"ما وراء الغرب": الخطوات الأولى


فئة :  ترجمات

"ما وراء الغرب": الخطوات الأولى

"ما وراء الغرب": الخطوات الأولى[1]

بدأ بحثي عـ "ما وراء الغرب" عام 1982، في مكان عميق في الغرب: في بناية من بنايات المدرسة الابتدائية لكولن: كنت قد اخترت قبل هذا بشهور، تعلم اليونانية القديمة كلغة أجنبية ثالثة، وقال لي المدرسون إنه على من يريد فهم الثقافة الغربية في أساسها أن يتعلم هذه اللغة. وما كان يجذبني أكثر إليها هو الجانب الأجنبي/الغريب/. من كان يتعلّم اليونانية؟ يظهر بأنه لم يعد هناك من يهتم بهذه "الثقافة الغربية"، وباختياري لهذا التخصص/المادة كنت أشعر بأنني شخص متميز.

لكن بعد مدة قصيرة، انتبهت بأن هذا لا يكفيني، كنت أريد السفر، اكتشاف العالم، والهروب (التخلص) من الشعور بالضيق والركود اللذين طبعا في السنين الأخيرة غرب الجمهورية الفيدرالية الألمانية الهرمة. ومن أجل هذا، كان عليّ أن أتعلم اللغات، المفيدة في الواقع، وليس اليونانية القديمة. أخذت إذن دروساً مسائية في الجامعة الشعبية، إلى جانب الفرنسية والروسية والعربية. أصبحت المدرسة بالنسبة لي ثانوية، وتراجعت نتائجي، لكنني فتحت الباب على العالم.

على صورة، التقطت أمام راديو في أعياد ميلاد عام 1983، ما يسمى الراديو الذي يلتقط أمواج العالم/استقبال العالم. عندما كنت أصغي بدقة، كان بإمكاني متابعة أخبار أماكن بعيدة جدًّا مثل بكين، دلهي الجديدة أو يوهانيسبورغ على الموجات القصيرة. في الهمهمة الحتمية لموجات الأثير، تردد صدى الوعد بحياة كان لها ما تقدمه، أكثر من الخيال الغزلي البورجوازي، الذي نشأت فيه. بطبيعة الحال بدا البؤس اليومي والحروب الصغيرة والكوارث التي جلبها البرنامجان التلفزيونيان المفضلان "مرآة العالم Weltspiegel" و"المجلة الأجنبية Auslandsjournal" إلى غرفة المعيشة المؤثثة على الطراز الريفي، أكثر إثارة ومرغوب فيها بالنسبة لي، أكثر من العالم الذي شعرت بأنه محكوم علي أن أعيش فيه - والذي عُلِّق عليه سيف ديموقليسDamokles لنهاية العالم الذرية.

أضاف الضجيج الكثير لسحر الأصوات في الراديو، كان يضمن صحتها، ويجعل معرفة كون هذه الأصوات كانت تأتي حقًّاً من بعيد ممكنة. وكان يبدو أن الأخبار المصحوبة بضجيج، هي وحدها التي كانت تقول شيئاً جوهرياً. وما كان يأتي دون ضجيج، كان يُهمل؛ لأنه لا يمكن أن يكون قد أتى من بعيد.

لم يعد للراديو الذي يلتقط أمواج العالم أيّ وجود، لا توجد إلا إذاعات قليلة تبث على الأمواج القصيرة. أصبح الحاسوب يلتقط العالم، وبسهولة رائعة أصبحت محطات الراديو والجرائد من جميع أنحاء العالم متاحة الآن، قريبة جدًّا من دون تمييز بينها، لذا تبدو مبتذلة، هي والعالم الواسع، بالمقارنة مع الماضي، حيث كنت أضطر لاستراق الاستماع لها مثل الجاسوس. لم يعد المرء في حاجة إلى حظ للاستماع لها، ولم يعد لهذا الأخير وجود. قد تكون في الواقع أيضاً ممثلة للآخر، لكنها لم تعد تظهر على هذا النحو، لقد فقدت بالمعنى الحقيقي للكلمة سحرها، وأصبحت تافهة؛ لأن هذا التداخل قد اختفى، ومن دونه لا يمكن أن يكون الغريب، الآخر، البعيد.

سنهتم بمفهوم الاستياء فيما بعد، وفي حالة الأصوات الخالية من الضوضاء فجأة من الراديو، يمكن التعرف عليها بالحواس. إنها خيبة أمل، من خلال كثرة القرب والألفة الكبيرين، ظاهرة غريبة وشبه يومية: ما يقترب أكثر ويكون مألوفاً للغاية، يفقد جاذبيته. قد يكون شخصاً كنا نرغب فيه من قبل، ولكن قد يكون أيضاً موضوعاً مرغوباً فيه. لذا، فإن للقرب نفسه القدرة على الابتعاد/الغرابة، وبالضبط في هذا الغموض السري للمعنى المزدوج لهذه الكلمة الألمانية: يصبح شيئاً ما غريباً عنّا؛ لأنه بالضبط لم يعد غريباً عنا، من دون مسافة ومن دون تدخل. وللتعبير عن هذا بطريقة متناقضة، قد يقول المرء إن الغرابة تتحقق في القطيعة/ التباغض/ التنافر Ent-Fremdung، وبالتحديد في حقيقة كون النفور/الغرابة يضيع، ويبدو للمرء إن العالم يظهر مبتذلاً وغير مثير وغير جذاب.

