مبدأ الديمقراطية: الواقع والممكن( )

فئة :  ترجمات

مبدأ الديمقراطية: الواقع والممكن( )

مبدأ الديمقراطية: الواقع والممكن([1])

سأتناول الموضوع المقترح عليّ في إطار مؤتمر اليوم حول الديمقراطية المباشرة، بتقسيمه إلى ثلاثة أقسام. أود بدايةً أن أقدم توضيحاً مفاهيمياً عامّاً لمصطلح «الديمقراطية». وسأقوم بعد ذلك -في خطوة ثانية- بتقييم الوضع الحقيقي في الأنظمة السياسية التي نجدها في أوروبا اليوم، وفي الأخير -في مبحث ثالث- سأقدم نظاما بديلا للديمقراطية الحقيقية، يمكن أن نطلق عليه اسم «الديمقراطية المباشرة».

توضيح مفاهيمي عام لمصطلح «الديمقراطية»

بداية، دعونا ننتقل إلى المشكلة المفاهيمية: من وجهة نظر فلسفية، من المدهش مدى عدم دقة استخدام مصطلح «الديمقراطية» في المناقشات السياسية في جميع أنحاء العالم الغربي. في كثير من الأحيان لا يعي المرء المعنى الأصلي للكلمة، ربما لأنه لم يعد يعرف المعنى اليوناني لها؛ وفي هذا السياق، أذكر بمصطلحات جديدة سابقة مثل «ديمقراطية الشعب»، وهو مصطلح يمثل حشواً لا يطاق على الإطلاق بالنسبة إلى عالم اللغة Philologue، خاصة وأن كلمة «الديمقراطية» تعني في اليونانية «حكم الشعب». إذا أراد المرء استخدام هذا التعبير بدقة، فيجب أولاً أن يُفهم من خلال تمييزه عن أشكال الحكم الأخرى. وينتج هذا عن الأصل اليوناني للمصطلح. وفي التقسيم اليوناني، وعلى النقيض من الديمقراطية، هناك نظام ملكي؛ أي نظام يحكم فيه شخص ما، كيفما كان هذا الحكم منظما في الواقع الملموس، كديكتاتورية أو كدولة دستورية، حيث يلتزم الملك بقواعد دستورية معينة. بالإضافة إلى الملكية، يوجد في التقسيم اليوناني الرسمي نظام الأوليغارشية، حيث يحكم العديد (البعض)، على أي حال ليس واحداً وليس الكل. وكخطوة أخرى تتجاوز هذين الشكلين الأولين، هناك -حتى لو كان التقييم الإيجابي لهذا الشكل لا يتوافق مع وجهة النظر اليونانية الكلاسيكية في فلسفة أفلاطون السياسية- الديمقراطية كنظام يكون فيه الكل، أي الشعب، هو الذي يحكم، وهو ما يعني بشكل مثالي هوية الحكام والمحكومين.

كيف ينبغي للمرء أن يصف بدقة الأنظمة التي اعتدنا اليوم -وفقاً للتنشئة الاجتماعية السياسية لدينا- تسميتها بالديمقراطية دون تفكير؟ إذا استعرضت الأنظمة البرلمانية المختلفة في بلدي -النمسا- وفي معظم الدول الأوروبية الأخرى، فإننا نجد بأنها أنظمة تكون فيها صلاحيات اتخاذ القرار في شؤون المجتمع محدودة، ولو لفترة معينة مدتها أربع أو خمس أو ست سنوات، وهي صلاحيات لا تكون في أيدي الجميع، ولا في أيدي فرد واحد، بل في أيدي قلة. لذلك، من وجهة نظر الفيلسوف السياسي، حتى لو بدا الأمر غير مناسب لأسباب سياسية تكتيكية، فإن المصطلح الأكثر ملاءمة للأنظمة الغربية كما نعرفها هو نظام الأوليغارشية، حيث يمكن للمرء أن يتحدث بشكل أكثر دقة عن «الأوليغارشية البرلمانية». ومن الممكن أيضاً، أن يكون هناك حكم الأقلية في شكل تنظيمي مختلف تماماً، وبآليات مختلفة تماماً عن الآليات البرلمانية.

الأمر الحاسم بالنسبة إلى هذا النظام، الذي اعتدنا عموماً تسميته بالديمقراطية دون تفكير، هو خيال ما يسمى «التمثيل». والمقصود هنا هو المبدأ الذي بموجبه يمثل هؤلاء «البعض»، وفقا للدساتير، -وَهُم عادة أعضاء البرلمان- الشعب بأكمله. ومن أجل التأكد من معقولية هذا البناء، تمت صياغة مصطلح «الإرادة الشعبية الافتراضية». أسمي هذا خيالاً؛ لأن الموظف السياسي المعني بالأمر؛ أي النائب البرلماني، لا يمثل في الواقع كل الشعب -لأنه هو نفسه لا يستطيع أن يعرف بالضبط ما هو المقصود بكل الشعب! وفي الواقع، يمثل النائب وجهات نظر مختلفة ومحددة للغاية، تعزى بشكل خاص إلى الحزب الذي رشحه. سأرجع إلى هذا لاحقاً. وللتوضيح المفاهيمي، من الضروري الإشارة إلى أن التمثيل يعني في نهاية المطاف أن المواطنين الأفراد ممثَّلون في رغباتهم، بينما في الواقع لا يمكن ممارسة الإرادة إلا بشكل شخصي، وإلا فهي غير موجود على الإطلاق. لا يمكن تمثيل الإرادة، وفي رأيي، لا يمكن تصور نظام ديمقراطي حقيقي، إلا كديمقراطية مباشرة، وليس بشكل غير مباشر عن طريق النيابة؛ لأن هذه الأخيرة، بالمعنى الدقيق للكلمة، بمعنى روسو، يعني نفي الإرادة وبالتالي استغلال المواطن.

