ماذا يعني أن نفهم الفيلسوف؟
فئة : ترجمات
ماذا يعني أن نفهم الفيلسوف؟[1]
مقدمة:
يعدّ فرديناند ألكييه أحد الفلاسفة الفرنسيين، ولد سنة 1906 وتوفي سنة 1985. وفي منتصف الخمسينيات، ألقى هذا الرجل محاضرة تحمل عنوان "Qu'est-ce que comprendre un philosophe?"، وهي المحاضرة التي اشتغلنا على ترجمتها تحت عنوان: ماذا يعني أن نفهم الفيلسوف؟ بالنسبة إلى فرديناند ألكييه، فإن فهم الفلسفة يتطلب نوعًا خاصا بها من الفهم، نوعا يختلف حسب كل عمل فكري، سواء كان قصيدةً شعرية أو لوحة فنية.... يشير كذلك إلى أن العمل الفلسفي يتوسل لغة تعبيرية يسعى من خلالها إلى التعبير عن حقيقة ما، وهذه الحقيقة الفلسفية تختلف عن الحقيقة الرياضية التي تتمتع بالموضوعية والكونية، ما يعني بشكل آخر، أن فهم الفيلسوف يختلف عن فهم العالم أو الرياض فمن جهة ينبغي فهم الحقائق العلمية كموضوع مستقل عن الذوات، بينما يتطلب فهم الفلاسفة، استحضار أشخاصهم وتجاربهم، لكن ألكييه، يرى أن فهم الفلاسفة لا يقتصر على التجارب الشخصية للفلاسفة.
أودّ أن أحدثكم هذا المساء، عن موضوع عام جدّاً: ماذا يعني أن نفهم الفيلسوف؟ إن كل نوع من الأعمال الفكرية، يستدعي فهما خاصا به، وبالمثال يتضح المقال: فنحن لا نفهم قصيدةً كما نفهم السوناتة[2]، كما لا نفهم السوناتة بالطريقة نفسها التي نفهم من خلالها لوحة فنية أو نظرية رياضية. لذلك، أود أن أقدم بعض الأفكار حول السمات الخاصة التي تتيح لنا فهم الفلاسفة.
ينبغي بداية، أن نشير إلى أن العمل الفلسفي هو عمل لغوي تعبيري. قد يبدو هذا بديهيا، لكنه ليس كذلك تماما. دعونا نفكر على سبيل المثال، أن القصيدة ليست بالضرورة تهدف إلى نقل حقيقة كانت موجودة بشكل مسبق، يمكننا أن نقبل تماما أن اللغة الشعرية تخلق - إذا جاز لي أن أقول - الحالة التي تلهمها في نفس القارئ، وعلى العكس من ذلك، لا أحد سيشك، في أن العمل الفلسفي عندما يُكتب، فإن ذلك يكون للتعبير عن حقيقة معينة سابقة عن العمل نفسه. لذلك، من الضروري أن ننتقل أمام العمل الفلسفي إلى الحقيقة، وتجاوزه نحو هذه الأخيرة: وهنا يطرح تساؤلنا، ما نوع الحقيقة التي يمكننا أن نجدها، أو ينبغي البحث عنها في عمل فلسفي؟
أعتقد أن هذا السؤال يحظى بأهمية كبيرة؛ إذ يحدث غالبا، أننا إذا لم نتمكن من فهم بعض الأعمال، فذلك عائد إلى كوننا لا نتساءل عن نوع الحقيقة التي تدعي تلك الأعمال نقلها أو استحضارها، يظهر أن الشعر في هذا الصدد، يكون موضوعاً لسوء فهم دائم. فالأشخاص الذين يجدون أنفسهم أمام القصيدة ولا يفهمونها، غالبا ما يجهلون معنى القصيدة، وما هي اللغة الخاصة بها، ويبحثون في اللغة الشعرية عن شيء آخر غير ما تحتويه. ما يجب تجنبه هنا، هو عدم ارتكاب سوء فهم مماثل في الفلسفة: من المهم معرفة نوع الحقيقة التي يسعى عمل الفيلسوف التعبير عنها: عندما نتحدث إلى شخص ما، ونسمعه يرد علينا، نقول له: «كمَا فهمتني جيّداً»، مما يعني عدة أشياء، ويمكن أن يُعبر عن أفكار مختلفة، على سبيل المثال، هناك عبارة: «لقد فهمتني جيّدا» التي يستعملها العالم أو الرياضي. هذا يعني بلا شك: «لقد فهمت ما كنت أقصد قوله»، والفهم هنا يتعلق بالحقيقة المُعبَّر عنها. قولي لعبارة: «لقد فهمتموني»؛ يعني: «لقد استوعبتم منطق الاستنتاج وأدركتم دقة القانون». هناك أيضا عبارة: «لقد فهمتني» للمرأة التي لم تُفهم حتى الآن. لا أحتاج إخباركم أنها لا تحمل نفس المعنى، حيث إن ما ينبغي فهمه هنا، ليس حقيقة موضوعية، بل الكائن نفسه هو الذي يكون محور الحديث، ذاته الخاصة وعالمه النفسي. ولذلك، فإن ما يجب أن نسأل أنفسنا عنه أولا: في أي من هذين المعنيين (وسنرى أنه ليس في أي من أحدهما) يجب فهم الفيلسوف؟ هل بوصفه رياضيا أم بوصفه كائنا إنسانيا يريد التعبير عن حالة روحية شخصية؟
لقد أخبرتكم بذلك طبعا، من الواضح أنه ليس في أحد المعنيين؛ فهو أولا، ليس في المعنى الذي نَفهم به عالم الرياضيات. صحيح أننا نحتاج، لفهم الفيلسوف، إلى فهم ما يقوله أولا، ولا أريد إنكار ذلك، لكن الحقيقة الفلسفية بلا شك، لا تحمل الطابع الموضوعي[3] الذي تتمتع به الحقيقة الرياضية، ولإقناع أنفسنا بذلك، أعتقد أنه يكفي أن نفكر في ما يجول بخاطرنا جميعا عندما نقول؛ إننا نفهم أقليدس، على سبيل المثال: عندما أفهم مقترحا للهندسة الأقليدية، لا أشعر أنني أفهم أقليدس، ولكنني أفهم الهندسة. إذا كنت أتحدث عن هندسة أقليدس، فإما أن يكون ذلك من منطلق التقدير لذكرى الشخص الذي اكتشف أو صاغ الحقائق التي أفهمها، وإما أنني سأقول، بما أننا نعلم أن ثمة هندسات أخرى غير هندسة أقليدس، هندسة ريمان مثلا، فإنني أضع نفسي في نظام معين من المراجع، أو المسلمات التي تشكل بالضبط هندسة أقليدس. لكن، يمكننا أن نرمز هذا النظام بحروف معينة، فنقول: الهندسة (ا)، أو الهندسة (ب)، أو الهندسة (ج)، لن يكون هنالك فارق.