إذا كان المرء على استعداد لمغادرة سُبُل اللغة المألوفة جيّدًا، فسيكون هذا هو الحالة النادرة للكلمة التي تلغي وتنشط نفسها في الوقت نفسه[2]. في تذبذب مستمر، يتأرجح بين القطبين المتضادين لمعناه. بمجرد حدوث النفور، بمعنى أن يكون أقل نفوراً، فإن هذا المعنى ينقلب، ينشط نقيضه، ويؤدي إلى النفور بالمعنى التقليدي، يصبح العالم المألوف وشاحاً.

يشير هذا التأرجح والتذبذب إلى أن الإحساس بالغرابة Fremdheit والاغتراب Entfremdung هما في النهاية وضعان لا رجعة فيهما، جزء من الشرط/الوضع الإنساني conditio humana. يعرف كل البشر المقصود بالشعور بالغرابة Fremdheit. عاش كلّ واحد الحنين/الشوق Heimweh وهو طفل، وشعر كلّ واحد بأنه غريب في مجموعة من الناس لا يعرفهم، ولربما شعر بذلك وهو وسط أصدقائه أيضا. لا أحد يناقش في وجود أماكن وأشياء وبشر وأوقات ومعيشات تكون غريبة بالنسبة إلى الفرد. ومع ذلك، فإن إمكانية تقييم رفع النفور بشكل إيجابي ليس متأصّلاً في الكلمة نفسها فقط، بل إنه يتوافق في بعض الأحيان أيضًا مع تجربة ملموسة، ألا وهو سحر الغريب.

في السادسة عشرة من عمري، حصلت على جواز سفر واشتريت تذكرة القطار الداخلي Interrail (تذكرة قطار تسمح بسفر لامحدود عبر قطارات الشركات المشاركة في السكك الحديدية في 33 دولة أوروبية والمغرب: إ.م)، ورافعت أمام والداي من أجل حق السفر، وعيش تجربتي الخاصة. ذهبت في أول الأمر إلى إيطاليا ومالطا واليونان، لكن هذا لم يكن كافيًا. خلال عطلات عيد الفصح التالية، اشتريت تذكرة القطار الداخلي Interrail أخرى، واخترت أبعد وجهة ممكنة: مراكش.

كان المغرب مختلفاً عن كل ما شاهدته من قبل. فشلت تصوراتي: لم يكن هناك كوكب آخر قد يبدو لي غريباً أكثر من المغرب، وفي الوقت نفسه - وربما لهذا السبب – فإن ما شُوهد وعِيشَ، اكتسب حضورًا لم يُشعر بهما من قبل. بدا جديدًا مثل أيّ شيء كان جديدًا وغير مرئي على الإطلاق. إذا كان هدفي هو التخلص من الاغتراب عن الذات أو الهروب منه بالبحث عن الغريب المطلق، فقد تم ذلك بطريقة فاقت كل التوقعات. وفي أكبر غُربة بالضبط، لم يعد هناك فصل بين الداخل والخارج، بين الوجود والوعي. وعندما أتذكر نفس الوقت وأنا في المنزل، أرى نفسي بشكل أساس كشخص على مسافة كبيرة من محيطه.

ألغت الغربة المطلقة الاغتراب في نفسي، وكانت بعض الأشياء البسيطة للغاية كافية لهذا. أتذكر شدة الضوء والألوان المفاجئة الساحقة، وكأن حجابًا قد أزيل من أمام الشمس أثناء العبور إلى إفريقيا، وكأنها تحققت بطريقة صحيحة هنا والآن. أتذكر قرب الناس من بعضهم البعض (على الأقل هكذا بدا لي مقارنة بما اعتدت عليه في بلدي)، والتواصل العادي: دخلت في محادثة مع الجميع في القطار دون أي مشاكل، ودُعيتُ كضيف، وحتى عدم ثقتي المعتادة اختفت. ما كان ساحراً تماماً أيضا، وعلى عكس العديد من القصص التي كانت مُتداولة عندنا عن المغرب في ذلك الوقت، هو أن ثقتي غير المتوقعة في الناس لم تخب أبدًا.

أدركت التغيير في الساعات القليلة الأولى على الأراضي الإفريقية، عندما وصل القطار القادم من طنجة إلى العاصمة الرباط، قبل منتصف الليل بقليل، حيث كان عليّ تغييره إلى الدار البيضاء. أخذت بنصيحة مسافر مغربي ألا أكمل رحلتي في الليل، بل البقاء معه في منزله، وأخذ القطار في صباح اليوم المُوالي. ركبنا سيارة أجرة في الساحة الأمامية للمحطة. كان الجو لا يزال دافئاً، وكانت نوافذ سيارة رونو المتهالكة مفتوحة على مصراعيها، ويمكن للمرء أن يشم رائحة المحيط الأطلسي، تلى ذلك على الفور حديث نشيط بين سائق الطاكسي ومضيفي، مصحوب بالضحك والنداءات.

كنت مندهشاً ومحتاراً، يا لها من مصادفة، يبدو أن أول سائق سيارة أجرة هو قريب أو صديق قديم لمضيفي، سألته من أين يعرف سائق الطاكسي. بحيرة، سأل مرتبكاً: "لماذا؟ أنا لا أعرفه!". أجبته بأنه بالطريقة التي تحدثتما بها وحيّيتما بعضكما البعض، لابد أنكما صديقان على الأقل، قال: "لا، لا". ولما نظرت إليه غير مصدق أضاف: "إن المغاربة أصدقاء فيما بينهم وإخوة". إن الطريقة التي تحدثا بها كانت عادية إذن.