والحقيقة هي أنه في الدساتير الحالية للدول الأوروبية، التي تعنينا هنا، لا يُسمح بالديمقراطية المباشرة إلا كنوع من التصحيح للحكم التمثيلي. في دولة بطريقة أكثر، وفي أخرى بطريقة أقل. ويبدو أن المناقشات التي دارت في منطقة ترينتينو-جنوب التيرول Trentino-Südtirol وفي بلدان أوروبية، أخرى تشير أيضاً إلى الوظيفة التصحيحية التي تؤديها الديمقراطية المباشرة. ويبدو من اللافت للنظر بالنسبة لي أن كل داعية لكل حركة سياسية، سواء كانت في الواقع استبدادية أو أكثر جماعية، سواء كانت تهدف إلى إدارة دولة مركزية أو هيكل فيدرالي، يريد أن توصف وصفته السياسية بأنها «ديمقراطية». ومن الواضح أن كافة الاستراتيجيات والقرارات السياسية -ولا يحتاج المرء إلا إلى الاستماع إلى الخطب الرسمية التي يلقيها كبار الشخصيات السياسية- لابد وأن تعلن بأنها ديمقراطية. ويبدو لي أن مصطلح الديمقراطية، بما يرتبط به حتما من شكلية وفراغ المحتوى، هو نوع من العبارة الفارغة لأغراض الشرعية السياسية. وفقط إذا كان بوسع الناس -ويمكن للمرء أن يعبر عن ذلك بسخرية- أن يقولوا إنهم هم أنفسهم يحكمون في النظام المعني بالأمر، فإنهم سيكونون على استعداد لقبول القرارات العامة التي يتم اتخاذها باسم هذا الحكم الشعبي. وأعتقد أن وظيفة مصطلح الديمقراطية ككلمة فارغة، كمصطلح لإضفاء الشرعية، هي التي أدت إلى غموضه واستخدامه بشكل غير دقيق. ويحرص الجميع على ألا يكون هذا الاحتكار لاستخدام مصطلح الديمقراطية لوصف نظامهم محل خلاف.

تقييم الوضع الحقيقي في الأنظمة السياسية التي نجدها في أوروبا اليوم

كيف هو الوضع السياسي الفعلي في الدول؟ وأشير هنا بالدرجة الأولى إلى العالم الغربي الذي ننتمي إليه، والذي نعرفه من خلال التجربة المباشرة. لا أتحدث هنا عن وعي/عمداً عن العالم الثالث. تقدم دول العالم الغربي نفسها بأنها ديمقراطيات، وبهذا المعنى تتصرف بطريقة تبشيرية تجاه بقية العالم، وخاصة تجاه العالم الثالث، كما أنها تربط بين مسائل المساعدات الإنسانية، وما يسمى بمساعدات التنمية، والمطالبة بأن تتبع البلدان التي سيتم دعمها أفكارها الخاصة؛ أي الأفكار الغربية حول الديمقراطية.

من وجهة نظري، يجب أن يُنظر إلى الوضع الحالي بوصفه أزمة ديمقراطية تمثيلية([2]). إن أزمة النظام النيابي هي بدورها أزمة دولة الحزب، أزمة حكم الحزب. يتعلق الأمر، بشكل مختصر ومبسط، بالمشكلة المركزية المتمثلة في شرعية الأنظمة السياسية للدولة الحزبية في نهاية القرن العشرين. في حين أن نظام الدولة الحزبية، وبالتالي حكم اللوبيات، كان مقبولاً بشكل أو بآخر في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل الإدارة الضرورية للأزمات في فترة ما بعد الحرب، وخاصة منذ السبعينيات، على ضوء المخاطر البيئية المتزايدة باستمرار المشاكل الاقتصادية العالمية، التي أصبح من الصعب حلها بشكل متزايد، هيمنت الأحزاب على المواطنين، والتي ينظر إليها (أي الأحزاب: إ. م) بشكل متزايد على أنهم مجموعات مصالح. احتكرت هذه الأحزاب السلطة ولا يبدو أنها مستعدة للاستجابة للمخاوف التي تم التعبير عنها بشكل مباشر من طرف المواطنين (وهي مخاوف قد تكون مرهقة للغاية بالنسبة إلى الأحزاب بسبب «جمودها» في سياسات القوة). في نظري، إن القرارات على مستوى برلمانات الولايات -والتي تتكون من نتائج الانتخابات التي شاركت فيها الأحزاب، وليس الشخصيات السياسية الفردية- يمكن تفسيرها بمعنى توازي القوى بين المصالح الخاصة. إن ما «يخرج» من كل صوت هو نتيجة لعلاقات متبادلة مختلفة للغاية بين المصالح؛ أي -في حالة النائب الفردي- «مصالح» هذا النائب في إطار انتمائه الحزبي أو المجلسي إلخ (أياً كانت المجموعة التي أوصلته إلى المنصب المعني بالأمر). في بعض الأحيان تكون الأحزاب نفسها مجرد واجهة لمجموعة من مجموعات المصالح التي تطلقها؛ أي تستخدمها كمنتدى لتأكيد مصالحها. ولكن مع وجود آليات صنع القرار هذه -وهذه هي الحقيقة التي ذكرتها- لم يعد من الممكن التعامل مع مشاكل المستقبل الحاسمة، مثل مسائل تأمين نوعية الحياة للأجيال القادمة، بشكل مرض، لأنه ليس للممثل البرلماني إلا نطاق محدود لاتخاذ القرار، فيما يتعلق بـ«المصالح» التي يجب أن يمثلها، والتي أوصلته إلى منصبه. ومن الواضح أن أفق التخطيط في هذا المجال -على الرغم من كونه مؤسفاً- يكون من صنع القرار النيابي، كما نعرفه في أنظمتنا البرلمانية الأوروبية، ولا يدوم أكثر من فترة ولاية هيئة ما؛ أي لسنوات قليلة. وفي ظل مثل هذا النظام لا يكون التخطيط البعيد المدى ممكناً، ولهذا السبب يبدو لي أن الإحباط الذي يشعر به المواطنون أمر مفهوم تماما. ويصبح هذا الإحباط أكبر، كلما أصبح الوضع أكثر خطورة في القطاعات البيئية والاقتصادية وحتى الأمنية الدولية.

