ماذا فعل الإسلام لنا
فئة : قراءات في كتب
صدرت عن دار النشر جداول ومؤسسة مؤمنون بلا حدود ترجمة كتاب تيم والاس ميرفي Tim Wallace-Murphy: "ماذا فعل الإسلام لنا" (What Islam did for us)مع عنوان فرعي: "فهم إسهام الإسلام في الحضارة الغربية"؛ وظهرت الطبعة الأولى للكتاب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2014.
يقع الكتاب في 264 صفحة، ويتألف من خمسة أجزاء وستة عشر فصلاً، مع استهلال للمترجم وثبت مختار للمراجع.
جاء الجزء الأول بعنوان "التقليد الأولي وأصول اليهودية والمسيحية"، ويقف الفصل الأول من هذا الجزء عند "مصر القديمة". وهذا يعني أنّ ديانات التوحيد الثلاث تعود إلى أصل واحد، ألا وهو الأصل المصري القديم (الفرعوني منه بالضبط). ويستند المؤلف في ذلك إلى مرجعية غزيرة، سواء نصوص العهد القديم أو نصوص العلماء المختصين في الكتب المقدسة.
لعل النقطة المشتركة التي تتقاطع فيها ديانات التوحيد الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، هي تلك التي تختزلها تجربة النبي إبراهيم. فمن خلال هذه التجربة "يوقَّر النبي إبراهيم، لأنّه في آن واحد مؤسس شعب إسرائيل وأبو الشعوب العربية. وهكذا نجد في هذه الشخصية المؤثرة المؤسس الروحي والدنيوي المباشر للتوحيد الذي انحدرت منه الأديان الكبيرة الثلاث، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام. ووفقًا للرواية الواردة في العهد القديم، ولد إبراهيم في مدينة أور. ومع ذلك فإنّ هذه المقولة البسيطة قد تكون مسألة تمويه فحسب، أوجدها الكتاب اليهود العاملون في بابل خلال القرن السادس قبل الميلاد، لإخفاء أصول الأب الحقيقية" (37). وإذا كان الاحتمال واردًا، فما الذي دعا اليهود (كتاب العهد القديم) للعمل على إخفاء الأصل الحقيقي للنبي إبراهيم؟
يجيب ميرفي: "في ذلك الوقت، عندما اتخذت الكتب المقدسة للمرة الأولى شكلها المكتوب الحالي، كان الإسرائيليون التوراتيون وحلفاؤهم المصريون قد تعرضوا حينها للهزيمة على يد البابليين، وكان الكتّاب أنفسهم يعملون في المنفى تحت مراقبة يقظة من آسريهم. وكان من الممكن حسبان ذلك ضروريًّا، بشكل حيوي، للتقليل من أي ارتباطات سلالية كانت للشعب العبري مع مصر" (نفسه). فبعد "السبي البابلي"، لم تعد الديانة اليهودية كما كانت عليه في أورشليم. لقد حصل نوع من المثاقفة التي أفضت إلى تمازج بين التعاليم التوراتية من جهة، والأساطير البابلية من جهة أخرى. ومع اقتناع الكتاب اليهود بضياع مملكة إسرائيل إلى الأبد، فإنّهم كانوا حريصين على الاندماج في المجتمع الجديد. ولعل أقصى درجات الاندماج هي تلك المتمثلة في الانصهار العقائدي، أي البحث عن أصل مشترك قصد الاحتماء به أو الاختفاء وراءه. وهل هناك أكثر من الإيمان بكون النبي إبراهيم بابلي الجنسية (مدينة "أور"، مسقط رأسه، توجد في بلاد الرافدين)؟
و إذا كان كتّاب التوراة في ذلك العهد ينفون أيّ صلة يمكن أن تربط عقيدة الشعب اليهودي بعقيدة الشعب المصري، إرضاءً لسادتهم، وخوفًا من عملية تهجير ثانية؛ فإنّ إعادة قراءة بعض المقاطع من سفر التكوين تشير إلى الأصل الحقيقي للنبي إبراهيم. وفي هذا الصدد يستشهد ميرفي بالمثال التالي، يقول: "فمثلاً يُقتبس عن إبراهيم وصف زوجته بالتعبيرات الآتية: "..وبالحقيقة أيضًا هي أختي ابنة أبي، غير أنّها ليست ابنة أمي، فصارت لي زوجة" (الإصحاح 20، الآية 12). ثم بعد ذلك يعلق على هذا الاقتباس بالقول: "كان زواج السِّفاح الواضح هذا بالأخت، نادرًا ما يعلق عليه العلماء التوراتيون الجدد. ومع ذلك فهو فائق الأهمية، لأنّ هذه الزيجات بين الأشقاء خلال ذلك العصر في منطقة الشرق الأوسط، اقتصرت على الأفراد الكبار من العائلة المالكة المصرية. لذلك من المؤكد تقريبًا أنّ إبراهيم كان فردًا من ذلك النسق السلالي المنتقى"" (37-38). وهذا الرأي الذي استخرجه ميرفي من المقطع السابق - الذي ظل يحتفظ بالأصل الحقيقي المطموس وراء طبقات اللغة - يعضده ما ذهب إليه العالم التوراتي من القرن الحادي عشر، الحاخام سولومون آزاكس (1040-1105). فقد كتب هذا العالم - المعروف أيضًا باسم راتشي - يقول: "إنّ عليك معرفة أنّ عائلة إبراهيم كانت ذات مرتبة عالية". ويرفض راتشي "على نحو قاطع الفكرة المقبولة بأنّ إبراهيم كان راعيًا بدويًّا، ويؤكد مركزه الاجتماعي الحقيقي" (38).