في البداية بدا الأمر وكأنه عبارة فارغة لم تقترب حتى من عكس ما كنت ألاحظه. ومع ذلك، لربما وصف هذا الجواب الوضع بدقة شديدة، ربما لا يطيق الناس في ألمانيا بعضهم البعض، لم يكونا أصدقاء حقّاً. الآن فقط أدركت من أين أتيت، دهشتي من الفرحة التي تحدث بها سائق سيارة أجرة إلى زبون عائد إلى المنزل.

تكررت مثل هذه التجارب. رفع الغريب الغربة عني وجعلني لا أشعر بغربتي إلا قليلا -أولا اتجاه نفسي، وبعدها في علاقتي مع محيطي. وعلى الرغم من أنني كنت مجرد ضيف، أو ربما لأنني كنت مجرد ضيف، فقد شعرت بأنني في منزلي/بلدي. كنت مسحوراً بمعاني عديدة للكلمة - بالمعنى البسيط، وكذلك بالمعنى الواسع لكلمة علاقة سحرية جديدة مع العالم.

إذا كان من الممكن بالنسبة لنا أن نطابق تجربة ملموسة للغاية من الغربة أو الاغتراب مع الاغتراب وإعادة السحر كالقطب المقابل له ووصفه أو العثور عليه موصوفًا، فقد يكون هذا ممكنا أيضاً مع التجارب والمصطلحات الأخرى التي تتعامل/تتصرف مع العالم انطلاقا من موقعنا في هذا العالم.

وسيكون للتنوير مكان مركزي فيما سيأتي في هذا الكتاب؛ بمعنى زيادة المعرفة التي يمكن التحقق منها والقابلة للتزييف والنظرة العامة، أصبح التنوير محركاً أساسيًا لبندول/أرجوحة التنمية/التطوير: من جهة ساهم لكي يكون الإنسان في وطنه على الأرض أكثر، بتحريره من الخرافات وفتح الطبيعة له. ومن جهة أخرى، فقد أبعده عن الطبيعة، وربما أيضاً عن نفسه. وربما لا يكمن الخطأ في التنوير في حد ذاته، بل في التوقع المبالغ فيه بأنه يمكن أن يداوي الصدع بين قطبي الوطن والغربة، يمكن أن يوقف بشكل نهائي التأرجح بين قطبي معنى الاغتراب.

في لحظة تاريخية يمكن تحديدها بدقة شديدة؛ أي خلال القرن الثامن عشر، تم تخليص حركة البندول واعتقد الناس بأن أقصى حدود البندول يمكن أن يكونا موجودين على الكرة الأرضية: فـ"الغرب" مستنير، لكنه فاقد للسحر أيضًا؛ و"الشرق" ساحر، لكنه أيضًا غير مستنير ويوجد ما قبل الحداثة ومتخلّف عن الركب. لذلك، عندما أتحدث عن "ما وراء الغرب"، فإنني لا أعني مكاناً أو ثقافة ما، بل ما يفوق كل توطين/تحديد المكان ويتجاوزه. إن الغرب يوجد ما وراء الشرق والغرب والشمال والجنوب، لربما يوجد في المستقبل المشترك.

أفترض أنه لن يكون من الممكن إيقاف تأرجح البندول في التوقف. إن التنوير ليس كلّه إما خيراً وإما كله شرًّا/سوء. كان التنوير دائماً على حد سواء. قد يعترف الكثيرون بهذا، ويصعب جدًّا البرهنة بنفس الطريقة، عندما يتعلق الأمر بالشعور بالغربة: إن الغربة والاغتراب من جهة، والوطن من جهة أخرى، ليسا فقط جيدين أو سيئين. لا يمكن أن يكون أيّ من القطبين هو الهدف الوحيد. لذا يجب التشكيك في كل شيء يَعِدُ بالخلاص النهائي من الاغتراب. وطالما تأرجح البندول يكون الوطن والغربة مغريين. ويقع مشكل ما عندما يتوقف تأرجح البندول عند أحد القطبين. سيكون الأمر سيئًا إذا كانت لدينا فقط علاقة أداتية/نفعية بالطبيعة، وسيئا إذا كانت هذه العلاقة سحرًا فقط، سيكون أمرًا سيّئاً إذا تم اعتبار الغربة أمرًا سيّئاً؛ ولكن سيكون سيّئاً أيضاً عندما يقول المرء إنها وحدها هي الجيّدة.

مع مفهوم الوطن، تدخل الجوانب الأيديولوجية والأنثروبولوجية في اللعب. من وجهة نظر أنثروبولوجية، يتعلق الأمر بالتقابل بين الاستقرار والترحال، وكلاهما إمكانيات أساسية للوجود البشري - تأكيد تافه، إذا كان التمجيد الأيديولوجي للوطن منذ قيام الدولة القومية لا يسمح بنسيان هذه المعرفة؛ أم إن هذين الاحتمالين الأساسيين لن يتم تفسيرهما بمعنى نمط التنمية وصولاً إلى الروايات التاريخية المعترف بها: كان الناس في الماضي يهاجرون وكانوا صيادين وملتقطين، ولكن بعد ذلك كان هناك تطور نحو الاستقرار. وحتى لو كان هذا النمط الزمني صحيحًا (وأشك في ذلك؛ لأنه يتناسب جيّدًا مع وجهات النظر العالمية السائدة)، فإنه لن ينفي الإمكانات البشرية الكامنة في الترحال.