مما لا شك فيه أن الحركة البيئية في أوروبا منذ السبعينيات -ولست بحاجة لتوضيح ذلك بالتفصيل هنا- كانت الدافع الحاسم لعملية التشكيك في نظامنا السياسي النيابي. ويمكن القول، في ظل فشل ممثليه، أن المواطن قد تذكر مسؤوليته المباشرة؛ وقد أدى ذلك لاحقاً إلى نقاش حول الشرعية الديمقراطية والوضع القانوني للأحزاب السياسية. وفي بعض البلدان -مثل النمسا- لم يكن الوضع الدستوري للأحزاب واضحاً حقّاً لعقود من الزمن. لقد عملت الأحزاب فعلياً في منطقة ليس لها دستور، ولم يكن وضعها مضموناً أو منظماً بالدستور على الإطلاق. وقد أدى ذلك لاحقاً إلى نقاش حول الوضع المميز لأصحاب السلطة السياسية، ولا سيما النواب الذين يعملون كمسؤولين في الأحزاب أو مجموعات الضغط. على العموم، أدى هذا التطور -الذي أصبح واضحاً على نحو متزايد على مدى العقدين الماضيين- إلى ما أود أن أسميه «نَزْعَ الشرعية» عن النظام السياسي.

في هذا السياق، قد يكون من المفيد فلسفياً أن ننظر عن كثب إلى الخلفية الأيديولوجية للنظام التمثيلي. وعادة ما يتم التغاضي عن هذا الأمر عمداً من قبل أولئك الذين يشاركون في النقاش السياسي الحالي. في الواقع، فإن مفهوم التمثيل -بمعنى ممارسة سلطة اتخاذ القرار من قبل الأفراد نيابة عن الكل- هو أمر له بالتأكيد مكانه في الأيديولوجيات الشمولية، وقد تم تصوره بالفعل ضمن هذا الإطار. وفي هذا الصدد -وقد شرحت ذلك بمزيد من التفصيل في مكان آخر([3])- ينبغي فحص تحليلات الفيلسوف القانوني والسياسي الألماني كارل شميت Carl Schmitt بمزيد من التفصيل. وليس من قبيل الصدفة أن أحد أبرز منظري التمثيل في ألمانيا ما بعد الحرب، غيرهارد ليبهولز Gerhard Leibholz، كان قريباً جداً من مفهوم كارل شميت بأطروحاته حول طبيعة التمثيل. ما أعنيه بذلك، لا يمكنني سوى الإشارة إليه هنا، هو ربط مفهوم التمثيل في حد ذاته بخيال كمال الشعب أو إرادة الشعب -ونتحدث بعد ذلك عما يسمى بإرادة الشعب الافتراضية، مع وجهة نظر أعتبرها في نهاية المطاف كأيديولوجية الوصاية على المواطن، التي أود وصفها.

يمكن للمرء أن يُظْهِر بالتأكيد جذور شمولية معينة في مفهوم التمثيل، تماماً كما يمكن للمرء أيضاً أن يستنتج بطريقة نقدية أيديولوجية أن المفهوم الديمقراطي المباشر فقط هو الذي يمكن أن يكون بديلاً لمثل هذه المفاهيم الكلية للكمال (الوهمي) للشعب. ويمكن للمرء أيضاً أن يشير بشكل واضح جدّاً إلى الأطروحات التي تمت صياغتها بالفعل في مجال النظام السياسي الأمريكي في عشرينيات القرن الماضي، كما فعل مؤخراً نعوم تشومسكي، أشد منتقدي النظام الأمريكي، والذي يشير إلى مفهوم عالم الاتصالات فالتر ليبمان Walter Lippmann، والذي تناوله بالتفصيل في عدة كتب له (أي ليبمان: إ.م). وفي تحليله السوسيولوجي، كان الشعار الذي استخدمه لوصف ما يشكل نظاماً تمثيلياً وفقاً للفهم الأمريكي -وأمريكا ترى نفسها عموماً، بصفتها نبياً للديمقراطية- كان بالفعل شعار «صنع الموافقة manufacture of consent» منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، يعني من إنتاج أو توليد الموافقة. إذا أعطيت الشعب -على الأقل شكلياً- فرصة الاختيار بين عدة أحزاب في مسار التصويت -على الرغم من أن هذه ليست بدائل حقيقية في كثير من الأحيان-، فإن عملية جمع المعلومات وتكوين الآراء، وفقاً لفالتر ليبمان، يجب أن تكون مصممة، وبهذه الطريقة لن تكون هناك مفاجآت، حيث يتم إدخال المواطنين، قبل اتخاذ القرارات، في وضع معين؛ أي يتم توجيههم في الاتجاه المرغوب فيه. إذا تم إنشاء الموافقة بهذه الطريقة باستخدام وسائل علم النفس الإعلاني/الإشهاري -وقد كانت هذه هي مهنة خبير الاتصالات ليبمان-‍‍، فإن الديمقراطية بمعنى «حرية الاختيار»، لن تشكل خطراً من وجهة النظر الأمريكية (بالنسبة إلى أولئك الذين لديهم بالفعل السلطة). تقوم مثل هذه «الممارسة الديمقراطية» -ويبدو هذا واضحاً- على نموذج الوصاية على المواطن؛ أي السيطرة عليه، كما أنها تقوم على فرضية كون الناس غير ناضجين ويحتاجون إلى قيادة «حكيمة». وفي مثل هذا السياق، لم يعد يهم رسمياً ما إذا كانت هذه القيادة تمارَس من قبل شخص واحد أو أكثر، وما إذا كان ذلك يحدث في إطار نظام برلماني أو نوع آخر من النظام، وما إلى ذلك.

