من روني ديكارت، وجون لوك، وبليز باسكال، وإيمانويل كانط وغيرهم باقتضاب، غير أنَّ المعاصرين عرضوا له بتفصيل دقيق وبنقاش مستفيض.
إنَّ كلَّ إيمانٍ لا بُدَّ أنْ يقومَ على قيمٍ تؤسس لمعاييرهِ، وغالباً ما تكونُ هذه المعايير إمَّا معايير تقتضيها الحكمة، وتُسمَّى معايير حكيمة Prudential Norms، أو معايير تُلزمُها الأخلاق، وتُسمَّى معايير أخلاقية Moral Norms، أو معايير تشترطُها المعرفة، وتسمى معايير معرفية Epistemic Norms. كما أنَّ هذه المعايير يمكنُ تصنيفُها حسب نوع القيمة المتضمنة فيها، فقد تكونُ معايير افتراضية Hypothetical Norms، وقد تكونُ معايير قطعية Categorical Norms. وقد يتم صياغتها بصورةٍ مُجرَّدةٍ، وقد تتضمنُ فعلَ المعرفةِ القائم على الوقائع.
يمكنُ القولُ إنَّ جلَّ الذين خاضوا في أخلاق الإيمان كانوا على مذهبين متقابلين: مذهب دليلي Evidentialism، يشترطُ حضور الأدلة من أجل الإيمان، ويمثِّله في أقصى تجلياته كليفورد، وجون لوك. فهذا المذهب قد يكونُ صارماً، وقد يكونُ معتدلاً؛ وقد يقتصر على مرحلةٍ محددةٍ على نحو سانكروني، وقد يمتدُ ليطالَ كلَّ التَّغيرات في المراحل التَّاريخية على نحو دياكروني. يقضي هذا المذهب في حلته الصَّارمة أنَّ كلَّ من خالفَ إيمانُه المعرفة القاطعة، وآمن بدونِ أدلةٍ، فقد سقط في الخطأ من النَّاحية المعرفية، وارتكبَ إثماً من النَّاحية الأخلاقية. كما ينقسمُ إلى ثلاثة مذاهب: المذهب الدَّليلي الحكيم Prudential Evidentialism، والمذهب الدَّليلي الأخلاقي Moral Evidentialism، والمذهب الدَّليلي المعرفي Epistemic Evidentialism.
وفي المقابل، هناك مذهبٌ لادليلي Non-Evidentialism، يُمثِّله إيمانويل كانط، ووليام جيمس، وبليز باسكال، ويقضي بأنَّ الإيمانَ في بعضِ الحالاتِ مُمْكنٌ بدونِ توفُر أدلةٍ، لأنَّ الإيمانٌ في هذه الحالات تقتضيهِ الحِكمةُ. وينقسم المذهبُ اللادليلي إلى ثلاثة مذاهب: المذهبُ اللادليلي العملي Practical Non-Evidentialism، والمذهبُ اللادليلي المحافظ Conservative Non-Evidentialism، والمذهبُ اللادليلي الإيماني Fideistic Non-Evidentialism.
يمكنُ تصنيفُ إيماننا كمسلمين، حسب تصور أخلاقِ الإيمان، ضمن خانة المذهب اللادليلي الحكيم، القائم على مفهوم النظر عند حذاقنا، وعند العامة منا، يمكن أنْ يُدرج ضمن خانةِ المذهبِ اللادليلي الإيماني، الذي يتشبث بالإيمان بشيء مع وجود أدلة قوية تنسفه، وهو أضعف الإيمان القائم على لا دليل.[3]
على الرَّغم من كونِ هذه المقالة تناقشُ موضوعاً خطيراً وحساساً، بل ومُزعجا لبعضنا، ممَّا جعله لا يجد لهُ مكانةً في الفكر العربي إلاَّ لِماما، نظرا للموانع العَقائدية الَّتي يعرفُها الجميع، فإنَّها ذاتُ أهمية بالنِّسبة إلى الباحث العربي الَّذي يريد أنْ يخاطر ويُقدِّم بحثاً حولَه، إذ تقدِّمُ هذه المقالة بحثا ببليوغرافيا غزيراً من شأنه أنْ يُوفرَ المادة الخام للبحث في الموضوع: فقدْ تعدَّت الإحالات وتجاوزت المائة، وتضمَّنت من المَراجع والمصادر ما يزيدُ عن مائة وثمانين؛ وهذا يبيِّن مدى رصانَتها العلمية.