لا يكتفي ميرفي بهذه الأدلة فقط، بل يتابع البحث والتنقيب في دلالة الاسم المعجمية والاصطلاحية. ويرى أنّ "الاسم الذي عُرف به الأب أصلاً، وهو أبرام، يترجم بلقب "الأب الرفيع المقام"، وهو أحد الألقاب الطقسية المستخدمة بانتظام من فراعنة مصر. علاوة على ذلك، هناك أيضًا الأمر الغريب في التغيير الكلي لاسمي أبرام وساراي (زوجته) المدون في الكتب المقدسة، لأنّ هذا يعزز حقيقة أصل إبراهيم المصري. والتعبير "أب لجمهور من الأمم"، يطلق على إبراهيم في رواية سفر التكوين. وحين أصبح ابنه إسحاق أصل شعب إسرائيل، فإنّ ابنه إسماعيل من خادمة زوجته هاجر، أسس الشعوب العربية. واسم زوجة إبراهيم الجديدة، سارة، هو التعبير المصري لكلمة "أميرة". وهي أيضا مسألة مدونة بأنّ هاجر خادمة سارة كانت أيضًا مصرية أصيلة نَسَبيًّا، لأنّها ابنة أحد الفراعنة من إحدى عشيقاته. ولتعزيز هذه النقطة، يسجل الكتاب المقدس أيضًا حقيقة أنّ إسماعيل (ابن الأب) اتخذ زوجة مصرية" 38-39).
أما الارتباط الأكثر وثاقة بين العقيدة اليهودية والمصرية القديمة، فيتجلى من خلال الصفة التي عُرف بها الإله من جهة، ومن خلال طقس الختان من جهة أخرى. عن الصفة يقول ميرفي: "يستعمل كل من ملكي صادق - الملك الكاهن في القدس - وإبراهيم، العبارة البليغة نفسها تمامًا لوصف الله: "الله العلي"؛ وهو أحد التعبيرات الأكثر شيوعًا المستخدمة في المدونات المصرية لإله "المعبد الأعلى"". أما عن الطقس فيقول: "ومن المهم جدًّا أيضًا أنّ إبراهيم تبنى لنفسه ولجميع أحفاده عادة الختان المصرية، بأمر من الله العظيم نفسه كما يقال. والختان، رغم أنّه كان إلزاميًّا لدى العائلة المالكة المصرية والكهنة وطبقة النبلاء الوراثية منذ عام 4000 قبل الميلاد، كان من أكثر الممارسات غير المعتادة بين المجموعات أو الأديان أو الأمم الأخرى" (39).
تضاف إلى كل هذا اجتهادات علماء اللغة والآثار، من كون صفة "عبري" لم يعثر لها على أي أثر في مدونات الشرق القديم السابقة على السبي البابلي، كما أنّ القصص التوراتية - وهي تؤرخ لشعب إسرائيل أثناء مكوثه في مصر - لم تشر صراحة إلى أي فرعون باسمه؛ وبالمقابل فإنّ المدونات المصرية القديمة - على كثرتها - لم تشر إلى وجود شعب بهذا الاسم. اللهم إلا إذا كانت القصص التوراتية تتحدث عن التاريخ المصري بشكل ملفق، وتنسب الأحداث إلى "شعب إسرائيل" باختلاق ألقاب عبرانية وإضفائها على شخصيات مصرية. وهذا ما يذهب إليه أحد العلماء التوراتيين اليهود، وهو الدكتور كارل أبراهام، الذي يرى "أنّ الفرعون أخناتون ربما كان الشخص التوراتي الذي يعرف باسم موسى" (42). أما عالم التحليل النفسي الشهير فرويد فقد "بيّن أنّ قصة ولادة موسى في العهد القديم كانت دمجًا لأسطورة سرغون (2800 قبل الميلاد) القديمة، وأساطير مصرية عن ولادة حورس. إذ كانت الشخصيتان الأسطوريتان، كلتاهما، مخبأتين في سرير قصبي لتفادي قتلهما. وزعم فرويد أنّ قصة أصول موسى كانت تلفيقًا أوجد خلال النفي البابلي، لإخفاء حقيقة أنّ هذا النبي "اليهودي" البارز كان في الحقيقة، فردًا من العائلة المالكة المصرية. وبيّن أيضًا أنّ اسم موسى، كان اشتقاقًا من الاسم المصري الشائع موس أو طفل" (42).
كما خلص عالمان توراتيان إسرائيليان - مسعود وروجر صباح - حديثاً، إلى "أنّه ليس ثمة دليل على وجود العبرانيين بشكل أمة أو قبيلة في عصر موسى، على غرار ما جرى وصفه في الكتب المقدسة. ثم يطرحان المسألة المقلقة التالية: كيف يمكن لشعب متشرب بهذا الجزء الأساسي من حكمة مصر أن يختفي من السجل التاريخي (المصري) بشكل غامض؟ إنّ ما يزيد على 200 سنة من البحث في الصحاري والقبور والمعابد لم يظهر أي شيء" (41-42).
