ماذا أخذ محمد عن اليهودية؟ عن أطروحة "أبراهام غايغر"
فئة : مقالات
وفقاً لكتاب اليهودية والإسلام[1] لـ "أبراهام غايغر"، فإنّ النصّ القرآني في مجمله اقتباسات عن الديانة اليهودية. والكتاب في أصله أطروحة دكتوراه باللغة الألمانية حملت عنوان Was hat Mohammed aus dem judenthume aufgenommen ماذا أخذ محمد عن اليهودية؟
فـ "مهمتنا -على ما يقول غايغر- هي أن نثبت أنه كم كانت مرتبطة روح محمد، نضاله وأهدافه، مع عقل زمانه ودستور محيطه، ومن ثم إثبات حقيقة أنه حتى إذا كنا حرمنا من جميع البراهين التي تظهر على نحو لا يمكن إنكاره أن اليهودية مصدرٌ للقرآن، فإن التخمين بأن استعارة من اليهودية كانت قد حدثت لا تزال تمتلك احتمالية عظيمة".[2]
ولتجلية هذه المهمة يسأل "غايغر" بداية أطروحته مجموعة من الأسئلة العلمية، لكي يُحكم الأطر البحثية التي يشتغل عليها؟ وهي على التوالي، أعني هذه الأسئلة؟:
هل كان محمد يرغب في الاستعارة من اليهودية؟
هل كان يمكن لمحمد أن يستعير من اليهودية؟
وإذا كان الأمر كذلك، كيف كانت هذه الاستعارة ممكنة بالنسبة إليه؟
وهل كان متوافقا مع خطته أن يستعير من اليهودية؟
وفي سياق إجابته عن هذه الأسئلة وغيرها، سيكون النص القرآني هو المرجع الرئيس الذي يعتمد عليه "أبراهام غايغر" في مقاربته البحثية، ساعياً إلى بسط النصّ القرآني أو بالأحرى تلك النماذج التي اعتقد بمصدريتها اليهودية، وقارنها بمثيلتها في النصّوص اليهودية، أو بالأحرى أتى على أصلها في تلك النصوص.
وقبل أن يشرع "غايغر" في سرد الاستعارات التي اقتبسها النبي محمد عن اليهودية وضمنّها قرآنه، وفقاً للأطروحة عينها؛ فإنه يؤكد على الوجود اليهودي في الحضارة التي تواجد بها النبي محمد وتأثره بهم. فـ "على الرغم من أنه لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن ننسب لمحمد ميلاً خاصاً لليهود واليهودية، بل إنه في حياته، وكذلك في الكتابات التي تركها وراءه كشرائع للأجيال القادمة، هناك آثار من الكراهية لليهود واليهودية على حد سواء- لا يزال من الواضح أن القوة التي أحرزها اليهود في شبه الجزيرة العربية، من جهة، كانت مهمة بما يكفيه لأن ينتمي أن يجعل منهم أتباعاً له، ومن جهة أخرى، فقد كان اليهود، على الرغم من أنهم كانوا جهلة، فقد كانوا متقدمين على غيرهم من الهيئات الدينية الأخرى في تلك المعرفة التي أعلن محمد أنه تلقاها عبر الوحي الإلهي، كما أحب في الواقع أن يؤكد كل علومه. علاوة على ذلك، فقد سبّب اليهود له الكثير من المتاعب بتعليقاتهم البارعة والمثيرة للحيرة، حيث إن الرغبة في استعطافهم لا بد أنها نشأت بالتأكيد في داخله".[3]
وفي المجمل، ستنعكس علاقة النبي محمد باليهود ونصوصهم -حبا أو كرها أو إعجابا أو رفضاً- على ما جاء به في النص القرآني. فحينا سيوافقهم على ما جاؤوا به [سيتم تفصيل ذلك] وحينا سيرفضه وحينا سيعارضه.
ففي المقطع الأول من الفصل الأول وتحت عنوان: (مفاهيم مستعارة من اليهودية) يُورد غايغر 14 كلمة يتبين من اشتقاقاتها وفقاً للمؤلف أنها عبرية في الأصل وليس عربية، وهي على التوالي:
1- تابوت. 2- التوراة أو الشريعة. 3- جنة عندن أو الجنة. 4- جهنم أو الجحيم. 5- أحبار. 6- دَرَس. 7- رباني. 8- السبت. 9- السكينة. 10- طاغوت. 11- فرقان. 12- ماعون. 13- مثاني. 14- ملكوت.