علاوة على ذلك، فإن الوضع العالمي الحالي يغذي الشكوك حول خطة التنمية هذه، ليفكر المرء فقط في حركات الهجرة الواسعة. على المرء ألا يفكر فقط في حركات الهجرة بعيدة المدى، على المرء أن يفكر أيضاً في تشرد رأس المال والبضائع والإنتاج، وفي الفهم المُعولم للسياسة والتداعيات العالمية للحروب المحلية والإرهاب الدولي والمشاكل البيئية التي تتجاوز كل الحدود. وما هو نموذجي لهذا الوضع الجديد، هو غياب المكان للإنترنت، والذي لا يُفهم طابعه بدقة، إلا عند الحديث عن الفضاء الافتراضي؛ لأن هذا الفضاء موجود في كل مكان في نفس الوقت؛ أي يتم التخلص من مكانية Räumlichkeit الفضاء Raum. إن إلغاء الفضاء يعني بأن الوطن في كل مكان وفي اللامكان، وتعني الكلمة في أحسن الأحوال الأسس الميكروسكوبية، حانة الركن حيث أسكن، عائلتي، إذا كانت تعيش في الجوار، أو شقتي، أو النظام في مكتبتي، أو نادي كرة القدم المفضل عندي، أو لا شيء.

تعزز ثقافة الاستهلاك العالمية هذا التشرد، بالاعتماد على التلاعب المستمر والإثارة على الرغبة في الاستهلاك، ولا نكف عن الامتلاك وعما نرغب في امتلاكه. وبما أن الأمر لم يعد مجرد تلبية الحاجة، فقد أصبح الاستهلاك مترحلاً مثل قطيع لا يبقى أبدًا في مكان واحد، بل يرعى في مرعى تلو الآخر. إن المستهلك المثالي لا يملك أبدًا ما يحتاج إليه؛ لأنه يحتاج دائماً بالضبط إلى ما لا يملكه. لقد جعلت الرأسمالية منا رحّل الرغبات.

في بداية التسعينيات درست الفلسفة ودراسات اللغة العربية في غوتنغن، وكان عليّ أن أقضي سنة في الخارج في دمشق. وقبل هذا بقليل، كنت قد قرأت في مجلة أدبية في كولونيا قصائد لعراقي جاء إلى كولونيا كلاجئ وأنشأ دار نشر عربية هنالك. نَشْر الشعر العربي المعاصر في كولونيا؟ تواصلت معه وعندما عدت من سوريا وتحسنت لغتي العربية، أصبحنا أصدقاء، وبدأنا في ترجمة الشعر العربي المعاصر معاً.

كان لخالد[3] اتصالات جيدة مع العديد من الكتاب الآخرين في المنفى، وخاصة من العراقيين، وكانوا يجتمعون بانتظام في شقته مبنى قديم متآكل في كولون نيبس Köln-Nippes لنشر مجلتهم الأدبية الفوضوية-السريالية التي تحمل العنوان الاستفزازي فراديس Farādīs – Paradiese، للحديث عن مشاريع الكتب والترجمة أو مناقشة السياسة والشرب الكثير. كان يتردد على المكان أصحاب السير الذاتية الأكثر ميلاً إلى المغامرة، مثل الشاعر العراقي سرجون بولس[4] Sargon Boulus، وهو مسيحي آشوري يكتب باللغة العربية، وهاجر إلى بيروت ومنها إلى سان فرانسيسكو في أواخر الستينيات، حيث انضم إلى مؤلفي أغاني البيت Beat حول ألين غينسبيرغ Allen Ginsberg ولاورانس فيرلينغغيتي Lawrence Ferlinghetti. أو الكاتب السريالي العراقي المقيم في باريس عبد القادر الدشنبي[5]، الذي جاء من بغداد، وكان يُعتبر الطفل المشاغب في المشهد الأدبي العراقي، مندفعاً، لا يعرف التنازل، ومستعد دائماً للخصام. أو صموئيل شمعون Samuel Shimon، الذي يعيش كمتشرد في باريس وينتمي أيضًا إلى الجالية الآشورية، والذي أسس مجلة بانيبال Banipal[6] في لندن عام 1997، والتي كانت تنشر الأدب العربي المعاصر باللغة الإنجليزية. في العديد من كتب هؤلاء المؤلفين تُروى قصص الهروب، كما هو الحال في مذكرات نجم والي Najem Wali[7] أو رواية مارشلاندر Der Marschländer لحسين المزني Hussain al-Mozany[8]، جاء كلاهما أيضاً إلى ألمانيا في هذا الوقت تقريباً. وكان العراقي فاضل العزاوي[9] Fadhil al-Azzawi الذي ينحدر من كركوك ويكتب باللغة العربية ويعيش في برلين منذ السبعينيات موجودًا أيضًا في هذه الدوائر. وعلى الرغم من أنه كان يتمتع بصورة الأب بين أصدقائي العرب، إلا أنه لم يتم اكتشافه في ألمانيا إلا بعد عشرين عام.

لم يكن من بينهم من لم يُسجن في وقت ما، هناك تعرفوا على أسرار الشعر والأدب من قِبَلِ السجناء الذين كانوا يكبرونهم سنًّا، على غرار كيفية استخدام السجون اليوم من قبل الإسلاميين المتطرفين كمركز للتجنيد. سياسياً، كان أصدقائي العرب من أقصى اليسار، كان لبعضهم لِحي (مفرد لحية: إ.م) مثل ماركس، وكانوا يكتبون في جرائد الجماعات اليسارية الفلسطينية في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، أو قاتلوا حتى في صفوف هذه الجماعات، جاءوا إلى ألمانيا الغربية عبر أوروبا الشرقية، وترعرعوا في أنظمة اشتراكية أو شبه اشتراكية، كانت تشعر بأنها تنتمي إلى الكتلة الشرقية. وكان الشعراء الذين كانوا يُشَرِّفُون بشكل خاص هم أنفسهم اشتراكيون: إيلوار Éluard، أراغون Aragon، لوركا Lorca، ماياكوفسكي Majakowski، بريخت Brecht. ومع ذلك، لم يكن أي منهم دوغمائيًا - لقد كانوا شعراء أكثر من اللازم ليكونوا دوغمائيين.