ويستفيض ميرفي في المقارنة بين العقيدة اليهودية والعقيدة الأتونية (القائلة بالتوحيد) في مصر الفرعونية، وبخاصة ما ورد في الوصايا العشر من جهة وما ورد في كتاب الموتى المصري. وعلى سبيل المثال لا الحصر، وردت المبادىء المدونة في كتاب الموتى بالصيغة التالية: "إنّني لم أرتكب أي ذنب ضد البشر - إنّني لم أُفقر (أسرق) رفاقي - إنّني لم أقتل". وورد ما يقابل ذلك في سفر الخروج: "لا تقتل - لا تسرق - لا تشهد على قريبك شهادة زور" (الإصحاح 20، الآيات 13، 15، 16). كما أنّ "السفينة المستخدمة بشكل رمزي للانتقال لدى الإله أتون خلال المراسم في تل العمارنة، كان يستخدمها يهود الخروج لاحقًا لنقل الألواح الحجرية التي حفرت عليها الوصايا العشر". ليس هذا وحسب، بل إنّ "صفات الله العشر الموجودة في كابالاه، مثل العلو والحكمة والذكاء والرحمة والقوة والجمال والنصر والمجد والأساس والملك، كانت - وفقًا للأخوين صباح - مدرجة أصلاً بوصفها صفات الفراعنة". أما من الناحية الطقسية فقد "كان أخناتون يضحي بالحيوانات في تل العمارنة بأسلوب مماثل لموسى، ووُصف تل العمارنة بأنّه المدينة المقدسة.. و"المدينة المقدسة" هي تعبير معبر لدى اليهود والمسيحيين" (46).
من كل هذا - وغيره كثير - يخلص ميرفي في نهاية الفصل الأول إلى النتيجة التالية: "وهكذا كانت اليهودية المبكرة بعد الخروج من دون شك، عرقيًّا وروحيًّا معًا، مصرية في الأصل. وقد ميز العلماء هذه الحقيقة البارزة لعدة سنوات، ومع ذلك من المحزن أنّه يظل عليها فرض نفسها على وعي الجمهور العالمي عمومًا. ربما تكون هذه الفجوة الصارخة في معرفة الجمهور، عاملاً مساهمًا أكثر لدفع أفراد مضللين من الأديان العالمية الرئيسية الثلاثة للتصرف بشكل خصوم بدلاً من إخوة" (47).
أما الفصل الثاني فقد جاء بعنوان "الوحي الأول للدين الإبراهيمي: كتابة العهد القديم". والمشكلة التي يثيرها هذا الفصل تتعلق بتأليف العهد القديم بعد الأحداث التي يرويها، لمدة تزيد عن سبعة قرون، مما يطرح مسألة الصحة التاريخية التي تدعيها الرواية. لقد "اقترح يهودي أمريكي بارز، هو نورمان كانتور، أنّ هذه الرواية حول استعباد شعب إسرائيل في مصر كانت ضربًا من الخيال المتعمد" (55). كما أشار فرويد في كتاب الشهير "موسى والتوحيد"، إلى أنّ "العصر التالي للخروج مباشرة، والمتعلق بغزو أرض الميعاد.. "عصي على البحث"". تضاف إلى ذلك شهادة الباحث في مخطوطات البحر الميت، جون أليغرو، التي يقول فيها: "نحن في نصف عالم غامض، حيث تتلاشى حقائق التاريخ الصعبة إلى أساطير، وحيث لا مكان لخط التقسيم الواضح الذي نريد رسمه بين الحقيقة والخيال" (56).
و لعل من بين أكثر الأساطير انتشارًا بين اليهود: أسطورة "أرض الميعاد". ولذلك توالت أعمال التنقيب في إسرائيل الحديثة، بغية البحث عن سند أركيولوجي يثبت صحة تلك الأسطورة. بيد أنّ علماء الآثار "لم يكتشفوا شيئًا عن غزو شعب إسرائيل، خلال احتلالهم المزعوم لتلك الأرض. وقد كتب العالم والمؤرخ التوراتي الإنجليزي، روبن لين فوكس: "لا توجد أية إشارة على احتلال أجنبي في المرتفعات التي ستصبح الداخل الإسرائيلي"" (58).
و تأتي على رأس جميع الأساطير، أسطورة كون الشعب اليهودي هو أول من اكتشف عقيدة التوحيد. بيد أنّ "إحدى أقدم الإشارات إلى الله الواحد الحقيقي هي الإشارة إلى إله ملكي صادق، إل إليون، "الله العلي" الذي دفع إبراهيم من أجله ضرائب العشر إلى ملكي صادق. كان اسم إل إليون، أو إل، لقب الإله الكنعاني بعل في جبل زافون، كلمة غربية سامية تعني الله. وعلى نحو مشابه، إن إليوت، الكلمة السامية التي تعني إلهة، وجمعها الأنثوي إلوهيم، توجد كثيرًا في الكتاب المقدس" (نفسه).
أما دين التوحيد اليهودي الذي نعرفه اليوم، فقد كان نتيجة انصهار المجموعات العرقية "التي فرت من مصر مع القبائل السامية في كنعان". حيث بدأت تسيطر عليها، وأخذت بشكل تدريجي تعزل شركها وممارستها الوثنية، وتتحد حول إيمانها بيهوه الذي اتخذ مظاهر عبادة الإله الكنعاني بعل أو إل إليون، إله ملكي صادق؛ وفي النهاية أصبحت هذه المجموعة الغريبة معروفة بشعب إسرائيل" (58-59).
