ماذا يلزم كي تتخطى الكتابة الإسكُولـْيُونْية على إيديا أفلاطون

فئة :  مقالات

ماذا يلزم كي تتخطى الكتابة الإسكُولـْيُونْية على إيديا أفلاطون

ماذا يلزم كي تتخطى الكتابة الإسكُولـْيُونْية على إيديا أفلاطون

إن كان علم أفلاطون هذا المقدار الذي ماثل بين أيدينا، فينبغي القول إن بضاعته مزجاة، ثم قال: "ولم تنضج الحکمة في أوانه نضجا یجنى"[1].

ابن سينا البخاري

لا ينعم المرء المنشغل بالكتابة الفكرية بنوع من الارتياح، عندما يواجه ثلة من الأقوال المغلقة والمعمِّمة، والتي لا تفرق بين كاتب الهوامش والحواشي والتعليق «scholion»، وبين واضع «الإيديا» و«الأفكورة»، وإلى ما ذلك من آراء ترى لا بد من وجود مرجعية يونانية عامة للمفاهيم في كل موضوع ذات أهمية، لكي ينشغل العقل بها، ويشتعل الرأي لها حالما تكون غير «أدنوية» و«صغروية» بطبيعة المطلوب. وهذا الرأي المزدوج لا يتعدى أكثر من مستوى القول بالنَفَش، والذي بدأ في أزمنة قبل الحاضر، عصر أفلاطون وما نظر له هذا الفيلسوف كتمهيد في إيديا «المُثُل». ولذلك، يرى مفكرون أن الكتابة الفلسفية والتفلسف حتى اليوم، تجول وتحول من هذا المفهوم إلى ذاك من أرسطو إلى أفلاطون جيئة، وإلى سقراط ذهوبا، حتى إن أحدهم أعني شخصا من المتفلسفة وبالتحديد وايتهيد فيلسوف القرن العشرين له قول يُتناقل، وهو أن «كل فلسفة بالنسبة إلى تعاليم أفلاطون، إنما هي حواش وهوامش» وهذا ما لا صحة له وغير مسوغ لدي.

ويبدو لي أن حب وايتهيد لأفلاطون جعله أن يقول هذا، بينما عكسه صحيح بالنظر إلى أرسطو، وهو أكبر مكانة من أفلاطون، حيث لا تزال بعض الأرسطيات في المفاهيم والنظريات لا بديل لها كـ«المقولات = Categories» و«الصورة» الأرسطية، وهما مصطلحان أساسيان في الفيزياء والميتافيزياء حظيا بعد أرسطو حتى اللحظة بالاهتمام مقارنة بإيديا «المُثل» و«الفكرة المجردة» التي تكون في عالم حقيقي آخر لأفلاطون، والتي أهملت. وقد أكد أرسطو في «الميتافيزيقا» أن نظرية «المُثل» «كلام شعري غير معقول». وأتصور أنه يقصد أنها «خيال» لا فلسفة بالأصالة. ولما رأى أرسطو أن الأوضاع لا يمكن تحملها بعد أفلاطون ترك «الأكاديمية» وهجّ بوجهته المقصودة، وأنشأ «الليسيوم = Lyceum». ولو أن بعض المواقف لكل من أفلاطون وأرسطو دمرت بعض الفلسفات[2] مثلما تحصل للفلسفة «الرواقية الجديدة»، وتنقد آراء الرواقية التقليدية، واعتدت الفضيلة أمرا «كلي» و«مطلق» لا تتأتى بطرد الرذيلات وتعديل الكمالات. وفي رأيي لربما الأصح هذا الإلماح، وهو أن «أكثر الفلسفات حواشٍ على فلسفة أرسطو، لا أقل هذا أقرب إلى المنطق والواقع». ويضاف إلى ذلك، أن الوقوف على مختلف الآراء أثبتت خلاف ما قاله وايتهيد؛ لأن بعض الفلاسفة ومفكري الفلسفة من خلال «الإيديا» و«الفكرة» و«الأفكورة» التي اشتهروا بها، يبدو لي ما هي بحاشية ولا هامش على فلسفة أفلاطون، وإنما هي فكر مستقل كما سيمر بنا والوقوف على جوانب من هذا الفكر المستقل، مفيد للنشء وفي الوقت ذاته نافعة لمن ابيضت عندهم الهامات؛ أعني أصحاب القامات الفلسفية. ويمكن على سبيل الاختصار الإشارة إلى بعضه، لكي أبيّن بطلان ما قاله وايتهيد لأن بعضا من المفكرين والفلاسفة ذهب إلى ما لا يخطر في ذهن أفلاطون في البناء الفلسفي والفكري وتأسيس رؤاه وأفكاره.