التقيت بأشخاص مثلهم من قبل في الكتب فقط، ما كان يُذهلني هو إيمانهم الراسخ بالشعر، وفكرة كون الأدب يمكن أن يعني الكثير، وقد كانت هالة الشعر عندهم عظيمة للغاية، لدرجة أن كلّ عقل تجاري قد هُزم فيها. كانوا يأخذون ديوناً ويساعدون بعضهم البعض، ويُسْكِنُونَ بعضهم البعض، ويقترضون المال، وشكلوا بهذا نوعًا من النظام الشعري المتسول. وبخلاف ذلك، كان من الصعب عليهم البقاء على قيد الحياة. وباعتبارهم شعراء عرب غير مشهورين، لَمَا كانوا ليقضوا أيّ شيء في منفاهم لولا إيمانهم المتعصب بالأدب، لكنه أعطاهم ما فاتني في بيئتي: الاقتناع بأنه لا يزال للمرء شيء مهم يقوم به، بإمكانه قوله، ويجب عليه أن يقوله. كانت لهم قضايا حقيقية، ولم يظهروا أيًّا من الإشباع الغريب الذي غالبًا ما كان يأخذ الريح من أشرعة جيلي. في الوقت الذي يتم فيه في بلدي هذا تدجين حتى المثقفين والكتاب العنيدين ودمجهم في النظام، كان أي نقد في موطن أصدقائي العرب عملاً ذا مغزى، وغالبًا ما يكون استفزازيًا لا إراديًا، وكان هذا يُعطي لعملهم قيمة. كان على المرء أن يسأل نفسه عما إذا كان الغرب، بعد الله وجميع المعتقدات الأخرى، قد قلّل أخيرًا من الإيمان بالفن والأدب والنشاط الفكري، ودَفَعَه إلى جناح العزلة في مؤسسة ثقافية وجامعية مكتفية ذاتيًا.

عندما بدأنا في ترجمة نصوص أصدقائي الشعراء، اتضح أنهم كانوا أكثر ارتباطًا بنصوص إيلوار أو بين Benn أو غينسبيرغ Ginsberg أكثر من ارتباطهم بما تخيله الناس عندنا على أنه شعر شرقي منذ غوته Goethe، لم يكن من السهل عمل شيء ما منه باللغة الألمانية. كانت الغرابة التي جذبتني في الأصل تتربص في ما لم يكن قابلاً للترجمة، الحروف، وشكل الكتابة، والصوت الغريب والمتذمر للكلمات. وما يبقى غير مُعبر عنه يتم تمريره ضمنيًا: اختلاف/خصوصية اللغات السامية وعمرها واستمراريتها التاريخية، والتي لا يمكن مقارنتها باللغات الأوروبية الحالية: لم تتغير اللغة العربية المكتوبة على مر القرون إلا قليلاً، حيث يتم نقل العديد من أصداء التاريخ والدين والأدب القديم عند الأغلبية الساحقة منهم، سواء أكان ذلك عن قصد أو بغير قصد، في شكل كلمات فقط.

حدّد أصدقائي الشعراء العرب لأنفسهم مهمة تجريد ثقل هذه اللغة القديمة من الكلمات، وجعلها خفيفة وحرة، وقد نجحوا في ذلك في كثير من الأحيان. ومن حيث الدافع، كان هذا نفس ما كنت أتوخّاه، ولكن في الاتجاه اللغوي المعاكس؛ أي الرغبة في الوصول إلى ما وراء لغة المرء الخاصة وتاريخه وقيوده/إكراهاته، للتخلص من ثقل الخاص وتقاليده (واستمر ذلك حتى الحروب العالمية فقط)، نحو جديد مختلف، ما وراء الغرب، تمامًا كما وصل المرء إلى ما وراء الشرق في أوروبا. عندما كنت أجلس بين الأصدقاء العرب، كنت أرى نفسي في المرآة في نفس الوقت. ما لم أكن أفهمه عن نفسي، كنت أرى أسبابه واضحة عندهم، كان مفهوماً بعمق لماذا أرادوا التغلب على عاداتهم، ولماذا فرّوا، ولماذا اقتربوا من الآخر، منا نحن، ورغبوا فيه.

لم يكن الأمر كذلك معي، لم تكن لديّ سيرة ذاتية، ولا أسباب سياسية للهروب من أصولي وتعلم اللغة العربية. حتى يومنا هذا أُسأل بانتظام عما إذا كانت لديّ جذور عربية. يفسر هذا السؤال اهتمامي بالأجنبي في اتجاه معاكس تمامًا لهذه المصلحة. إنه يعتقد في العودة إلى الجذور المفترضة، عندما يكون العكس هو الصحيح تمامًا، محاولة الابتعاد عن الأصل الفعلي والنفور منه والاهتمام بما لست أنا ولم أكنه أبداً، ولست ولن أكون كذلك في النهاية.