يتابع الفصل الثالث تطور "اليهودية في عصر المسيح"، مع التركيز على علاقة المسيح بيوحنا المعمدان. وذلك في مقابل الكنيسة المسيحية التي كانت "تنكر دائمًا، بشكل عنيف، أي دور تعليمي ليوحنا المعمدان في علاقته مع المسيح". هذا في الوقت الذي "تدعم غالبية البحث العلمي الحديث، الرأي القائل إنّ المسيح كان تلميذ يوحنا المعمدان" (70). لقد حاولت الكنيسة، خلال تاريخها الطويل، طمس أيّ علاقة ممكنة بين المسيح ويوحنا المعمدان، قصد التركيز على قدسية المسيح وعلاقة بنوته مع الله. أما الاعتراف بكون المسيح كان حواريًّا ليوحنا المعمدان، فسينتج عنه بالضرورة أنّه "كان خاطئًا وأعيد إلى الصلاح كي يتأهل للمعمودية؛ وهذا مفهوم مشوش بالنسبة للذين يعتقدون أنّ المسيح قدسي" (71). ولذلك يخلص ميرفي إلى النتيجة التالية: "لقد كان المسيح يهوديًّا مؤمنًا، أصبح تلميذًا ليوحنا المعمدان، وخضع للتطهير من الخطيئة وللمعمودية، لذلك من المستحيل تقبل أنّه حَسِبَ نفسه قدسيًّا في أي وقت". ويسوق ميرفي استشهادًا لدعم هذا الاستنتاج استند فيه إلى نتيجة مماثلة توصل إليها أ.ن.ويلسون، يقول فيها: "كان عليّ الاعتراف بأنّني وجدت من المستحيل الاعتقاد بأنّ رجلاً من جليليا مقدسًا من القرن الأول، ظن نفسه في أي وقت من حياته أنّه الشخص الثاني من الثالوث المقدس. لقد كان أمرًا غير محتمل، بالشكل الطبيعي، أن يؤمن به يهودي توحيدي" (نفسه).
كما يقف الكاتب عند تضليل آخر رسخته الكنيسة، ويتمثل في لقب المسيح ب "الناصري". وذلك لسبب بسيط، وهو "أنّ الناصرة لم تكن موجودة في ذلك الوقت". أما لقبه الحقيقي فهو "المسيح النازوري"، وهو لقب "يدل على انتمائه إلى طائفة أولية من الإيسينيين" (72). وبناءً على هذا الانتماء، من السهل تمييز أقوال المسيح الأصلية عن تلك المنحولة أو المنسوبة إليه، فمثلاً قول المسيح: "إلى طريق أمم وثنية لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا، بالحري، إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (إنجيل متى، الإصحاح 10، الآيتان 5-6). إنّ هذا القول "متفق كليًّا - يقول ميرفي - مع التعليم الإيسيني، [و] يمكن عده حقيقيًّا". بينما قول المسيح: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس"، هذا القول "يجب رفضه، لأنّه لا أحد من التقليد الإيسيني يأمر حوارييه بوعظ غير اليهود". ويستنتج مورفي أنّ ذلك، لو قيل بالفعل، فإنّه "سيكون لعنة على أي يهودي. ولم يوضع في الاستعمال العام، بالتأكيد، إلا بعدما أنجز المذهب المسيحي درجة كبيرة من التطوير" (73).
يتبين من كل هذا أنّ عقيدة التثليث - عصب الدين المسيحي - ليس لها أيّ علاقة بالمسيح، بل حشرت حشرًا من طرف الكنيسة فيما بعد. ويجوز اعتبارها بمثابة انحراف عن خط التوحيد التاريخي، الذي شق طريقه من مصر، والمتمثل في العقيدة الأتونية التي نجحت في عزل العناصر الوثنية من معتقدات القبائل الكنعانية التي ستنجب ما سيسمى بـ"شعب إسرائيل" فيما بعد.
أما الجزء الثاني من الكتاب فيبدأ من الفصل الرابع المعنون بـ"التعاليم الحقيقية للمسيح"، من خلال المقارنة بين المسار الذي اتخذته الكنيسة مع مؤسسيها الأوائل، وبخاصة القديسين بولس وبطرس، من جهة؛ والحواريين الأوائل الذي ظلوا في القدس، ولم يقوموا بنشر تعاليم المسيح في المقاطعات الرومانية من جهة أخرى. ويعود أساس هذا الشرخ إلى الخلاف المتعلق بالخليفة الحقيقي للمسيح، هل هو بطرس أم هو يعقوب العادل. فقد عملت الكنيسة على طمس حقيقة هذا الخلاف لمدة طويلة، إلى أن تم اكتشاف إنجيل طوما في القرن الماضي، والذي عدّته الكنيسة أبوكريفا (إنجيل منحول). لقد اختفى هذا الإنجيل "عن الأنظار طوال أكثر من 1500 سنة، حتى أعيد اكتشاف نسخة في نجع حمادي عام 1945. ونجد فيها: "قال الحواريون للمسيح: نعرف أنّك ستغادرنا، من سيكون قائدنا؟ قال المسيح لهم: حيثما تكونوا، تذهبوا إلى يعقوب الصالح الذي من أجله خُلقت السماء والأرض" (82). فمن يكون يعقوب هذا؟
يطرح ميرفي السؤال ويجيب عليه: "من كان سيعرف تعاليم المسيح بشكل أفضل، ويُعدّ جديرًا بالثقة بما يكفي لنقلها من دون تعديل؟ الجواب بالتأكيد يجب أن يكون أخاه، يعقوب العادل، الذي تمتع بسمعة الصلاح التي يستحقها حقًّا" (83). بيد أنّ للتاريخ كلمته، حيث سارت الأحداث بالطريقة التي تخطها سلطة السياسة بدلاً من سلطة العقيدة. فقد رسخت الكنيسة تقليدًا ملفقًا مفاده "أنّ المسيح قد عيّن بطرس لقيادة الحواريين بعد الصلب.. لتبرير السيادة المزعومة لروما، وتعزيز سلطتها على جميع المراكز المسيحية الأخرى. والتلفيق المدروس لأسطورة مؤسسة بطرس، أجبر الكنيسة على تهميش دور يعقوب لتقليل قدره في نظر رعيتهم، وهكذا أصبح معروفًا في أدب الكنيسة باسم "يعقوب الأقل شأنًا"" (83).و قد لقي يعقوب مصيرًا مأساويًّا، حيث اغتيل في الهيكل نتيجة مكيدة مدبرة. أما أتباعه، الذين لقبوا بالمتعصبين، فكانوا يعتبرون القديس بولس - مؤسس المسيحية الرسمية - شخصًا "مرتدًّا عن القانون"، و"مطلقًا للشر والأكاذيب"، و"مشوهًا لتعاليم المسيح الحقيقية". ويقول ميرفي عن هوية القديس بولس، وبالاعتماد على "كتاباته الشخصية المقبولة على أنّها المصادر المسيحية الأساسية المبكرة التي نمتلكها، ندرك أنّه كان مواطنًا رومانيًّا وفريسيًّا في الوقت نفسه، وأمضى وقتًا وهو يضطهد أتباع المسيح بعد الصلب" (85). وتكلل ذلك كله بدمار القدس على يد الرومان عام 70م، ولو لم يحصل هذا التدمير لكانت جهود القديس بولس قد ذهبت سدًى، وربما لم نكن لنسمع اليوم بالمسيحية أو على الأقل بعقيدة التثليث.