وللتأكيد على الأصل اليهودي لهاتِهِ الكلمات القرآنية يستحضر "غايغر" أصولها، وسأكتفي هنا بإيراد مثالين من سياق الكلمات أعلاه، لغايات توضيحية:
1- "تابوت، النهاية وتدليل مؤكد إلى حد ما على أن الكلمة ليست من أصل عربي، بل من أصل عبري حاخامي؛ لأن هذه اللهجة من العبرية كانت قد تبنت مكان نهايات أخرى هذه النهاية، وهو أمر شائع جداً أيضا في الكلدانية والسريانية، حيث يمكن لي أن أغامر بالتأكيد أنه لا توجد كلمة عربية نقية تنتهي بهذه الطريقة. تظهر كلمتنا في مقطعين مختلفتين بمعنيين مختلفين: أولا، حيث يقال لأم موسى أن تضع ابنها في تابوت، والمعنى الموجود هنا عبري بحت؛ ومن هنا نشأ أن تابوت العهد كان يسمى أيضاً بهذا الاسم..."[4]
2- "جهنم أو الجحيم. هذه الكلمة أيضاً، مثل الجنة المقابلة لها، من أصل يهودي. ووفقاً للمفهوم الأساسي والاستخدام الكتابي فهي أيضاً اسم لمكان، على الرغم من أنه موقع أقل أهمية بكثير من ذلك الذي أعطى اسمه للجنة. لم يكن وادي هنّوم أكثر من بقعة مخصصة لعبادة وثنية ومن اللافت للنظر أن الخوف من الوثنية أوصل إلى استخدام اسمها لتعيين الجحيم. ولا يحتاج إلى دليل أن هذه هي التسمية الاعتيادية لها في التلمود، ومن هذه التسمية اشتُقت التسمية (غهنّا) في العهد الجديد. الآن، يمكن التأكيد أن محمداً حصل على هذه الكلمة من المسيحيين؛ ولكن لو وضعنا جانباً البرهان أناه، مثل الاسم الذي يطلق على الفردوس، يهودية، تظلّ الاحتمالات لصالح أصل يهودي لكلمة الجحيم أيضاً، فشكل الكلمة يتحدث عن اشتقاقها من اليهودية. ونحن لا نركز على واقعة أن الكلمة الملفوظة بملء النَفَس aspirate، التي هي هيه he، التي يعبّر عنها في اليونانية، إنما تظهر من جديد في اللغة العربية، لأن هذه الكلمة الملفوظة بملء النفس مع أن لا يشار إليها دائماً من قبل علماء النحو في الكتابة، إلا أنها تبدو مسموعة الصوت في الكلام على الدوام. وهذا يصح على الكلمات اليونانية الأخرى التي عبرت إلى السريانية. فالحرف ميم الذي نجده في نهاية الكلمة العربية (جهنم)، كونه غير موجود في الكلمة السريانية، إنما يثبت الاشتقاق من الكلمة العبرية (غيهينوم). والكلمة موجودة في العديد من المواضع في القرآن"[5]
وبالمحصلة يقول "غايغر": "هذه الكلمات الأربع عشرة، التي هي مستمدة بوضوح من العبرية المتأخرة، أو العبرية الحاخامية، تظهر المفاهيم الدينية الهامة جدا التي عبرت من اليهودية إلى الإسلام، - أي فكرة التوجيه الإلهي، السكينة، الملكوت، الوحي، الفرقان، المساني، المحاكمة بعد الموت، جنة عدن، وجهنم، إضافة إلى غيرها التي ستقدّم على أنها خاصة باليهودية".[6]
وفي المقطع الثاني من الفصل الأول، وتحت عنوان (آراء مستعارة من اليهودية)، يُقسّم "غايغر" هذه الآراء إلى ثلاثة أقسام:
1- الآراء العقائدية، وتشمل أربعة عناوين كبيرة: 1- الخلق. 2- القصاص بما في ذلك الدينونة الأخيرة والقيامة. 3- شكل الوحي. 4- عقيدة الأرواح. و"في هذه العناوين الكبيرة الأربعة، توجد تفاصيل يمكن النظر إلى تبنيها [من قبل النبي محمد، وبالحقّ يشرحها غايغر ويسهب في تفاصيل النقل المحمدي عن اليهودية فيها] من اليهودية على أنه مثبت بما فيه الكفاية"[7]
2- القواعد الأخلاقية والتشريعية. فمن "المعروف أن اليهودية غنية جداً بالوصايا الفردية، وقد استعار محمد منها الكثير مما بدا له مناسباً"[8] مثل "الصلاة"[9] و"بعض الأحكام المتعلقة بالنساء في اليهودية"[10]
3- آراء الحياة، وهي مجموعة من الأقوال المتشظية المنتشرة هنا وهناك، منها: "الموت مع الصالحين"، فالآية القرآنية {توفنا مع الأبرار} مقتبسة عن طلب بلعام "لتمت نفسي مع المستقيمين"[11]. ومنها أيضاً: "لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا"[12]...الخ
أما الفصل الثاني، فقد تتبّع المؤلف في الجزء الأول منه [من الصفحة 149 إلى الصفحة 227] القصص الفردية المستعارة، ابتداءً من الآباء البطاركة كما يسميهم: من آدم إلى نوح وما بينهما، ثم من نوح إلى إبراهيم وما بينهما، ثم من إبراهيم إلى موسى وما بينهما. ثم تحدث في الجزء الثاني منه [من الصفحة 227 إلى الصفحة 270] عن موسى وزمنه. وفي الجزء الثالث [من الصفحة 271 إلى الصفحة 283] تحدّث عن الملوك الثلاثة الذين حكموا إسرائيل غير المقسمة. أما الجزء الرابع [من الصفحة 283 إلى الصفحة 300] فقد عنونه بـ: القديسون بعد سليمان.
