مبدأ الهوية عند "مارتن هيدجر"
فئة : مقالات
مبدأ الهوية عند "مارتن هيدجر"
البوكيلي عبد الحي[1]
تقديم:
إذا تأملنا المحيط والواقع الذي نعيش فيهما، سنجد أنه لا يوجد شيء واحد بمنأى عن التغيير، وفي معيشنا اليومي أدلة لا تحصى على أن التغيير هو صاحب الكلمة الأولى، وليس الثابت سوى شكل واهٍ. فعلى سبيل المثال، نجد شخصا ما ينتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة، إلى مرحلة الشباب ومنها إلى مرحلة الشيخوخة، وكثيرا ما نسمع ونلاحظ أن أشخاصا تحولوا بشكل مفاجئ من كونهم عاديين، أسوياء، إلى مجرمين يرتكبون أفظع الجرائم.
لكن على الرغم من كل هذا، فإننا لا نختلف على أن كل شخص من هؤلاء الأشخاص الذين تغير حالهم، يظل هو نفسه، ونظل ندعوه باسمه الذي سمي به منذ الصغر، المهم هو أن داخل هذه الوحدة التي تتمثل في شخص ما هناك تغيير، وهذا الأخير هو ما يعطيه إمكانية الاستمرارية في الحياة، ويحول دون جموده. هذا الأمر إن صح القول هو ما يحدث عندما نتكلم عن الهوية والاختلاف، هناك تركيب وهذا الأخير هو الذي يعطي الهوية معناها، في الفلسفة الحديثة عموما. وسيستمر مارتن هيدجر في تأكيده على الوساطة التي توجد داخل هذه الوحدة، وإن نظرنا لمبدأ الهوية خارج هذه الوساطة، فإنما تبقى هوية مجردة؛ فكيف يتسنى لنا فهم حديث هيدجر عن الهوية والاختلاف؟
مبدأ الهوية عند مارتن هيدجر
يبدأ هيدجر حديثه عن مبدأ الهوية بالرجوع إلى جذور هذا المفهوم ليرى "أن الصيغة المتعارف عليها لمبدأ الهوية تخفي ما يريد أن يقوله المبدأ أ=أ هذا يعني أن كل (أ) هي ذاتها نفس الشيء"[2] ولكي يؤصل وجهة نظره يرجع إلى اللغة، فيقول: "المماثل (أو الذاتي) identique هو ترجمة (to outo) اليونانية... وفي الفرنسية même le... ولكي يكون الشيء ذاته، فإن هذا يتطلب أن يكون الشيء واحدا في كل مرة، وليس بحاجة إلى شيء أخر كما هو الحال في التساوي"[3] ولعل هذا ما يريد أن يقوله "أفلاطون" في محاورة السفسطائي، حين قال: "إن كل واحد منهم هو الآن مختلف عن الاثنين الآخرين، ولكنه هو بذاته هو نفسه. إن أفلاطون لا يقول فقط إن كل واحد هو بذاته نفسه، بل إن كل واحد بذاته، هو بنفسه بالنسبة إلى ذاته".[4] وتبعا لذلك، فالصيغة المعدلة لمبدأ الهوية التي اقترحها هيدجر "أ هو أ" لا تقول فقط كل "أ" هي بذاتها نفس الشيء، بل إنها تقول أكثر من ذلك إنها تقول: "إن كل أ هو بذاته هو نفسه مع نفسه"[5].
يتبين أن الهوية بهذا المعنى تتكلم عن وحدة الشيء، لا من حيث هو متعدد وكثرة، وإنما من حيث هو ذاته نفس الشيء، وليس شيئا آخر؛ أي إنها تتحدث عما يجمع الشيء ويوحده لكي يظهر في الوجود، إلا أن هذا لا يجب أن يقودنا إلى الفهم من أن الوحدة التي يتحدث عنها المبدأ هي "ليست إطلاقا فراغ ما. قد جرد في ذاته من كل علاقة بل إنه يصمد ويتشبث بتماثل شاحب"[6]، وإنما هي بالأحرى تعكس بوضوح علاقة المماثل مع نفسه، فلم يعد لنا الحق حسب هيدجر منذ مرحلة المثالية النظرية التي مهد لها لايبنتز وكانط وأعد لها كل من فيخته وشلينغ وهيجل "بتمثيل وحدة الهوية بكونها التماثل البسيط، وبإهمال التوسط الذي يتأكد في صميم الوحدة".[7]