الفصل الخامس ينقلنا إلى "تأسيس أوروبا المسيحية والعصور المظلمة"، وهي العصور ستتلو هزيمة اليهود في القدس، وما نتج عنه من تحريف لتعاليم المسيح، وانتصار التيار الذي تزعمه بولس بدعم من السلطات الرومانية. يصف ميرفي حجم الدمار الذي حصل، ومآل المقاومين والثوار، بالقول: "تُركت مدينة القدس المقدسة مكانًا ممتلئًا بالجثث والدخان، فالهيكل مدمر، والشوارع تغص بالجثث المتفسخة، وأسوار المدينة المخربة تحيط بها حلقة من المتمردين اليهود الذين صلبوا بعد محاولاتهم المخفقة للهروب. كان عدة مواطنين نجوا من الموت يمرون عبر شوارع روما مكبلين بالسلاسل، خلف موكب غزاتهم الذين يحملون كنوز الهيكل ويمجدون روما. ثم تتوج النصر بإعدام قادة الثورة، وإرسال بقية الأسرى إلى أسواق العبيد، ليكملوا أيامهم في العبودية، أو ساحات النزال، أو في سفن الإمبراطورية ومناجمها" (93).
هذه الصورة التاريخية القاتمة سوف تنتج عنها صورة أخرى، تحددت من خلالها معالم الثقافة الأوروبية التي سوف تتأسس على ما يدعوه المفكرون الغربيون بـ"التقليد اليهودي- المسيحي". فما حدث بين سنوات 66-73م، كان بمثابة منعرج حاد في مسار التاريخ الغربي عمومًا. لقد وصف المؤرخ نيل فوكنر أحد مظاهر هذا التحول بالقول: "إنّ هزيمة الأمل النبوئي، والدمار المادي للطائفة اليهودية- المسيحية، مهدت الطريق أمام المسيحيين من مؤيدي بولس لنزع الصفة القومية عن المسيح، وإضعاف رسالته الثورية، وإعادة تقديمه على أنّه "إله مخلص" ينشر السكينة بين الجماهير" (نفسه).
انهزم، إذن، الحواريون الحقيقيون، أولئك الذين رافقوا المسيح في حياته، وتلامذتهم. وفي المقابل انتصر بولس - على الرغم من أنّه لم يلتق بالمسيح باعترافه الشخصي - وأصحابه، أي الزمرة التي احتمت بالسلطة في روما. ولأنّ السلطة وفرت الحماية لهؤلاء وقطعت دابر أولئك، فقد كانت المسيحية التي وصلتنا عبر التاريخ هي تلك التي تشكلت في روما. كانت رسائل بولس التي كتبها قبل ظهور الأناجيل، بمثابة المصادر الأولى للدين المسيحي كما نعرفه اليوم. كتب ميرفي في هذا الشأن، يقول: "لاشك أنّ رسائل بولس هي التوثيق الأساسي الأولي للدين المسيحي، ويعود تاريخ رسائله التي قدمها للمجتمعات إلى عام 47م تقريبًا، قبل أكثر من 30 سنة من كتابة أول الأناجيل المقبولة كنسيًّا. وقبل كتابة الأناجيل كانت هذه هي الوثائق الوحيدة التي يجري توزيعها بين أتباع بولس" (97). ومعنى هذا الكلام أنّ المسيحية الأولى تم احتكارها من طرف مجموعة روما التي تشكلت حول بولس، وهو الذي كان ناطقها الرسمي.