ما كان يدور في ذهني؛ أي التغلب على تأثير ثقافتي الخاصة وتجاوز هذا التأثير عليّ، كان أصدقائي العرب قد حققوه منذ فترة طويلة مع تأثير ثقافتهم عليهم، وانتهى بهم الأمر في ثقافتي. وفي سياق هذه العملية، أصبحوا أفضل طلاب الغرب، وعلى وجه التحديد في الميدان الذي حققت لغتهم وثقافتهم فيه، وفقًا لوجهة النظر التقليدية، أعظم الإنجازات: في الشعر. كان ما كنت عرفته من النصوص فقط، كما لو كان إلى الأبد في الماضي، حيّاً فيهم: الأدب كأسلوب حياة. وضعوني في موقف متناقض، المتمثل في شوقي لشيء مختلف وجديد وفي اللحظة التي اعتقدت فيها أنني وجدته، وجدت تراثي الثقافي الخاص؛ وهذا ما يشكل كل الفرق، كان أكثر حيوية وأهمية مما كنت أعرفه حتى ذلك الوقت.

كشف لي الأصدقاء العرب عن شرخ، عن انقسام في الصورة المشتركة، أشاركهم فيها أيضًا، عن الغرب ونقيضه المفترض، الشرق. كانوا يرون غربًا مختلفًا عنّي، كانوا يرون الغرب الحر سياسياً الذي أنْقَذهم، حيث كنت أرى أنه مهدد، مهددًا من طرف التفكير الفعال الساحق، من طرف ثمالة رأسمالية، من قبل المحرضين والشعبويين، من طرف الرضا عن النفس والراحة. كانوا يرون الغرب الملون والمبتكر والمجنون، في حين كنت أرى التصلب/الجمود وربما فقدت بصري لرؤية الحرية الهائلة وفضاء الفسحة التي يتمتع بها الغرب بلا شك. علمني أصدقائي العرب - وما زالوا يعلمونني حتى يومنا هذا - بأن أعطي قيمة لما بدا، من منظور محلّي لفترة طويلة، بأنه أمر بديهي وغير جدير بالملاحظة بشكل خاص: حرية التعبير وحرية السفر وحرية أن يكون المرء غير تقليدي، أو حتى أن يكون مجنوناً.

قد يمكن اعتبار شعرهم العربي قد تغرَّب (من الغرب على منوال تعرَّب: إ.م)، ويتم هذا فقط هناك، حيث تغلب فيه الغرب على نفسه، ونظر إلى ما وراء نفسه، وتمرد على نفسه، وفكر، ونظم الشعر، والسريالية، على سبيل المثال، في جيل البِيت Beat الأمريكي، أو كما سنرى، في الماضي مع هيردر Herder ونوفاليس Novalis وشليغل Schlegels وآخرين كُثُر. هذا الكسر/القطع الثقافي، الذي تغلغل في الغرب نفسه، تمت تغطيته من خلال تقديس وإدماج وتقليل التيارات الفكرية المعارضة سابقًا، والتي رفضت التوصل إلى إجماع ما. تم ابتلاع المنحرف واستغلاله بغض النظر عن صعوبة هضمه، تماماً كما ابْتُلِع عالم الفن، حتى الفن الأكثر تمرّدًا ضد الرأسمالية، مثل فن جوزيف بويز Beuys Joseph، ويتم هضمه والتعامل معه كفن راق وتداوله وتقديسه بشكل كبير. وبما أن الغرب سيطر على ما لم يكن أبداً غربياً وامتصه، فإنه يفقد قوته التفجيرية. فما كان في يوم من الأيام مقاوماً وبعيدًا ولم يكن في الاتجاه السائد، تم دمجه بطريقة ما والتسامح معه، كما يُعرف اليوم السرياليون بثورتهم ضد البرجوازية بصفة أساسية كمقدمين للصور المضحكة والملونة.

ما تم نسيانه بمرور الوقت، ساعد أصدقائي العرب على التواصل مع هذه التيارات هو كون المتمردين في الغرب قد استلهموا أيضاً، وتغذوا من العديد من التأثيرات غير الغربية، شرقية، إفريقية، آسيوية. تجاوز الأدب الغربي، الذي ارتبط به أصدقائي العرب، منذ مدة طويلة التعارض المزعوم بين الشرق والغرب.

قبل سنوات قليلة من لقائي بالشعراء العرب، أقيم معرض استعادي Retrospektiv لأعمال مارك روتكو Mark Rothko في متحف لودفيغ في كولونيا، حركني بطريقة لم يكن يفعلها إلا الأدب من قبل. لا تزال عندي هذه المعيشات عندما أقف أمام لوحات لهذا الفنان ولا أُفَوِّتُ فرصة للتفرجع عليها. إنها للوهلة الأولى لوحات بسيطة للغاية، لكنها تطور قوة جذب غريبة، تسمح للمشاهد بالغطس في ذاته وتقوده في دائرة. لا تقول شيئًا ولا تصور شيئًا ولا تعرض شيئًا؛ وهذا ما يميزها عن اللوحات التقليدية: إنها موجودة. لا تدافع عن أيّ شيء ولا ترمز لأي شيء. إنها أشياء موجودة في ذاتها ولذاتها، ويمكن للمرء قول هذا عن بعض الفنون المعاصرة. ولكن نادراً، نادراً جدّاً ما يوجد مثل هذا الفراغ ومثل هذه الكثافة في الوقت نفسه. كان هناك شيء ما، ولم يكن من الممكن قول ما هو هذا الشيء. حدث شيء ما، فقط لم يكن هناك من يستطيع أن يحكي ماذا وقع.