يكفي هذا إذن لتقييم الوضع السياسي الحقيقي فيما يتعلق بالأنظمة التمثيلية، التي تصف نفسها بأنها ديمقراطية، وفي استراتيجية التبرير الخاصة بها، تحتكر عمداً مصطلح «الديمقراطية» كفئة قيمة -بمساعدة المؤسسات التعليمية العامة أيضاً-.

النظام البديل للديمقراطية الحقيقية

فيما يتعلق بالإشكالية الحقيقة لهذا المؤتمر، أودّ أن أحاول تقديم مشكلة النظام البديل للديمقراطية الحقيقية من وجهة نظري الفلسفية. والسؤال الذي يُطرح علي، بناءً على هذا التحليل المفاهيمي، وحصر ما نجده من الأنظمة السياسية اليوم هو: كيف يجب أن يكون نظام صنع القرار السياسي وصنع القرار الذي يبرر في الواقع التوصيف بمصطلح «الديمقراطية»؛ أي الديمقراطية التي تفي/تنصف حرية المواطن المسؤول؟ أبدأ في تصوري من مفهوم الاستقلالية بالمعنى الفلسفي، وخاصة الكانطي منه. ولا ينبغي الخلط بين هذا المصطلح والحكم الذاتي كمفهوم دستوري، حيث يعني -كما هو الحال في إيطاليا- نوعاً معيناً من الحكم الذاتي، المسؤولية عن الشؤون المحلية، واستقلالاً معيناً عن السلطات المركزية. وأعني بالاستقلالية بالمعنى الفلسفي ما أوضحه كانط في فلسفته المتعالية وما يمكن وصفه أيضاً بــ «أنثروبولوجيا الحرية»: أي الكرامة المرتبطة بمكانة الإنسان كموضوع -ككائن يتميز بالتفكير-. في السياق الكانطي، يعني هذا أن الإنسان كذات لا يمكن أبداً تحويله إلى شيء، يعني لا يجب تشييئه ولا يجب استغلاله، وبالتالي لا يجوز أبداً إشراكه من قبل السلطات الأخرى في أي علاقات وسيلة وغاية؛ لأن هذا من شأنه أن ينتهك كرامته غير القابلة للتصرف.

في نظري، فإن مفهوم استقلالية الإنسان -كذات وليس كموضوع- هو الأساس الحاسم لفهمنا الحالي لحقوق الإنسان، على النحو المنصوص عليه في إعلان حقوق الإنسان لعام 1948 وفي الاتفاقين العالميين. وأعتقد أنه بهذا المصطلح يمكن تطوير مفهوم للكرامة الإنسانية، يتجاوز الأيديولوجيات ويربط بين الأديان. ويوجد هذا الأمر في أساس نظرية الديمقراطية. ويعني هذا أن نموذج النظام السياسي المتوافق مع حقوق الإنسان، يجب أن يكون نموذج الديمقراطية بمعنى الديمقراطية المباشرة، ففي مثل هذا النظام فقط يمكن التأكد من أن الآخرين -فرداً أو مجموعة- لا يملكون السيطرة عليّ وعلى إرادتي. وبهذا المعنى، فإن النظام الديمقراطي المباشر وحده هو الذي يتوافق تماماً مع حقوق الإنسان. وأي نظام سياسي آخر يُسيطَرُ فيه على المواطن، ويقيد فضاء حريته، وتضرب الوصاية عليه، لا يتوافق في الواقع مع مفهوم حقوق الإنسان، كما تُستنتج من مفهوم الاستقلال الذاتي.

أعرف أنه لا يكفي صياغة دستور ينص على أن المواطنين يتمتعون مبدئيا بالسيادة. يوجد هذا في كل دستور على كلّ حال. وفي كل مكان، فإن الصياغة مماثلة لتلك الموجودة في النمسا؛ أي إن قانون الجمهورية يأتي من الشعب. ومن الأهمية بمكان ألا يبتعد المرء عن الظروف المادية والاجتماعية والثقافية الملموسة لتطبيق النظام الديمقراطي. والإجراءات الشكلية، سواء الانتخابات أو التصويت الديمقراطي المباشر، لا تستمد معناها إلا من الظروف المادية الملموسة. ويعني هذا أن حق المواطن في التعبير بحرية عن رأيه بشأن قضية وطنية محددة -على سبيل المثال في شكل استفتاء- لا يمكن ممارسته بشكل هادف، إلا إذا أتيحت له الفرصة لذلك أيضاً. وتعني الحرية في هذا السياق السياسي عدم الخوف من اتخاذ قرار في اتجاه معين لنفسي ولمجتمعي؛ أي إنه يجب ألا أتعرض للضغوط، ويجب أن تتاح لي الفرصة للتفكير في عواقب القرار بمختلف جوانبه والعمل على إيجاد البدائل. وهذا يعني بشكل ملموس أنه في النظام الديمقراطي المباشر، يعد تنوع وسائل الإعلام شرطاً أساسياً لجدوى القرارات الديمقراطية. ويعني ذلك أيضاً أن المواطن، طالما أنه مهتم حقاً وراغب في المشاركة، يجب أن يكون لديه أيضاً إمكانية الوصول إلى المعلومات. وبفضل تكنولوجيا المعلومات والكمبيوتر، هناك الآن إمكانيات لا يمكن تصورها بهذا الصدد. وقد أشار روس بيروت Ross Perot إلى ذلك في المناقشات حول إصلاح النظام السياسي الأمريكي. وقد قدمت منظمة التقدم العالمية المشروع التنظيمي لخبير الحاسب الآلي في اجتماع جنيف المذكور أعلاه([4]). إذا كان الوصول إلى المعلومات يُمنح فقط لبعض أصحاب المناصب المميزة، كما هو الحال في الأنظمة التمثيلية المعروفة، فإن الشروط اللازمة لاتخاذ قرار ديمقراطي حقيقي ومباشر من قبل السكان غير مستوفاة، في رأيي، حيث إن تعبيرهم عن إرادتهم يتم بوساطة وغربلته/تصفيته.