ظهر الإنجيل الأول (إنجيل مرقس) بين عامي 70 و80م، بعد تدمير الهيكل وسقوط القدس. وفي هذه الفترة كانت المعارضة قد تم القضاء عليها، وسادت أفكار بولس بدون منازع. وبعد عشر سنوات ظهر إنجيل متى وإنجيل لوقا بشكل متزامن تقريبًا، بينما ظهر إنجيل يوحنا بين سنوات 100 و120م. وكانت أعمال الرسل قد ظهرت في الحقبة نفسها تقريبًا، وبذلك أحكم الطوق على أسس العقيدة المسيحية الرسمية، أي النسخة الرومانية لتعاليم المسيح التي تحمل بصمات القديس بولس. وسيشتد هذا الطوق إحكامًا في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير (294-337م) الذي أصدر مرسوم ميلانو الشهير، وبموجبه استعادت الكنيسة جميع ممتلكاتها وتم تشجيعها من طرف الإمبراطور الذي رأى في تعاليمها وسيلة لرأب الصدع الذي خلفته الحرب الأهلية آنذاك. ولكن على الرغم من ذلك فالمسيحية لم تكن ديانة موحدة، بل ظهرت فيها انقسامات وطوائف متناحرة. وكانت أخطر تلك الطوائف على الكنيسة هي الطائفة التي تزعمها أريوس (توفي عام 336م)، والذي كان يقول بالطبيعة البشرية للمسيح، أي أنّه نفى أن يكون المسيح ابن الله. وخشية تمزيق الإمبراطورية بفعل هذه الصراعات المذهبية، دعا الإمبراطور إلى عقد أول مجلس عالمي للكنيسة في نيقيا عام 325م. وفي هذا المجلس تمت إدانة أريوس، واعتبرت الأريوسية منذ ذلك العهد نزعة هرطقية. كما تم ترسيم العقيدة الأرثودوكسية بشكل نهائي، بمعنى أنّ جوهر المسيحية أصبح متماهيًا مع الطبيعة الإلهية للمسيح، ومع الثالوث المقدس.
هكذا توافقت الدولة مع الكنيسة من خلال "إنشاء مؤسسات قوية طوال قرون عدة من القمع التي ستأتي، وزرع بذور العداوة المستقبلية نحو اليهود والمسلمين" (100). أصبحت الدولة الآن بمثابة اليد الضاربة للكنيسة، حيث انتقل الإمبراطور إلى العمل التأديبي "ضد الزنادقة بإصدار مرسوم ورد فيه: "إذا اكتشفت أية رسالة كتبها أريوس، فيجب إلقاؤها في النيران.. كي لا يكون هناك أي ذكر له.. [و] إذا قبض على أي شخص يخفي كتابًا من تأليف أريوس، ولا يخرجه ويحرقه فورًا، ستكون عقوبته الموت، وسيتلقى المجرم العقاب فور إدانته"" (101). ولكن من يقرر الإدانة في أمور العقيدة غير الكنيسة؟ أما من ينفذ فالأمر موكول لأجهزة الدولة. بهذه الطريقة "تم إحداث مؤسسة الكنيسة/الدولة الأولى في أوروبا، التي أقيمت بشكل راسخ على الأساس الروحي للخوف والقمع". و"بهذا الأسلوب كان الموقع التي يحتله يعقوب العادل، وهو "أسقف" القدس الأول قد أبطل تمامًا" (نفسه). وبدلاً من هذا الموقع في شرق الإمبراطورية، احتل أسقف روما موقعًا آخر في غربها على رأس تسلسل هرمي، بوصفه ممثلاً لله فوق الأرض.
الجزء الثالث من الكتاب ينقلنا إلى "تأسيس عالم الإسلام"، ويقف الجزء السادس منه على "خاتم الأنبياء". وفي ارتباط مع مسلسل التوحيد، مثل الشجرة التي تتفرع عنها الأغصان والأوراق بشكل تصاعدي، سينضاف غصن آخر إلى الشجرة نفسها، ألا وهو غصن الإسلام. لقد ظهر الإسلام في التربة العقائدية نفسها، بلون مغاير لذاك الذي ظهر في التربة الرومانية.
يصف ميرفي اللون العقائدي الذي ساد في مكة والمدينة وكذا المناطق المحاذية لهما، أي الجو الديني الذي ترعرع فيه النبي العربي، حين يقول: "قبل قرون هربت أسر يهودية عديدة إلى الجزيرة العربية، واستقرت هناك بعد سقوط القدس عام 70م.. [و] في زمن ولادة محمد عام 570م أو حوالي ذلك، كان ثمة قبائل يهودية تعيش في فدك، شمالي مكة؛ وكان ثمة يهود أكثر يعيشون في وادي القرى وتيماء، ومجتمع خيبر اليهودي الذي استقر على بعد نحو 100 كم شمالي يثرب. كان حوالي نصف سكان يثرب، المدينة المنورة الآن، من اليهود، ومنهم قبائل بني النضير وقريظة وقينقاع وأحفاد المعمادوت، العائلات الكهنوتية الوراثية العالية في القدس، المعروفة الآن باسم كاهينان. بالإضافة إلى هذه الصلات العائلية المباشرة مع التعاليم الحقيقية للمسيح، كانت ثمة أنواع مختلفة من الكتابات المنحولة المتعلقة بيعقوب العادل والمتشددين، والمنتشرة بين اليهود والمسيحيين معًا في الجزيرة العربية. وبالمقارنة مع هذه المجتمعات اليهودية الراسخة جيدًا، كانت عدة قبائل شمالية على المنطقة الحدودية بين الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية قد تحولت إلى المسيحية النسطورية والتي، كما أشرت سابقًا، تؤمن بثبات أنّ المسيح كان رجلاً ونبيًّا ولم يكن إلهًا. وحول مكة ويثرب، كان تأثير المسيحية أقوى، ليست المسيحية المتنوعة المؤيدة لبولس على أيّة حال، بل تلك الهرطقة المؤمنة بأحادية الطبيعية التي علّمت بأنّه يوجد في شخص المسيح طبيعة بشرية واحدة فقط" (112-113).