مكيافيلي: هل الأفضل للناس أن يخافوا الحاكم أم أن يحبّوه؟

يعد مكيافيلي أول كاتب تحدث عن فضيلة المساءة أو السيئة؛ لذلك فهو من الكتاب الذين يتمتعون بمساءة في السمعة بتاريخ أوروبا، فلقبوه بـ«الشيطان» و«معلم الشر» ووضع اسمه كنوع من الثلب والسب أو اللعنة في الأعمال السياسية الأكثر شرا. ولكن ماذا قال هذا السياسي الإيطالي المخضرم والمحنك ليثير مثل هذا الجدل حوله أو بتعبير عقابي ليستلب اللعنة إلى نفسه؟ لقد قال مكيافيلي بما معناه «إنني أتحدث فقط عن الحقائق لا الخيال والحقيقة هي أنه يبرر للساسة قول الكذب أو إعمال القسوة والقوة أو النكوث بالوعود». ومع ذلك، فإن هذا القول له محاجة بين من يؤيده بالخفاء وبين من يسبه في العلن، فلم أر نتيجة حاسمة حول شخصيته. وأما حاشيته هنا، فهي ضد رؤية أفلاطون الذي قال إن الرئيس يحب أن يكون فيلسوفا.

كانْط: يتساءل ما هو التنوير؟ وما الذي يمكن معرفته، وكيف يمكن العمل وبأي شيء يمكن الأمل؟

لكل عصر تاريخي ممثل، وإيمانويل كانط بلا خافية وتشكك ممثل العصر الحديث، وله بحوث معقدة للغاية وملبدة بالمفاهيم إلى ذلك الحد الذي تُحبط القراء أحيانا عن الفهم ما ينتهي الأمر إلى سوء فهم لفلسفته في العموم، وهو بالنسبة إلى بعض فيلسوف لا أدريوي، وفي معيان آخرين مفكر مناهض للدين، ويسميه آخرون راعي الأخلاق الجافة. ولكن آلان وود المفسر الأول لفلسفته، قال إن «هذا الرجل مدرس متواضع، فهو يرسم حدود العقل، ويقف أمام الشكية، ويفتح الطريق أمام أقدام الاحترام للأخلاق، ويعيد النقاء إلى الجمال». ونسبة كانط مع أفلاطون في التأسيس الفلسفي هي كنسبة الشيء إلى اللاشيء.

هايدغر: ما معنى أن تكون في العالم؟

كان يعتقد هايدجر أن الله وحده هو من القادر على إنقاذنا من إعصار التكنولوجيا التي تضرب بلا هوادة، وهو إلى جانب فيتغنشتاين أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين. ولد في منطقة «الغابة السوداء» الريفية بألمانيا، وارتبط بمسقط رأسه حتى نهايات حياته وعلى النقيض من الحياة الهادئة التي عاشها، لديه قصة لاحقته تبعاتُها المزرية عن مشارکته الفاضحة مع النازيين في فترة من حياته، ولكن المسار الطويل لتفكيره غني بالتفلسف الأصيل؛ بدأ مع الإيمان المسيحي وفكر في التكنولوجيا وهاجر إلى اليونان القديمة واستقر في الـ ديزاين موطنه الأخير. وهذا الفيلسوف في تضاد مع أفلاطون، ويكفي أن «الديزاين» عنده هموم الإنسان الذي لا يجد مفرًّا من العدم؛ أي العدم الذي سوف يطالنا جميعا، وهنا يرى هايدغر أن الوجود الحقيقي (لا بمعنى الوجود المنظور بالفلسفة في الإسلام) هو التمثل والتحقق في «الديزاين» قبل أن يأتينا العدم ويطوينا إلى الأبد.