لا يكون المرء مضطرًّا لمعرفة أو تأمل أو يكون متمرّناً على مشاهدة الفن المعاصر للانغماس في هذه اللوحات. وعلى الرغم من أن روتكو سرعان ما أصبح مشهوراً وأصبح تصوير حقول ألوانه جزءًا من ثقافة البوب Pop، فإن ما أختبره أمام صوره ظل غير متأثر بهذا حتى اليوم، ولم يدمره دمجه برفع الاغتراب عنه من قبل التيار الثقافي السائد. إنها تجربة السمو، ليس بالمعنى الديني، بل في تجربة تتجاوز الغرب، تتجاوز وتسمو على ميادين التجربة التي يُجهزها فضاؤنا الثقافي عادة؛ والوصول إلى تلك التجارب التي لربما لا تقل عن عالم الإنسان، ولكن لا يتم تنشيطها بشكل واسع.

بالطبع، قمت بتجربتي في متحف غربي، أمام أعمال فنان بنى حياته المهنية في الولايات المتحدة، ولم يعرف الشهرة في أي مكان آخر سوى في سوق الفن الغربي. كل هذا في صالح الغرب، مهما كان هذا الغرب ومهما كان انفتاحه وقدرته على الامتصاص، لكن لم يكن هذا فنًّا غربياً، في الواقع ربما كان أقل غربياً من شعر أصدقائي العرب المنفيين. تُقَدِّمُ نيويورك لمثل هذا الفن ولمثل هذا الفنان فضاء، لكن فنه لم يكن نيويوركياً أكثر مما كان يهوديًا أو روسيًا، كما قد يُطلق عليه إذا تم استخدام أصل الفنان كمعيار. لذلك من غير المجدي وصف هذا الفن بفئات مثل الغربية أو غير الغربية، وينطبق هذا على معظم الظواهر الثقافية.

من هذه الخلفية، فإن هذا الكتاب يعد محاولة غير محتشمة/غير متواضعة للتفكير معاً في بعض الأمور وتَقَابُلها والجمع بينها، وهي أمور يتم التعامل معها عادةً بشكل منفصل؛ ومحاولة فتح آفاق غير معروفة وإظهار هذه النقطة الغامضة أو تلك. أشتغل تجريبيًا، مثل كتابة المقال، وأقبل المخاطر وأعطي أفكاري مجالًا وأطلق العنان لها. ومن طبيعة الحال، فإن لمثل هذا الإجراء العديد من النهايات المفتوحة، ويعيش ويتنفس من هذا الانفتاح والضعف وعدم الاستقرار. ولكن أعتقد بأنه بهذه الطريقة فقط، يمكن إنشاء نقاط الالتحام لنقاط الالتقاء والشبكات والاستمرارية الضرورية. فعوض البقاء نسقياً، أفضل الاستمرار بطريقة ترابطية/تشاركية. وعوض شرح كل شيء، أفضل العمل بالإحالات/الاستشهادات، وأتركها تحفزني، تغويني، تصدني/تنفرني.

يسبق كل تصور للعالم قواعد ومفردات وتقليد وسرد. تهمني هذه االسرديات؛ أي القصص التي تُروى عن العالم، أكثر مما يمكن أن يكون عليه هذا العالم. إن كل من يريد الحديث عن العالم كما هو، ليقول شيئًا "صحيحا" عنه، يقفز عن خطوة ويخلط بين الصورة الخاصة بالعالم والعالم نفسه، وفي بعض الأحيان لا توجد طريقة أخرى. ومع ذلك لا أقرأ هنا ما يقوله الآخرون عن العالم كتعبير عن الواقع، بل أسأل ما هي القصة التي تُروى. ليس للحكم على هذه القصة أو لدحضها (على الرغم من أنني لا أخفي ما أفضله)، ولكن لأخذ العواقب وتحديد مسار هذه القصص والسرديات والأيديولوجيات بِجِدٍّ قدر الإمكان، لاستكشافها بعمق ربما يكون غير معروف بالنسبة إلى هذه القصص. وأخيرًا، لطرح السؤال عما إذا كنا نرغب بجدية فيما ينتج عن قصة معينة أو يمكن استنتاجه منها. على سبيل المثال، هل ما زلنا نريد أو يمكننا التشخص بما يتم تقديمه لنا على أنه الغرب، (تُفهم صيغة الجمع هنا وكأننا جميعاً القراء المحتملون لهذا الكتاب)، عندما تظهر كل العواقب التي يمكن تصورها والناتجة عنه؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا يبقى إذن؟

لذا، كخطوة أولى، اتخذت بعض الكُتَّاب غير المثيرين ظاهريًا مثل فرانسيس فوكوياما وصمويل هنتنغتون وهاينريش أوغست فينكلر، فلأنهم ممثلون نموذجيون بشكل خاص لعقلية معينة، ويمكن استخدام كتاباتهم بشكل أفضل لإظهار ما يميز الحديث عن الغرب حتى يومنا هذا، ما هو مفهوم الغرب وماذا يعني "الغرب". لا أستخدمها، وعدد قليل من الأشخاص الآخرين، فقط كنقطة انطلاق لبدء حركتي الفكرية ولأبتعد عنهم وأنطلق.