يتبين من هذا الوضع الثقافي الذي كان سائدًا في مكة والمدينة وما حولهما، أنّ المناخ السائد كان مناخًا توحيديًّا لدى أهل الكتاب. فبالإضافة إلى العقيدة اليهودية التوحيدية، تعرفت مناطق شبه الجزيرة العربية والشام على المسيحية النسطورية والأريوسية التي تقول بالطبيعة البشرية للمسيح وترفض عقيدة التثليث، أي عكس ما تقول به المسيحية الرومانية الرسمية. والإسلام الذي تأثر بالمعتقدات اليهودية والمسيحية الشرقية، لم يخرج عن هذا الإطار العام، حيث رفض القول بالتثليث ورفض القول بألوهية المسيح.. وكل أشكال التجسيد التي كانت سائدة في المقاطعات الرمانية آنذاك.
يتابع الفصل السابع كيفية "تعزيز الإمبراطورية وتطوير الثقافة الإسلامية"، والفصل هو عرض لتوسع الإمبراطورية الإسلامية وللتنوع الثقافي الذي سادها بحكم الشعوب والثقافات التي شكلت نسيجها. وهو ما أفرز نوعًا من التعايش بين الإثنيات، ومن التسامح بين الديانات.
أما الفصل الثامن فيقف عند التجربة الأندلسية في إسبانيا الإسلامية، بوصفها "منارة ضوء للعصور الأوروبية المظلمة". أنتجت هذه التجربة جوًّا من التسامح، وكانت ملجأ للأعراق والديانات، أفضت في النهاية إلى نشأة مناخ علمي وثقافي. يصف ميرفي هذا الجو الخصب والمتسامح بالعبارات التالية: "كان الجو المتسامح لإسبانبا الإسلامية هو الذي وجد فيه العلم اليهودي غالبية تربته الخصبة، عن طريق المساهمات الكبيرة والمهمة التي جرت في العديد من المجالات: الطب والجغرافية ودراسة الكون وتطوير آلات القياس وفن رسم الخرائط والملاحة، وبالأهمية نفسها عن طريق ترجمة الأعمال من اليونانية إلى العربية ومن العربية إلى اللاتينية واللغات الأوروبية الأخرى. وفي الأندلس كما في العالم الإسلامي بشكل عام، كتب اليهود أبحاثهم الفلسفية والطبية والعلمية بالعربية، اللغة التي رأوا أنّها أنسب لهذا الفرع من العلوم الإنسانية. نتيجة تضافر الاحترام الإسلامي الفطري للتعلم مع الثقافة اليهودية، اتصل الغرب أولاً بالعلوم اليونانية الكلاسيكية والمعلقين العرب عليها" (141-142).
ويستفيض الفصل التاسع في بسط "دَين الغرب تجاه الإسلام"، وذلك بسرد بعض المعطيات التي نكتفي هنا بإيراد بعض الأمثلة عنها. يقول ميرفي: "لم تكن الهندسة الموضوع الرياضي الوحيد الذي عبر من الإسلام إلى أوروبا المسيحية. فقد كان الجبر وتطوير آلات القياس وفن رسم الخرائط أيضًا من بين الموضوعات التي قام بترجمتها العلماء اليهود في إسبانيا الإسلامية، والذين أدوا بذلك وظيفة في إيجاد الأدوات التي ستثبت أنّها مفيدة جدًّا في الاستكشاف العلمي. وكان جزء من هذا يستند إلى عمل البيروني، وهو صانع ماهر جدًّا للأجهزة العلمية، قام بمشاهدات عام 1018 قرب مدينة إسلام آباد الحديثة، استند إليها في حسابات نصف قطر الأرض ومحيطها، كانت دقيقةً.. إنّ النظام العددي الذي استخدمناه منذ القرن الثالث عشر، ذو أصل عربي. وأداة الحساب المعروفة باسم "المِعداد" أحضرها إلى أوروبا الغربية من كاتالونيا، الفرنسي جربرت أوف أوريلياك [أبقى المترجم على الكلمة الإنجليزية of كما هي] عام 960 ميلادي. وكان نظامًا فعالاً للمحاسبة، تطور في الإمبراطورية الإسلامية من أجل فرض الضرائب على التجارة، قد تجاوز التقسيم الديني بسرعة واتخذ الطابع الأوروبي. كما أنّ كلمة "جمارك" الإنجليزية التي تترجم إلى اللغات الأوروبية الأخرى بكلمات aduana, dogana أو douane مشتقة من كلمة "ديوان" العربية بمعنى دفتر المحاسبة" (154).
الجزء الرابع جاء بعنوان "أوروبا المسيحية والرد على الإسلام"، أما الفصل العاشر منه فقد جاء بعنوان "أوروبا والجهاد المقدس". يستعيد هذا الفصل مختلف الاستعدادات التي جرت تحت رعاية البابا، من أجل خوض الحرب المقدسة ضد المسلمين أي ما يعرف بـ"الحروب الصليبية".
الفصل الحادي عشر اتخذ عنوانًا "المحاربون المقدسون"، والفصل يستعرض المكاسب التي حققها "فرسان الهيكل"، بعد عودتهم من القدس. فبعد الجرائم التي ارتكبوها هناك، والمذابح الفظيعة التي مارسوها ضد المسلمون، تمت مكافأتهم في أوروبا من طرف البابا بسن تشريع خاص يمنحون بموجبه قلاعًا وحصونًا وأملاكًا ضخمةً.
الفصل الثاني عشر جاء عنوانه على الشكل التالي: "من يقتل مسيحيًّا، يسفح دم المسيح". يؤرخ هذا الفصل للحرب الطاحنة التي خاضتها الكنيسة في مجموع أوروبا، ضد ما دعي باسم "الهراطقة".