وعن هذا الفصل يكتب "غايغر" في بدايته: "سوف يثبت هذا القسم أنه الأكبر، جزئياً، لن هذه الروايات، المكسوة بثوب الخيال الأكثر عجائبية، عاش معظمها في فم الشعب؛ وجزئياً، لأن هذا الشكل الخرافي جذب الهوى الشعري عند محمد، ويتناسب مع المستوى الطفولي لمعاصريه".[13]
أما عن كتابه بالمجمل، فيكتب: "الآن جمعت كل الإيماءات التاريخية معاً، وعندما ندرسها نرى فيها بشكل غير مشكوك فيه التحقق من الفرضية التي وضعناها في البداية -أي أن محمداً استعار كماً كبيراً من اليهودية، أنه تعلّم ذلك الذي سمعه من التقاليد الشفوية، وأنه كان يغيّر المادة أحياناً بما يتناسب مع غرضه".[14]
ثم يضيف "غايغر" ملحقاً دالاً عنونه بـ (عبارات في القرآن معادية لليهودية)، لكي يُكمل حلقات بحثه ويصلها ببعض، فيحقق غرضه المتمثل بإثبات فرضه المتمثل باستعارة محمد في قرآنه عن النصوص اليهودية، أياً كانت الصيغة -قبولاً/ معارضة/ دمجاً...إلخ- التي تناول بها محمد طبيعة هذه الاستعارات.
وإذا كان لحُزمةٍ من الأسئلة أن تُطرح بإزاء هذا البحث الغايغري رغم قدمه، فهو مكتوب أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، فيمكن اختصارها في الآتي: وهي بالضرورة أسئلة مشروعه وملحاحية:
1- هل الوحي الإسلامي فكرة خالصة بالنبي محمد، بما يمنح النص القرآني طزاجته الإلهية كما هو مفترض في المخيال الإسلامي؟
2- وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعتبر الوحي الإسلامي مكملاً للوحي الذي جاء إلى النبي عيسي ومن قبله النبي موسى؟ أي أن أصل الديانة اليهودية هو الوحي الإلهي الذي نزل على النبي محمد، لكن تجسداته في الإسلام غير تجسداته في اليهودية؛ أي أن الأصل واحد، لكن بفرعين مختلفين. وبالتالي لا معنى لأطروحة غايغر من أصلها، إذ لا ضير أن يقتبس النبي محمد عن اليهودية، فالاقتباس ليس اقتباساً تناصياً بالمعنى المُتداول، بل اقتباساً من المصدر نفسه، فمحمد لم ينقل نقلاً عن نصوص يهودية عيانية، بل جاءته الاقتباسات من الله مباشرة، عبر الملاك جبريل؟
3- وإذا لم يكن الأمر كذلك، أعني -وهذا طرح قوي فيما يتعلق بأطروحة غايغر، لا سيما أنه لم يأت على ذكر أي مصدر إلهي لليهودية- فهل تضع استعارات النبي محمد من اليهودية المسلم أمام محارجة ثيولوجية، لناحية التعقيب سلباً على إيمانه بالمصدرية الإلهية للديانات التوحيدية، فهي بالأساس ديانات أرضية، تنازعت مؤسسيها فكرة التثاقف والتناصات، حتى في الشأن اللاهوتي؟
4- أم إن الأمر كله لا يعني المسلم، فمسألة مصدرية النصوص اليهودية والإسلامية وحتى المسيحية، محسومة سلفاً، فالله هو المصدر، لذا فكلام غايغر -وإن استبطن لمزاً- يؤكد هذه المصدرية، وما فعله القرآن أنه أكّد هذه المصدرية، وكل ما فعله أنه شذّب أو عدّل أو أضاف أو حذف ما جاء في التوراة التي تعرضت لتزويرٍ أبان عنه النص القرآني في متنه، بما جعل منه -أي من القرآن- نصاً مُهينماً على غيره من النصوص؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها، ما زالت حاضرة في عموم العالم الإسلامي، نظراً لطزاجة الموضوع -أعني موضوع الوحي وتعالقات النص القرآني مع غيره من النصوص، تحديداً الكتابية- الذي تناقشه، وحضوره الطاغي في قلوب المسلمين وعقولهم، سواء بسواء.
[1] أبراهام غايغر، اليهودية والإسلام، ترجمة نبيل فياض، دار الرافدين، بغداد، بيروت، ط1، 2018
[2] المرجع السابق، ص 45
[3] السابق، ص ص 45- 46
[4] السابق، ص ص 90- 91
[5] السابق، ص ص 93- 94
[6] السابق، ص 108
[7] السابق، ص 135
[8] السابق، ص 136
[9] السابق، ص 136
[10] السابق، ص 139
[11] السابق، ص 141
[12] السابق، ص 141
[13] السابق، ص 147
[14] السابق، ص 300