ومساهمة منا في توضيحِ الإحالات، الَّتي كانت موجودة في متن المقالة المنشورة، بادرنا إلى كتابتها في الهامش السُّفلي، مبيِّنين أسماء الفلاسفة والباحثين، وعناوين كتُبهم ومقالاتِهم مترجمةً إلى العربية، مع ذكر سنوات صدُورها، وهذا من شأنه أنْ يُيسِّر عملية الفهم بالنِّسبة إلى القارئ، ويسهِّلَ عملية التَّتبع والرَّصد بالنِّسبة إلى الباحث، وأرجو أنْ أكونَ موفقا في كلِّ هذا.
للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا
[1]- نشرت المقالة للمرة الأولى بتاريخ الاثنين 14 يناير 2010؛ وتمت مراجعتها وإعادة نشرها بتاريخ الاثنين 5 مارس 2018 بالموسوعة الفلسفية لجامعة ستانفورد الأمريكية: Stanford Encyclopedia of Pholosophy.
الموقع الإليكتروني: >entries>ethics-belief https://plato.stanford.edu
[2]- وليام كنغدون كليفور، "أخلاق الإيمان"، ترجمة أحمد فريحي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، ترجمات، 20 شتنبر 2024
[3]- هناك من يتدرع بقول المتنبي ليخرجه من سياق الحديث عن الشاهد إلى الدلالة على الغائب، قال المتنبي: أتيتُ بمنطقِ العربِ الأصيلِ Ξ وكان بقدرِ ما عاينْتُ قيلي / وليسَ يصحُ في الأفهامِ شيءٌ Ξ إذا احتاج النَّهار إلى دليلِ. فالمقصود هنا أنَّ الدَّليل لا يقوم إلاَّ على الخفي والغائب. أمَّا الشَّاهد والظاهر، فتدركُه الحواسُ كحال ضوء النَّهار الذي لا يحتاج إلى دليل. لقد استدل الكثير بهذا البيت على وجود الله، وهو استدلالٌ واه وضعيف، ويعتريه فساد الوضع؛ لأنَّ السِّياق الَّذي تحدَّث فيه المتنبي لا يتناسبُ مع السِّياق الَّذي وضعَه فيه المستدلون، ويختلفُ حتَّى عن الإيمان الذي جاء به القرآن، قال الله تعالى: «الَّذينَ يُومنونَ بالغَيبِ ويُقيمونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رزقناهُم يُنفقُون.» (البقرة، الآية 2)، فالإيمانُ في الإسلامِ حسب الآية إيمانٌ بالغيبِ، ولا مكانة فيه للمشاهدة، غير أنَّ القرآن يحثُ على النَّظر في الموجودات، ممَّا يدل على أنَّ الله غيبٌ، ولا يُدرك بالمشاهدة، ولا بالضرورة (الفطرة). قال القاضي عبد الجبار: «إنْ سأل سائل فقال: ما أولُ ما أوجبَ اللهُ عليك؟ فقُلِ النَّظر المؤدي إلى معرفةِ الله تعالى، لأنَّه لا يُعرف ضرورةً، ولا بالمُشاهدة، فيجبُ أن تعرفَه بالتَّفكير والنَّظر...إنَّ النَّظر في طريق معرفة الله تعالى من أوجبِ الواجبات.» (القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، تحقيق عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، 1992، ص.39). ومفهوم النظر في القرآن هو الاستدلال الأصولي، أو القياس العقلي، أو الاستدلال بالشَّاهد على الغائب، أو قياس الغائب على الشاهد، الذي ننظر من خلاله في الموجودات باعتبارها مصنوعات للدلالة على المُوجد لها، أي الذي خلقها. وقد أشار إليه ابن رشد في "فصل المقال" (أبو الوليد بن رشد، فصل المقال، فصل المقال فيما تقرر بين الحكمة والشريعة من اتصال، تحقيق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت لبنان، 1986، ص.27). لكن ابن رشد اعتمد دليلين على وجود الله استنبطهما من القرآن، يمكن اعتبارهما غائيين، وهما دليل العناية، ودليل الاختراع. (أبو الوليد بن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة، تحقيق مصطفى حنفي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، 1998، ص.118). لكن المشكل المطروح هنا هو: هل النظر أو الاستدلال بالشاهد على الغائب دليل كاف وقاطع على معرفة الله؟ وهل يمكن تصنيفه ضمن خانة الأدلة على حسب ما جاء في أخلاق الإيمان؟ الجواب عن ذلك يقتضي بحثا مفصلا، سنقوم به إن شاء الله. كما أن النظر الذي أوجبه الشرع على من يريد معرفة الله لا نعرف ما إذا كان خاص بفئة أم واجب على الكل، وإذا كان خاص بفئة، فكيف يتمكن الآخرون من معرفته بدون قدرتهم على النظر؟