الجزء الخامس جاء بعنوان "العداء المستمر بين الإسلام والمسيحية"، وفيه يصرح ميرفي بنوع من البوح أنّ العلاقة المتوترة اليوم بين الإسلام والغرب تجد جذورها في صراعات الماضي. يقول: "يمكن على الأغلب تتبع أصول موقفنا الغربي الحالي من الإسلام بالعودة إلى بداية الحملة الصليبية الأولى، منذ أن كانت ثمة حالة مستحكمة تقريبًا من العداء بين الغرب المسيحي وعالم الإسلام.. ومع نشوء الإمبراطورية العثمانية.. واجهت أوروبا خصمًا مسلمًا ذا قوة عسكرية هائلة تضمنت أراضيه معظم دول البلقان واليونان" (211). بيد أنّ الأحداث التي توالت بعد ذلك، جعلت ميزان القوى يختل، بفعل "ضربة مزدوجة أصابت عالم الإسلام، وعرقلت بشكل ضخم المزيد من تقدمه الفكري، ولم يتعاف منها أبدًا. أولاً، غزوات القوات المسيحية المتعددة من الغرب المعروفة بالحملات الصليبية، وثانيًا غزو الحشود المغولية من الشرق بقيادة جنكيزخان التي نهبت بغداد والعديد من مراكز الثقافة والعلم الإسلامية الأخرى" (نفسه).
الفصل الثالث عشر، وهو بعنوان "الدول الصليبية - المواجهة الأساسية مع الإسلام"، يقف على الصراع الحاسم بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد. وهو الصراع الذي انتهى بطرد الصليبيين من القدس، ما جعل العداء يستحكم بين الغرب والإسلام، والذي ما يزال مفعوله سائرًا إلى اليوم.
الفصل الرابع عشر بعنوان "أوروبا ونشوء الإمبراطورية العثمانية"، وهذا الفصل يؤرخ للسياق الذي نشأ فيه الحكم العثماني، بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية المدوي. وبذلك تقوى العداء بين الغرب والإسلام، نتيجة سقوط القسطنطينية مع ما ترمز إليه كاثدرائيتها الشهيرة (أيا صوفيا).
الفصل الخامس عشر: "فرّق تسد - إمبريالية القرن العشرين". كانت نتائج الحرب العالمية الثانية كارثية، حيث تم تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية. كما ظهرت إسرائيل إلى الوجود، وأقامت دولتها على حساب الشعب الفلسطيني، ما أدى إلى نشأة الشعور بمعاداة السامية؛ وهو أمر غريب وطارىء في المجتمعات الإسلامية التي عرفت تعايشًا مع اليهود، خلال تاريخها المديد، وهو تعايش قائم على قيم التسامح قلّ نظيره في العالم. وأخيرًا جاءت الثورة الإيرانية لتزداد الهوة اتساعًا بين الشرق والغرب، ثم تلتها حرب الخليج واحتلال العراق، لتستكمل دائرة مشاعر الكراهية للغرب الذي تقوده الولايات المتحدة.
و أخيرًا ينتهي الكتاب في فصله السادس عشر بضرورة الانفتاح على ما يسميه "تراث ومستقبل مشتركان"، بمعنى أنّ الغرب والإسلام جمعهما تراث مشترك في الماضي ومن ثم يلزم أن يجمعهما المستقبل أيضًا. ويلقي الكاتب باللائمة على الغرب الذي لم يتعظ من دروس الماضي، يقول: "تصاعدت غطرستنا الجماعية في الوقت الحالي فوق الحدود كلها تقريبًا..يبدو أنّنا نحسب العالم الإسلامي حالة راكدة، يسكنه شعب ذو عادات غريبة واعتقادات مبهمة تقريبًا. وتصبح البلاد العربية مهمة للغرب فقط حينما ننظر إليها على أنّها مجموعة من محطات الوقود العملاقة، ومجرد مزودة بالمادة الخام التي يعمل بها اقتصادنا؛ وهذا لا يكاد يشكل أساسًا لأي تفاهم واقعي بين شعوب ذات ثقافات ومعتقدات مختلفة" (255).
خلاصة وتقويم
الكتاب عمومًا يقدم مادة غنية جدًّا للقارئ، وجديدة أيضًا بالنسبة إلى غير المطلع على تاريخ العقائد أو فلسفة الدين. لكن أهمية الكتاب وإن كانت لا تكمن في المعطيات المعروضة، فإنّ أهميتها تبرز من خلال المقاربة، وطريقة الربط بين الأحداث، والخلاصات المستنتجة. فعنوان الكتاب يشي بهذه الأهمية "ماذا فعل الإسلام لنا"، هذا عنوان مزدوج المعنى: أ - قد يعني، في حالة تجريده من الصيغة التساؤلية التي يوحي بها لأول وهلة، الإضافة التي جاء بها الإسلام بوصفه ثقافة وحضارة عالمية تأثر بها الغرب ونهل من معينها. ب - قد يعني، في حالة أخذ الصيغة التساؤلية بعين الاعتبار، التركيز على الإيجابيات والسلبيات. وقد نضيف معنًى ثالثًا، إن نحن أخذنا ذلك العنوان بصيغة استفهام إنكاري، وفي هذه الحالة سيكون المعنى هو التالي: الإسلام لم يفعل لنا أي شيء يدفعنا إلى معاداته.
باختصار نحن أمام كتاب مختلف، كتاب صدر عن رجل غربي الثقافة والمعتقد، وبذل مجهودًا كبيرًا لتجاوز الكثير من الطابوهات. وقد يرى فيه غيرنا نوعًا من القسوة على الذات، واتهامًا للكاتب بمحاباة المسلمين أكثر من اللازم.