الحكمة الأدنوية: هل يمكن تأسيس حكمة حديثة للإنسان الحديث؟

في ظل طبيعة الحياة الحديثة المتغيرة ومؤقتية الأشياء وأهمها العمر والممتلكات والمتعلقات، وفقدان الأمل بالأهداف والأحلام التي تبدو جذابة وسرعان ما تبدأ بالتحور إلى شعور يأساني، ثم التحول إلى غياب أمل عميق، والانجذاب إلى قيمة الأشياء المادية والشهرة والمال مقابل القيم الاسبيروتالية والمعنوية؛ تسعى الحكمة الأدنوية إلى تقليل مرارة العيش التي تبرزها هذه الطبيعة على الإنسان، وتقرير الحقيقة التي على الإنسان أن يقتبلها بمنأى عن الانهماك في المفاهيم المجردة والمعقدة الموروثة والحاضرة. وترى الحكمة الأدنوية أنها الحكمة الحديثة التي تستند إلى «حكمة الفلسفة» وتُصرف جهدها بالانشغال التطبيقي في الحياة الواقعية الحديثة تسلك في دائرة جِدِّها نقل الإسبيروتالية «التجربة الروحية والمعرفة الذاتية» والمعنى الوجودي إلى ذوي العازة إلى حياة واقعية يومية هانئة وهادئة، عندما يواجهون الحياة والمصير والموت والألم.. والقرارات؛ كونها تنطلق بالإنسان إلى تقرر وجوده بالانبناء على المعنى الوجودي وقبول الواقع والحقيقة آملةً أن يجد شيئا من السلام الداخلي في ظل تعاليمها. وهذا يعني أنها تبحث عن فهم معاني الوجود الإنساني من جهة، وتحقيق السلام من جهة ثانية، والعيش الواقعي والفعلي المقرر على الحقيقة ضمن دائرة ما تسميه بـ«حكمة الفلسفة» من جهة ثالثة، فهي الحكمة التي تنتجها الفلسفة، والذي يباشر تعليم الحكمة الأدنوية هو فيلسوف، وهو معلم روحي وهو حكيم في الوقت ذاته، وعنده ذوات متناسقة لحقيقة واحدة جامع الأطراف تجاه قلق «الذات» و«الذهن» و«الروح» و«الحياة» و«العمر». ومبادئ هذه الحكمة هي «التفكير الوجودي» و«تجربة الوجود» و«المعنوية» (= القيم والأخلاق)، و«العقلانية» التي أعني منها ذلك المنظور الإغريقي الأرسطي القائل بـ«إمكانية تحقيق التوازن» بين هذه المبادئ كلها عندما يتم تطبيقه.

إذن في ألا يكون المرء الفيلسوف كاتب حواش أو واضع هوامش لأفلاطون، ولكي لا يصنف في حدود مزعمة وايتهيد، يلزمه التفكير مثل أرسطو من حيث القوة والدقة الفكرية والفلسفية؛ فبعد ما يزيد عن ألفين وخمسمائة عام على رحيله، نرى مفاهيمه مستمرة بلا مكابرة، وأخيرا في ألا يكون المرء ككاتب حواش على تعاليم أفلاطون، لابد من البدء بحكمة ما وفلسفة ما لتخطي أفلاطون وغيره، كما فعل كانْط في «نقاء الجمال» و«الافتراضات التحليلية» و«الافتراضات الاصطناعية»، وديكارت في «السوبجه» و«الأوبجه»، وهايدغر في «ديزاين»؛ فهولاء ليسوا كتّاب حواش، بل مفكرون وفلاسفة عمالقة لا يصدق عليهم قول وايتهيد.

 

هوامش:

الأفكورة: مصطلح أوجده الكاتب، وهو ذو دلالات متعددة منها التفكير الفلسفي النوعي في حدود مشروع الكاتب.

الحكمة الأدنوية: مشروع أسسه كمال سلمان العنزي وفيه مؤلفات ترى النور قريبا.

[1] ابن سينا البخاري، موسوعة الشِّفاء، قسم المنطق، ك، السفسطة: 114-115، ط 1، منشورات المرعشي، 2000م.

[2] المصدر: بداية الفلسفة والفيلسوف، كمال سلمان العنزي.