على هذه الخلفية، أودّ صياغة خمسة مبادئ حول إمكانية؛ أي الجدوى التنظيمية، الديمقراطية المباشرة، على الرغم من أنني لا أدعي كمال هذه القائمة. وسأتناول في الختام بعض الانتقادات التي أثيرت مرارا وتكرارا حول جدوى الديمقراطية المباشرة.

المطلب الأول، بناء على ما سبق، هو هيكلة المجتمع الفيدرالي على مبدأ التبعية Subsidiaritätsprinzip. ومن المهم أن يتم إنشاء وحدات سياسية يمكن التحكم فيها داخل الدولة المعنية، حيث يكون من الممكن بشكل منتظم اتخاذ قرارات مباشرة من قبل السكان بشأن الشؤون الإقليمية. ولتوضيح ما يعنيه هذا، لا يحتاج المرء إلا إلى الرجوع إلى النظام السويسري. إذا انطلق المرء من مفهوم الديمقراطية المباشرة، فمن غير المفهوم، بأي حال من الأحوال، لماذا يجب أن يتم اتخاذ قرار بشأن المسائل المحلية أو الإقليمية البحتة مركزيا على وجه الحصر. وبالإضافة إلى ذلك، هناك القرار المباشر للسكان بشأن تعيين المسؤولين التنفيذيين للوحدات المحلية أو الإقليمية. لا يوجد أي مبرر ديمقراطي لعدم تعيين رئيس بلدية أو حاكم منطقة أو ولاية (للالتزام بالمسميات الوظيفية المستخدمة في النمسا) بشكل مباشر من قبل السكان، وعزله أيضاً من منصبه إذا لم يتفقوا مع طريقة إدارته. ومن غير المفهوم لماذا يجب أن تصدر هذه الأوامر من قبل هيئة تمثيلية (المجلس المحلي أو برلمان الولاية)، أو حتى من قبل رئيس الدولة في العاصمة البعيدة، أو من طرف سلطات أخرى خارج المنطقة أو البلدية (كما هو الحال مع الأنظمة الدستورية الأخرى).

أما المطلب المهم الثاني لنظام ديمقراطي حقيقي، فهو إقامة الاستفتاء بوصفه تصويتاً شعبياً على مستوى الدولة. في نظام دستوري ديمقراطي حقيقي، يجب أن يكون التصويت المباشر على المسائل المركزية للمجتمع ممكناً من حيث المبدأ في أي وقت -وبالطبع وفقاً للإجراءات الدقيقة التي يجب أن ينص عليها الدستور-. في رأيي، فإن المستوى مرتفع قليلاً في النمسا، على سبيل المثال، حيث أعرف الظروف بشكل أفضل. وهناك الكثير من الشروط الـمُعيقة المرتبطة بإجراء مثل هذا الاستفتاء في نهاية المطاف. وفي حالات محددة، لا يمثل هذا حلّاً، إذا كان رئيس الحكومة -كما في «الاستفتاء الشعبي حول النووي» في النمسا- يعتقد، بسبب الكوكبة السياسية الحالية، أنه سيكون من الأفضل إبقاء القضية خارج الحملة الانتخابية، بعرضها على الشعب في استفتاء ما. الأمر الحاسم في تنظيم الاستفتاء هو أن تكوين الآراء التي تسبق التصويت، يكون في حد ذاته أمراً ديمقراطياً. ويمكن للمرء أن يصوغ نوعاً من «المفارقة الديمقراطية»: إن الأصوات الديمقراطية لا تكون منطقية، إلا إذا كانت البيئة الاجتماعية التي تجري فيها منظمة بشكل ديمقراطي بالفعل؛ بمعنى ما، فإن الديمقراطية تفترض نفسها.

يتمثل المطلب الثالث، إذا أخذنا الديمقراطية المباشرة كنموذج للنظام الدستوري، في إعادة هيكلة التمثيل البرلماني بمعنى التفويض الحتمي، من أجل استبعاد أي سوء فهم -حتى لو كان هذا بالمعنى الدقيق للكلمة استمارة عامة- للديمقراطية المباشرة، مهمة حتمية من جانب السكان. وحتى وإن كان المرء لا يعترف بذلك عادةً، فإن أداة التفويض الحتمي موجودة منذ فترة طويلة في معظم الدول؛ أي بوصفها تفويضاً حتمياً للأحزاب؛ لكن المرء لا يسمى الأمور باسمها. وفي كافة الأنظمة الدستورية التمثيلية، يجب على النائب في الهيئات البرلمانية، وفقا للدستور، أخذ قراراته بحرية، ولا يكون مسؤولا إلا أمام ضميره، لكن في الواقع، يتم إجراء كل تصويت تقريباً وفقاً للتعليمات التي تعطيها قيادة الحزب لفرقتها البرلمانية. ويوجد في النمسا التعبير الخادع «إجبارية/إكراه الفريق Klubzwang»، ويبدو لي أنه لا يُستخدم بهذه الصراحة/الوضوح في اللغات الأخرى. وفي الواقع فإن الجميع ينظر إلى الإكراه وممارسته على أنه أمر سلبي؛ لأنه يستبعد الحرية الشخصية. ومع ذلك، فإن الطبقة السياسية في النمسا تستخدم هذا التعبير كمصطلح «روتيني» لمسار عمليات صنع القرار في البرلمان. وإذا رأت الأحزاب أن ذلك مناسب في الحالات الخاصة -لأنه ينطوي على مسائل حساسة مثل القانون الجنائي الجنسي -، فإن التصويت يكون «موافقاً عليه»، كما يقولون في المصطلحات السياسية. ويكشف هذا التعبير أيضاً عن أمر سياسي: وفقاً للدستور، يجب أن يكون كل تصويت حرّاً، لكن عندما تفترض قيادة الحزب «الموافقة» القبلية لنائب ما في تصويت ما، فإن الأمر يُفشي بأجواء دكتاتورية تقريباً. الواقع الدستوري -«الدستور الحقيقي» كما يقولون في النمسا- هو أن الأحزاب أو جماعات المصالح التي تقف وراءها، سواء النقابات العمالية أو الغرف أو الاتحادات الصناعية وغيرها، هي التي تصدر التوجيهات.