وهذا ما ينبغي أن نسجله؛ ذلك التوسط الذي يتغلغل في صميم الهوية، لقد وقع تحول شبه جذري داخل تصور الهوية، هذه الوساطة عبارة عن تركيب، والنظر بالنسبة إلى هيدجر للهوية خارج هذا التصور، إنما هو هوية مجردة، هذا التركيب هو ما يميز الفلسفة الحديثة، الذات لم تعد متطابقة تماما، وأصبحت الأنا تتدخل باستمرار، وهي التي تعيد التركيب باستمرار، هناك دائما مبادرة في هذا الاتجاه في مختلف مجالات الحياة هناك "أنا" تتدخل باستمرار لدى الذات الإنسانية. مع الفلسفة الحديثة وجود عناصر متعددة داخل هذه الوحدة وما يحصل دائما هو التركيب؛ فإعادة الشيء ذاته كما هو الحال مع مبدأ الهوية "أ =أ" لا يعني غياب المبادرة، يتكرر الشيء ذاته، ولكن يتكرر بشكل جديد ومن جديد. ولكي نفهم ما يعنيه "هيدجر" بمبدأ الهوية؛ لنلاحظ كيف يتحدث عن كينونة الكائن، ولكل كائن ككائن الحق بالهوية، بالوحدة مع ذاته، فإنه يعود بنا إلى الوراء إلى ما قبل سقراط، لنتعرف على العلاقة بين التفكير والكينونة وعلى وجه التحديد عند "بارميندس". مع هيدجر لا يمكننا الانطلاق من هوية الميتافيزيقا لتفسير الهوية كما فهمها بارميندس؛ لأن كلمة المماثل ) le même) في حكمة بارميندس تبقى غامضة في نظر هيدجر. لذلك، سينتقل للحديث عن هوية الفكر والكينونة بتعريفهما كانتماء مشترك (coappartenance) لكليهما، وفي هذا الإطار سيعطي هيدجر لهذا الانتماء المشترك عدة تحديدات، ربما ليثبت أصالة رؤيته أو ليكشف عن الماهية الحقيقية لهذا الانتماء المشترك، وفي تحديده لهذا الأخير يقول: "إذا لاحظنا أننا فيما نحن نفسر الانتماء المشترك كانتماء مشترك كنا نفكر قبلا تبعا لإشارة بارميندس بالفكر والكينونة على السواء، إذا إلى ما ينتمي واحده إلى الأخر في المماثل (le même)[8]. إلى هنا فلن يتسنى لنا فهم ما يريد قوله "هيدجر" ما لم ننتبه إلى ما يميز الإنسان عن باقي الموجودات؛ فما الذي يميز الإنسان من حيث هو إنسان؟ يجيب هيدجر قائلا: "إننا نفهم التفكير بوصفه تمييزا للإنسان"[9] الإنسان في الظاهر هو كباقي الكائنات له مكانه في كلية الكينونة كالحجر والشجر حسب هيدجر، لكن له مكانه أيضا في تنظيم الكينونة وبوصفه كائنا مفكرا، منفتحا على الكينونة هو من يترك هذه الأخيرة تأتي إليه كحضور أولا. إن الكينونة تحضر فينا أو بالأحرى تسكن فينا. ومن هذا المنطلق، فإن الإنسان والكينونة يمتلك بعضهما البعض، يقول هيدجر: "إن الإنسان والكينونة كليهما يتبادلان نقل تملكهما لبعضهما بعضا إنهما ينتميان لبعضهما بعضا"[10] ما ينبغي أن نسجله هنا، هو أن هذه العلاقة بين الكينونة والإنسان تبقى علاقة ذات خصوصية شديدة. لذا سيقترح هيدجر القيام بقفزة يكون من شأنها أن تنقلنا من التفكير وفقا لنمط الفكر القائم على التصور (الإنسان كحيوان عاقل).
إلى أين هذه القفزة ستقودنا يتساءل هيدجر، إلى المجال الذي يصل فيه كل من الإنسان والكينونة إلى بعضهما البعض في جوهرهما؛ لأن كلا منهما يؤدي إلى الآخر ويملك كل منهما الآخر، كما إننا سنتخلى بهذه القفزة عن التفكير في الكينونة بوصفها أساسا للكائن، كما يقول هيدجر: "لقد ولّى زمان كانت فيه التفسيرات المفصلة لتكون ضرورية لتبين وتوضيح المجموعة، حيث يدور الإنسان والكينونة كل باتجاه الآخر"[11]. لم يعد الأمر اليوم كما كان عليه، أو على الأقل أن الأمر يبدو كذلك حسب هيدجر، يتساءل عن كيف تكون الكينونة حاضرة اليوم في العالم التقني؟. يقول: "لنكف عن تصور التقنية بطريقة محض تقنية، انطلاقا من الإنسان وآلاته"[12]؛ فالإنسان المعاصر مرغم، أمامه تحديات تواجهه والمصطلح الذي يعبر به هيدجر عن هذه التحديات هو "الإطار". يقول: هذا الإطار، التحقق هو الاسم الذي اقترحناه للدلالة على نمط الإرغام المنسق الذي الإنسان والكينونة على نحو يستجوب فيه الواحد منهما الآخر"[13]. إن هذا الإطار في جوهره حسب هيدجر يكشف عن انتماء الإنسان للكينونة، وانتماء الكينونة للإنسان، حيث ينسب الإنسان والكينونة لبعضهما في عالم التقنية، حيث يقول هيدجر: "إن ما بواسطته يتجه الإنسان والكينونة نحو بعضهما بعض وانطلاقا منه في العالم التقني هو ما يخاطبنا في نمط التحقق".[14]