فهم العلوم والحقائق العلمية، لا يعني بالضرورة فهم العلماء الذين اكتشفوا هذه الحقائق. ولهذا السبب، فإن تاريخ العلوم ليس ضرورياً للعلم. يمكن للمرء أن يشتغل بالعلم من دون الحاجة إلى دراسة تاريخ العلوم، وإذا ما اشتغل بتاريخ العلوم، فهو يقوم بشيء آخر غير العلم. في الواقع، هو يتناول مجالاً فلسفياً؛ لأنه يسعى إلى معرفة كيف ارتقى عقل العالِم نحو هذه الحقيقة أو تلك. وعلى العكس من ذلك، لفهم فلسفة ديكارت أو فلسفة كانط، فإنه يتطلب من دون شك، فهم ديكارت وفهم كانط. أعتقد أن هذا المثال، يبين بما فيه الكفاية، أنه في إطار فهم أقليدس وفهم ديكارت، لا نعتمد نفس النمط من الفهم. هل هذا يعني أنه ينبغي منا العودة إلى المعنى الثاني لكلمة "فهم"؟ القول إنه يلزم فهم ديكارت بوصفه فرداً، وبوصفه رجلا عاش لحظة معينة وكانت لديه خصائص نفسية محددة؟ هو قول له قيمته الخاصة، بل إنه مثير للاهتمام في نواح عديدة، وسأجيد عليكم بمثال أو اثنين حول هذه الأهمية. ولكن هذه الدراسة ليست هي التي ستجعلنا نفهم فيلسوفا، ولن تمكننا من فهم ديكارت كفيلسوف. بالتأكيد، أظن أنه من الصعوبة بمكان فصل التجربة الفلسفية لديكارت، أو كانط، أو سبينوزا، عن تجربتهم الوجدانية وتجربتهم الكلية. سبينوزا كما تعلمون، لا يتردد في بداية كتابه عن "إصلاح الفهم"، ليخبرنا أنه أصبح فيلسوفاً؛ لأنه واجه ضائقة أخلاقية حقيقية، ويفسر لنا أن أصل فلسفته، يعود إلى الصعوبات التي عاشها، كما لا يتردد ديكارت بدوره في سرد تاريخ فكره؛ وإذا كان يروي لنا هذا التاريخ، فذلك بالتأكيد؛ لأنه يعتقد أنه من شأنه أن يلقي ضوءًا كبيرا على فلسفته ذاتها. لكن، يبقى أن فهم الفلسفة يتجاوز نفسية المؤلف دائما.
لا يساورني أدنى شكّ في أن الخوف من أن يُخدع الشخص، وخاصة عندما يتم خِداعه من طرف شخص آخر، هو أمر أساسي عند ديكارت، لكن ماذا يمكننا تفسيره من ذلك؟، يفسر هذا الخوف لماذا يتحدث ديكارت إلينا في ”التأمل الأول“ عن الحواس، ليس بوصفها ملكات غير يقينية، وهو ما قد يكون طبيعيا، ولكن بوصفها كائنات قد تخدعه وتوقعه في الخطأ. لهذا السبب، يمكن للشيطان الماكر في ما بعد، أن يتبنى - إذا جاز لي القول- هذه الخاصية المخادعة للحواس كما لو كان شخصاً حقيقياً. تفسر أيضاً الطبيعة الشخصية للخداع المخيف، سبب لجوء ديكارت إلى صدق الإله: فهو لا يتغلب على شكه تماما إلا بعد تأسيس علاقة بين-ذاتية، علاقة بين وعيه الخاص ووعي الإله الذي يخاطبه بلغة صادقة. ولكن مع ذلك، ومع شرح هذه السمات الشخصية نفسيا (لأنه يمكن، إذا أردنا البحث عن أسباب طبيعة هذه المواضيع، يمكننا اكتشافها في طفولة ديكارت، في خوفه من أن يتعرض للخداع، وفي خيبة أمله...).
[1] Ferdinand alquié: Qu'est-ce que comprendre un philosophe?
هي محاضرة ألقاها الفيلسوف الفرنسي فرديناند ألكييه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، والتي سيعيد إنتاجها من ناسخة مركز التوثيق الجامعي، طبعات (La table ronde), 14, Rue séguier, Paris 6e.
[2] تعني السوناتة قطعة موسيقية آلية.
[3] يقصد ألكييه بذلك، أن الحقيقة الرياضية ملزمة وكونية؛ أي إنها لا تسمح بتدخل الذوات.