لا أقصد ذاك التفويض الحتمي في إطار حكم الحزب واللوبي، ولا أقصد إعادة هيكلة التمثيل البرلماني بهذا المعنى. تعني النيابة الحتمية بالمعنى الأصلي أن النائب يتصرف فعلياً كممثل لمحليته ومنطقته ومنطقته، وبالتالي يُنظر إليه على أنه ممثل مباشر لدائرته الانتخابية (وليس كممثل لحزب ما)، وأن دائرته الانتخابية يجب أن يكون لها أيضاً الحق في عزله قبل نهاية فترة ولايته، وأنه يجب على النائب الحصول على التوجيهات الخاصة بسلوك التصويت في اللجان على مستوى الولاية -في أي موضوع- من الدائرة الانتخابية المعنية التي تم إرساله منها. في النمسا -كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى- يتم تعيين النائب رسمياً لدائرة معينة (دائرة انتخابية)، بينما في الواقع، كما هو معروف، يقوم الحزب الـمُرْسِل بإعطاء كافة التعليمات. إن آلية صنع القرار بمعنى التفويض الحتمي لا علاقة لها على الإطلاق بـ «ديكتاتورية القاعدة الشعبية»، كما يقول الشعار الجدلي المستخدم غالباً. والحقيقة أنه في ظل ظروف ما يسمى بـ «الدستور الحقيقي»، علينا إنشاء «ديكتاتورية» أمانات الحزب وجماعات الضغط، وهو أمر غير دستوري حتى بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لأنه ينتهك روح ونص التفويض الحر. ومع بعض المبررات، يمكن للمرء أن يتساءل عن وضع القوانين، إذا تم إقرارها في نهاية المطاف بطريقة غير دستورية (أي من خلال إلغاء حرية الاختيار لعضو برلماني ما).

في هذا السياق الواقعي السياسي، سيكون من الأهمية بمكان أن يتم تقديم حق شخصي حقيقي في التصويت، حتى يمكن تنفيذ هذه الولاية الحتمية من قبل السكان. ولا يمكن وصف علاقة التفويض هذه بأنها دكتاتورية بطريقة جدلية تبسيطية، وإلا كان لا بد من استخدام عبارة «ديكتاتورية الشعب» أيضاً للديمقراطية. إن ما نجده في الأنظمة السياسية الحالية، مثل النظام النمساوي، ليس حقاً شخصياً في التصويت -بغض النظر عن عدد التصحيحات التجميلية التي قد يقوم بها المرء-، بل هو حق خالص في التصويت للأحزاب.

أما المطلب الرابع، فينبثق مما سبق قوله. أقصد القضاء على احتكارات المعلومات والرأي في المجتمع. إن التعبير المباشر عن إرادة المواطنين لا معنى له؛ أي إنه لا قيمة له من الناحية الديمقراطية، إذا كانت الآراء حول القضايا التي سيتم اتخاذ قرار بشأنها قد تم توجيهها مسبقاً في اتجاه معين، أو إذا كان بإمكان الأقوياء، مجموعة المصالح المعنية -بمعنى أطروحات فالتر ليبمان- «ترتيب» نتيجة التصويت. ومن وجهة النظر النمساوية، يمكن استخدام الاستفتاء على العضوية في الاتحاد الأوروبي كمثال. ووفقاً للاستطلاعات الحالية، فإن غالبية السكان النمساويين يعتقدون الآن بأنهم تعرضوا للتضليل، وكان من المفترض أن تكون الحملة الإعلامية الشاملة، التي تشبه تخطيط ضباط الأركان العامة (والأفضل: حملة إعلانية)، في الأشهر التي سبقت الاستفتاء سبباً في جعل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أمراً جذاباً. ويرى العديد من المواطنين الآن أنه تم حجب الحقائق المهمة عنهم لتقييم هذه المسألة، أو أن الحقائق قد تم تحريفها عمداً.

بشكل عام، عندما يتعلق الأمر بمسألة المعلومات العامة، والتي تعد واحدة من أكثر مشاكل الديمقراطية تعقيداً، يجب القول إنه يجب على كل حال أن يكون هناك حد أدنى من المنافسة الحرة بين مختلف حاملي/مالكي المعلومات، وأنه لا يمكن السماح، على سبيل المثال، لمواطن، لمجرد أنه قوي مالياً بشكل خاص، ويمكنه جني المليارات من الاستثمارات في قطاع الإعلام، بالتدخل بشكل تعسفي في عملية تشكيل الرأي، مما يشوه «المنافسة المعلوماتية الحرة». بطبيعة الحال، ينطبق هذا على الحكومات وجماعات المصالح على حد سواء. إذا لم تكن هناك آليات تصحيحية، وإذا كان احتكار المعلومات هذا على أساس المصالح الخاصة أو الحكومية أو جماعات الضغط أو الشركات المعلوماتية القوية، ولا يمكن تصحيح الآراء التي تنشرها من خلال وسائل الإعلام البديلة، فلا يهم إذا كانت القرارات التي يتم اتخاذها بطريقة برلمانية تمثيلية أو ديمقراطية مباشرة. إنها غير مهمة من وجهة نظر ديمقراطية.