في هذا الاستجواب المتبادل بين الإنسان والكينونة نسمع النداء الذي يعطي صورته لمجموعة عصرنا. إن التحقق حسب هيدجر، أينما كان يعنينا بشكل مباشر في هذا التحقق "يسود تلاق غريب بين تبعية من جهة وانتباه من جهة أخرى"[15] ما يهم هيدجر في هذا التحقق هو العلاقة، علاقة التملك والإرغام، والذي بواسطته يختص كلا من الإنسان والكينونة واحدهما بالآخر؛ أي إن الأمر يتعلق ببلوغ ما يسميه التملك المشتركCopropriation))، سيتحدث هنا عما يسميه بالحدث ) Ereignis)، والذي يعني به ما يصل كل من الإنسان والكينونة إلى بعضهما في ماهيتهما، ومن خلالها أيضا يكتسبان ماهيتهما. أما التملك المشترك، فهو الرابط الأساسي بين الإنسان والكينونة، ولهذا رجع هيدجر لحكمة بارميندس دليلا على أن "المماثل هو في الحقيقة الفكر والكينونة على السواء"[16]، ولأن التساؤل عما هو المماثل هو التساؤل عن جوهر الهوية، وجوهر الهوية ينتمي شخصيا إلى التملك المشترك. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف أثر العالم التقني ومهد لما يسميه هيدجر بالتملك المشترك؟ فهذا العالم التقني اليوم يشهد واقعنا بتفوقه على الفكر "يبقى الفكر في منتصف الطريق وبهذه النتيجة النصفية يشهد العالم التقني، أكثر فأكثر تفوقه الميتافيزيقي، عندها فعلا يتوطد هذا التفوق".[17]
هذا لا يعني أن العالم التقني عمل من أعمال الشيطان حسب هيدجر، يجب الابتعاد عنه، ولا أن نتمسك بالرأي القائل أن العالم التقني هو هكذا، حيث لا نستطيع أبدا الرحيل عنه. يقول هيدجر: "إن رأيا كهذا هو حقا غير واقعي، ولكن ما هو واقعي هو فكر يفكر إلى الأمام ... رسالة يرسلها إلينا جوهر هوية الإنسان والكينونة"[18] هنا تتجلى بوضوح روح المبادرة في فكر هيدجر، هنا يظهر التركيب في التوسط الداخلي للهوية، هذا التركيب هذا الاختلاف هو الذي يعطيها الاستمرارية والتجدد باستمرار.
خاتمة:
قد يتساءل المرء ما علاقة كل هذا بالهوية؟ ما الذي تعنيه هذه الهوية الجديدة إن صح القول؟ الهوية هي انتماء التفكير الذي هو خاصية يتميز بها الإنسان دون الكائنات الأخرى؛ فأن تكون لك هوية يعني أن تكون منتميا إلى الوجود، من حيث ممارسة إمكانية التفكير، ولكي نفهم ونستوعب هذا يجب أن نتخلى عن طرائق التفكير السائدة، ويجب أن لا نقبل بأن تبتلعنا التقنية، ونصبح وكأننا أمام قدر لا مفر منه، هنا يمكن أن نفهم نداء هيدجر إلى ضرورة اتخاذ المبادرة وعدم الاستسلام للنمطية التي تفرضها التقنية - هذا يذكرنا بكانط في جوابه عن سؤال ما الأنوار - لكن هنا بصيغة مختلفة هنا لا يتعلق الأمر لا بكاهن ولا برجل سلطة، الخضوع هنا للتقنية كمنتوج من صنع هذا الإنسان.
والواقع ما يريد أن يقوله هيدجر، هو أن الإنسان لكي يكون هو ذاته، لا بد أن يفكر في الوجود وعليه أن لا يسمح للتقنية أن تشكله كيفما تشاء؛ لأنها من إبداعه هو. وبها يكشف عن نفسه بشكل يتماشى مع طبيعة عصره، والملاحظ هو أن الكائن الذي يعنيه عند حديثه عن الهوية هو الإنسان وحسب، وكل ما يعنيه كيف يكون الإنسان إنسانا، ولكي يكون كذلك ينبغي أن يتخلى أو يتحدى الأشياء التي تقتل فيه روح المبادرة وتشتته.
المصدر:
Martin Heidegger. Questions 1, traduit de l’allemand par, Henry Corbin, Roger Munier, édi Gallimard, 1968
[1]- باحث مغربي
[2]- Martin Heidegger. Questions 1, traduit de l’allemand par, Henry Corbin, Roger Munier, édi Gallimard, 1968, p.257
[3] - Idid, p.257
[4] - Ibid, p.258
[5] - Ibid. p 258
[6] - ibid, p.259
[7] - ibid, p. 259
[8] -ibid., pp.263-264
[9] - ibid, p.264
[10] - Ibid, p.265
[11] - ibid, p.267
[12] - ibid, p.268
[13] - ibid, p.269
[14] - ibid.p.296
[15] - ibid, p.270
[16] - ibid, p.273
[17] - ibid, p.274
[18] - ibid, p.275