لا أضع بهذا الموقف الذي يؤمن دائماً بأن الحديث عن الغرب هو هراء على أيّ حال موضع تساؤل، وبأن المدارس الفكرية الأمريكية الليبرالية والمحافظة غير مرضية، وعلى المرء محاولة تحقيق السياسة الأخرى التي تم الاعتراف بصحتها. ومثل هذا الموقف يبدو لي أقلّ سذاجة من الموقف "الغربي" الإيجابي، كما أنها في كل الأحوال تلتقط فقط صورة للعالم، والتي عادة ما تعود إلى هيجل وماركس، للعالم نفسه، وتحاول استخلاص ممارسة وسياسة من هذه الصورة، لربما تكون أكثر مساواة، ولكنها ليست أقل إشكالية من تلك الخاصة بخصومها. كهذه الأخيرة، فإنها لا تزال تركز على الإشكاليات المادية وتلك المتعلقة بالهوية السياسية، ولأنها لا تستطيع فعل شيء آخر، فإنها، للتعويض، تصرّ على الفهم الدوغمائي للغة.

على العكس من ذلك، نواصل الحديث عن "الغرب"، "الآخر"، "الأجنبي"، وأحيانًا حتى عن "الشرق" وما شابه ذلك، ونوضح في نفس الوقت بشكل لا لبس فيه، بأنه لا يوجد شيء يمكن قوله عن فهم أساسي وثابت لهذه المصطلحات، وبأنه من الضروري اتباع طريقة مرحة، حيثما يتم استخدامها. ومن أجل تطوير بدائل ثقافية واجتماعية وسياسية للتصلب الحالي وإعادة التقديم/التكرار والعجز، لا يكفي أن يكون المرء ببساطة ضد شيء ما، ويشارك في مسابقة جمال اليوتوبيا. على العكس من ذلك، يجب على المرء أن يعود، ويجب أن تنفتح الأسس، وخاصة تلك التي يقف المرء عليها كناقد لحاضره.

نجد تصورات للعالم ليس فقط خارج الغرب/وراء الغرب، بل وأيضاً في التقاليد الأوروبية المهمشة مثل الرومانسية المبكرة، والتي تبين لنا الطريق الأول للخروج من أزقة التفكير المسدودة. وإذا تمت استعادة الانفتاح الفكري انطلاقا من هذا، فسيُظهر في الأخير مثال مشهور بين الغرب والشرق كيف يعمل موقف ما وسياسة ما خارج الغرب، ويمكن أن تصبح خصبة مرة أخرى.

على أيّ حال، من الواضح أن هناك الكثير مما يمكن اكتشافه ما وراء الغرب، والمحاولة الحالية ليست سوى خطوة أولى صغيرة في هذا الميدان، الذي لم يتم استكشافه إلا قليلاً.

[1] - الترجمة مقتطفة من كتاب "ما وراء الغرب" الصادر عن دار مؤمنون بلاحدود.

[2] سبب هذا هو أن البادئة الألمانية ent- يمكن أن تعزز معنى الكلمة (كما هو الحال في إشعال entzünden، إفراغ entleeren)، ولكن يمكن أيضًا تفعل العكس ( نزع الملابس entkleiden، اكتشف entdecken). يُفهم "الاغتراب" „Entfremdung“ اليوم دائمًا بمعنى أن يصبح المرء غريبًا، وفي قاموس غْرِيم Grimm’schen Wörterbuch للقرن التاسع عشر، تم إدراجه بهذا المعنى فقط. ويستعمله أرتور شوبنهاور بالمعنى المضاذ أيضًا، والمتمثل في أن يصبح المرء أقل غرابة. يريد، كما يقول نص له سنعود له: "الحقيقة أن الشفقة هي الدافع الأخلاقي الحقيقي الوحيد" عن "قناعات القارئ [...]" – تُغرب/تنفر من "قناعات القارئ [...] – ولا يعني هذا شيئًا من غير "تعليم/إفهام". انظر:

Arthur Schopenhauer, Kleinere Schriften, hrsg. von Ludger Lüdkehaus, Zürich (Haffmanns) 1988, S. 588

[3] Khalid Al-Maaly, geb. 1956 in Samawa, Irak. Von ihm liegt u.a. der Gedichtband „Eine Phantasie aus Schilf“ auf Deutsch vor, übers. von Khalid Al-Maaly und Stefan Weidner, Berlin (Das Arabische Buch) 1994

خالد المعالي من مواليد 1956 في السماوة بالعراق. من بين أمور أخرى، مجموعة شعرية "خيال من القصب Eine Phantasie aus Schilf" باللغة الألمانية، ترجمها مع شتيفان فايدنر:

Khalid Al-Maaly und Stefan Weidner, Berlin (Das Arabische Buch) 1994

[4] 1944–2012 (Berlin). Auf Deutsch gibt es von ihm den von mir gemeinsam mit Khalid Al-Maaly übersetzten Gedichtband „Zeugen am Ufer“, Berlin (Das Arabische Buch) 1997

1944-2012 (برلين). هناك مجموعة شعرية له باللغة الألمانية، ترجمتها مع خالد المعالي "شهود على الشاطئ".

“Zeugen am Ufer“, Berlin (Das Arabische Buch) 1997

[5] Auf Deutsch liegt seine Autobiografie „Vertikale Horizonte“ vor (Basel [Lenos] 1997).

سيرته الذاتية "آفاق عمودية Vertikale Horizonte" متاحة باللغة الألمانية Basel [Lenos] 1997).

[6] www.banipal.co.uk

[7] Bagdad. Erinnerungen an eine Weltstadt, München (Hanser) 2015

[8] 1956–2016. Der Marschländer, Frankfurt (Glaré) 1999

[9] Geb. 1940, lebt in Berlin. Von ihm liegt auf Deutsch der Roman „Der letzte Engel“ vor. Zürich (Dörlemann) 2014

ولد عام 1940، ويعيش في برلين. روايته "الملاك الأخير Der letzte Engel " متاحة باللغة الألمانية. Zürich (Dörlemann) 2014