المطلب الخامس في هذه القائمة، التي لا تدعي الكمال، هو إلغاء التمثيل النسبي الحزبي، أو النفوذ الحزبي الأحادي الجانب في كافة الشؤون العامة. وهذا ما يعنيه بالفعل اسم «الحزب» بمعنى «التقسيم»: وبحكم التعريف، فإن الأمر يتعلق بمصالح جزئية فقط، ولا يتعلق أبداً بأي مصالح عامة. وطالما أن الأحزاب تكون بمثابة وصية على المواطنين ([5]) في مجالات مركزية من حياتهم اليومية، 4) يبدو لي أنه لا توجد مساحة عامة حرة، يمكن فيها إجراء المناقشات السياسية بشكل غير متحيز وثقة من قبل المواطنين. إن المتطلبات الأساسية للنضج السياسي لا تتحقق إذا ظل المواطنون -وخاصة الفنانين والمثقفين والعلماء- معتمدين على الأحزاب التي تمنح الامتيازات أو توفرها بطريقة تكاد تكون إقطاعية. وفي الحياة اليومية للنمساوي، وخاصة المواطن في فيينا، غالباً ما تجد له الأحزاب شقة بأسعار معقولة، أو تحرمه من هذا «الامتياز»؛ لأنه لا ينتمي إلى الحزب المناسب في المنطقة التي يقطنها. ومن أجل الحد من مثل هذه التبعيات، يبدو لي أنه من المهم أيضاً أن يتم تقليل نفوذ الحزب أيضاً، من خلال انسحاب الدولة من القطاع الاقتصادي.

فيما يتعلق بالانتقادات التي ترددت مراراً وتكراراً فيما يتعلق بإمكانيات تطبيق الديمقراطية المباشرة، أود أن أعلق بإيجاز على ثلاث نقاط من هذه الانتقادات. أولاً، فيما يسمى بسؤال الكفاءة: يُقال مرارا وتكرارا بأن المواطن نفسه لا يستطيع أن يكون له رأي في الشؤون العامة، ولهذا السبب فإنه يحتاج إلى ممثلين/نواب عنه؛ لأنهم يجسدون مستوى أعلى من التعليم السياسي، وتكون لهم أيضاً إمكانية الوصول إلى آراء الخبراء، وما إلى ذلك. أعارض هذا الرأي، بالتأكيد أن المواطن العادي في أي بلد في عالمنا الغربي -حيث يتوفر الشرط الأساسي المتمثل في ارتفاع معدل معرفة القراءة والكتابة- لا يقل كفاءة أو عدم كفاءة في الشؤون العامة عن السياسي العادي. والعامل الحاسم الوحيد هو أن يكون لدى المواطن أولا الفرصة، وثانيا الاهتمام، للتعرف على مشكلة معينة. والمشكلة العامة المتمثلة في الاعتماد على آراء الخبراء، موجودة في النظام التمثيلي للوزراء وأعضاء البرلمان وكذلك للناخبين المجهولين. وهذه مشكلة تؤثر على كل نظام سياسي ولا يمكن مواجهتها بالديمقراطية المباشرة.

تتعلق النقطة الثانية من الانتقادات التي يسمعها المرء بتكرار بعدم النضج السياسي والأخلاقي المزعوم للمواطن. يُقال إن نظام الديمقراطية المباشرة ينطوي على مشكل؛ لأنه في الحالات القصوى، يستطيع المواطنون، على سبيل المثال، إلغاء جميع الضرائب (وهو ما لم يحدث بالمصادفة في سويسرا منذ إدخال أدوات الديمقراطية المباشرة). يحيل المرء في كثير من الأحيان إلى الأنانية غير المقيدة للمواطنين الذين، بصفتهم أشخاصاً «منعزلين» اجتماعياً، لا يمثلون سوى مصالحهم الخاصة، بطريقة قصيرة النظر، ولا يأخذون وجهات النظر العامة أو حتى الصالح العام في الاعتبار. في المقابل، فإنني أتبنى وجهة النظر، التي يمكن أيضاً إثباتها بالتفصيل، فإذا كان المواطن كفرد يستطيع أن يقرر بحرية وسرية في الأمور التي تمس المجتمع بأكمله، فإن النتيجة تتوافق أكثر بكثير مع متطلبات «المسؤولية على الصالح العام» من وضع القرار في أيدي اللجان التمثيلية؛ أي جماعات الضغط في نهاية المطاف. وفي هذه الحالة، كما شرحت أعلاه، فإن التخطيط البعيد المدى لا يكون ممكناً، بسبب التنافس على أصوات مجموعات المصالح الفردية. على العكس من هذا، فإن المواطن، عندما يقرر في استفتاء على سبيل المثال، وعندما لا يراقبه أحد، لا يحتاج إلى أن يأخذ في الاعتبار مصالح أي لوبي في قراره، ووفقا لذلك، فإنه يستطيع في الواقع أن يقرر طبقا لضميره. ولا يستطيع النائب البرلماني التمتع بهذه «الميزة/الرفاهية». لا يستطيع أن يتخذ قراراته بحرية إلا بشكل وهمي؛ لأن هذا ما ينص عليه الدستور. لكن في «الواقع الدستوري» عليه دائماً أن يبرر القرار الذي يتخذه للحزب أو جماعة المصالح التي تدعمه. قد تتهمه المجموعة المعنية التي ينتمي إليها هذا النائب بضعف فرصه الانتخابية أو إضعاف خيارات التمويل المتاحة له أو إعادته إلى العقل، كما يمكن أن يتبين باستخدام العديد من الأمثلة من الممارسة البرلمانية في أوروبا.

يمكن توضيح موضوع المناقشة المتعلقة بوعي ومسؤولية المواطن ونضجه السياسي بمثال من السياسة النمساوية في السنوات الأخيرة. أرجع هنا إلى «الاستفتاء النووي» خلال فترة ولاية المستشار كرايسكي Kreisky. إذا نظرنا إلى الوراء، فإن العديد من ممثلي دولتنا سعداء بأن السكان قرروا عدم الاستخدام «السلمي» للطاقة النووية، وإن كان استخداما ضيقا. منذ فاجعة تشيرنوبيل Tschernobyl، أصبح الخبراء والسياسيون أكثر حكمة؛ ويدرك الكثير من الناس اليوم أن خطر هذه التكنولوجيا كبير للغاية، مع الأخذ في الاعتبار أنه في حالة وقوع كارثة (كارثة عظمى Supergau)، فإن المنطقة بأكملها (بالنسبة إلى النمسا، يساوي هذا حجم ولاية اتحادية على الأقل) ستُمحى إلى أجل غير مسمى.

النقطة الثالثة من الانتقادات التي تثار هي الميل المزعوم نحو الشمولية/التوتاليتارية. وأطروحتي المضادة في هذا الشأن، هي أن النزعات الشمولية ليست أقوى بأي حال من الأحوال في نظام الديمقراطية المباشرة منها في نظام الديمقراطية التمثيلية. إذا اضطرت مجموعات المصالح المختلفة إلى التخلي عن سيطرتها على المواطن، وإذا أتيحت للمواطن أيضاً الفرصة لتكوين رأيه بحرية ودون تأثير، فلا يوجد تفسير لماذا يجب أن تشجع عملية التحرر السياسي هذه الميول الشمولية. من الواضح أن بيننا أيديولوجيين وعلماء سياسة لا يمكنهم، عندما يتعلق الأمر بالقرارات السياسية، إلا أن يتخيلوا العلاقة بين القادة والمحكومين، بين الحكام والمحكومين -بروح أطروحات روبرت ميشيل Robert Michel حول الطبيعة الأوليغارشية لدولة الحزب. إذا افترض المرء أن الشعب يحتاج إلى ممثلين لقيادته، فقد يكون من الصحيح أنه إذا «ترك القطيع لنفسه»، فسوف يتطلب الأمر قائداً يتمتع بشخصية كاريزمية لتحديد أهدافه. لكن مثل هذا التطور مستبعد عملياً من خلال الديمقراطية المباشرة. إذا تأمل المرء المثال الوحيد للديمقراطية المباشرة التي تمارس في أوروبا -على الأقل في بعض المناطق- وهو النموذج السويسري، فلا يمكنك القول إن التطور هناك كان في اتجاه دولة الزعيم.

إذا أخذنا بعين الاعتبار المطالب المختلفة للتحول الديمقراطي للنظام السياسي، وقمنا بتقييم الإمكانيات بشكل واقعي، فيمكن أن نستنتج أن الشكل المختلط من الآليات الديمقراطية التمثيلية والمباشرة، كما نعرفها من سويسرا، هو بالتأكيد أكثر ملاءمة، حيث إن حقوق الإنسان والنظرية الديمقراطية أفضل من نظامنا الحالي، الذي يكاد يكون موجهاً بشكل حزبي فقط. بالنسبة لي، لا يوجد سبب فلسفي أو أخلاقي أو نفسي يمنع نضج المواطنين في مجال القضايا والقيم السياسية.

في هذا السياق، أود أن أشير إلى مفارقة نغفلها دائماً في تبرير نظامنا التمثيلي: رغم أن كفاءة المواطن للبتفي قضايا معينة هي محل خلاف -ويقال إنه لا يستطيع أن يحسم المسائل الفردية بنفسه لقلة الخبرة وغياب الرؤية -، فإن المرء يعطيه في الواقع صلاحية البت، لتحديد من يكون مؤهلا للنيابة عنه. يستطيع المواطن في الانتخابات اختيار من يراهم أهلاً لاتخاذ القرارات التي تصب في مصلحة الصالح العام. ويعني هذا أن المواطن محروم من الكفاءة على المستوى المادي، ولكنه يُمنح ما يشبه «الكفاءة-الكفاءة» على مستوى أعلى؛ أي القدرة على الفحص أو تقرير من هو المختص فعلياً في القضايا الفعلية. ويكشف هذا البرهان على مشكلة بالغة الأهمية في شرعية النظام التمثيلي. ويبدو لي أن هذا التناقض الذاتي في الأساس الأيديولوجي للنظام التمثيلي يمثل نداء للديمقراطية المباشرة أو التشاركية.

([1]) محاضرة في الندوة الدولية حول الديمقراطية المباشرة، بوتزن، 17 و18 مايو/أيار 1996. نشرت من طرف مجموعة العمل للعلوم والسياسة في جامعة إنسبروك، 1997

([2]) انظر في هذا الإطار تحليلات مؤتمر الخبراء حول أزمة الديمقراطية التمثيلية، الذي نظمته منظمة التقدم العالمية، ونشر:

Hans Köchler (Hrsg.), The Crisis of Representative Democracy. Frankfurt a.M./Bern/New York 1987

([3]) انظر في هذا الإطار نصّنا: «نظرية التمثيل، حول مشكلة المثالية في النظرية السياسية».

Die Repräsentationslehre. Zum Problem des Idealismus in der politischen Theorie, in: Hans Köchler, Philosophie – Recht – Politik. Abhandlungen zur politischen Philosophie und zur Rechtsphilosophie. Wien/New York 1985. S. 27-45

([4]) Geoffrey Darnton, The Architecture of Large-Scale and International Participative Democracy, in: Hans Köchler (Hrsg.), The Crisis of Representative Democracy. Frankfurt a.M./Bern/New York 1987. S. 263-283

([5]) وفي النمسا، لا ينطبق هذا على توزيع السكن المدعوم فحسب، بل أيضاً إلى حد كبير على سياسة شؤون الموظفين في المدارس والجامعات (على سبيل المثال لا الحصر من الأمثلة النموذجية).